نحن محكومون بالتفاهة.. لا بالأمل/ يوسف بزي
حان الوقت لنضع جانباً عبارة سعد الله ونوس الأثيرة “إننا محكومون بالأمل” ونرفع مكانها عبارة “نحن محكومون بالتفاهة”.
من يرى صورة الاحتضان بين عمر البشير وبشار الأسد، وضحكهما الشامت بمئات آلاف القتلى، ثم يسمع تأكيد الحزب الحاكم في الجزائر، “جبهة التحرير الوطني”، ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (81 عاماً) للانتخابات الرئاسية مجدداً بربيع 2019، ويتابع سير المشير عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر، مدى الحياة على الأرجح، ولا يفوته ملاحظة أبناء الملوك الدهريين، يستأنفون الفجور نفسه والقسوة عينها والتبديد إياه، ولا ينسى خليفة حفتر وسيف ابن القذافي في ليبيا، وينتبه إلى “جمهورية الظلام” الإيرانية وأطوارها العربية ما بين غزة والضاحية وصنعاء وبغداد.. ثم يقرأ واحدنا ما يقوله الموظف برتبة “أمين عام جامعة الدول العربية”، أحمد أبو الغيط: “هناك خطأ يجب أن نقف في وجهه ونقاومه، موجود حالياً، أدى إلى انتشار موجات التطرف والإرهاب، وهو ما يسمى بثورات الربيع العربي” (26 كانون الأول 2018)، بما يعبّر بمنتهى الإيجاز عن مانيفستو انتصار الأنظمة العربية برمتها على شعوبها، وسيكون حتماً بمثابة النواة للخطاب السياسي العربي الحاكم لعقود مديدة، والذي سيسوغ سياسات “تأديبية” للمجتمعات والأفراد إلى زمن طويل، على نحو أشد إخضاعاً وبأساً.
من يلاحظ كل هذا، إلى جانب التدابير المتسارعة في إعادة “الدفء” إلى العلاقات الدبلوماسية، وتنظيم اللقاءات الرسمية وزيارات الوفود، ما بين دول عربية و”سوريا الأسد”، ويتابع ما يُعلن (باسم عودة العلاقات) عن مشاريع واستثمارات وتجارة وإنشاءات وشركات، هي ذاتها التي تستولي عليها “نخبة المقابر الجماعية” والحسابات المصرفية المليارية السرية، العصبة نفسها التي نهبت في الماضي وستنهب أكثر في مقبل الأيام، بل هي العصبة نفسها التي هندست “الإرهاب والتطرف” أفقاً وحيداً لعشرات الملايين من المسحوقين والأميين واليائسين.. من يلاحق كل هذا، في اللحظة ذاتها التي تبث فيها الأقمار الصناعية صوراً تؤكد أن نزلاء المعتقلات السورية يتضاءلون على نحو مفجع، بفعل الإعدامات الجماعية اليومية، بما يماثل الإبادة الحثيثة.
من يصغي لحكومات عربية وهي تبرر معانقة الأسد بالخوف من الزحف الإيراني، فيما ترمي بمصير الفلسطينيين ما بين المتآمر الصغير جاريد كوشنر والمتآمر المتعصب قاسم سليماني، بمنطق “الصفقات” ذاته الذي تدبر به ثرواتها وانقلاباتها وحروبها.. ومن يرى كيف تم “تهذيب” التلفزيونات والصحف والمواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي، وتربية الصحافيين والإعلاميين، إما استتباعاً بوقياً أو سجناً أو تقطيعاً أو نفياً أو إخفاء قسرياً أو تقاعداً إجبارياً، بل ويرى كيف تم استلحاق المغنيات والمطربات والمغنين والمطربين. فهذه وهذا يغني للرئيس المؤبد وتلك وذاك للأمير المفدى، أو للإثنين معاً.. وفق مقدار الخسة والدناءة، كي ننسى الذي ذُبح واقتلعت حنجرته. كي ننسى آلام الملايين وعذاباتهم وتشردهم وموتهم ومذلتهم واختناقهم بالغازات السامة.
من يطالع أخبار العالم ما بين السفيه ترامب واللئيم بوتين، ويرى الديموقراطيات المأزومة، المعطوبة بساسة شعبويين معادين للأجانب وللنساء وللفئات الضعيفة في المجتمع، يعرف أن هزيمة “الربيع العربي”، ليست سوى انتصار للتفاهة المعولمة. تفاهة عنيفة إلى أبعد الحدود، تشبه بجبروتها وخوائها في آن معاً شخصية المستبد النموذجية، الأنانية المريضة والبارانويا القصوى.
