النظام السوري بين الشمولية والديكتاتورية/ حسين عبد العزيز
يقول الفيلسوف وعالم السوسيولوجيا الفرنسي، ريمون آرون، إن الشمولية تحدث عندما يستند نظام سياسي معين إلى حزبٍ واحد، يحتكر النشاط السياسي، ومسلح بأيديولوجية وسلطة مطلقة، بحيث تصبح الحقيقة الرسمية للدولة. ولكن هذا التعريف لا يوضح الفرق بين الشمولية والديكتاتورية (أسلوب الحكم الذي تكون فيه للفرد صلاحيات مطلقة)، لأن كلا النظامين يعتمدان السيطرة المطلقة.
وتذهب الفيلسوفة الألمانية، حنة أرندت، إلى أن الشمولية، باعتبارها نظاما سياسيا، تعتبر شكلا جديدا يختلف جذريا عن النظم وأشكال الحكم التي عرفتها البشرية، ولا يمكن اختزاله بالطغيان، فالنظام الشمولي يعتمد على ما تسميه القانون الطبيعي الذي حل محل القانون الوضعي. وبهذا المعنى، فإن أي نظام شمولي لا بد أن يكون ديكتاتوريا بالضرورة، لأنه يجعل المجتمع عضويا متماسكا بالقوة، لا مكان فيه للأفراد والجماعات المخالفة لسردية السلطة، غير أن النظام الشمولي يعتبر أعمّ من الديكتاتوري، أو هو الصيغة الراديكالية عن الديكتاتورية الشمولية، نوع من الفكر السياسي يقوم على المطلق، من خلال نظام سياسي ونظرية فلسفية وأيديولوجية تعمل على صهر الحياة العامة في مختلف جوانبها الدينية، ضمن بوتقة أحادية للسلطة.
عرفت البشرية أنظمة ديكتاتورية كثيرة (أسلوب الحكم الذي تكون فيه للفرد صلاحيات مطلقة)، لكنها لم تعرف سوى نموذجين من الأنظمة الشمولية في العصر الحديث، بحسب أرندت، هما الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين والنازية الألمانية، مع ما فيهما من اختلافٍ في البنى التاريخية التي أدت إلى إنتاجهما. وتجادل المفكرة الفرنسية، بياتريس هيبو، بأنه إذا كانت ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي قد تشاطرا الحماسة التحديثية والإرادة في تدمير التنوع والتعددية السياسية، إلا أن مشروعيهما مختلفان، وأعطيا معنىً مختلفا للحداثة، فقد كانت الشيوعية، على الرغم من جرائمها، وريثة عصر التنوير، بينما القومية الاشتراكية الألمانية كانت رد فعل ضد التنوير، حيث ولدت مع الثورة المضادّة، ثم اتسعت مع الثورة المحافظة.
وفي التجربتين، لا يجب اختزال الشمولية في بعدها القسري وعمليات التطهير الجماعية، وحملات القمع والتصفية، فالإشكالية المطروحة، بحسب رايموند هينبوش، لا تتعلق بمركزة السلطة، وإنما في توسيعها، فالشموليات لم تكن حركاتٍ أقلويةً، أخذت في قبضة بعض الرجال الذين سيغتصبون هذه الجماهير ويضحكون عليها، بل ساعدتها بشكل فعال أغلبية السكان، تقول أرندت.
كانت الستالينية مشروعة لدى سكانٍ كثيرين، لأنها أقامت دولة رعاية في ميادين مهمة، كالتربية والصحة والثقافة، وفتحت فرصا للارتقاء الاجتماعي، ودوام آليات اندماج العمال على المستوى
الاجتماعي. وكانت النازية مشروعة أيضا إلى حد ما، بسبب تضخيمها العرق الآري. ولذلك، استخدم ميشيل فوكو مصطلح الشمولية، للتعبير عن طبيعة البيولوجيا السياسية الواضحة للنازية. ولكن، هل تكفي هذه المشروعية لتحقيق هذه السيطرة المطلقة والانصياع التام للجماهير؟ العنف هو إحدى الأدوات الرئيسية، إن لم يكن الأداة الأكثر فعالية، من خلال النظام الأمني العنيف أو الشرطة السرية.
