الكل يكذب: ماذا يخبرنا الإنترنت عن حقيقتنا؟/ محمد خلف
الجميع يكذب: الزوج على زوجته، وبالعكس طبعاً، الطفل على والديه، الأصدقاء على أصدقائهم، والموظفون على رؤسائهم في العمل. قد يدّعي البعض أنه يعشق النساء، ولكنه في الواقع يميل إلى الذكور. كما يكذب كثيرون عندما يشاركون على الإنترنت في استبيانات تجريها وكالات دراسات اتجاهات الرأي العام وطرائق التفكير والمواقف في المجتمع من الأحزاب قبل الانتخابات أو القوانين الحكومية الخ. كلما انكشفت أمامنا كذبة من الأكاذيب، نردد المثل الشهير القائل، حبل الكذب قصير، لكننا لا ندرك حقيقة أن تلك الكذبة، التي انكشفت أمامنا للتو، ليست سوى نقطة من بحر الأكاذيب السائدة في عالمنا الراهن، وبالتالي فإن حبل الكذب أطول مما نتصوّر.
صدرت خلال السنوات الأخيرة دراسات وأبحاث كثيرة حول استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وعما إذا كان مستخدمو هذه الشبكات يكذبون من خلالها، ما دفع كثيرين إلى وصفها بشبكة الكذب. في دراسة لها نشرتها مجلة (سيكولوجي توداي) الأميركية، استعرضت الباحثة جويندولين سيدمان أخصائية علم النفس في جامعة اولبرايت في بنسلفانيا الادّعاءات التي تربط بين الكذب على الإنترنت والكذب في الحياة العادية، وقالت إن “الأكاذيب على الإنترنت كما يرى البعض بسيطة، في معظمها تقوم على المبالغة”، وأضافت: “أجري استطلاع آراء 272 مستخدماً حول مدى صدقهم وكذبهم على شبكات التواصل الاجتماعي، أكد معظمهم أنهم صادقون وبشكل خاص في غرف المحادثة السرية او مواقع الجنس وشبكات التواعد والعارف”.
ما الإنترنت؟
في كتابه “الجميع يكذب: ماذا يخبرنا الإنترنت عن حقيقتنا”، يناقش سيث ستيفنز- دافيدوفيتز الدور الذي تلعبه “البيانات الضخمة” في كشف ما نحاول إخفاءه حتى عن أنفسنا”. ونشرت صحيفة “الغارديان” مقتطفات من الكتاب الذي وصفته بأنه “شديد الأهمية لقدرته على تفسير نزعتنا الإنسانية للكذب على أنفسنا”.
يميل الأشخاص في أحيان كثيرة إلى الكذب على أنفسهم وعلى الآخرين في الإنترنت، وبرأي دافيدوفيتز “كلما كانت الأسئلة المطروحة في استطلاعات الرأي بعيدة من حياة الناس الشخصية، كلما ارتفعت نسبة الصدق لديهم، ولهذا فأن الاستطلاعات الإلكترونية تحصل على إجابات أكثر صدقاً من تلك التي تحصل على الهاتف، وبالتأكيد أكثر صدقاً من تلك التي تحصل وجهاً لوجه”، ويدعو إلى ضرورة البحث عن الحقائق في “غوغل” لأنه بمثابة (الصندوق الاسود) للناس، إذ يسلمونه أكثر أسرارهم وأفكارهم، فيما يرفضون الكشف عنها وإن بقيت هويتهم مجهولة”.
