أروندهاتي روي فـي روايتها الجديدة تُشيّدُ «جنَّة» الهند المعاصرة على «مقبرة» المهمشين
الروائية الهندية التي تملأ المشهد العام منذ فترة بحضورها القوي كمناضلة تقاوم إرهاب السلطة والطبائع الاستبدادية والاتجاهات السلطوية تأتي الآن بروايتها الجديدة « الطقوس المقدسة من أجل منتهى السعادة» The Ministry of Utmost Happiness بعد عقدين من روايتها الأولى « إله الأشياء الصغيرة» The) God of Small Things) التي حازت على جائزة البوكر. هي ليست بمجرد كاتبة تكتب من أجل الاستمتاع بالكتابة أو لإشغال فراغها بل على العكس تؤمن بأن القلم سلاح يُستعمل لصالح المهمشين والمستضعفين الذين أبعدتهم الأحزاب السياسية من تيار الحياة الرئيس. وبعد وفاة الكاتبة الناشطة البنغالية «ماهيشواتا ديفي» هي الكاتبة الوحيدة التي تبقت في هذا المضمار. وحياة أروندهاتي مثل حياة ماهيشواتا كانت حافلة بنشاط حيوي، كلتاهما وهبتا حياتهما لمن يعيش على هامش المجتمع محروما من أبسط وسائل الحياة والحقوق الإنسانية. كانت صوتا لمن لا صوت لهم. أصبحت الناطقة بلسانهم لمّا استأجرت القوى الرأسمالية والدولة العميقة الزميلة لها وسائلَ الإعلام في الهند. رفضت جائزة الإبداع الهندي وأعادتها عام 2005 اعتراضا على الجرائم غير الإنسانية التي ارتكبها الجناح اليمين للحكومة في الهند واحتجاجا على التطهير العرقي الذي جرى في ولاية الجوجرات. أدانت التجارب النووية التي قامت بها حكومة الحزب اليميني الهندوسي بقيادة «باجباي» في « البوكران» كما اشتركت مع «نعوم تشو مسكي» و»هوارد زين» وآخرين في دعوة لإدانة إسرائيل ومقاطعتها إبان حرب لبنان عام 2006، اتخذت موقفا صارما ضد بناء سدود كبيرة مثل سد «نارمادا» بإخلاء السكان من مناطقها وضد التطرف الهندوسي وخلاف منع الحرية في كشمير، ووقفت بجانب الماوويين (Maoists) الذين قاوموا مافيا المعادن الذين استولوا المناطق الجبلية الشرقية التي توجد فيها تلك المعادن بإخلاء سكانها الأصليين ، وشنت هجوما شديدا على الولايات المتحدة لاحتلالها العراق وحربها في أفغانستان. وقالت في إحدى مقالاتها إن هذه الممارسات ليست انتقاما من أحداث الحادي عشر من أيلول، بل عمل إرهابي آخر ضد شعوب العالم. انتقدت البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وشركات متعددة الجنسية التي تستغل الدول غير النامية والشعوب الفقيرة في العالم الثالث. وبعد روايتها الأولى «إله الأشياء الصغيرة» كانت كتاباتها جلها مركزة في مقالات شديدة اللهجة تنتقد فيها سياسة الأحزاب اليمينية والشركات الكبرى الاحتكارية في الهند وقوات الاستعمار الجديدة في العالم.
اتهمها الحزب الحاكم الهندوسي بأنها خائنة الوطن ومرافقة اليساريين الماوويين ولكن واجهت كل هذه التهم بجرأة نادرة، انتقدت في مقالة حُكمَ المحكمة العليا بحبس الأستاذ الجامعي وناشط الحقوق الانساني «ساي بافا» بتهمة تعاطفه نحو الماوويين كما انتقدت امتناع الحكومة عن توفير العلاج الضروري لذلك الرجل المصاب بالشلل والملتزم بالكرسي المتحرك. ونتيجة لتلك الانتقادات لاحقتها مقاضاة بتهمة عدم احترام المحاكم ومخالفة المؤسسات العدلية. فلما فتحت لها المحكمة العليا عند سماع هذه القضية فرصة لتفادي عواقب القضية المرفوعة ضدها بتقديم اعتذار رفضت عرض المحكمة هذا قائلة إن المسألة ليست مسألة اعتذار وإن الحقوق الإنسانية ليس فيها مكان للمصالحة.