العالم اليوم أكثر ظلمة، لا بسبب الحروب أو الاضطرابات، فهذه ملازمة لأحوال البشر عموماً.. لكن بسبب هذا التفوق الكاسح للتفاهة، التي تطيح بأي معنى جوهري للسياسة وللأخلاق. والأسوأ أننا لا نتحدث عن ديكتاتوريات وأنظمة استبدادية حسب نموذجها “الكلاسيكي”، كأن تكون مفعمة بأفكار اليمين الفاشي المتعصب والرجعي (عرقي كهتلر، وديني كبينوشيه وفرانكو) ولا مترعة بأفكار اليسار السوفياتي أو الشعبوي (ستالين أو كاسترو)، ولا حتى اليسار “القومي”(كيم إيل سونغ).. نحن نتحدث هنا عن سقط متاع التسلط، سياسة ونظام حكم قائمان على التفاهة المحض. ولذا، وكي تستمر وتبقى، هي تستميت في تدميرها الدائم للتعليم والثقافة وللاقتصاد وللتنمية وفي قمعها المفرط للمعرفة وللأفكار. يرهبها الذكاء، فتغتاله أولاً. ولا شيء لديها تقدمه لنا، علماً وأدباً وفلسفة وإعلاماً وسياسة وأخلاقاً.. سوى “بوط” العسكري فوق الرؤوس والأعناق.
إذا تمعنا بالشخصيات التي تربض على أنفاس عشرات الملايين من المواطنين العرب، كالبشير أو البشار مثالاً لا حصراً، فهي مثيرة للسخرية، بل للضحك المؤلم، مثيرة لدهشة المفارقات، وللتعجب من استغبائها لعقول الناس. شخصيات لا شيء فيها سوى التفاهة والبارانويا والقدرة الفائقة على ارتكاب القتل.
ولقدرنا التعس، فإن أحوال العالم تسعف استبداد التفاهة العربية وتمدها بأسباب طول البقاء. فمن كان يتصور أن شخصية على هذا القدر من البذاءة والوضاعة كدونالد ترامب يقود أقوى دولة ديموقراطية في العالم، وهي الدولة التي تحرس “العالم الحر” منذ إشهار الرئيس وودرو ويلسون مبادئه الأربعة عشر عام 1918؟ من كان يتصور الشعوب السوفياتية ستتخلص بثورة ديموقراطية من نير الستالينية لتقع بسهولة في أحضان فلاديمير بوتين وحاشيته، وتؤسس مباشرة سلطة “قيصرية” أكثر قسوة وعدوانية؟ العالم من البرازيل إلى هنغاريا وبولندا والفليبين وإيطاليا وحتى كازاخستان.. مصاب بمركّب من الفساد وسياسات الارتياب والخوف والكذب والعنصرية والمافياوية.
لا أمل في مستقبلنا المنظور، فنسخنا العربية الرديئة عن الترامبية والبوتينية، الأقرب إلى ديكتاتوريي الحثالة على صورة الجنرال مانويل نورييغا، المضاف إليها “تراث” الصدامية والمباركية والقذافية والأسدية، لا تعدنا إلا بلعنة التفاهة المقتدرة والساحقة للعظام. وما يحدث منذ لحظة هبوط علي مملوك في مطار القاهرة، ووصول البشير إلى مطار دمشق، هو ابتداء “الحفلة” الرهيبة التي سنشهد فصولها لسنوات لا عد لها: استمرار القتل والمجزرة بلا اعتراض ولا مقاومة.. القتل بلا خوف من العقاب، القتل بلا حرب وبلا ضجيج ولا إدانة.
سيكون المشهد: رئيس يعطي الأوامر لضباطه بالإعدامات، فيما رجال الأعمال يعاينون بالغرفة المجاورة ماكيتات إعادة الإعمار، وعلى التلفزيون تصدح الأغنيات، وفي الأحياء المحظوظة من العاصمة يتمتع أهل الحظوة بفحشهم وبلذائذ “السلم والاستقرار”.
نحن محكومون بالتفاهة. نحن الذين بقينا على قيد الحياة، لنطلب المغفرة من الذين كانوا ضحايا الإيمان بالأمل.
تلفزيون سوريا