ثوار وناشطون: من الربيع العربي إلى خريف «الديمقراطيين»/ محمد سامي الكيال
اتسمت ثورات الربيع العربي بعدم الوضوح الأيديولوجي والبرامجي، فلم تستطع تقديم بدائل واضحة لما انتفضت ضده، فضلاً عن عدم اتساق أهداف ومشاريع القوى الفاعلة فيها. فمن «القوى المدنية» و«شباب الثورة»، وغيرها من التعبيرات ذات الدلالة المائعة، وصولاً إلى تيارات الإسلام السياسي «المعتدل» و«الراديكالي»، غابت الرؤى والتعبيرات السياسية الواضحة، والأطر التنظيمية الفاعلة، رغم كل ذلك قامت تلك الثورات على بديهيتين أساسيتين، لم تكونا في حينهما موضوع تشكك أو نقاش كبير، وهما الكونية والعمومية.
الكونية، بمعنى أن مفاهيم أساسية مثل تداول السلطة، والانتخابات، والشرعية الشعبية، والديمقراطية بمعناها الأبسط، اعتُبرت قيماً عالمية، لا يعيق انتشارها في العالم العربي «خصوصية» ما. وبالطبع لن تلقى أفكار مثل مواجهة «فرض النموذج الغربي» أو «تعميم القيم الكولونيالية للرجل الأبيض» شيئاً من الشعبية آنذاك. حتى من حلموا بدولة إسلامية، اعتبروا أن المؤسسات الديمقراطية، المستنسخة من «الغرب»، هي وسيلتهم لتحقيق غاياتهم. وأبدوا بعض المرونة في التعامل مع المفاهيم الليبرالية، وتأويل مفهوم «الإسلامية». الربيع العربي بمعنى من المعاني كان ازدهاراً لمفهوم «الكونية».
العمومية، بمعنى أن غايات وأهداف الثورات، أياً تكن، ليست محصورة بفئة أو هوية بعينها، بل هي أهداف عامة تعني «الشعب» بأكمله، وتنبني على قيم مشتركة قابلة للتعميم، وتوحيد مختلف الفاعلين على أساسها، حاول المحتجون دائما احتلال الحيز العام بأكمله وليس تفتيته.
انحلال الكونية العربية
كانت الموجة الثورية التي أطلقها الربيع العربي شديدة التأثير، وتجاوزت المنطقة العربية لتؤثر في دول عدة، بما فيها الدول الأكثر تقدماً، فمن إسبانيا إلى الولايات المتحدة، بدا أن هذا النموذج قابل للتعميم، حتى في ما يتجاوز المطالبة بالديمقراطية التمثيلية. دعك من شعور النشوة والمفاجأة الذي أحسه الثوار العرب، عندما رأوا المظاهرات في إسرائيل تلّحن هتافاتها على وزن الشعار العربي الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام».
في الولايات المتحدة كانت حركة «احتلوا وول ستريت» ترفع شعارها الأساسي: «نحن الـ99%». ورغم كل انتقاد يمكن توجيهه لسذاجة هذا الشعار، إلا أنه كان يستبطن قيمة أساسية وهي، أن مطالب الحركة هي مطالب عمومية وليست هوياتية، موضوع «أبيض» و«أسود»، «رجل» و«امرأة»، لم يكن هو الطاغي حينها كما هو اليوم. في إسبانيا كان «الغاضبون» هم «عموم» الإسبان من كل الأجناس والأنواع، الذين يعانون من الأزمة الاقتصادية وتآكل السياسات الاجتماعية. فكرة «الاحتلال» كانت مستوحاة بشكل مباشر من ميدان التحرير المصري: ثوار يقتحمون ميداناً عاماً مهماً ويقيمون فيه حتى تحقيق مطالبهم. لديهم ما يقولونه في الحيز العام، ولذلك يسعون للسيطرة عليه مكانياً لإيصال صوتهم. إنها من المرات النادرة التي تتجسد فيها المفاهيم المجردة في حيز جغرافي. بطريقة تذكر إلى حد ما بأصول هذه المفاهيم في دولة المدينة لدى الأغريق، حين كان الحيز العام يساوي الساحة العامة التي يجتمع فيها المواطنون الأحرار ليقولوا ما عندهم، ويديروا شؤون مدينتهم. لا يمكن تصور تجسيد معاصر للكونية والعمومية أكثر مما فعلته الحركات الاحتجاجية في مطلع هذا العقد.