الابداعات والمقالات
وفي نظر اروندهاتي لا فرق بين الإبداعات والمقالات في شأن القضايا الحيوية. وفي إحدى مقالاتها تسأل أروندهاتي: لماذا يصفونني كاتبة ناشطة؟ لماذا أحاول أن أتنصل من هذا الوصف خجولة وإن كان تقديرا لي ومودة نحوي؟ وبعد روايتي «إله الأشياء الصغيرة « كتبتُ مقالات شتى بعناوين مثل « نهاية الخيال» (End of Imagination) حول التجربة النووية التي قامت بها الهند و»من أجل أكبر مصالح لعامة الناس» (The Grater Common Good) حول السدود الكبيرة والتصور الخاطئ القائم عن التنمية و«سياسة السلطة» (Power Politics) حول خصخصة البنية الأساسية للمرافق العامة من الماء والكهرباء وتحويلها الى ملكية الشركات الكبرى. أستغرِب مِن تسمية صاحبة الرواية «إله الأشياء الصغيرة» كاتبة ومِن وصف كاتبة المقالات المذكورة أعلاه ناشطة. صحيح أن «إله الأشياء الصغيرة» قصة خيالية، ولكن عنصر السياسة فيها ليس أقل مما هو في المقالات التي كتبتُها. المقالات عبارة عن حكايات غير خيالية (Non Fiction). فمتى فقد القاصون حقهم في كتابة المقالات؟ وصفتي المزدوجة والمتضمنة بكلمتين كاتبة ناشطة مثل بندقية ذات مأسورتين أو مثل رقعة مهنية ملصقة على جبيني ليست مبنية على سياسة تتضمنها مؤلفاتي. إنما هي بأنني متحيزة في كتاباتي. إنني أتبنى موقفا صريحا في كل موضوع وأنظر إلى الأشياء بوجهة نظري الخاص. وقد يتحول هذا الى مشكلة في نظر الآخرين. التحيز في الكتابات لا يتناسب وضمير القرن الحادي والعشرين. وكتاباتي تُرهق أصحاب النظريات حين يقترب قلمي من حدودهم الممنوع اقترابها. هل هذا لأن الكُتاب يجب عليهم ان يُخفَو مواقفهم؟ وفي عالمنا المعاصر لا بد أن يكون الكُتاب والفنانون والنخب متحيزين في حياتهم الفكرية. قوانين الألعاب في المحاربة قد تغيرت طبيعتها في عصرنا الحاضر. هي ليست كما هي أيام كفاحنا لاستقلال البلاد من الأيادي الأجنبية. نضالنا الآن متجه نحو أنفسنا نحن. هناك عدة تساؤلات علينا أن نواجهها. لا بد من إيجاد أجوبة لتلك التساؤلات. تساؤلات عن قيمنا وتراثنا ومسؤولياتنا من حيث اننا مواطنون، تساؤلات عن مدى صلاحية مؤسساتنا الديموقراطية وعن دور حكومتنا وجيشنا وشرطتنا وعدالتنا ونخبنا ومثقفينا و…و..و…
«ومن العبث أن أفتخر ككاتبة في بلد يعيش فيها ملايين لا يقرأون ولا يكتبون… أن أكون كاتبة في بلد تجري فيها حرب غير معلنة باسم التنمية مسؤولية ثقيلة. الكلمتان « مسؤولية» و»ثقيلة» أكتبهما ببالغ الحزن بل بقلب يختنق بألم شديد. وما دور الكتّاب والفنانين في المجتمع؟ بالنسبة لي أن القاعدة الأولى التي يجب أن يتبناها الكُتاب هي أن لا قاعدة لهم بتاتا. وهذه القاعدة قاعدة صُنعت من أجل مخالفتها أيضا. أما القاعدة الثانية فهي أن الفن إذا فسد فلا اعتذار فيه. إن الرسامين والرسامات والكاتبين والكاتبات والمطربين والمطربات والراقصين والراقصات والممثلين والممثلات والعازفين والعازفات إنما يُقصد بهم جميعا أن يطيروا إلى السماء العلى ويتجاوزوا حدود الخيال الإنساني. المفروض أن هؤلاء بإمكانهم أن يستخرجوا الجمال حتى من مكان ليس فيه أي بارق أمل لذلك كما يمكن لهم اكتشاف سحر الجمال في مكان لا يمكن الآخرين اكتشافه. إن تسدوا طريق طيرانهم الى آفاق السماء أو تُحمِّلوا على أجنحتهم اثقال الأخلاقيات المبنية على المفاهيم السائدة في المجتمع فإنما تسعون لقلب أعمالهم الإبداعية من أساسها. إن كاتبة كبيرة أو مبدعة ممتازة قد تأبى أن تتحمل المسؤوليات أو القيود الأخلاقية التي يَفرض عليها المجتمع. أما الكتاب المرموقون فإنهم الذين يدركون جيدا بأن حرية التعبير التي تتحقق بصعوبة إن استُخدِمت سوءا سيُفسِد الكتابة. إن عملية الكتابة ذاتها تفرض على الكُتّاب مسؤولية كبيرة ونظاما أخلاقيا دقيقا وأعباء اجتماعية. فهي قد تكون فردية الطبيعة، ولكنها موجودة. فهي العلاقة الخاصة بين الفنانة ووسيلتها.