وفي تحليلها أسباب الانصياع الاجتماعي، تعتقد أرندت أن ظاهرة الشمولية تنشأ في مجتمعاتٍ لم تعرف الاندماج في أية منظمة أو تنظيم مؤسس على المصالح المشتركة (أحزاب، مجالس بلدية، منظمات مهنية أو نقابية). وغالبا ما تكون هذه الجماهير ضائعة، وليست لها مصالح خاصة ومحدّدة، والمصطلح الذي يمكن أن يعبر عن حالة الجماهير هذه هو “اللامبالاة”. ولا يجب النظر إلى “اللامبالاة”، بحسب أرندت، بالمعنى الإيجابي، فالمصطلح يُفهم في هذه الحالة من خلال غياب أي نقطة واضحة، وهذه نتيجة انهيار البنية الاجتماعية الداخلية.
بخلاف أرندت، تعتقد بياتريس هيبو أن لـ “اللامبالاة” بعداً إيجابياً، فهي ليست فقط النأي بالنفس، وإنما تعني أيضاً القدرة على القيام بأعمالٍ فرديةٍ والطريقة المرنة والغامضة والمتعدّدة التي يحاول الناس من خلالها تمثل وجودهم، عبر تسوياتٍ شخصيةٍ محضةٍ في سلوكيات المعيشة والأعمال، تتيح التعبير عن هوامش المناورة والمبادرة والحرية، ومن ثم هي ليست بالضرورة مرادفا للتطبيع، حتى لو كانت هذه الاستقلالية بالنسبة إلى نظام السيطرة هي أيضا أحد شروط قبوله.
عرف النظام السوري حالتي الشمولية والديكتاتورية معا، ولكن خارج إطار عملية التحديث، فلم يكن ثمّة مشروع أيديولوجي أو سياسي أو اقتصادي، وكانت سلطة الخطاب المستخدمة، على الرغم مما تحمله من شحناتٍ أيديولوجية وسياسية واقتصادية، مرتبطة بأدوات الهيمنة الفوقية.
لم تكن الديمقراطية والحكم التعددي والنيابي والتحديث الاقتصادي من المُفكر فيه داخل سلطة البعث، وكانت القومية والاشتراكية من أدوات خطاب الهيمنة من أجل فرض أيديولوجيا تخترق النسيج الاجتماعي، فقد كان مفهوم الوحدة في شعار البعث مفهوما بلا مصدّق، أي مفهوما غير قابل للتحقق على أرض الواقع، وإذا كان المفهوم قد عبّر، في مرحلة الستينيات، عن فورة قومية، فإنه بقي بعد ذلك أداةً للجذب الاجتماعي.
جمعت مرحلة حافظ الأسد بين الشمولية والديكتاتورية، لا بالمعنى التحديثي الذي عرفته
التجربتان السوفييتية والنازية، وإنما بالمعنى التسلطي الذي تتمكّن من خلاله السلطة من السيطرة على كل مناحي الحياة، بما فيها الثقافية والاقتصادية، ففي ظل حكم “البعث” كانت المصالح السياسية والاجتماعية هي التي تتحكّم بالسياسات الاقتصادية.
البراغماتية في شؤون صنع السياسة الاقتصادية هي التي تدمغ حكم الأسد، إنها تعبير عن ذلك المنهج الذي يعتبر الاقتصاد وصيفا للسياسة.
وكأي نظام شمولي تلعب فيه العصبية دورا في حماية الأنظمة، شكلت العصبية العلوية دورا رئيسا في حماية النظام، بحيث أصبح قلب السلطة علويا، وليس مصادفةً أن يتولى ضباط علويون أهم المناصب العسكرية القادرة على إحداث الفرق.
يجادل باحثون كثيرون أن حافظ الأسد كان طائفيا، وهذا حكمٌ قيميٌّ أكثر مما هو حكم وجود، فمن الصعب الاعتماد على التكهنات الذهنية، ذلك أن الاعتماد على الطائفة العلوية في بنية النظام تطلّبته مقتضيات الحكم وفق مفهوم العصبية بالمعنى الخلدوني، ودورها في تشكيل السلطة.
