عام على عفرين/ عمر قدور
في العشرين من كانون الثاني 2018 أعلن الرئيس التركي أردوغان رسمياً انطلاق العملية العسكرية لاجتياح عفرين، بعد تمهيد إعلامي استمر شهوراً وتهيئة للجيش التركي، وللفصائل السورية التي تأتمر بأمره ومن ثم تولت عمليات الاقتحام والالتحام في ميدان المعركة. في مقلب آخر، كان القصف التمهيدي الروسي والأسدي قد بدأ على الغوطة الشرقية، ليتم إطلاق العملية البرية بعد نحو شهر من سياسة الأرض المحروقة.
آنذاك قيل كلام كثير عن مقايضة بين عفرين والغوطة، كلام يوحي بأن أنقرة تدفع في مكان لتقبض في آخر، رغم عدم وجود نفوذ تركي على فصائل الغوطة. الأقرب إلى الواقع أن صفقة دولية قد حدثت، بموجبها يصمت الغرب على اجتياح الغوطة وعفرين معاً، ويستفيد بشار وأردوغان من السيطرة على منطقتين لهما ثقل معنوي يفوق خطرهما العسكري الفعلي. عفرين، التي لا تهدد أنقرة عسكرياً، هي ذات الأغلبية الكردية الأعلى في سوريا، وكانت تُعرف تقليدياً باسم “جبل الأكراد”، وهي المعقل التقليدي لحزب العمال الكردستاني أو فرعه السوري الذي يزعم الاستقلالية عن الحزب الأم. أما الغوطة، رغم الحصار المطبق عليها وتضاؤل خطر الفصائل المرابطة فيها على العاصمة، فرمزية السيطرة عليها هي في إسدال الستار نهائياً على الدلالة المعنوية لوجودها في ما يخص أي احتمال لتهديد بشار عسكرياً.
مع بدء الهجوم التركي أصدرت قيادة الميليشيات الكردية بياناً تحمّل فيه موسكو المسؤولية، إذ كانت الأخيرة قد سحبت نقاط مراقبة خاصة بها من المنطقة. ذلك البيان الذي يعبّر عن فهم المناخ الدولي لم ينعكس على الإعلام الحربي، فبقيت البيانات العسكرية تتحدث عن نجاحات في صد العدوان التركي، هذا أيضاً ما واظب عليه أنصارها في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن لم يعد ممكناً إخفاء الوقائع الصارخة من حيث تقدم القوات التركية، ومن حيث الفجوة الواسعة بين القوتين.
على صعيد سياسة الإنكار تلك؛ لم تقدّم الميليشيات نموذجاً مغايراً عمّا نعرفه عربياً، لجهة إنكار الخسارة حتى الرمق الأخير، والإفلات لاحقاً بتبريرات هدفها الأساسي إعفاء النفس من المسؤولية. أثناء المعارك جرى تخوين أي صوت كردي لا يتبنى رواية الإعلام الحربي، ولم تبادر السلطة الكردية إلى لفتة تجاه خصومها الأكراد من قبيل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين لديها، أو إلى لفتة رمزية ذات أفق سياسي أرحب من نوع الانفتاح على بقية الأحزاب وإشراكها في إدارة المناطق الكردية. ذلك أيضاً ليس بجديد، إذ يبدو سلوكاً لا بديل عنه من قبل كافة سلطات الأمر الواقع في المنطقة.
