الروائية روزا ياسين حسن: لا نجاة لنا بغير الفنّ
مصطفى ديب
جاءت الروائية السورية روزا ياسين حسن (1974) إلى الكتابة الأدبية من القناعة المُسبقة والتامّة بأنّ الكتابة هي تاريخ البشر. وأنّها رسالة جمالية تحارب بشاعة العالم وتسليع الإنسان. بالإضافة إلى اهتمامها بنبش الكائن البشريّ من عُمقهِ، وفهم تغيّراتهِ عبر الوقت، وتعقيداته النفسية والثقافية. وبناءً على ما سبق، أصدرت الروائية المولودة في مدينة اللاذقية حتّى هذه اللحظة 6 روايات، هي: “أبنوس” (2004)، “نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيّات” (2008)، “حرّاس الهواء” (2009)، “بروفا” (2011)، “الذين مسّهم السحر” (2016)، “بين حبال الماء” (2018).
في رصيد روزا ياسين حسن عدد من الأعمال الروائية والقصصية، وأخيرًا أدب الأطفال. منذ أن صدر عملك الأوّل وحتّى اللحظة، ما الذي تغيّر في تجربتك الأدبية، وما الذي ظلّ ثابتًا فيها أيضًا، ولماذا؟ ما الذي يظلّ قابلًا للتغيّر دائمًا، ما الذي يُكتب لهُ أن يظلّ ثابتًا في تجربة الكاتب؟
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال، الوقوف أمام مرآة بعد كل ما مرّ أمر بحاجة إلى شجاعة وقدرة على فهم الذات وفهم تغيّراتها، أعتقد، ولست جازمة، أن ثّمة الكثير تغيّر في تجربتي مع الكتابة، تقريبًا لم يبق من شيء ثابتًا إلا ثلاث ثيمات: قناعتي بأنّ الكتابة هي تاريخ البشر الحقيقي، وعليهم أن يكتبوه كي لا يتبدّد أو يشوّه عبر التواريخ الرسمية، وأنّها رسالة جمالية تحارب بشاعة العالم وتسليع الإنسان، وأنّها القادرة على تدوين روح البشر وحكايات المهمّشين والمنسيين وحمايتها من التلاشي في العدم، ما عدا ذلك كل شيء تغيّر وسيتغيّر. الكتابة الإبداعية سلسلة متوالية من التطوّر والتغيير، وإن لم تكن فستتحوّل إلى شيء راكد آسن، البقاء في المكان أمر يجعل العفن يأكل الإبداع! لأنّ الحياة بتفاصيلها أمر دائم التغيير، وعلى الكتابة أن تمشي مع هذا التغيير بل وأن تسبقه غالباً!
التقنيات الروائية مثلًا تغيّرت كثيرًا في رواياتي، فالتقنية الروائية جزء أساسي ومقرّر من العملية الإبداعية حسب اعتقادي، التقنية والمعنى أمران متواشجان لا يمكن فصلهما، التقنية المبتكرة تخلق معنىً مبتكرًا والعكس ينبغي أن يكون صحيحًا. لا يمكن مقارنة تقنيات روايتي الأولى “أبنوس” (2004) مثلًا بتقنيات رواية “بروفا” (2011) أو بروايتي الأخيرة “بين حبال الماء” (2019). قراءتي للمجتمعات وأسرارها ولماهية البشر وفهمي لها تغيّرت كثيرًا، وكذلك قراءتي للمواقف الأخلاقية والسياسية والثقافية ووجهات نظري في النص الإبداعي.
عادةً، من هو الأقرب إلى الروائي، أو ما الذي من الأسهل كتابته: التجارب الشخصية التي عاشها واختبرها؟ أو الحكايات التي يكوّنها في خياله؟ ولماذا؟ لنتحدث قليلًا عن هذا الأمر.
