نقاش مع برهان غليون: الدولة العصابة..جذور تاريخية عميقة/ حيّان جابر
طرح مقال الكاتب والمفكر السوري، برهان غليون، “مآل التحديث العربي.. من الدولة إلى العصابة“، خلفية تاريخية موجزة عن مسار الدول العربية منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، في محاولة لتسليط الضوء على مكامن الخلل البنيوية والأيديولوجية التي أفضت إلى الوضع الراهن؛ كاشفاً عن غياب “انهيار”، وفق المقال “مؤسسات الدولة الحقيقية لصالح سيادة منظومة العصابة أو المافيا الحاكمة أمنياً واقتصادياً وسياسياً”. وتساهم المقالة في البحث عن إجابةٍ على السؤال الذي أشار له في نهاية المقال: هل سيكون لدى المجتمعات العربية القدرة من جديد على تحطيم هذه الآلة الجهنمية، أقصد “الدولة العصابة”، أم سوف تستمر الشروط الإقليمية والدولية التي ساهمت في نشوئها واستمرارها تحول دون ذلك، وكيف؟ هذا سؤالٌ يستحق التفكير، حتى لو أن الإجابة عنه ليست بالضرورة جاهزة”.
يساهم هذا المقال هنا في الأمر نفسه الذي تصدّى له مقال غليون، وذلك بتسليط الضوء على بعض الحقائق وإبرازها، ونقد الثغرات والاستنتاجات المتسرعة، الظاهرة والمستترة فيه، أملا في أن يساهم النقاش في إعانة الحالة السياسية والثقافية الثورية الناشئة على ضفاف الثورات الشعبية؛ ومن رحم معاناة (وإرهاصات) الشعوب، الباحثة عن السبيل الأمثل لبناء دولة العدالة والمساواة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، دولة الصناعة المتطوّرة، والحقوق المتساوية من دون أي تمييز عرقي أو إثني، عشائري أو عائلي. فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى تفعيل النقد الجدلي والعلمي والموضوعي الصادق والشفاف، في المسائل الواقعية الراهنة، وفي خلفياتها التاريخية ذات الصلة، من دون الانجرار نحو السقوط في فخ تجيير الحقائق الحالية والتاريخية، لخدمة نتائج مسبقة تخدم هذا الطرح أو ذاك.
مرحلة ما بعد الاستقلال
يصف مقال برهان غليون مرحلة ما بعد الاستقلال في موضعين متباعدين نسبياً بصورتين متناقضتين، تصف كل منهما واقعا اجتماعيا وسياسياً منفصلا كلياً عن الآخر. بداية بالقول “ورثت بلدان عربية عديدة، ..، بعد الاستقلال، نظما تعدّدية ديمقراطية الطابع، على الرغم مما كان يشوبها من نواقص وتشوّهات، لم يكن من المستحيل التغلب عليها، وتجاوزها مع الزمن”. وهو ما يوحي بأن الدول الاستعمارية قد أسّست، بالحد الأدنى، ركائز الدولة الديمقراطية في الدول المحتلة، قبل أن تنال الأخيرة الاستقلال الذاتي!. ويتطلب هذا الأمر تدقيقاً كثيراً في التفاصيل على حساب المظهر، ويطرح تساؤلاتٍ عن طبيعة مؤسسات الدولة التي نشأت في ظل الاستعمار؛ ومتابعة ارتباطاتها والأسس القائمة عليها، وفي مقدمتها البرلمانات والعمليات الانتخابية التي كانت سائدة ما قبل الاستقلال، فضلاً عن إلقاء نظرة متفحصة على ما أنجز على مستوى التنمية البشرية، وخصوصاً في الأرياف والمدن البعيدة عن المركز الحضاري، أي العاصمة.
تُظهر كتب كثيرة عاصرت تلك المرحلة الألاعيب والأساليب التضليلية التي مارستها القوى الاستعمارية تحت غطاء ديمقراطي أو انتخابي، من أجل فرض الممثلين السياسيين المقرّبين منها، أو الأقل جذريةً في الموقف منها، عبر تعيين بعض النواب أو القيادات الجهوية، الطائفية والعشائرية، خصوصاً في المناطق الريفية، ومن خلال قوانين وممارساتٍ تضرب وحدة المجتمع، بتزكية الانتماءات ما قبل الحضارية؛ الإثنية والعرقية والطائفية، وأخيراً عبر تدخل مباشر لجهاز الدولة القمعي؛ ممثلاً بالشرطة السرية، أي الأجهزة الأمنية، والشرطة العادية وأحياناً اللجوء إلى قوىً عسكريةٍ محليةٍ وغير محلية، منها القادم من مستعمرات أخرى، ومنها القادم من الدولة المحتلة ذاتها.