القوات التركية التي شنت العدوان استخدمت للعملية اسم “غصن الزيتون” الذي يرمز للسلام كأنما على سبيل الاستهزاء بالمدلولات، ليظهر المعنى على حقيقته عندما تتمكن من النصر. خلافاً لادعاءاتها؛ لم تثبت القيادة التركية للمعركة أنها تميز بين الأكراد كقوم وحزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه إرهابياً، وظهر واضحاً منذ البدء في قضم المناطق والاستيلاء عليها أنها لا تتخذ موقفاً من انتهاكات الفصائل المدعومة منها في حق السكان. ذلك حفّز السكان “المتوجسين أصلاً من الانتقام التركي” على النزوح باتجاه مناطق سيطرة الأسد، وعلى غرار العديد من الحالات المماثلة أصبح للنزوح تجارة فاسدة تمنح الأفضلية لمن يمتلك السلطة أو المال ليرشو القوات المتحكمة بالعبور. موقف إعلام الأسد المتضامن لفظياً مع الأكراد لم ينعكس واقعياً، حيث مُنع أبناء المنطقة من دخول مناطق سيطرة الأسد، باستثناء القادرين على الدفع وفي ما بعد تسهيل انسحاب المقاتلين مع انتهاء المعركة، وما يزال المنع سارياً.
الفصائل الموالية لأنقرة، التي وقع عليها عبء الهجوم البري وكلفته البشرية، هي خليط من ميليشيات ومقاتلين البعض منهم له ثأر مع الميليشيات الكردية؛ ثمة مقاتلون من “تل رفعت” سبق للميليشيات أن استولت على بلدتهم وتسببت بنزوح سكانها، فضلاً عن حادثة استعراض جثث لرفاقهم في عفرين فيما مضى، وثمة مقاتلون تعرضوا لهجوم من الميليشيات الكردية في مدينة حلب بالتزامن مع هجوم لقوات الأسد. بصرف النظر عن القيادات التي لها حسابات ومصالح شتى، لا يخلو هذا الخليط من مقاتلين حملوا السلاح ثورةً ضد الأسد ثم تحولوا إلى مقاتلين محترفين ثم إلى مرتزقة.
ضمن منطق الثأر نستطيع استذكار مجمل انتهاكات الميليشيات الكردية في مناطق سيطرتها ذات الأغلبية العربية، بما في ذلك الانتهاكات الممنهجة التي تهدف إلى دفع السكان إلى النزوح، وبما يرقى إلى جريمة التغيير الديموغرافي. ذلك التذكير لا يمنع من الإقرار بأن ما فعلته نظيراتها العربية في عفرين ذو مستوى أكثر تدنياً، وأفضل وصف له هو الاستباحة التامة. لعلنا مثلاً لم نشهد ما هو مشين من عمليات سطو على الأملاك الشخصية سوى من عصابات الأسد، قبل أن تحذو الفصائل المسيطرة على عفرين حذوها، وأي ثأر سابق لا يبرر ما حدث واستمر حدوثه برعاية وصمت تركيين، ولم نشهد امتحانات مصورة بالفيديو للسكان في دينهم كما حدث في عفرين سوى من شبيحة الأسد وهم يجبرون الأهالي على القول أن بشار الأسد هو ربهم.
وإذا عدنا إلى الصمت الدولي على احتلال عفرين والغوطة بشكل متزامن؛ قد نجد ذلك الصمت مشروطاً بعدم تعرض الغرب لموجة لاجئين جديدة جراء العنف، وقد لا يكون من المصادفة ترحيل مهجري الغوطة إلى عفرين. الوجه البشع للمجتمع الدولي، الغربي منه تحديداً بحكم قيَمه ومسؤولياته، هو في قبول حل مشكلة الضحايا “أهالي الغوطة” على حساب ضحايا آخرين “أهالي عفرين”، وبما يعطي الانطباع بأن جميع عمليات التغيير الديموغرافي في سوريا مرعية دولياً.
من الدلالات المهمة، بعد مرور عام على غزو عفرين، أن السوريين لا يتذكرون خصلة أو موقفاً طيباً يُسجّل لأحد في القوات المهاجمة، طبعاً بخلاف ذاكرة ضحايا الغزو المثقلة بالمرارة. لا يقل عن ذلك دلالة أن سنوات قد انقضت على المعارك التي كانت تلقى اهتمام جمهور الثورة، وعلى بعض الأسماء التي قدّمت مثلاً طيباً فيها. كأنما قدر كل المنتصرين حتى الآن في سوريا أن يكون نصرهم مجللاً بالعار، وأن يكون مفخخاً بذاكرة المغلوبين.
المدن