لا يمكن أن يكون هناك إجابة واحدة تشمل كل الروائيين، من هنا يأتي غنى الرواية وتجدّدها المستمر. في التجارب الشخصية مشاعر وانفعالات عميقة لكنها تحتاج إلى تعرٍ ما، خصوصًا بالنسبة إلى أدب الاعتراف، وفي كتابة حكايات الآخرين تخييل ولعب واختباء وراء الشخوص. والرواية كفن انتهازي تستفيد من كل ما يمكنها الاستفادة منه. لكن الذاكرة في النهاية تبقى اصطفائية، يعني حتى في كتابة التجربة الشخصية لا يمكننا أن نبتعد عن التخييل!
بالنسبة لي يأسرني الجمع بين الاثنين، بدون أن يكون هناك كبير مسافة بينهما، يعني أن أكون حرة في اللعب على التجارب الشخصية بإضافة التخييل عليها من جهة، ومن جهة أخرى كتابة تجارب الآخرين كما لو أنها تجاربي الشخصية، الأمر الذي يضفي عليها شحنة انفعال وحقيقية، ويجعلني أعيش في كل مرة رحلة الكتابة كأني أعيش حياة جديدة! الكتابة مزيج جميل وغني من التجارب الشخصية وحكايات الآخرين والقراءات والمشاعر والأفكار. مؤخرًا جرّبت للمرة الأولى أن أكتب شيئًا شديد الذاتية في كتاب مشترك نشر حديثًا عن دار المتوسط بعنوان: “صفحات من دفتر قديم”، حكيت فيه عن طفولتي وتجربتي مع المدرسة في سوريا، كانت التجربة ممتعة ولكنّها مؤلمة وصعبة للغاية، فكتابة التجربة الشخصية يعني أن تنبش روحك وذاكرتك وتكون قادرًا على النظر مطوّلًا في المرآة، حتى لو بدا وجهك في لحظة ما مشوهًا وبشعًا وغريبًا. قد يأتي يوم وأعيد التجربة في عمل روائي قادم.
باختصار ينبغي على الروائي أن يعيش قصص الآخرين كأنها قصصه، وأن يكتب تجربته الشخصية وكأنها تجارب الآخرين.
كيف يتعامل الروائي مع تغيير بيئته ومكانه؟ أو كيف تعاملت روزا ياسين حسن مع هذا الأمر؟ أي الانتقال من أرضها الأولى إلى مكانٍ آخر. ومن ثقافة إلى أخرى. ومن بيئة يسودها القمع والخوف والموت وإغلاق الأفواه، إلى أخرى يغيب فيها كلّ ما ذُكر قبلًا؟ كيف تعاملتِ مع كلّ هذه المتغيّرات؟ وكيف كان انعكاسها عليكِ أدبيًا؟
في الفترة الأولى كانت تجربة أصعب من أن تتخيلها، خصوصًا وأن تغيير البيئة والمكان لم يكن بقرار طوعي بل قسرًا، فقد هربنا من الحرب وملاحقات النظام، والثقافة الجديدة جديدة كليًا بسلبياتها وإيجابياتها، وكان علينا أن نفهمها ونفهم نظامها قبل أن نتعلم لغتها الغريبة، هذا ونحن محمّلون بذاكرة مثقلة بالموت والخسارات من الوطن، وثمة شعور بالذنب يحمله الناجي معه أينما رحل. فترة البرزخ تلك طالت معي لسنوات، كنت فيها في مسافة فاصلة بين الوطن والمنفى، لا هنا ولا هناك، كروح معاقبة هائمة!
بداية كانت اللغة هي القطعة شبه الوحيدة التي حملتها معي من وطني، لذلك فقد سكنتها وسكنتني. كتبت كثيرًا في تلك الفترة فقد كانت الكتابة ملجأي ونجاتي والمكان الوحيد في المنفى الذي أملكه! ومن حسن الحظ أننا نعيش عصر الإنترنت لذلك فليس من الصعب أن تعيش كتاباتك في العالم العربي ويتفاعل معها قراء العربية أينما كانوا في العالم.