«هناك خط دقيق يُفرِّق بين طائر خيالي حقيقي نوراني قوي وبين ما هو بلون ذهبي اصطناعي. ولكن أين ذلك الخط؟ كيف يمكنكم أن تتميزوا ذلك الخط؟ كيف تعرفون ما إذا كنتم قد تجاوزتم ذاك الخط؟ وليس بإمكان القراء والناقدين والناشرين وأصدقاء الكتّاب وأعدائهم التأكد من ذلك. وهذا سؤال يجب على الكاتبة ذاتها طرحه وإيجاد الإجابة له بأمانة. وإذا شرع التمكن من التميز بذلك فلا يمكن الإعراض عنه. فليس من بد إلّا أن نعيش معه وأن نتابعه…. مِثلي أنا ربما أنتم أيضا قد تجدون حربا صامتة وراء ما نجد من سلام في الظاهر. المشكلة أننا إذا وجدناها مرة فلا نستطيع ألّا نبصِرها. وإذا ظهرت أمامنا فالصمت أمامها جريمة. «(«نهاية الخيال»)
ذات مرة قالت لفتاة مهندسة معمارية كانت تُداعبها الأحلام الأمريكية حول الغنى: إنك عِشتِ في نيويورك فقط. هناك عوالم وأحلام أخرى. أحلام يمكن أن تكون فاشلة ولكن محترمة، وفي ذلك العالم ليس الفضل أو الشرف مقياس القيم الإنسانية وبهاء الحياة.» ولمّا اندهشت تلك الفتاة كتبت لها أروندهاتي في ورقة هكذا: كوني عاشقة ومعشوقة ولا تنسي أبدا الظروف البئيسة حولك، ولا تعتقدي أبدا أن الظلم الشديد وعدم المساواة الفاحش الذَين نراهما في حياتنا اليومية ليسا ظاهرتين دائمتين، ابحثي عن السعادة حتى في الظروف الحزينة، تابعي الجمال حتى تصلين مصدره. لا تحاولي تعقيد الأشياء البسيطة ولا لتبسيط الأشياء المعقدة. احترمي القوة لا قوة السلطة، راقبي كل ما يجري حولك بدون أن تلتفتي إلى جهة أخرى».
أيضا كتبتْ: لا نستطيع التسلي بأنفسنا بصب اللعنات على ماضينا. التاريخ مجموعة ما قد حدث. وقد مضى ما مضى وفات ما فات. تغيير مسيرته هو العمل المقصود منا، لا تدمير ما لا نحبه. تشجيع ما نرغب فيه هو الواجب علينا. حتى في هذا العالم الخراب الوحشي الغابوي يمكننا أن نجد الجمال، الجمال الخفي العظيم غير المثيل. هو جمال يخصنا والذي ورثناه من سلالة فدمائنا، علينا تعميره من جديد لكي نتبناه لأنفسنا. علينا أن نتحاب فيما بيننا، هذا هو المهم. صناعة القنابل والمتفجرات لا تنفع إلّا لتُهلكنا، سواء استعملناها أو لم نستعملها سوف تهلكنا جميعا.» (مقال بعنوان «نهاية الخيال» في مجموعة المقالات» Algebra of Infinite Justice ) ومن خلال بوابة هذه الأفكار التي قدّمتها الكاتبة قبل عقد ونصف عقد فلندخل إلى روايتها الجديدة « الطقوس المقدسة من أجل منتهى السعادة».
