انحسار الطائفية السورية/ عمر قدور
في زحمة وبؤس الأخبار عن إعادة تأهيل بشار، بخاصة تلك التي تتحدث عن إعادة العلاقات الرسمية، ربما يصعب الانتباه إلى التراجع في منسوب الخطاب الطائفي السوري، أو المتعلق بالقضية السورية أيّاً كان مصدره. الذرائع التي تُستخدم حول انتزاع بشار من الحضن الإيراني تضمر تمييزاً لم يكن ظاهراً لدى بعض الأنظمة العربية من قبل، وتضع الأمر في خانة السياسة، بعد وضعه مطولاً في مضمار الاحتراب المذهبي الذي تعيشت عليه التنظيمات الجهادية السنّية ونظيرتها الشيعية.
قبل الحديث عن الأنظمة العربية تجدر الإشارة إلى أن نظام الملالي استعاد خطابه الإعلامي القديم، ليغطي على مشروعه التوسعي بنغمة العداء لإسرائيل، بعدما استُنفذت الحاجة إلى خطابه الطائفي المكشوف من نوع “ثارات زينب”. انتهاء أيام العسل مع باراك أوباما واعتماد ترامب مقاربة مختلفة للملف الإيراني ساهم في تسعير الخطاب القديم على حساب الخطاب الطائفي، ومن الواضح أن نغمة العداء لإسرائيل تزداد كلما توترت العلاقات الأمريكية-الإيرانية، ويكون الهدف من تهديدات طهران حينئذ استدراج التفاوض مع واشنطن وتل أبيب ضمن شروط أفضل. في هذه الحالة يفضّل الملالي تنحية الخطاب الطائفي من أجل الإيحاء بوجودهم رأس حربة للدفاع عن القدس نيابة عن المسلمين جميعاً، مع التشديد على تخاذل بعض الأنظمة العربية “التي يصادف أنها سنية!”.
إعلام بشار الذي اعتمد منذ مستهل الثورة اتهامات، يفهم السوريون جيداً المغزى الطائفي المحلي لها، انزاح عنها مبكراً لصالح الانقسام الطائفي الإقليمي. الخطاب الطائفي المبكر كان يهدف إلى شدّ العصب العَلوي، وبدرجة ثانية الأقلوي عموماً، من أجل تجميع موارد بشرية كافية لمواجهة الثورة. وعندما توالت خسائره مع استنفاذ الموارد البشرية المحلية، واضطر إلى الاستعانة الدائمة بالميليشيات الشيعية، ظهرت عليه ملامح الخطاب الإيراني بحذافيره، من التحاق بمفرداته الشيعية واستخدام لتفاصيل العنصرية الإيرانية التقليدية إزاء العرب.
في أحد أوجهه أتى التدخل العسكري الروسي، بدءاً من نهاية أيلول 2015، لينقذ بشار من الحرج الذي تتسبب به مطامع التبشير الشيعي الإيراني. موسكو، التي لم تخفِ من قبل معارضتها لما أسمته “تسلم السنة مقاليد السلطة في سوريا، بدأت مع التدخل العسكري تقديم نفسها كطرف غيور على ما تسميه “الدولة السورية”، وكطرف متمايز عن الحليف الإيراني ذي الدوافع والأهداف المذهبية، وهي بهذا المعنى لا تمانع مشاركة سوريين “سنة” من نموذجها الشيشاني المفضّل “قديروف”، ما دامت هذه المشاركة تتكفل بإحياء النظام وتعويمه.
الوجه الميداني للتدخل الروسي تجلى في استهداف مناطق سيطرة فصائل المعارضة، وتلاقت مصالح بشار وحليفيه الروسي والإيراني على محاولة وراثة مقاتلي تلك الفصائل تحت بند “المصالحة”. كما نعلم أظهرت مواجهة السنوات السابقة على التدخل الروسي ضعف إمكانيات القطعات المحترفة لقوات الأسد، وبعدها عدم قدرة الميليشيات الشيعية على إحراز نصر ضمن مواجهة إقليمية، وأدت حرب الاستنزاف الطويلة إلى شحّ في الموارد البشرية، وعدم القدرة على تعويضها ضمن المنطق الأقلوي السابق.