مع الزمن تتغيّر الأمور، وتغدو هناك تحدّيات جديدة أمام الكاتب، تختصّ بتطوير أدواته وابتكار تقنيات جديدة، فالقمع المباشر ذهب، ولكن القمع العميق والخفيّ، الذي يختصّ قيمة الإنسان ومبادئه وأخلاقه وحتى وجوده ككيان مستقّل متفرّد، موجود في كل مكان من العالم المعاصر حتى في بلاد الحريات، وهنا يكمن التحدي الحقيقي أمام الكاتب. إذًا لم نعد في مرحلة منع الكتابة من الانتشار مباشرة أو تهديد الكاتب فيزيائيًا، ولكننا صرنا في مرحلة تسليع الإنسان والكتابة وتهديد وجود الكاتب كهوية وأخلاق وحقوق وتأثير إبداعي.
لنتحدّث قليلًا عن الكتابة وما يتعلّق بها. أوّلًا، هل تغيّرت نظرتك إلى الكتابة عن نظرتك الأولى لها؟ وما الذي فجّر عندك أسئلة الكتابة الحقيقة؟ وما السؤال الذي يشغلك أدبيًا؟ وكيف ترين علاقة الكتابة بالواقع اليوميّ؟ وعلاقة الكاتب أيضًا بهذا الواقع؟
السؤال الذي يشغلني دائمًا هو قدرتي على طرح الأسئلة وليس تقديم الإجابات، نبش الكائن البشري من عمقه، وفهم تغييراته عبر الوقت وتعقيداته النفسية والثقافية. الكتابة تخلق عالمًا موازيًا نعيش فيه، بدونه سيكون عالمنا الحقيقي أفقر بكثير مما هو عليه. هي تنهل من العالم الواقعي لكنها تضيف عليه، تفسّره وتنبشه وتحاول تغييره، في محاولات غير آنية ولا سريعة في التغيير بل تراكمية ومديدة. الكتابة تنبش الجميل فينا، وتسلّط الضوء على القبح والبشاعة والعنف في حياتنا كي لا تغدو أمورًا مألوفة معتادة، يعني كي لا نعتاد البشاعة.
بالنسبة لي فالكتابة جعلتني أعيش حيوات كثيرة ما كنت سأعيشها لولاها، اختبرت معها مشاعر وتجارب وأفكار ما كنت سأختبرها لولاها، إذًا هي عملية إثراء وتوسيع للواقع، كما هي عملية نقد وخلخلة له.
المكان الأوّل، أي مكان الولادة، هو عند بعض الروائيين بمثابة ثروة سردية، وبئر ينهلون منه حكاياتهم. هل تتفقّين مع هذه المقولة؟ وهل شكّلت أرضك الأولى مرجعًا حكائيًا عندك؟ وعلى ماذا تعوّلين عادةً في بناء عمارتك الروائية؟ التجارب الشخصية مثلًا؟
المكان الأول بالنسبة لي هو مدينتي اللاذقية، كانت منهل روايتي الأولى “أبنوس”، وأشتاق لذاكرتي الأولى معها كل يوم ولقبر والديّ والأحباب وروائح الطفولة. بعد ذلك صار هناك الكثير من الموارد الأخرى، أنا منفتحة على التجارب والأمكنة والثقافات، وأشعر بأن انتمائي إنساني ولا يخصّ منطقة أو مكانًا ما، رغم أن الذاكرة مليئة بصور ومشاعر مختلطة من أمكنتي الأولى.
في رواياتي اللاحقة كانت دمشق وحكاياتها هي المكان، ثم صارت مدن كثيرة أخرى بطلات رواية “الذين مسّهم السحر” 2016 وتمددت على صفحات الرواية، وكذلك في الرواية الأخيرة “بين حبال الماء” هناك أمكنة جديدة وغريبة.