حكاية عن الولي حضرة سرمد
تبد الرواية بحكاية اسطورية عن صاحب الكرامة والولاية وهو حضرة سرمد الشهيد، كان هذا الشخص غريب الأطوار. وكان يعيش طول عمره عاريا. وُلد يهوديا وبعد ما اعتنق الإسلام هاجر من موطنه الأصلي إيران الى الهند في عهد الملك المغولي «أورانغازيب». وما كان لهذا الملك أن يسمح للولي أن يمشي عاريا وسط الناس. إلاّ أن المكانة والاحترام والتقدير التي كان يتلقاها من قبل العامة بما يتمتع به من قدرات وكرامات خارقة للعادة ولجوء القلوب الجريحة والحزينة من الشعب إليه للتسلية جعل الملك يتردد في إيقاع العقوبة على الرجل بجريمة العري. ففكر في حيلة وهي أن يعرض عقيدته للفتنة والابتلاء، فكان ذلك حيث طالبه الملك بنطق كلمة الشهادة إلاّ أنه امتنع أن ينطقها بتمامها. لأنه كان على يقين بأن ايمانه ليس بهذا المستوى الذي يجعله عرضة للاختبار والابتلاء بهذا الشكل المهين. الأمر الذي جعل الملك يصدر أوامره بقطع رأس الولي. وفعلا تم تنفيذ الحكم عليه فورا. ولكنه فوجئ بأن لسانه أخذ ينطق من هذا الرأس الذي فُصل من جسمه تصديقا لموقف الولي. كذلك الجسد الذي فُصل منه رأسه قام وركع ثم أخذ رأْسَه المقطوع على يده وبدأ يمشي إلى المسجد الجامع القريب. هكذا أصبح سرمد شهيدا. لم يمض وقت حتى بُني له مقام في «شاه جهان باد». وتم صبغ جدران المقام وسقفه. وفي حالة الصبغ بأي لون غير اللون الأحمر سرعان ما يتحول إلى لون أحمر. كان دماء سرمد لا يزال يتصدر صبغة جدران المقام. هكذا بصفحات دامية من حكاية حياة سرمد الأسطورية تبدأ أروندهاتي روايتها الجديدة.
محور أحداث الرواية وشخصياتها
هذه رواية تختلف عن أخواتها التقليدية شكلا ومضمونا وتتميز بعدة خصوصيات في سرد الحكاية وتصوير شخصيات تدور حولهم الحكاية. هي حكاية لا تسير على خط مستقيم بل تتفرّع فروعا متعددة وتتجه إلى جهات متنوعة وترجع أخيرا إلى نقطتها المركزية، حكاية في داخلها حكايات كثيرة يرتبط بعضها ببعض. وفي معنى آخر الرواية مجملا احتفال بألوان قوس قزح تنبض في أعماق تراث الهند، نجد بين سطورها موكبا من شريحة شخصيات وخليطة من سرد حكاية تجارب حياتهم المتوترة في قلب أرض الهند المعاصرة. وهي حياة رجال ونساء مطرودين من التيار الرئيسي، نسمع في الرواية أنينهم وقهقهتهم ونرى أحلامهم وآلامهم، وهم يأتون من مختلف الولايات الهندية مثل الجوجرات وكشمير ودلهي وهارييانا وآندهرا وغيرها. نجد فيها «كارنيفال» من منمنمات الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية.