في المحصلة، قامت الممارسة الاستعمارية على سلسلة من الخطوات القمعية التي تحول دون تطور المجتمعات المحتلة وتوحيدها، كاعتقال المناضلين السياسيين الجذريين، أو نفيهم وأحياناً قتلهم، وإغلاق الصحف ومنع نشرها، والتصدّي بأعلى درجات القمع والهمجية لغالبية المظاهرات الشعبية الطلابية وغير الطلابية، بالإضافة إلى حجب التطور العلمي والتقني والخدمي أيضاً عن مجمل الدولة المحتلة، أو عن جزءٍ منها، ما ساهم في ترسيخ تطوّرٍ لا متكافئ داخل جميع الدول المحتلة، وإن كان التخلف أو القصور المعرفي العلمي والصناعي والخدمي السمة العامة لجميع هذه الدول. وبالتالي، كانت مرحلة ما بعد الاستقلال امتداداً طبيعياً ومنطقياً لمرحلة الاحتلال؛ وهو ما يفسّر امتداد قوة أجهزة الدولة القمعية والاستبدادية وسطوتها على مجمل المجتمع، وعلى قواه السياسية القائمة والناشئة بعد الاستقلال. إذ كانت الانقلابات العسكرية والاعتقالات السرية والملاحقات الأمنية وعمليات التعذيب داخل السجون السرية إحدى أهم سمات مرحلة بعد الاستقلال التي لا يمكن إنكارها أو القفز عنها. وهو ما يفسّر تطرق مقال غليون لها لاحقاً، وإن كان على عجالة بقوله: “وخلال السنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اكتسحت الثورات والانقلابات التي ارتبطت بها القسم الأعظم من الدول الصغيرة التي ولدت من حركات تصفية الاستعمار”. وبالتالي، عبّر غليون، بقصد أو من دونه، في مقاله، عن مرحلة ما بعد الاستقلال بطريقتين متناقضتين، الأولى تدّعي وراثة الدول المستقلة حديثاً نظاماً تعددياً وديمقراطياً، بينما تصف الثانية الطبيعة العسكرية والأمنية لمجمل الأنظمة التي خلفها الاستعمار.
من بديهيات الأنظمة التعدّدية والديمقراطية حظر دور المؤسستين، العسكرية والأمنية، في الحياة السياسية، وهو ما يحول دون تحويل الجيش والأجهزة الأمنية إلى إحدى أهم وسائل الحرب الحزبية، بل إلى عصاباتٍ تسعى كل منها إلى نهش العصابات الأخرى وقتلها ونفيها، وهي الحالة التي سادت في مرحلة ما بعد الاستقلال، فبعد كل انقلابٍ عسكريٍّ شهدت المؤسستان، العسكرية والأمنية، تغيراتٍ شبه جذرية في قياداتها بالصورة التي ترجّح كفة الجهة السياسية أو الفئوية المنقلبة/ العصابة/. وهو ما استمر حتى تمكّنت قيادة الانقلاب من بسط سيطرتها المطلقة والكاملة على المجتمع أولاً، وعلى المؤسستين، العسكرية والأمنية، ثانياً. وبالتالي يمكن اختزال الحياة السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال بمعركةٍ استخباراتيةٍ وعسكريةٍ على المجتمع ومؤسسات الدولة بأسرها (إن وجدت)، وفي مقدمتها الأمن والجيش.