المكان بالنسبة لي في الرواية هو بطل من أبطالها، يمكنه أن يخلق حدثًا وسردية ولديه مزاج وشخصية مستقلة تؤثر على بقية الشخصيات الموجودة في الرواية.
لنتوقّف قليلًا عند “نيغاتيف”، روايتك الممنوعة التي رصدت حكايات لمعتقلات سياسيات في السجون السورية. سؤالي هنا، كيف يُمكن كتابة حكايات الآخرين؟ كيف التعامل مع هذا الأمر؟ ألا يمثّل الأمر مسؤولية وحملًا ثقيلًا على كتف الروائي/ة، لأنّه/ها في مواجهة مع حكايات واقعية تصير بمثابة أمانة؟
قبل أن أجيب عن السؤال سأقول لك بأني سأكتب “نيغاتيف” بطريقة مختلفة تمامًا لو أتيحت لي فرصة كتابتها مجددًا، وهذا يدلّني كم تغيّرت رؤيتي للأشياء والكتابة. في تجربة “نيغاتيف” خضت حياة كانت جديدة تمامًا علي، بداية بتعرّفي على عوالم صادمة ورهيبة لم أكن أعرفها، رغم أني آتية من بيت مثقف معارض، وهذا ما قصدته قبلًا من أن الكتابة تهبك حيوات كثيرة غنية. تاليًا بتقنية السرد التي جمعت بين الوثيقة والتخييل مع ميل أكبر للوثيقة، جعلني أسمّي الكتاب بالرواية التوثيقية، رغم أني لم أكن أعرف إن كانت تسمية صحيحة أم لا! في البداية لم أفكر بأنها مسؤولية، كانت حكايات النساء المعتقلات قد أثّرت فيّ عميقًا إلى الدرجة التي لم أستطع ان أمنع نفسي من كتابتها، فيما بعد أحسست بأنها مسؤولية حقيقية، جعلتني في بعض الأوقات أشكّ إن كنت أهلًا لهذه المسؤولية أم لا! بكل الأحوال، يمكنني اعتبار “نيغاتيف” تحية من كاتبة أتت من جيل لاحق لنساء دفعنَ أثمانًا غالية لتحصل نساء جيلها والأجيال التالية على الحرية. لا يهمّ إن نجحن أم لا، المهم ألا تكون الدكتاتورية قد سيطرت بقبحها على البلاد بدون أن يكون هناك صوت قال: لا، وهذا الصوت الحاد والحر والعاصي دوّنت بعضًا من حكاياته في رواية “نيغاتيف”.
في هذا السياق، يُلاحظ القارئ أنّ غالبية أعمالك الروائية تنزع أو تميل إلى السياسة بشكلٍ أو بآخر. السؤال: ألا تخشى روزا ياسين حسن من الوقوع في فخ التجاذبات السياسية؟ لا سيما في الوقت الراهن؟
أنا لا أميل إلى السياسة في كتاباتي بقدر ما أميل إلى تأثير الواقع السياسي على حيوات البشر، وهذا أمر لا يتعلّق بتجاذبات السياسة بل بالبشر وحيواتهم ومصائرهم. إذًا هما أمران مختلفان تمامًا. في “نيغاتيف” مثلًا، حاولت أن يكون طيف المعتقلات واسعًا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وفي “الذين مسّهم السحر” حاولت أن أحكي بألسنة جميع الأطياف، ولكني بالتأكيد أنحاز دومًا للضعفاء والخاسرين والمقموعين والمهمّشين، وإن كانت هذه ميول سياسية فليكن. السياسة في العالم المعاصر تؤثر عميقًا على كل تفاصيل حياة الإنسان، تغيّرها وتحرفها، ويكاد لا يخلو تفصيل من تأثير السياسة عليه ابتداء بالاقتصاد والحالات الاجتماعية وليس انتهاء بالحب وطرق عيشه وحريته! وفي عصر التكنولوجيا المهيمنة تغدو السياسة التي تحركها هي المسيطر الشيطاني الأقوى، التعامي عن ذلك أو تجنّبه بحجة عدم الخوض في السياسة وعدم الخضوع لتجاذباتها أمر خاطئ باعتقادي ويعمل على تسطيح الكتابة.