انكسر الربيع العربي وفشل فشلاً ذريعاً من الناحية السياسية، إلا أنه لم يفقد حيثيته القيمية والثقافية فوراً. وكان العالم العربي، ومناطق أخرى من العالم، مازال يعيش على إيقاعه، إلى أن حدث تغير مفاجئ في المنظور السياسي، يمكن تأريخ بداية تسيّده منذ عام 2015: بعد أن كان العالم مشغولاً بأزمة الديون اليونانية، وحركة «بلوكوباي» الأوروبية تشاغب في مدينة فرانكفورت الألمانية، ضد السياسات المالية للاتحاد الأوروبي، غزت فجأة مفاهيم ومصطلحات أخرى وسائل الإعلام، وأصبحنا مشغولين بالتنوع والاختلاف، وقضايا الهوية حصراً. نموذج الحركات الاحتجاجية «غير الهرمية» المعتمدة على حماس الفاعلين بها تراجع لحساب مؤسسات «المجتمع المدني» الممولة جيداً والمنظمة بشكل هرمي فائق الدقة، ورغم أن كثيراً من ثوار الحركات الاحتجاجية صاروا في ما بعد من ناشطي المجتمع المدني، أو عملوا بشكل متزامن في هذين النمطين من الحراك، ما يجعل من الصعب الحديث عن تعارض كامل بينهما، إلا أنه بإمكاننا أن نستشف في هذا التحول مظاهر «ثورة مضادة» كاملة الأركان. ولكن ما الخطأ فعلاً في التنوع والاختلاف؟
خصخصة ما هو عام
فكرة العمومية تفترض بشكل بديهي وجود الاختلاف والتنوع، إذ لا معنى للسعي لتعميم مبدأ أو حراك ما، إذا كان كل الناس سلفاً لهم توجه أو موقع اجتماعي واحد. الحيز العام هو بمعنى من المعاني محصلة جدلية لتناقضات قابلة للحل والتوليف، والعمومي ما هو إلا نتيجة لعدد لا نهائي من الخصوصيات، إلا أن أيديولوجيا الاختلاف والتنوع السائدة حالياً، كما بيّن باقتدار المفكر الفرنسي بيير أندريه تاغييف، هي نمط من العنصرية، فبعد انهيار النظريات العرقية، صارت الثقافة (بما فيها الاختلافات الثقافية والاجتماعية القائمة على الهوية الجندرية) هي النموذج الأساسي للفصل والتمييز بين البشر: سجن الأفراد ضمن هويات متمايزة غير اختيارية وثابتة نسبياً، لها منظورات مستقلة ومتعارضة، واعتبارهم ممثلين عن هذه الهويات، والتفريق في الحقوق والواجبات بينهم، ما يؤدي إلى تراتبية عنصرية جديدة.
هكذا تعمل «مناهضة العنصرية»، بحسب تاغييف، بشكل متداخل مع العنصرية، وتملك ميلها نفسه للعنف والتطرف، ونمط محاججتها نفسه، القائم على إعادة إنتاج «الاختلاف» لتحقيق التمايز والتمييز، ليصبحا معا النموذج العنصري لزماننا.
يمكن اعتبار المثال الأمريكي شديد الدلالة على ذلك، فبعد سعي حركة «احتلوا» لتحقيق إجماع عمومي، قائم أساساً على مناهضة الفساد المالي لوول ستريت، ويحول كل المظالم والقضايا الخصوصية إلى خطاب يسعى لإنتاج مشتركات تعني الجميع، انتقل «اليسار» الأمريكي، بدعم من عدد كبير من أسياد وول ستريت أنفسهم، إلى خصخصة كل ما هو عام، وتفتيته لمصلحة هويات منفصلة ومتعارضة، حتى قضية عامة تعريفاً مثل معارضة رئيس الدولة، تم تحويلها إلى قضية تعني «النساء» و«الملونين» و«المسلمين»، الذين لديهم مشكلة مع «الرجال البيض الغاضبين». وبدلاً من المظاهرات الاحتجاجية المتنوعة بشكل عفوي، نظراً لتنوع المشاركين فيها، بتنا نرى مظاهرات تنشد «النقاء» الهوياتي، مثل «مسيرات النساء»، بعد أن اكتشف الحزب الديمقراطي الأمريكي، بمنظوره القائم على الهوية وحدها، أن «النساء البيضاوات» لم يصوتن بما فيه الكفاية لهيلاري كلينتون.