من التعميم الفئوي إلى المحلي
ينتقل المقال موضع النقاش من إعطاء صورة معممة عن كل الدول العربية إلى تحليل أو تفكيك تجربة مجموعة محدّدة منها، وهي الدول التي خاضت التجربة الثورية الاجتماعية، كما يصفها المقال، متأثرة بتجارب روسيا الشيوعية والصين الماوية؛ وهو ما يحدّ، بطريقة غريبة، مجمل التجربة العربية، اشتراكية أم ريعية أم ليبرالية أو نيو ليبرالية، والتي لم تفض أيّ منها إلى بناء نظام ديمقراطي تعدّدي، أو نظام اقتصادي منتج يرفد الدولة، ويدفع عجلة التطور، كما لم تنجح أي منها في القضاء على الأمية والتخلّف عبر الانتقال إلى مصافّ الدول المتطورة والحديثة. وهو ما يشير إلى خلل أكبر مما يحاول مقال برهان غليون الإيحاء به، خلل يتجاوز الخلاف الأيديولوجي الظاهري، فعلى أهمية الفكر والأيديولوجيا في دفع عجلة التطور، إلا أننا في المنطقة العربية نعاني من مشكلات وعقبات أكبر وأخطر على حاضرنا ومستقبلنا، يتطلب كشفها وتفنيدها وتجاوزها نقداً وتحليلاً علمياً موضوعياً ومتحرّراً من قيود الأفكار والنتائج المسبقة؛ التي تلجم وتحرف وتشوه أي عملية نقدية غير متحرّرة منه، مهما كانت الدوافع والغايات، ومهما كانت مكانة الجهة المنفذة وخبرتها. إذ إن النظرة الشاملة على تجارب مجمل الدول العربية تقدّم دليلاً علمياً، ينفي محاولة رد أسباب التخلف المجتمعي والاقتصادي وعنف الأنظمة واستبدادها إلى سبب واحد، يتمثل في أيديولوجيا محدّدة وثابتة؛ هي الماركسية أو الاشتراكية أو الشيوعية.
لكن لا ضير من متابعة الاطلاع على سرد تجارب الدول العربية ذات التجربة الثورية، وفق منطق غليون، حتى نتمكّن من التقاط فحواه. وخصوصاً التجربة المصرية التي كانت سباقة في اكتشاف مأزق النموذج السوفييتي، حسب المقال الذي وصفها بالشكل التالي “بدأت القاهرة في التحلّل من أوهامها الثورية، والعودة إلى طريق الليبرالية، لكن بعد تفريغها من مضمونها السياسي الرئيسي، وهو احترام الحريات العامة وتعزيزها”، وكأن غليون يقول إنه لا يمكن تحميل الطريق أو الأيديولوجيا الليبرالية مسؤولية الفشل والمصائب الحاصلة في مصر، فقد أفرغ النظام المصري الليبرالية من مضمونها السياسي الرئيسي، بينما لا نجد أي محاكمةٍ مماثلةٍ لأيٍّ من الأنظمة التي ادّعت انتهاجها الطريق الاشتراكي، وفي مقدمتها النظامان السوري والمصري في عهد جمال عبد الناصر، على الرغم من تناقض هذه الأنظمة، وفي مقدمتها النظام السوري مع مسار إنجاز التحول الاقتصادي والاجتماعي المنشود ماركسياً، سواء فيما يتعلق بدعم الإنتاج الصناعي والزراعي وتطويرهما، أو في تحقيق النهوض العلمي والتنمية البشرية، خصوصاً في المناطق الريفية والطرفية البعيدة عن المدن الحضارية نسبياً، أو فيما يتعلق بالنظم القانونية المدنية والدستورية التي كرّست سطوة المؤسسات الدينية والعشائرية ونفوذها نظرياً، فضلاً عن تكريس السلطة الأمنية والاستبدادية عملياً، على حساب حكم الطبقات الشعبية الكادحة العمالية والفلاحية.