ألطاف مولود لأبويه «ملاقاة علي» و»جهانرة بيغام» في أسرة مسلمة محافظة في مدينة دلهي القديمة. أدركت والدته «جهانرة بيغام» بأن ولده ليس ذكرا بل خنثى وُلد بأعضاء ذكر وأنثى. انكسر قلبها حين أدركت هذه الحقيقة المدهشة من الطبيب في مستشفى الولادة. ببالغ من الحزن والأسى ذهبت إلى مقام الولي سرمد شهيد واستغرقت في دعاء طويل لكي تتمتع بعزم وإرادة في حضانة مولودها الجديد بمودة، كان ألطاف ولدها الوحيد حيث سبقته ثلاث بنات. ولكن ألطاف لما كبر فضّل أن يختار حياة فتاة وغَيّر اسمه ليصبح أنجم من أسماء الفتيات. فتنقلت أنجم في عمرها السادس عشر إلى حي معروف باسم «خواب جاه» (بيت الأحلام) الذي تسكن فيه الخناثى والذي كانت تتردد إليه حين كان اسمه ألطافا. وفي بيت الأحلام وجدت مكانا أحسن مما في أسرتها تستطيع فيه الكشف عن ذاتها واستمتاع حريتها بلا قيود. يقع بيت الأحلام في مبنى قديم تديره امرأة مسنة تسمى كلثم بي التي تعيش في ذكريات الحقبة المغولية التي كانت تتمتع فيها الخناثى بمجد وعزة. قضت أنجم ثلاثين سنة من حياتها في هذا المبنى الذي تعرض لخدوشات أيدي الزمان. خلال هذه الفترة شغلت رأسَها أحلام الأمومة الحلوة التي تحققت فيما بعد بتبني بنت لقيطة وجدتْها على درجات المسجد الجامع بدلهي. رجعت أنجم الى دلهي بنفسية مختلفة تماما. بدت لها تربية ابنتها المتبنّاة زينب صعبا جدا حيث تركتها في «بيت الأحلام» وتنقلت إلى مقبرة تقع خلف مستشفى. وضربت في تلك المقبرة خيمة لتسكن فيها بدون تصريح رسمي من قبل البلدية. «لا داعي إلى تصريح للإقامة في مقبرة، لأن المقبرة مقصودة للأموات ليس لكائنات حية إنني أموت فيها لا أعيش فيها، إذا ما الحاجة إلى تصريح للموت؟». هكذا تٌبرر أنجم موقفها. صاحبتْها في تلك المقبرة إمام ضرير يؤم الناس في مسجد كما يقوم بمراسيم الجنازة. زارتها بين حين وأخرى بعكازة تقوده إليها. خلال محادثات معه مرة تسأله أنجم إلى أين تطير الطيور لتموت حين تُعمّر.
تتحول المقبرة تدريجيا إلى عالم آخر، الى «بيت ضيوف» يلتجئ اليه المطرودون من البؤساء والجنس الثالث والفقراء الذين يعيشون على هامش الحياة، سمّواه «الجنة». وهناك شخصيات أخرى كثيرة في الرواية مثل «الدكتور آزاد بهارتييا» و«تيلوتاما» و«مريم آيب». والدكتور آزاد بهارتييا» رمز من رموز الرواية يربط بالشخصيات الأخرى في الرواية. وآزاد بهارتييا اسم له أبعاد خاصة، لأن هاتين الكلمتين المرتبطتين تعنيان «الاستقلال الهندي» كأن الروائية تريد أن توحي بأنّ الهند لم تنل استقلالها بعد. وفي سبيل إعلاء نظريته ومن أجل تحقيق حقوق المضطهدين يضرب آزاد بالاعتصام في شارع جندر مندر الذي يقع فيه مبنى البرلمان الهندي. أمّا « تيلوتاما» فهي مولودة لأب بنغالي وأم من كيرالا اسمها مريم آيب. (وجدير بالذكر هنا أن أب أروندهاي بنغالي وأمها من كيرالا) ولكن مريم هذه لا تعترف بـ تلوتاما ابنة لها. بالرغم عن هذا الإعراض تصل تيلوتاما إلى كيرالا لتوفير العلاج لأمها حين تعرف أنها مريضة. تُصوِّر الكاتبةُ تيلوتاما كشخصية مقطوعة الجذور. وهي مهندسة معمارية ومصممة جرافيك ولكن ليس لها أسرة تنتمي إليها ولا أقارب تعتمد عليهم. تقضي تيلوتاما حياة فوضوية بفرطة من الحرية المطلقة دون أن تخاف أحدا. كانت لها ثلاثة عشاق – «ناجا» وموسى و»بيبلافا داس جوبتا». كلهم يحبونها ولكن كانت أكثر ميولة إلى موسى الكشميري منه إلى الآخرين. وحبها نحو موسى سبّب لرحلتها الى كشمير لتنضم إليه. وكان لموسى زوجة وبنت ماتتا بإصابة رصاصة أطلقها نحوهما الجيش حين كانتا تراقبان مسيرة جنازة وهما جالستان في شرفة بيتهما. وفي رسالة كتبها موسى إلى بنته «ميزجبين» البالغة من عمرها الثالث يقول: وفي كشميرنا الموتى هم الأحياء. امّا الأحياء فهم الموتى في الحقيقة. إنما هم