أن تتقاسم قوات مثل “الفرقة الرابعة” و”الفيلق الخامس”، وحتى الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني، مقاتلين سابقين في فصائل معارضة فهذا يؤثر على جانبين؛ جانب بشار وحلفائه المضطرين إلى طي الخطاب الطائفي بحكم الحاجة إلى الموارد البشرية، وأيضاً جانب قسم من المعارضة الذي سيصعب عليه التركيز على الانقسام الطائفي مع الواقع المستجد. نعلم أيضاً أن ما تبقى من مقاتلين هم تحت سيطرة أنقرة، والأخيرة منضوية في تفاهمات مع حليفي بشار وفق مسار آستانة، أي أن حكومة أردوغان ليست خارج مناخ إعادة تأهيل بشار رغم تحفظها المعلن على شخصه.
منافسو أردوغان من الأنظمة العربية، لأسباب تتعلق بالزعامة السنية في المنطقة، باتوا يسلكون الطريق مباشرة إلى دمشق لتطويقه بحيث لا يقلّ هذا الدافع عما هو معلن لجهة تحجيم النفوذ الإيراني، والعداء المتبادل بين الطرفين يمكن احتسابه على طي صفحة الاستثمار الطائفي في المنطقة. من جهة الخارج عموماً، قد يكون من أسباب تصفية الاستنزاف السوري انتهاء الحاجة إلى هذه الساحة لتصفية حسابات إقليمية، أو ليتطاحن متطرفو السنة والشيعة بحسب ما ألمح إليه أوباما يوماً، بالإضافة إلى عدم الاكتراث بقفل الملف على حساب حقوق السوريين التي تسببت أصلاً بالثورة. إقفال الملف الطائفي ضروري للقوى الدولية في العديد من الملفات، مثل ملف إعادة اللاجئين وملف إعادة الشرعية داخلياً من البوابة الطائفية إياها بدل الانتقال الديموقراطي، مثلما هو مفيد لبشار الأسد للأسباب ذاتها. غير بعيد عن المناخ نفسه سنجد هيئات المعارضة الموجودة، بما فيها الأكثر “تشدداً”، وهي تصر على أن الحل السياسي هو الوحيد بعد أن لم تعد تملك غيره أصلاً، ومع فهمها لمقتضياته التي لا تقوّض أركان النظام القديم.
على كافة المستويات كنا نشهد طوال الفترة الماضية انحسار الخطاب الطائفي، باستثناءات قليلة، بعد أن شهدنا طغيانه من قبل، وإذا كانت فترة طغيانه قد شهدت نقاشات عديدة وحامية فقد أتى انحساره كأنما في وقت تعب فيه كثُر من تلك الجدالات العقيمة. قد يفيد التراجع الحالي فرضية إلقاء اللوم على الخارج في التسعير السابق، وقد يفيد أيضاً أصحاب إنكار الاستثمار الداخلي لها، حيث كانت وظيفة الانكار تنحصر في تنزيه دولة الأسد عن الطائفية ورميها فقط على خصومه.
من المؤكد بالدرجة ذاتها أن من دفعوا بإخلاص ثمن الاستثمار الطائفي تعبوا من ضريبته الباهظة، وعلى نحو أقل ربما استفاد بعضهم من الدرس. إلا أن انحلال الخطاب الطائفي لصالح مشاريع أخرى لا يعني حل المسألة من أساسها، ولا يعني تحديداً انتفاء القابلية المحلية للاشتعال أو للاستجابة للخارج. في الواقع كلما ابتعدنا عن مشروع الدولة الديموقراطية ستبقى القابلية كامنة، أسوة بمختلف أنواع التفتت المجتمعي. الأخطر من ذلك أن تعيق تلك القابلية إعادة فرز مجتمعي على أسس سياسية ناضجة، فتُستخدم لعرقلة التغيير كما شهدنا للتوّ.
المدن