ما بين فرنسا وسورية/ راتب شعبو
ماذا يمكن للسوري أن يقرأ في اللوحة الفرنسية قياساً على تجربة بلاده؟ المظاهرات الصفراء لا تهدأ في فرنسا، ويصل غضب المحتجين، في أحيان غير قليلة، إلى حد الانفجار على شكل أعمال عنفٍ موجهة ضد مؤسسات الدولة والمصارف والمحلات الراقية في الشانزليزية (رموز الثراء) وضد الشرطة.. إلخ. ليس العنف الأصفر نتيجة غضبٍ خرج عن السيطرة فقط (ليس العنف الذي يتستر بالحركة لأغراض جرمية)، بل نتيجة قناعة رسختها الحكومة الفرنسية الحالية في أقل من سنتين، ومفادها: لكي تكون مسموعاً ينبغي أن تكون عنيفاً.
هذا ما جعل المحتجين يرون في الملاكم الذي هاجم رجل الشرطة، وأوسعه لكماً، بطلاً، وترجموا ذلك بالتضامن مع عائلة الملاكم الذي وضع في الحجز، بجمع ما يزيد عن مائة ألف يورو، في غضون يوم واحد، في صندوق ساهم فيه حوالي ثمانية آلاف مانح فقير، وكان سيتضاعف المبلغ لولا أن سارعت السلطات إلى إغلاق الصندوق في اليوم التالي على 146 ألف يورو. وقد قال أحد وزراء حكومة الرئيس ماكرون، عن هذه المبادرة التي تعكس مستوى النقمة لدى المحتجين، إنها “مقززة ومهينة”، لأنها تنطوي على قبول وتقدير للعنف، يجب أن نقرأ هنا “العنف غير الرسمي”. وفي تذكير بالاستقطاب السوري الحاد، بادر فرنسيون “مرتاحون”، رداً على ذلك، إلى فتح صندوقٍ للتضامن مع مصابي رجال الشرطة، وسرعان ما جمع الصندوق حوالي مليون يورو.
في كل حال، الواقع أنه لا استجابة الحكومة الفرنسية لبعض المطالب أرضت المتظاهرين، ولا “الحوار الوطني الواسع” الذي اقترحه الرئيس، فتح لهم أملاً يميل بهم إلى الهدوء والانتظار. وتقول الحركة الصفراء في فرنسا إن النظام الديمقراطي التمثيلي، وتوافر الحريات العامة
ووجود مستوى جيد من الضمان الاجتماعي، لا يشكل ضمانةً للشعب من الإفقار والتهميش الاقتصادي. أكثر من ربع أصحاب السترات الصفراء هم من العاطلين من العمل، والغالبية هم من الفقراء ممن لا يحصلون على الحد الأدنى من الأجر. العلاقة بين الديمقراطية السياسية وتحسين مستوى معيشة الناس أو الحفاظ على مستوى مقبولٍ من العدالة الاجتماعية، ليست إذن علاقة خطية.
يخرج الفرنسيون اليوم ضد الإفقار الذي يعبر عن نفسه بتراجع القدرة الشرائية. الشرارة الأولى للحركة الصفراء تسبب بها فرض رسومٍ على المحروقات، كان من المقرّر بدء العمل بها مع مطلع العام الحالي، فيما خرج السوريون في 2011 ضد القمع، وكان المحرّك الأول لخروجهم إلى الشوارع حادثة قمع طلاب كتبوا عباراتٍ سياسية على جدران مدرستهم في درعا. على هذا يمكن القول إن الحراك الفرنسي اقتصادي المنشأ، أما الحراك السوري فمن منشأ سياسي.
البارز في الحركة الفرنسية تركّز الاحتجاج ضد تمركز الثروة، وأشكال التهرّب الضريبي، ولا يمكن فهم إصرار المحتجين على إعادة فرض الضريبة على الثروة المنقولة (ISF)، على الرغم من أن مردودها على الخزينة ضعيفٌ نسبياً، إلا بوصفه مطلباً معنوياً أو رمزياً يحدّد انحياز الحكومة وهويتها، إذ طالما اعتبرت حكومة ماكرون حكومة كبار الأغنياء. يبدو، والحال كذلك، أن احتجاجات السترات الصفراء تتحرّك في مستوىً لا سياسي، في مستوى تحت أو فوق سياسي، وهذا ما يجعلها على تنافرٍ مع كل المستوى السياسي الفرنسي. وهي بوصفها كذلك، تشكل حركة ضغط وتفجير أكثر من كونها ثورة، لأنها لا تمتلك تصوّراً سياسياً متكاملاً، من شأنه أن يحقق المطالب التي ترفعها الحركة نفسها. وفي الوقت نفسه، لن يكون من السهل على الحكومة الفرنسية امتصاص هذه الموجة الثورية. والحق أن مبادرة ماكرون في الحوار الوطني الواسع لا تختلف كثيراً عن مبادرة بشار الأسد في استقبال وفودٍ من كل المناطق والمحافظات، والاستماع إليهم في بداية الثورة السورية. في الحالتين، هناك تحايل وتشتيت. الأول يناور حول ما لا يستطيع فعله، والثاني يناور حول ما لا يريد فعله.