تريليونات البيانات والكذب
هل فكرتم يوماً ما بمصادر المعلومات المتناثرة في الشبكة الدولية التي تتوالد في كل دقيقة في اليوم؟ في الواقع أصبحت في متناولنا أرقام وافية ترسم بالضبط كمّاً من المعلومات التي يتشارك فيها الناس في كل يوم. فمنذ بداية القرن الحالي تتعامل البشرية في المعدل الوسطي في اليوم الواحد، بما يقدّر بـ8 تريليون غيغا بايت من البيانات. وهذه البيانات تدخل حيز الأدلة والقرائن، إذ إن بعضها يتضمن معلومة قد لا يرغب أحد في الاعتراف بها لأسباب تتعلق به شخصياً. وفي حال قمنا بتجميع هذه البيانات والاحتفاظ بسريتها بغية ضمان عدم التعرف أبداً إلى هواجس أشخاص محددين أو رغباتهم أو سلوكهم. أما إذا قمنا بقليل من التحليل لهذه المعلومات، أو معالجة البيانات، فحينذاك سنبدأ رؤية الكائنات البشرية بشكل أفضل، أي معرفة سلوكهم ورغباتهم. كما سنعثر على أجوبة لأسئلة ستكون كثيرة طالما أثرناها، وهذه الأجوبة ستكون في آن واحد صادمة ومثيرة للقلق وهي على سبيل المثال “من الذي يحرض فينا أو يحفز في نفوسنا غريزة ارتكاب جرائم الكراهية؟ وهل نشعر بأسف لأن لدينا بنتاً وليس صبياً؟ وأيضا هل بإمكاننا ان نقوم بممارسة الجنس مع شخص مثلنا، وهذا يسري على الرجل والمرأة على حد سواء؟
أوضح دافيدوفيتز أن “البيانات الجديدة التي يتزايد وجودها في عصرنا الرقمي ستوسّع بشكل كبير إمكان فهمنا البشرية”. وقال “إن ميكروسكوب كل واحد منا سوف يرينا بأنه في قطرة واحدة من ماء البحيرة يوجد أكثر من هذا الذي كنا نعتقد أننا نراه”. هذا فيما “من تلسكوب كل واحد منا سوف نرى أنه في سماء الليل من نجوم وكواكب يوجد أكثر بكثير مما كنا نعتقد أننا نراه أو نعرفه”. ما نراه الآن واضحاً هو أن البيانات الرقمية تظهر لنا أن الكائن البشري يحمل من المضامين أكثر مما كنا نعتقد أننا نراه”. وبالتالي يمكن القول من دون مبالغة إن البيانات الرقمية يمكن أن تصبح ميكروسكوب وتلسكوب عصرنا الراهن وتساعدنا في الوصول إلى اكتشافات مهمة بل وحتى ثورية”، بحسب دافيدوفيتز الذي هو خبير أميركي بارز في الاقتصاد، درس في جامعة “هارفارد”، وهو أيضاً متخصص في مجال معالجة بيانات الإنترنت في “غوغل”، ولقد خصص فترة أربع سنوات من حياته في جمع وتحليل المعلومات الهائلة التي نتداولها ونتشارك بها كلنا في الفضاء الالكتروني، قبل أن يقوم بتوليفها ومن ثم سردها وتحليلها في كتابه الذي تحول إلى الكتاب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة بعد طبعه وإصداره.
أمضى مؤلف الكتاب وقتاً طويلاً في تحليل بيانات بحث “غوغل“، وبعض الأسئلة السرية التي يحاول كثيرون الحفاظ عليها مخفية عن الجميع. واستطاع هذا الكتاب جمع البيانات من المحرّك حتى في حالات التصفّح المتخفي، والذي لا يعتبر إطلاقاً طريقة لحماية الخصوصية والهروب من عين التحليل والتجسس. ولا ينوي دافيدويتز، من خلال كتابه الجديد Everybody Lies، فضح كل شخص بشكل شخصي، لكنه يكشف عن عادات البحث في الإنترنت الأكثر انتشاراً في العالم، والتي يرفض الناس الكشف عنها. ولم يثر ما توصل اليه الباحث من تحليل عمليات البحث التي جاءت العلاقات الحميمية والإباحية على قائمة المواضيع الأكثر بحثاً، كثيراً من الاستغراب بين الناس، وحول ذلك يقول الكاتب في حوار مع موقع Vox: “إن الإباحية أكبر تطوّر شهدته عمليات البحث حول الجنس”. وأضاف: “كتابي هو عن الطبيعة البشرية، والجنس هو جزء كبير من الطبيعة البشرية. الجميع مهووسون بالجنس، وإذا كانوا يقولون غير ذلك فهم يكذبون”. ويكشف الباحث أن النساء المتزوجات رجالاً مثليين، في الولايات الجنوبية الأميركية، من دون أن يعرفن بذلك، نراهن على تبلور شكوكهن بميول أزواجهن الجنسية، فسرعان ما يتوجهن الى العم “غوغل” بالسؤال التالي: “هل زوجي مثلي الجنس؟”. وتشير ألارقام المتجمعة لدى الباحث إلى أن النساء يسألن “غوغل” عما إذا كان أزواجهن مثليين أكثر بـ8 مرات من سؤالهن عما إذا كانوا مدمني كحول، و10 مرات أكثر عما إذا كان أزواجهنّ مكتئبين.