يتظاهرون أنهم يعيشون. «ونسمع في هذه السطور صدى القصيدة الصوفية المشهورة – اقتلوني يا ثقاتي/ إن في قتلي حياتي/ وحياتي في مماتي/ ومماتي في حياتي». وبعد هذه الحادثة اختار موسى مكانا سِرِّيا لكي ينقذ نفسه من قبضة الجيش، ذاك الوقت تصل تيلوتاما إلى كشمير وتقضي ليلة معه في قارب نزهة مما أدى إلى أن تحمِل منه طفلة. ومن هنا نجد صفحات الرواية تغطيها خريطة كشمير الدامية، نقرأ حكايات الشعب الكشميري المأساوية الذين يعيشون كل لحظة تحت مراقبة الجيش الهندي وممارساتهم القمعية. وفي جانب آخر يقوم شباب كشمير بمقاومة مسلحة ضد الجيش الهندي حالما تتوافر لهم فرصة. ومن خلال تلك المقاومة يتم اغتيال القائد الجيش الدفاعي «جولراس». كانت تييلوتاما ترافق «جولراس» ذاك الوقت مما أدى إلى شكوك في تواطؤها في جريمة الاغتيال. فيتم اعتقال تيلوتاما بتهمة جريمة القتل. يأخذها الجيش إلى معسكر تعذيب الذي يديره الضابط «أمريك سينغ» والذي يقع في قاعة السنيما «شاليمالر». وتقرأ تيلوتاما ملصقا على جدار مركز التحقيقات داخل القاعة مكتوبا عليه هكذا: نحن شداد غلاظ، نتبع قوانيننا الخاصة، نُروِّض المد والجزر، رجال في ملابس رسمية، تماما كما تظنون». يتداخل في القضية عاشقها «ناجا»، وهو ضابط كبير في المخابرات وينقذها من المعسكر. وإن كان «ناجا» يتزوجها فيما بعد إلّا أنها يتركها لتُقيم في شقة استأجرتها من عاشقها الآخر «بيبلافا داس جوبتا». نزيف كشمير ينتشر في صفحات عديدة من الرواية. نندهش فيها بمشاهد غريبة، جنديون يبيعون الأسلحة للـ “متطرفين»، المخبرون الذين يتم تخليصهم من قبل المخابرات بعد الاستفادة منهم، مفقودون – هكذا تطول مهزلة الحكايات في كشمير. نقرأ في مكان في الرواية: حكاية كشمير: عدد الوفيات: 68000، عدد الغائبين 68000، Is this Democracy or Demon crazy (هل هذه ديموقراطية أم رعونة شيطانية؟)
. تبنت تيلوتاما بنتا سمتها «ميزجبين» التي وجدتها لقيطة في الشارع. ترجع تيلوتاما مع هذه البنت الى بيت الضيوف «الجنة» حيث تبدأ دروسا لأولاد الشارع. ميزجبين كانت في الحقيقة بنت « ريفاتي» الماووية (Maoist) من ولاية آندهرا، كانت تعرضت لاغتصاب ومن ثم حملت «ميزجبين»، كانت «ريفاتي» تكرهها في البداية. ولكن لما وضعتها غمرت قلب امومتها مودة ورحمة نحو ابنتها. سمتها «اودايا». بدى لها أن البُنيّة ستكون عبئا لها خلال عملياتها الثورية السرية لذا تركتها في المكان المأمن بـ«جندر مندر». ومن هنا التقطتها تيلوتاما وسمتها ميزجبين. فكرت «ريفاتي» بما أنها إرهابية في نظر الشرطة أنها سوف تُقتل في أي لحظة لذا كشفت عن هوية ابنتها في رسالة كتبتها لـ «آزاد بهارتيا» الذي يقود جميع الاعتصامات والإضرابات في جندر مندر. وزينب التي تبنتها أنجم أيضا تصل هناك. يتقدم صدام حسين ليتزوج «زينب». كان اسم صدام حسين سابقا «داياناندا». كان ابن رجل ينتمي إلى طائفة «شامر» الذين كانت مهنتهم نقل الأنعام من ولاية «هاريانا» إالى دلهي. بالتواطؤ مع شرطيّ اسمه «شيخافت» قتله الهندوس المتطرفون بتهمة ذبح البقر. غيّر «دايانندا» اسمه كي يصبح صدام حسين وأخذ يتيه طول البلاد للانتقام من الشرطي «شيخافت» المشارك في قتل أبيه. وخلال هذا التجوال وصل الى « الجنة» وتزوج زينب. توسعت «الجنة» بحديقة خضار وبركة ومدرسة ومرافق أخرى. تفتخر أنجم بهذه «الجمهورية الجديدة» التي صنعتها للمتسولين والخناثى والمهمشين. هكذا تُشيد الروائية على «مقبرة» الهند المعاصرة «جنة» جمهورية جديدة توفر سعادة قصوى للبؤساء والمهمشين الذين أيدتهم بمقالاتها العديدة طوال العشرين السنة الماضية. وبكل معنى تستحق هذه الرواية أن تتصف بـأنها «كلاسيكية حكاية وثائقية» (Docufiction Classic). وهي عمل رائع يمنح المتعة للأرواح التواقة للجمال والتذوق الخلاق.
