مرحلة إعادة ترتيب الشرق الأوسط/ غازي دحمان
يشي الزخم الدبلوماسي والسياسي الذي تشهده المنطقة، وكذلك التحرّكات العسكرية المتسارعة، وشبكة التفاهمات الهائلة التي تبنيها القوى الفاعلة، بأن الأمور تسير باتجاه إعادة ترتيب المنطقة التي دخلت في وضع فوضوي منذ بداية العقد الحالي، نتيجة الثورات والثورات المضادّة، والخلافات والتوترات السياسية، إلى أن وصلت الأوضاع إلى مرحلة بات فيها الجميع في حالة إنهاك، بعد استنزاف مديد.
لا خطة واضحة، حتى اللحظة، لترتيب المنطقة، والسبب أن القوى الفاعلة ليست على اتفاق بعد في هذا الخصوص، بل إن طابع العلاقات بينها تنافسي صراعي، لا يتيح المجال لها للتوافق على مشروعٍ بحجم ترتيب هذه المنطقة المغرقة في الفوضى، وإنما تنطلق عملية الترتيب من تحديد حصة كل طرف، وطبيعة التزاماته والأدوار الموكل له القيام بها.
في المشهد المصغّر لهذه العملية، تبدو سورية بمثابة البؤرة التي يدور حولها النشاط الإقليمي والدولي، الهادف إلى إعادة ترتيب المنطقة، وتوجد لهذا الخصوص ورشتان، ورشة أستانة المتشكّلة من روسيا وتركيا وإيران، وورشة المجموعة المصغّرة، أميركا ودول أوروبا الغربية، وقد سعت المجموعتان إلى استكشاف سبل البحث عن خيارات جديدة، عبر قمة إسطنبول التي جمعت اثنين من كل مجموعة.
وثمّة تقديرات تشير إلى احتمالية تأسيس ورشة ثالثة، ومسار جديد، عبر اجتماع جماعة أستانة مع المجموعة المصغرة، والذي بدأت تباشيره في قمة إسطنبول الرباعية، لكن هذا الأمر يشترط حصول توافقاتٍ وتفاهماتٍ حول قضايا كثيرةٍ لا تزال محل خلاف بين الطرفين، وتحتاج تالياً إلى أفكارٍ من خارج صندوق التعاطي الحالي، حتى يكون ممكناً الدفع بهذا المسار.
وثمّة ورشة أخرى، في مسقط، تعمل بهدوء، ولكن بإمكانات استخباراتية ودبلوماسية كبيرة، وغالباً ما يجري تنشيط هذه القناة عندما تكون هناك إرادة مشتركة للأطراف المتصارعة في الرغبة بالوصول إلى حل ما، وقد أظهرت هذه القناة فعاليتها في أثناء التفاوض الأميركي – الإيراني بشأن الملف النووي، وتشي زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إلى مسقط بوجود ترتيب معين في سياق الترتيبات التي تشهدها المنطقة.
وبالتوازي مع هذه الترتيبات، تجري محاولات بناء تحالف عسكري عربي، تحت مسمّى ” الناتو العربي”، والهدف الظاهر له إعداد قوّة إقليمية تستطيع تحمل عبء المحافظة على الاستقرار وحماية الأمن في بعض المناطق العربية، وتخفيف العبء عن الطرف الذي طالما تولى القيام بهذه المهمة، وهو الولايات المتحدة الأميركية، غير أن بناء هيكل هذه القوّة ربما يتأخر إلى حين تبلور صورة الهيكلة التي ستبدو عليها المنطقة، والهياكل التي ستتشكل في إطارها.
لكن، لماذا نفترض وجود مثل هذا الترتيب الآن في الشرق الأوسط، وخصوصا أنه سبق أن جرى الحديث، قبل سنوات، عن ترتيباتٍ لم يتسنّ تظهيرها وإبرازها للوجود، من نوع ” الشرق الأوسط الجديد” و”الشرق الأوسط الكبير” و”الهلال الشيعي” و”الفوضى الخلاقة”، وسواها من طروحاتٍ ومشاريع أراد أصحابها من خلالها أيضاً إعادة ترتيب الشرق الأوسط. تُرى، ألا يعتبر الوضع الحالي للمنطقة، وعلى الرغم من طابعه الفوضوي أكثر فائدة للقوى الخارجية التي تديره، ألا تحمل فكرة إعادة الترتيب مخاطرة لهذه القوى؟
تدل المؤشرات الصادرة عن صراعات المنطقة أن هامش المناورة الذي استفاد منه اللاعبون الكبار “الإقليميون والدوليون” في الفترة السابقة استنفذ تماماً، إما بسبب إنهاك الوكلاء وعدم مقدرتهم على الاستمرار بممارسة أداء أدوارهم القديمة، أو أن الأمور وصلت إلى مرحلةٍ تتطلب إعلان اللاعبين الكبار توضيح حدود مصالحهم وخطوطهم الحمر والهوامش القابلة للتفاوض والمساومة. وهذا يتطلب كشف خرائط المشاريع الجيوسياسية بوضوح، بما يستلزم ذلك من إعادة ترتيب للفوضى، وضبط للجغرافيا، ولملمة اللاعبين الصغار المتسكّعين على مفارق خرائط الصراع.
وإذ يبدو أن الدولة، الكيانات السياسية، قد نجت، في هذه المرحلة، من مصير التشظي الذي لامسها مراتٍ عديدة، فذلك ليس بسبب قوتها وديناميكيتها، بل لاكتشاف اللاعبين الخارجيين أن ثمّة مهامّ ما زال مطلوبا إنجازها في هذه المرحلة لصالحهم، لكن المؤكّد أن ثمّة تغييرات كبيرة ستطاول هياكل الدول في منطقتنا، ولن يتوقف الأمر عند حد البنى والمؤسسات الإدارية والسياسية، بل سيتعداها إلى البنى الاجتماعية والثقافية.
إلى أين ستفضي هذه الترتيبات، ذلك ما لا أحد يعرفه. الجميع يشارك بطريقة أو أخرى في ورش بناء ترتيبات الشرق الأوسط. الجزء الواضح والمعلن عنه حتى اللحظة طرفان: إيران المطلوب تشذيبها وإعادتها قوّة داخل حدودها وإنهاء مرحلة تفلتها، والتنظيمات واللاعبون من غير الدول بعد انفلاشها بكثافة، وعلى مستوى الإقليم برمته، ذلك أن وجودها بات يهدّد استثمارات اللاعبين الكبار في المنطقة، كما يهدّد خططها وبرامجها المستقبلية.
على أن ذلك لا يعني أن جهاتٍ أخرى قد تنجو من هذا الترتيب، وخصوصا النخب الحاكمة في المنطقة، وحتى الدول نفسها، وإذا كان التركيز، في هذه المرحلة، يقتصر على إيران والمنظمات المختلفة، فلأنه ضرورة للتعاطي مع ملفاتٍ أخرى في مرحلة ثانية. وينطلق ذلك كله من قاعدة أن المنطقة فقدت قرارها وقدرتها على تسيير أمورها، تماماً مثلما فقدت مجتمعاتها القدرة على مواصلة العيش المشترك بدون صيغ وترتيبات جديدة.
العربي الجديد