روايتك “بروفا” يعتبرها البعض أنّها أقرب إلى مرثية لجيلٍ سوريّ اختبر الهزيمة تلو الأخرى. كيف تفسّرين هذه المقولة؟ وهل لا تزال الأجيال السورية تختبر الهزيمة وتعيشها؟ ما الذي تغيّر بين الجيل الحاضر في روايتك، وجيل الآن؟
رواية “بروفا” أشبه بمدونة للجيل المولود في السبعينات من القرن الماضي الذي جاء إلى صالة المسرح بعد انسدال الستارة وانتهاء العرض. جيل عاش الخواء السياسي والقمع الاجتماعي والحصار الاقتصادي، كما اختبر طفولته المبكرة في “طلائع البعث” مع مجيء “حافظ الأسد” وحزب البعث إلى السلطة. واستمر في عيش الخوف ومحاولات التدجين في مؤسسات قمعية وحزبية أخرى “كشبيبة الثورة” “اتحاد الطلبة” وغيرها من أدوات السيطرة. لم تختلف حال الأجيال التالية كثيرًا، كانت الاختلافات شكلانية باعتقادي ولكن جوهر الخوف والقمع ظل موجودًا. “بروفا” هي من أكثر الروايات التي آلمتني كتابتها، كنت أكتب انكساراتنا وخيباتنا ضمن نص تجريبي بتقنية جديدة عليّ، فشخصيات “بروفا” شخصيات متشظّية، تشبه تشظّي المعنى في حياتها، تعوّض الفراغ العميق بالجنس وباختلاق تجارب غريبة تعتقدها ذات معنى! الخواء كان عنوان تلك المرحلة. وقد صدرت الرواية في الشهر الأول للثورة، الأمر الذي وجدته دالًا، خصوصاً وأن هذا الجيل ذاته الذي كتبت عنه شارك جزء كبير منه بالانتفاض ضد القمع!
سنة 2016 صدرت “الذين مسّهم السحر”. الرواية جاءت بأصوات متعدّدة، متناقضة، وذات توجّهات سياسية مختلفة. هل هذا التنوّع في الشخصيات كافٍ لبلورة صورة الثورة السورية بمختلف جوانبها منذ 2011 وحتّى سنة 2013 عند القارئ؟ لا سيما القارئ غير السوريّ؟ وأيضًا، بناءً على السؤال السابق، وهذا السؤال، يظهر لنا سؤالًا آخر ولد من السؤالين السابقين، وهو: لماذا تعتمد روزا ياسين حسن على الأصوات والشخصيات المتعدّدة في بناء عمارتها الروائية؟
لا أعتقد أنه كافٍ، تحتاج الثورة السورية وما أتى بعدها من حرب ودمار إلى عشرات الروايات كي تحيط بها. ما زال كتّاب أوروبا حتى اليوم يستلهمون الحربين العالميتين في أعمالهم بعد أكثر من ثمانين عامًا، ولكن “الذين مسّهم السحر” قد تنقل صورة ملوّنة ومتعددة عن حال البلاد خلال السنتين الأوليتين من الثورة السورية. كان لا بد لي من كتابتها لأن معظم ما فيها كُتب بالاستناد إلى تجربة شخصية عشتها، ولأنني أقتنع إلى اليوم بأن على الكاتب مسؤولية أخلاقية وإنسانية تتلخّص في إعلاء صوت المهمّشين والخاسرين ضد الظلم والاستعباد.
الرواية هي فن ديمقراطي، هذا ما أقتنع به، وتعدّد الأصوات هو أهم أسس الديمقراطية، حينها يمكننا أن نسمع الحكاية من جهات مختلفة ومتقابلة أحيانًا. بالعموم أنا لا أحب رواية البطل الواحد، وأعشق رواية الأبطال المتعددين!