«عن القلوب المنكسرة أكتب» *
l بعد إصدار روايتك الأولى إله الأشياء الصغيرة» قد مضى الآن عشرون عاما. هل هناك سبب خاص في اختيار هذا الوقت ذاته لإصدار روايتك الثانية؟
uu إنه مجرد صُدفة. منذ عشر سنوات ماضية كنت مشغولة في صياغة الرواية « الطقوس المقدسة من أجل منتهى السعادة». ولما اكتملتْ أرسلتُها الى الناشرين. حين اكتملتْ أعجبتني كما أعجبت الآخرين. لا أستطيع أن أكتبها بسرعة أكثر من هذا ولا أقل من هذا. ولم أكتبها بعجالة. أنها أخذت قدر ما تحتاج من الوقت اللازم لاكتمالها. هذه هي الحقيقة.
l ما ذا كان انطباعك حين اكتملتْ الرواية؟
uu بدا لي كأن ثقل جسدي قد انخفض بقدر 50 كيلوجراما. جميع ما تجمّع داخل نفسي خلال السنوات العشر الماضية تم طرده إلى الخارج. وفي نفس الوقت إن كتابا مثل هذه الرواية لم يسعدني نشره في الهند. وقد انتابتني أيضا بعض المخاوف. في الهند لا يقرأها من يستولون على سدة الحكم. هناك أسئلة تُطرح نفسها. على من تريدون أن تشنوا الحملة؟ تُسكتون صوت من؟ تَحظرون من؟ تقتلون من؟
l بالنسبة لك ما هو محور هذه الرواية التي تدور حولها الأحداث؟
uu أن تتصور في ذهني حكاية ثم أن أقوم بسردها مباشرة – هذا لا يناسبني. كيف نمر بها؟ كيف ننظر إليها من وجهات نظر مختلفة؟ هذه كلها مهمة. وفي هذا المعنى هذه الرواية تجريبية. كيف تعيش شخصيات الرواية حياتها الخاصة بدون خلفيات سياسية أو انتماءات حزبية – هذا هو ما كنت أبحث عنه في روايتي هذه. كانت الرواية الأولى تدور حول أحداث داخل أسرة. أما هذه الرواية فليست أبدا حول أسرة. إن كانت الأولى حول قلوب سقطت فالرواية الجديدة حول قلوب منكسرة ومفتتة.
l نجد في الرواية شخصيات مختلفة وأصواتا متنوعة تمر بها ذهابا وإيابا. هل كانت هذه الشخصيات جميعا حاضرة داخل ذهنك عندما بدأت الكتابة؟
uu حكاية كأنها شارع في مدينة كبيرة – هكذا كان تصور الرواية التي قصدت أن أكتبها. حين أمر بذلك الشارع اعتنيت بأن لا أجعل أحدا يتخلف عني. حاولت أن أدخن سيجارة جالسة هناك. سألت من يمر به عن الوقت. كنت قد قررت أن آتي بكل شخصية الى داخل الحكاية مهْما كانت صغيرة. رغبتُ أيضا أن أقدم الشخصيات التي تختفي خلف الكواليس إلى الأمام. ولهذا السبب ذاته كنت أرى أن علي أن أتصور في مخيلتي حشدا كبيرا من الناس، لأن هذه الرواية تقتضي شخصيات متنوعة. وفي بداية الرواية تظهر شخصية تسمى أنجم من الجنس الثالث.
l تعيش أنجم في حي يعيش فيه الجنس الثالث. هل كان تصوير تجارب حياتهن صعبا لك؟
uu أعتقد أن الجنس مثل طيف. أنا وأنت ونحن جميعا لنا أماكن مخصصة داخل هذا الطيف. ولا نستطيع أن ننكر القيمة الإنسانية التي يتصف بها أي منا.