كما لا بد من ملاحظة المرحلة التي التحقت في أثنائها غالبية هذه الأنظمة العربية بالقطار السوفييتي، والتي تزامنت مع ما تسمى مرحلة التعايش وتجنّب الصدام السوفييتية – الأميركية، وهي المرحلة التي منع السوفييت فيها أياً من الحركات الثورية الاشتراكية أو الماركسية من السيطرة على مقاليد الحكم، لصالح دعم تحالفاتٍ وطنيةٍ بقيادة البرجوازية الوطنية، وفق التوصيف الروسي، وهو ما أتاح الفرصة لمجموعاتٍ فئويةٍ للسيطرة على الحكم بشعارات اشتراكية، وبمضمونٍ لا يمتّ بأي صلةٍ للفكر الماركسي والاشتراكي عموماً. كما تجدر الإشارة إلى أن غالبية الدول العربية التي تحدث عنها المقال قد حثّت خطاها بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي نحو مسار اللبرلة والانفتاح الاقتصادي، من دون أي تغيير في بنية الدولة أو العصابة، إن أردنا الدقة والموضوعية، وهو ما شكّل أحد أهم أسباب الثورات الشعبية في موجتها الأولى في نهاية عام 2010. وخصوصاً في سورية التي سارت، في خطواتٍ حثيثة، نحو إلغاء الدعم الحكومي، وخصخصة كل المؤسسات والمنشآت الاقتصادية والخدمية، وتحرير البضائع المستوردة من جميع القيود، بما فيها الضرائبية والجمركية، وإلغاء دور الدولة الاقتصادي عبر اتفاقات ومراسيم عديدة، وخصوصاً مع دول المركز، والتي أثبتت الأيام مدى التحالف والترابط بينها وبين القوى العظمى من دول الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما بات حقيقةً يصعب نكرانها اليوم بعد مضي قرابة الثمانية أعوام على ثورة السوريين، التي مارس النظام السوري فيها شتى أنواع الجرائم ضد الإنسانية، وبمختلف الأسلحة والوسائل المحرّمة والمدانة دولياً، بما فيها الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة والقنابل الفوسفورية. فضلاً عن عمليات التهجير القسري، والاعتقالات التعسّفية التي تؤدي، في حالاتٍ كثيرة، إلى الموت تحت التعذيب، فعلى الرغم من كل الوثائق المسرّبة والتحقيقات الدولية التي تثبت مسؤولية النظام عن غالبية الجرائم المرتكبة في سورية، إلا أننا نعيش حتى اللحظة واحداً من أبشع مظاهر الحماية الدولية للمجرمين الذين ثبتت إدانتهم في جرائم كثيرة ضد الإنسانية.
عن توظيف القضيتين القومية والفلسطينية
يجد غليون أن علاقة النظم التي اختبرت نموذج الحكم السوفييتي مع القضيتين القومية والفلسطينية قد بدأت مع إدراك هذه النظم ضرورة الخروج منه، نحو الكمبرادورية الاقتصادية والفاشية السياسية التي تحافظ على مصالحهم الفئوية، على الرغم من امتلاك إمكانية الانتقال نحو نظام تعدّدي ديمقراطي، يستند إلى الشعب ويحقق مصالحه، بقوله: “وجدت النخب السياسية والثقافية العربية في التوظيف في المسألة القومية، مع اختصارها في الاعتراض على التوسعية الإسرائيلية، أو دعم القضية الفلسطينية، أفضل وسيلةٍ لإنقاذ نموذج حكم الاستثناء”. وهذا يتطلب تدقيقاً كثيراً، أولاً لأن القضيتين القومية والفلسطينية مثلتا إحدى أهم ركائز حكم الأنظمة ذات الخطاب الاشتراكي، منذ سيطرتها العسكرية والأمنية على الحكم، من مصر عبد الناصر إلى عراق صدّام حسين، مروراً باليمن والسودان وليبيا القذافي، وليس انتهاء بسورية الأسد، وخصوصاً في مرحلة حكم حافظ الأسد. وثانياً لأن مرحلة أفول الخطاب الاشتراكي والتحول نحو الانفتاح الاقتصادي والخصخصة واللبرلة الجارفة ارتبطت بأفول الخطاب القومي لصالح الخطاب الوطني، المنفصل، بشكل شبه كلي، عن قضايا المنطقة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، كما عمل على استعادة خطاب الانتماء إلى حضاراتٍ غابرة، كالفرعونية والكلدانية.. إلخ، الأمر الذي يبرّر التمايز عن المحيط العربي، ويفسّر التباعد الحاصل. وثالثاً لأن مرحلة ما بعد الخطاب الاشتراكي مثّلت سياسياً مرحلة السلام والقبول بالاحتلال أمراً واقعاً، وهو ما تم مصرياً عبر اتفاق السلام المبرم في نهاية السبعينات من القرن المنصرم، وفي المشاركة السورية في مؤتمر السلام الدولي في مدريد، وبلقاءات ومشاوراتٍ عديدة غير مباشرة، وآخرها اجتماع جنيف بين الرئيسين الأميركي بيل كلينتون والسوري حافظ الأسد، قبل رحيله بمدة قصيرة، ولم تستأنف في عهد الابن بشار لاعتبارات عديدة، قد يكون أبرزها حاجة النظام السوري إلى مزيد من الوقت ليستطيع تسويق السلام أو الاستسلام المزمع عقده، بالتزامن مع قدرته على ضبط ردّات الفعل الشعبية الداخلية عليه. ولنا في التسريبات العديدة عن الوساطات التركية والشروط الإسرائيلية في المرحلة السابقة للثورة السورية دليل واضح وفاضح عن توجهات النظام السوري، بعد انتهاء مرحلة الخطاب الاشتراكي.