خريف «الديمقراطيين» الأمريكيين هذا، وفشلهم المتكرر، قابل للتصدير أيضاً، رأينا مسيرات «نقية» مشابهة في إسبانيا، وكذلك في البرازيل، قبيل تحقيق جايير بولسونارو، المُلقب بترامب البرازيل، فوزاً كبيراً في الجولة الأولى من الانتخابات.
شياطين خارج «النعمة»
مشاكل خصخصة الحيز العام لا تقتصر على هذا، بل هي تهدد بما هو أسوأ، وهو انعدام إمكانية إيجاد حلول سياسية للصراع الاجتماعي المتصاعد، ما يهدد فكرة الديمقراطية من أساسها. فعندما يُفتت الحيز الذي من الممكن أن يتم فيه الجدل والتفاوض الاجتماعي، وتُسجن كل مجموعة في حدود سردياتها الخاصة، لا يبقى إلا التعصب والتعصب المضاد، وتصبح الخصومة السياسية حرباً لتكسير العظام، قائمة على معادلات صفرية. يتسم «الناشطون» بثقة غريبة في احتكارهم للصواب والأخلاق، ربما بسبب الدعم المؤسساتي والإعلامي والمالي الهائل الذي يملكونه، والذي يُنتج أيديولوجيتهم بوصفها الحقيقة البديهية، فيحسبون ألا أحد يمكن أن يعارضهم أو ينتقدهم إلا عنصري أو جاهل. بالعودة لتاغييف، فإن شيطنة «الشعبويين» وغيرهم من المعارضين، ونبذهم من المجال السياسي التقليدي، واعتبارهم «أشراراً» وليسوا خصوماً سياسيين ذوي اتجاهات وآراء ومصالح مختلفة، يستبطن حكم قيمة مسبق بأن النابذين يمثلون الخير الأخلاقي التام، عندما يكون «الشرير» واضحاً لهذه الدرجة فمن السهل أن تنام مرتاح الضمير وتشعر بمدى روعتك. وأن تصبح أيضاً بسبب ذلك أكثر تصلباً وشراسة، تعزز هذا أيضاً روايات «الشعبويين» عن مؤامرة النخب التي تحاك ضدهم، ويزيد انحرافهم بعيداً عن المتن السياسي العام، من جديد تعمل «مناهضة العنصرية» و«العنصرية» بتناسق عجيب باتجاه فضاء أكثر تطرفاً وعنصرية.
هذا التسلط الأخلاقوي، الذي يشبه مبدأ «الحرمان الكنسي»، من شأنه أن يدمر الحياة السياسية وأساسيات مبدأ «دولة القانون»، الذي يفترض إمكانية للتداول السياسي بدون مستبقات عقائدية، طالما لا يوجد إثبات على مخالفة أي طرف للشرعية الدستورية، وهو شأن حقوقي-سياسي يعود تقريره للمحاكم وليس لـ«الناشطين».
للربيع العربي ماله وما عليه، وانتقاده وتفكيك مقولاته وممارساته هو من أكثر المهام الفكرية إلحاحاً للسنوات المقبلة، ولكن من الصعب إنكار أنه كان قفزة للأمام بالنظر لما نشهده اليوم من ممارسات بدائية سياسياً، إذا قارنا بين «الربيع العربي» وخريف «اليسار الليبرالي» المعاصر، فيمكن للثوار العرب أن يفخروا أن تأثيرهم على «الغرب» كان أكثر إيجابية بكثير من تأثير «الغرب» عليهم.
٭ كاتب سوري
القدس العربي