l فهل أنت بإبداعك هذا تكشفين عن هويتك التي يحاول العالم حبسها داخل قفص؟
uu لا أعتقد أن هذا الإبداع محاولة للتعبير عن شيء محدد أو للتركيز على شيء محدد. أحيانا أجدني كواحدة من النساء اللاتي ينسون النقود في جيوبهن أو داخل الدولاب. حتى أنني خلال مطالعة كتاب أقول أوه إنني نسيت ذاك. الكتابة سواء كانت رواية أو مقالة وأيا كان صاحبها يجب أن تعطي للقارئ تصورا عن العالم. يُخَوِّفني إرغام الناس على تصهيرهم في قالب هوية محددة. فلنأخذ الهند نموذجا. حتى في عهدنا الراهن الذي نتمتع فيه بنظام ديموقراطي وانتخابي حياتنا مجملا مبنية على نظام الطبقات الطائفية الاجتماعية. هذه حالة مرعبة.
l التنوع في الرواية لا ينحصر في الشخصيات فقط بل يتعدى الى لغة الرواية أيضا. وهي غنية بكلمات كثيرة من اللغات المحلية في الهند. نراك اكتشفت حروفا انجليزية جديدة للغة كشمير.
uu اللغة في الهند موضوع مهم. كانت هناك محاولات لإعلان اللغة «الهندية» لغة رسمية لعموم الهند مما أدى الى تأجيج احتجاجات كبيرة في جنوب الهند. توجد في بلادنا مئات من اللغات التي نتحدث بها ونستعملها للغناء والدعاء والقصيدة وغيرها. تمتزج الرواية «الطقوس المقدسة من أجل منتهى السعادة» بإيقاعات من تلك اللغات. لما فكرت في عنوان هذه الرواية خُيّل لي في بادئ الأمر أن أجعله هكذا: « الطقوس المقدسة من أجل منتهى السعادة نقلتْها أروندهاتي روي من طبعتها الأصلية». لأنها تحتوي على لغات كثيرة. توجد في طياتها أغنيات وقصائد في لغات مختلفة كما توجد فيها حروف إنجليزية تساوي الألفاظ الكشميرية. كنت قد بدأت أبحث عن هذه الحروف منذ زيارتي الأولى الى كشمير. هي لغة الاستيلاء والحرب والآلام. ومن المفارقة انها قد اُستُعمِلت في بعض الأحيان كتهكم قاس.
l الحياة والموت ظاهرتان متناقضتان إلاّ أن الحدود بينهما غير واضحة؟
uu يبدو لي أن أهل الغرب واعُونَ بظاهرة الموت في حد ما. كما يقول موسى، أحد الشخصيات في هذه الرواية، إن الشعب الكشميري لا يعيش بل يتظاهر فقط كأنه يعيش. المتوفون منهم هم الذين يعيشون في الحقيقة. هؤلاء هم مصدر قوة الآخرين لحفظ عزتهم وكرامتهم. المقبرة التي تعيش فيها أنجم هي أيضا في هذا المعنى ستار خفيف يفرِّق بين أشياء كثيرة.
l اعتقد أن الحب هو الموضوع المركزي في هذه الرواية. العلاقات الغرامية بين كل من موسى و«ناجا» و«تيلوتاما» و«جارسون» و«هوبارت» شديدة التعقيد. لماذا هكذا؟
uu هذه الرواية تحمل في طياتها أنواع غريبة من الحب. ليس ما بين الذكر والأنثى فقط. حتى الحب الصادر من الأمومة له أيضا لون غير عادي. جميل الحب بين صدام حسين وأنجم. وللصداقة بينهما أبعاد غريبة. ولا تُستثنى من هذه الغرابة الصداقة بين موسى و»تيلوتاما» و»جارسون» و»ناجا». السلوك وردود العمل من تيلوتاما ليسا من النوع الذي نستطيع أن نتوقع من امرأة عادية. وهؤلاء جميعا لديهم تصور خاص وجديد عن الحب.
l العنصر السياسي واضح في روايتك تماما مثل ما يوجد في مقالاتك. إلى أي مدى تتسع رواية لعنصر سياسي؟
uu أن نرى سياسة في كل شيء هو بالنسبة لي من الكليشيهات. ولكن ليس هناك حقيقة أكبر من هذا.
* (مقتطفات مختارة من الحوار الذي أجراه مندوب «بينغين للكتب» مع الكاتبة أروندهاتي روي):
تقديم وحوار: فيلابوراتو عبد الكبير
نزوى