ويذكر الباحث أيضاً أن “مئات آلاف الشباب” يبحثون عن إباحيات تخص كبار السن وذوي الوزن الثقيل. كما أشار إلى أن النساء يبحثن أكثر من الرجال عن مشاهد إباحية تضم عنفاً ضد المرأة، وهي قاعدة سارية في كل جزء من العالم، يقول الباحث.
كما كشف الكتاب عن عمليات بحث غريبة تخص بلداناً معينة، مثل البحث عن مقاطع دغدغة في اليابان، ومقاطع إرضاع النساء لأطفالهن في الهند.
يعلّق الكاتب على تلك الحالة بخلاصة مثيرة للاهتمام فيقول، كلّما كانت الأسئلة بعيدة من الحياة الشخصية للناس، كلّما ارتفعت نسبة الصدق لديهم. وهكذا فإن استطلاعات الرأي الإلكترونية تحصل على إجابات أكثر صدقاً من تلك التي تُجرى على الهاتف وبالتأكيد أكثر من تلك التي تحصل وجهاً لوجه”.
وأبعد من ذلك، يتجرأ الأشخاص على أن يفصحوا عن معلومات أكثر عندما يكونون بمفردهم، بينما تتأثر هذه الجرأة إلى حد معين، إذا كان ثمة أشخاص آخرون معهم في الغرفة.
أما الاستطلاعات التي تسعى إلى الحصول على معلومات حساسة فسينبثق عنها كم هائل من المعلومات الخاطئة، لأن الأشخاص لا يمتلكون أي دافع للإفصاح عن الحقيقة خلال الاستطلاع.
يشير الكاتب إلى ضرورة البحث عن الحقائق في “غوغل” الذي يعتبر بمثابة “الصندوق الأسود” للناس، إذ يسلمونه أكثر أسرارهم وأفكارهم حرجاً، فيما يرفضون الكشف عنها، وإن بقيت هويتهم مجهولة…
ويستخلص قائلاً: تساعدنا معرفة الحقيقة على فهم أكثر واقعية للمجتمع، وعلى تشكيل وعي حقيقي بديناميكيات العلاقات الإنسانية وقضايا التطرّف والعنصرية والدين والجنس، والبناء على ذلك الوعي عند مقاربتنا لها”.
هل بمقدور كل واحد أن يتحمّل الحقيقة؟
كتاب “كلنا نكذب” يثير انتباهنا ويوجه اهتمامنا كله إلى تحليل أجرته (big data)، وبالتحديد ذلك الذي يختص بعمليات البحث في موقع “غوغل”، التي تكشف عن عالم سري دفين، يختلف بشكل كبير عن الذي نعتقد أننا نراه ونعرفه. هل بإمكاننا أن نستخدم مصادر أخرى للمعلومات الكبيرة مثل “مصل الحقيقة”، الذي ما أن يتناوله الشخص حتى ينطق بالحقيقة شاء أم أبى من دون الحاجة إلى استخدام أدوات التعذيب أو الضغط النفسي، أو العكس تماماً؟ هذا علماً أن شبكات التواصل الاجتماعي التي تمتلك حجماً هائلاً من البيانات هي بالضبط الأداة المضادة للمصل الرقمي للحقيقة. إذا أراد كائن من كون آخر أن يحصل على معلومات عن الحياة على الأرض من حساباتنا على “فايسبوك”، سيعتقد بأن المواطن العادي على الأرض هو إنسان متزوج، دائم السفر إلى دول اخرى، لديه طفلان على الأقل، يقرأ المقابلات التي تجريها وسائل الميديا المختلفة مع نعوم تشومسكي، ويتناول الجعة في الخمارات مع أصدقائه ثلاث مرات في الأسبوع. إلا أن الواقع هو أن هذا المواطن ينتظر كل يوم في طابور طويل أمام ماكنات الدفع في السوبرماركت، يشاهد برامج تلفزيون الواقع المملة والغبية مثل: الأخ الأكبر، توب شيف، ستار أكاديمي وغيرها، ولا يجيب على مكالمات زوجته الهاتفية التي لم يمارس الجنس معها منذ سنوات، من الواضح أن ما تتضمنه حساباتنا على شبكات التواصل الاجتماعي هي في واقعها بعيدة كل البعد من الحقيقة وحياتنا اليومية. ولكن ماذا يعني كل ذلك؟ يرى دافيدوفيتز أن “هذا هو بالتحديد ما نبحث عنه في غوغل”.