في المقابل، تركزت الحركة السورية على الحرية والكرامة، وكانت الصرخة الأولى ضد
“مبادرة ماكرون في الحوار الوطني الواسع لا تختلف كثيراً عن مبادرة بشار الأسد في استقبال وفودٍ من كل المناطق”
“الذل”، ليس كمنتوج للفقر الاقتصادي، بل كمنتوج للفقر السياسي بالأحرى. وقد ألحّ السوريون على هذا التمييز، حين ردّوا على زيادة الرواتب التي أعلنها النظام مبكّراً، بالقول “الشعب السوري مو جوعان”، فيما ردّ الفرنسيون على زيادة الحد الأدنى للأجور بالقول إنها لا تكفي. الجوع السياسي طغى على الجوع الاقتصادي عند السوريين، في حين لم يجد الفرنسيون في الشبع السياسي ما يغنيهم عن الجوع الاقتصادي.
تركزت الحركة السورية ضد الاحتكار السياسي والمطالبة بالديمقراطية و”إعادة السياسة إلى المجتمع”، الشيء الذي لا يحمل أي معنىً من منظور الحركة الفرنسية الصفراء اليوم. على العكس، أظهرت هذه الحركة أن الأحزاب الفرنسية جميعاً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ما هي إلا صمامات أمان ضد التغيير الذي يصب في مصلحة الفقراء، وأن الصراعات السياسية التي تجد حلها في الانتخابات التمثيلية (النزيهة والحرة) ليست سوى مناقلاتٍ سطحيةٍ تبقي من هم فوق فوق ومن هم تحت تحت. هذه الرائحة الفوضوية لدى الحركة تخيف الطبقة السياسية الفرنسية التي انقسمت إلى فئة تهاجم الحركة وأخرى تتملقها.
منذ الأسبوع الأول، تقدم أصحاب السترات الصفراء بمطالب محدّدة وصلت إلى 42 مطلباً، تتقدمها مطالب اقتصادية، فهم يقفزون فوق الأحزاب، ويقولون لا تهمنا آلية إنتاج السلطة، أو من يصل ومن يسقط، يهمنا أن نأخذ نصيباً عادلاً من عملنا، ويهمنا أن يتم توزيع الثروة، بحيث لا يبقى هناك من ينامون في الشوارع (المطلب الأول). هذا النوع من التضامن في توزيع الثروة هو ما يعتبره الفرنسيون الترجمة العملية للكلمة الثالثة من شعار الجمهورية “حرية، مساواة، أخوة”، وهو ما دفع ناشطي السترات الصفراء إلى استبدال كلمة “الأخوة” بكلمة “الفلاش بول” (القذائف المطاطية التي استخدمت ضد المتظاهرين، وتسببت بأضرار جسدية وإعاقات دائمة لعشرات المتظاهرين) في لوحة رسام الشوارع الأميركي، شيبارد فيري، التي تجسد صورة ماريان محاطة بالزهور وحولها الكلمات الثلاث، وهي اللوحة التي اختارها ماكرون لتكون في مكتبه في قصر الإليزية.
مع تقدّم الوقت بالحركة الصفراء (عشرة أسابيع)، بات التركيز يقتصر على مطلبين أساسيين،
هما فرض ضريبة على الثروة لا يستثني العمالقة الرقميين (غوغل، أمازون، فيسبوك، أبل)، واستفتاء بمبادرة المواطنين (RIC)، مع مطلبٍ ثالثٍ يصر عليه جزء من الحراك، وهو استقالة الرئيس. ومن المشكوك فيه أن تزول أسباب تفجر الحراك الأصفر، حتى لو تمت تلبية المطالب هذه، ذلك لأن الحركة هي تعبير، محقّ بلا شك، عن الضيق بقيود الرأسمالية النيوليبرالية التي لا تمتلك الحكومة، ولا الحركة نفسها، القدرة على تخطيها.
آلية عمل النظام السوري، وأمثاله، هي آلية طاردة للسياسي، أي تسعى إلى حل “مشكلاته” مع الناس بطريقةٍ لا سياسية، إما اقتصادياً عبر الرشوة إذا أمكن ذلك، أو أمنياً وعسكرياً حين يستعصي الأمر. وهكذا فقد شتت النظام السوري سياسة ثورة 2011، وعالجها على مستويين أمني وعسكري. أما النظام السياسي الفرنسي، فإنه، على العكس، يحاول شد الحركة الصفراء إلى الساحة السياسية التي هي ساحة أمان النظام وملعبه، من دون أن يفلح حتى اليوم، ذلك أن الحركة ما زالت تصرّ على طابعها الشعبي، وتقاوم التأطير السياسي، وترى فيه مقتلها.
وهكذا فإن التدمير العسكري للحراك السوري، من المرجّح أن يقابله على الجانب الفرنسي استيعاب سياسي، إذا ما تأطرت الحركة سياسياً، أو تماوت للحركة، بسبب تراجع التأييد العام تحت تأثير تنازلاتٍ من المتوقع أن تقدم عليها الحكومة في نهاية الحوار الوطني في منتصف مارس/ آذار المقبل، وبفعل “العطالة الاجتماعية”، حين تتقادم الحركة من دون توسع.
العربي الجديد