وكانت أفكار حزب البعث الأداة الأيديولوجية للهيمنة، لأن الأفكار السائدة تحافظ على تماسك الوحدة المتوازنة المؤلفة من الدولة والمجتمع، والتي تشكل نمطا تاريخيا معينا للمبنى الفوقي، يقول عزمي بشارة.
وكما هو الحال مع الشموليتَين السوفييتية والنازية، نجح الأسد في الانتقال من مرحلة الفوضى السياسية إلى مرحلة الاستقرار السياسي، وإحياء الحضور السوري الإقليمي قوة وازنة، ولكن خارج أي إطار تحديثي. ومع ذلك، لقيت المكانة الجديدة لسورية استحسانا جماهيريا في بداية الأمر.
ومع ذلك، لم تكن المشاركة الجماهيرية كاملةً على الدوام، ويرافقها استياءٌ وقلق ورفض جزئي واتهامات. وفي تحليلها العميق، تؤكد بياتريس هيبو أن هذه المشاركة تحمل من معنى المساندة والمشاركة النشيطة الموافقة أكثر مما تحمله من معنى التكيف.
بعبارة أخرى، يطلق الأفراد المؤيدون حكما مسبقا في شرعية النظام الحاكم، من دون أن يتساءلوا عما إذا كانت الدولة أو الحكومة شرعية، لأن القواعد التي من خلالها يقيمون حالة الطبيعة يمكن أن تكون متعدّدة، وترجع إلى تراتبية قيم مختلفة، بل حتى متناقضة. وغالبا ما يكون هؤلاء الأفراد من فئة الرعاع، وهو ما تنبهت له هنا أرندت، في قولها إن ما يميز الشمولية اعتمادها على الرعاع، فالنظام الشمولي يعتمد على تنظيماتٍ جماهيريةٍ تضم إليها أفرادا مبعثرين ومعزولين.
وإذا كانت مرحلة الرئيس حافظ الأسد قد جمعت بين الشمولية والديكتاتورية، فإن مرحلة الأسد
“النظام الشمولي يعتمد على تنظيماتٍ جماهيريةٍ تضم إليها أفرادا مبعثرين ومعزولين”
الابن اختلفت كليا، فقد تراجعت الأيديولوجيا في خطاب السلطة، وتراجعت دولة الاشتراكية ذات التخطيط المركزي، مع الإبقاء على هيمنة سلطوية مركّزة، سرعان ما وجدت في رجال أعمال محدثين فرصةً للتزاوج، نشأت على أثرها أوليغارشية سياسية/ اقتصادية راكمت في رأس المال المالي والسياسي على حساب المجتمع ومؤسسات “الدولة”.
ومع انطلاق الثورة السورية، اختفى ما تبقى من إرث “الدولة” الهجين، وكشفت السلطة عن أنيابها، فالمطلوب تحويل الحراك المدني/ السياسي إلى حراك عسكري/ مليشياوي، وتطلّب الأمر التحالف مع رعاع المجتمع ودهمائه، مع ما يعني ذلك من تفاقم ظاهرة تجسس الناس على بعضهم لإرضاء النظام، وهي إحدى أهم صفات هذا النوع من الأنظمة، يقول الأميركيان كارل فريدريك وزبغنيو بريجنسكي.
وقد بينت أحداث الثورة أن سورية لم تعرف في ظل نظام البعث معنى الدولة بالمعنى الحديث STATE، وإنما عرفت الـ ESTATE أو STATUS بالمعنى القروسطي الأوروبي التي تشير إلى وضعية الحاكم، وليس إلى الدولة ذات الشخصية المعنوية، وقد نجمت عن ذلك عقيدة LEGIBUS SPLUTUS، أي ما يرضي الأمير يكون له قوة القانون. غير أن الفرق بين التجربتين، القروسطية والسورية، إن صحت الاستعارة، هو أنه في الحالة الأولى لم تكن ثمّة تفرقة بين عقيدة ما يرضي الأمير وما يرضي الشعب، بخلاف الواقع السوري. وهذا ما يفسر إظهار النظام أخيرا، عبر عملائه المحليين، أن الأسد وحده القادر على إنهاء معاناة الشعب السوري وأزماته المعيشية، فما يرضى به الأمير يجب أن يرضى به الجمهور.
العربي الجديد