في عالم “فيسبوك” تبدو الحياة الزوجية مثالية، إلا أنه في العالم الواقعي، الحياة الزوجية ليست إلا فوضى مربكة، ولهذا من المفيد أن نقارن على سبيل المثال الطريقة التي توصف فيها الزوجات على حساباتهن المفتوحة في وسائل التواصل الاجتماعي وفي غرف المحادثات السرية؟
كيف تصف الزوجات أزواجهن في معظم الأحيان؟
يتضح من بحث مسحي وردت تفاصليه في كتاب “كلنا نكذب” أن الزوجات يصفن في حساباتهن المفتوحة على وسائل التواصل الاجتماعي أزواجهن كالتالي: الزوج المثالي، الصديق الأفضل، صاحب الحس المرهف، الأكثر روعة، لذيذ العشرة ومهضوم للغاية. أما في غرف المحادثة فهو كالتالي: شاذ جنسياً، قمئ، ممل بشكل لا يحتمل، حقير!
تشير دراسة أعدها دافيدوفيتز عن عمليات البحث في موقع “غوغل” الى أنه بالإمكان تحديد عمليات البحث ومتى حدثت حتى في الدقيقة الواحدة، ويتيح لنا هذا التفصيل اكتشاف نماذج للسلوك مثيرة للاهتمام. وتبين أن البحث عن الفترة الزمنية، الأخبار، الصلاة، تحدث بضراوة في الساعة الخامسة والنصف صباحاً، وهذا دليل على أن العدد الأكبر من الناس يستيقظون في وقت مبكر من الصباح، أما في حالة البحث عن عمليات (الانتحار)، فتحصل في عددها الأكبر عند الساعة 12.36، وتخف إلى الحد الأدنى في الساعة التاسعة صباحاً. أما الفترة ما بين الساعة الثانية والرابعة بعد منتصف الليل وهو (البرايم تايم) للأسئلة الكبرى مثل: هل توجد فعلاً إرادة حرة؟ هل توجد حياة أخرى في كوكب آخر؟ ما معنى الوجود؟ كما تبين بيانات غوغل “أن قلق الرجال إزاء قدراتهم الجنسية متجذر في أعماق الكثير منهم، وتتواتر أسئلة الرجال حول جهازهم التناسلي أكثر من مشكلات الرئتين والكبد والقدمين والدماغ، كما يبحث معظم الرجال عن مراكز طبية تقوم بعملية تكبير القضيب أكثر من كيفية ضبط أوتار غيتار أو طهو وجبة طعام أو تغيير إطارات السيارة.
هل كذبت في حياتك؟ الاجابة الصادقة لهذا السؤال ستكون (نعم)، والشخص الذي يجيب بـ(لا) كاذب لا محالة. لقد أثبتت إحدى الدراسات أن الكثير من الناس يكذبون في الرسائل الإلكترونية وفي مواقع التواصل أكثر من كذبهم أمام الآخرين وجهاً لوجه، أما في مجال الأعمال، فظهر أن المفاوضين يكذبون مرة كل خمسة اجتماعات، تستمر لفترة أكثر من 10 دقائق”.
درج