نتحدّث عن الثورة السورية. في هذا السياق، كيف ترى روزا ياسين حسن الأعمال الروائية السورية التي تتناول الثورة وكلّ ما يجري في هذا البلد الآن؟ هل تكفي لتكون ذاكرة أو تأريخ لما حدث ويحدث؟ وكيف تتوقعين أن يكون مستقبل الرواية السورية بعد انتهاء الحرب الدائرة؟ كيف تنظرين إلى الثقافة السورية الآن بشكلٍ عام، لا سيما في بلدان اللجوء؟
لم تكتمل بعد الأعمال الإبداعية التي تتناول الثورة والحرب التي بعدها، فالحرب أساسًا لم تضع أوزارها بعد. ما زال هناك الكثير ليقال وسيقال لسنوات وربما لعقود قادمة. أما الرواية السورية فستتبدل بشكل جذري برأيي، ونحن نرى بوادر هذا التغيير العميق في الأعمال التي تنشر اليوم، تغيير عميق في البنية الروائية على صعيد الشكل والموضوع. ولكن من جهة كم هو مؤلم حالة الشتات التي يعيشها السوريون اليوم في بلاد الأرض، من جهة أخرى ستغني الثقافة السورية بثقافات البلاد التي احتضنت بعضًا من الجاليات السورية في السنوات الماضية. برأيي سينتج هجين سوري/ منفوي (من منفى)، الهجين غني دومًا وسينقل الثقافة السورية التي كانت منغلقة نوعًا ما على نفسها قبلًا باتجاهات أكثر تعدّد وعالمية.
صدرت لكِ مؤخّرًا رواية جديدة تحت عنوان “بين حبال الماء”. حدّثينا عنها قليلًا. ما الجديد فيها؟ وبماذا تختف عمّا سبقها؟
في هذه الرواية “بين حبال الماء” خضت تجربة جديدة تمامًا عليّ، أعتقد بانها أقرب إلى نصّ تجريبي. لأول مرة يكون لدي راوٍ واحد، ربما كتأكيد على تمترس معظمنا وراء قناعاته وعدم اعترافنا بالتعدد! هو ذكر شاب مهووس بالسينما، والرواية كلها بلسانه، أي أنها أشبه بمونولوج طويل. تتداخل فيها مشاهد الأفلام وشخصياتها مع مشاهد الواقع، فلا نكاد نميّز بين الواقع والخيال! كانت مغامرة حقيقية بالنسبة لي على صعيد التكنيك، أما على صعيد المعنى فالفكرة الأساس التي أردت قولها إن نجاتنا الوحيدة هي بالفن، وهو هنا السينما، وكم أن الواقع هشّ ويحتاج إلى الخيال كي يجعله قابلًا للعيش.
أخيرًا، من الأقرب إليكِ لجهة النقد، ما يقولهُ النقّاد أو آراء القرّاء؟ ولماذا؟ وما الذي يشغلك الآن؟
أستلهم من الاثنين، من القراء يمكنني أن أستشف إلى أي مدى كانت كتابتي مؤثرة وأثارتهم لطرح الأسئلة والتفاعل مع الحدث والشخصية، والأهم إلى أي مدى كانت الكتابة ممتعة، لأن هذا الأمر مهم كثيرًا بالنسبة لي، فالقراءة أولًا وأخيرًا متعة. ومن النقاد يمكنني أن أبلور وجهات نظري تجاه الكتابة والتقنيات والبناء الروائي الذي يجب أن يستمر في التماسك والتطور رواية بعد أخرى. لكن الأهم هو قناعتي الذاتية بنصي، وأن أكون راضية على ما بذلته من جهد لإتمام العمل.
في هذه الأوقات أكتب أشياء عن معنى المنفى، ورواية جديدة تتعدّد فيها الشخصيات غير الاعتيادية لسوريين في منفاهم.
الترا صوت