وبالتالي، يمكن القول إن خطاب القومية والقضية الفلسطينية كان ضرورة مرحلية حتى إحكام السيطرة على الدولة والمجتمع، الأمر الذي يفسّر التناقض بين ممارسة هذه النظم وخطابها التحرّري والقومي في المرحلة الأولى، كما يفسّر سهولة (وتراتبية) انتقالها من الخطاب القومي نحو خطابٍ ينطوي على ذاته، ويتنكّر لجميع حقوق الإنسان، بما فيها حقوق الفلسطينيين والعرب إجمالاً، وهو ما ينسجم مع ممارساته الداخلية التي لا تعترف بأيٍّ من حقوق مواطنيها.
عن جوهر النظام العربي
لم تمتلك الدول العربية قاطبة أياً من أسس الممارسة الديمقراطية الحقيقية، وفقاً للفكرين، الليبرالي والشيوعي، بمعنى أن الديمقراطية، بوصفها ممارسة شعبية، تسير في طريق مغاير عن جميع الأنظمة العربية الريعية والكمبرادورية، الملكية منها والجمهورية، الاشتراكية والليبرالية، فهي مجرد غطاء يحجب الطبيعة الاستبدادية والنهبية القائمة منذ تشكيل الدولة الوطنية، وعلاقة التبعية والتشابك المصلحي بينها وبين القوى المسيطرة على مجمل الاقتصاد العالمي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.
لذلك كانت الأيديولوجيا، وما زالت، وفق ممارسة النظام العربي، مجرّد خطاب دعائي يعيد تكرار الشعارات الرائجة عالمياً، من دون فهمها وتطبيقها، فهي مجرّد وسيلة لإخفاء جوهر النظام الاستبدادي والأمني، وهو ما ينطبق أيضاً على تكرار بعض الشعارات المعبرة عن الجموع الشعبية، من قبيل شعاري تحرير فلسطين والوحدة العربية، اللذين عمل النظام العربي على قمع أي خطوة جدية في سبيل تحقيق أي منهما. ما يجعل على أي عملية نقدية وتحليلية تهدف إلى تحليل طبيعة النظام العربي ألا تنطلق من متابعة التغيرات الشكلية الخارجية الحاصلة في صورة النظام، بل التدقيق أكثر في التحالفات والتكتلات الاقتصادية والأمنية والعسكرية والسياسية المشكلة له، هذه التحالفات التي حافظت على ذاتها من مرحلة الخطاب الاشتراكي إلى الليبرالي، ومن ادّعاء العمل على تحرير كامل فلسطين إلى مرحلة الاعتراف والخضوع لإسرائيل.
وعليه، نحن في ظل دولة العصابة التي تنهب المجتمع وخيراته منذ اللحظة التي تمكّنت فيها من بسط سيطرتها الأمنية والعسكرية على الدولة والمجتمع، من دون أن تكترث بتحقيق أي إنجاز محلي، الأمر الذي يضعنا أمام مهمتين متلازمتين، تنطلقان من إنهاء حكم العصابة وضرورة بناء الدولة الوطنية، المسؤولة عن تحقيق البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، عبر دفع العجلة الإنتاجية الصناعية المتطوّرة، وتحقيق التنمية البشرية الشاملة، وإنجاز مشاريع البنية التحتية الضرورية بشكل متوازنٍ وشامل، وإرساء قواعد العملية الديمقراطية دستورياً وقانونياً. وبالتالي، لا بد من البحث عن السبيل الأنجع لإنهاء حكم العصابة وتحقيق المهام الديمقراطية كاملة، في ظل الوضع المحلي والدولي المعيق. وعليه، نحن مطالبون بمحاكمة الأفكار المطروحة الصادقة والجادة عبر البحث بالقدرة على إنجاز كامل أهدافنا التي نسعى إليها، حتى لا نقع في أسر عصاباتٍ جديدةٍ متخفيةٍ خلف رداء ديمقراطي كاذب.
العرب الجديد