صورة الصراع السوري في الإعلام التركي/ بكر صدقي
لا تهتم وسائل الإعلام التركية بموضوع الصراع الدائر في سوريا، إلا من زاوية دور تركيا فيه، وانعكاساته عليها. ربما كان هذا من طبيعة الأمور، فالإعلام هو مرآة للرأي العام المحلي، ويهتم، عموماً بالشؤون الوطنية، لولا أن ما جرى ويجري في سوريا هو حدث، أو أحداث، تفيض عن سوريتها لتصبح مشكلة عالمية بأبعادها السياسية والاستراتيجية والإنسانية والثقافية. فالاهتمام بالموضوع السوري لا يقتصر على دول الجوار أو الدول المنخرطة في الصراع أو المتأثرة بنتائجه فقط. بل إن المأساة السورية هي مأساة العصر الإنسانية، إضافة إلى ما تسببت به من سيولة في العلاقات الدولية، من تغييرات مفاجئة في المواقف والتحالفات، وبحث عن تسويات وصفقات، وهواجس مستقبلية تعني كل المجتمع الدولي.
لذلك يظهر المنظور المحلي جداً لاهتمام الإعلام التركي بالصراع في الجارة الجنوبية ومستتبعاته، ضيق الأفق بصورة غريبة. فهو يختزل إلى موقفين كبيرين: موقف الإعلام الموالي للحكم، وموقف الإعلام المعارض. ويمكن القول إن مساحة الثاني قد تقلصت، إلى حد كبير، في السنوات الأخيرة، بفعل سياسة التضييق الحكومية عليه، في حين احتل الإعلام الموالي معظم المشهد الإعلامي.
الغريب، بالنسبة لموضوع سوريا، هو أن الإعلام التركي يكاد يخلو من متابعة جدية للصراع في سوريا، فيبقى الرأي العام على جهل مطبق بمفرداته وتطوراته. ذلك أن الإعلام الموالي يوحي، في تعاطيه مع الصراع في سوريا، وكأنه يخفي أمراً مثيراً للخجل يستحسن عدم تسليط الأضواء عليه. فتبقى الساحة لعدد محدود من «الخبراء» بالشأن السوري، يصدف أن نظرتهم شديدة الانحياز لموقف النظام الكيماوي في دمشق. ترى هل ينبع ذلك من كونهم معارضين للحكومة التركية (يساريين علمانيين) أم أن هناك جهداً من النظام وحلفائه وراء ما يكتبون ويقولون؟ ما يوحي بهذا الاحتمال هو أنهم «خبراء» فعلاً، إلى درجة مقبولة، من خلال معرفتهم بأدق تفاصيل المعارك والمواقع الجغرافية والفصائل العسكرية ومواقف الأطراف السياسية وأسماء ممثليها وغيرها من التفاصيل التي تضفي على تحليلاتهم المنحازة مصداقية يفتقد إليها الإعلام الموالي.
لنقرأ هذا «التحليل» للكاتب آكدوغان أوزكان، في تشرين الأول/أكتوبر 2016، في زمن احتدام معركة النظام لغزو شرقي حلب المحاصر:
«الجهاديون محاصرون في شرقي حلب. الجيش العربي السوري المدعوم من روسيا في آخر مراحل حملته العسكرية لتطهير تلك المنطقة. لذلك فإن الولايات المتحدة المساندة للجهاديين هي في حالة هزيمة. هذا هو سبب تصاعد التوتر بينها وبين روسيا. فقد سقط تماماً هدف إدارة أوباما المتمثل في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد وتسليم السلطة لجبهة النصرة التي هي الفرع السوري لمنظمة القاعدة. وذلك بفضل المقاومة القوية لروسيا وسوريا»
ليست كل «تحليلات» أوزكان بهذه الفجاجة الجديرة بتلفزيون أو صحف نظام الأسد. بل كثيراً ما نراه يحلل المشهد العسكري والسياسي بشيء من الموضوعية، والأهم من ذلك بمعرفة مقبولة بموضوعه. وهذا ما يمنحه المصداقية في نظر القارئ. لكن المقطع أعلاه يعكس موقفه عارياً من كل شيء. ففي شرق حلب جهاديون فقط يتبعون منظمة القاعدة. لا حاجة بالكاتب لقول المزيد عن هذه المنظمة التي تكفل الغرب وإعلامه، فضلاً عن مسالك المنظمة نفسها، بشيطنتها، منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001 على الأقل. ليس هناك مدنيون في حلب الشرقية ولا مقاتلون محليون لا علاقة لهم بالجهاد، فكرياً أو تنظيمياً، ولا أطفال غير معنيين بكل الصراع. هناك فقط جهاديون و«مدعومون من إدارة أوباما»! التي تريد تنصيبهم على السلطة في دمشق بعد الإطاحة بـ«الرئيس السوري»! ربما جريدة «الأخبار» التابعة لحزب الله نفسها تخجل من تصوير الأمور بهذه الأكاذيب الفجة. لكن القارئ التركي العام المحروم من أي معلومات بشأن الصراع السوري يمكنه تصديق هذه الترهات، وخاصة إذا كانت صادرة عن «محلل» مطلع حقاً على تفاصيل موضوعه. لقد تمت شيطنة المعارضة بوصفها بالمجاهدين، وهو ما سيجد سوقاً رائجة لدى خصوم الإسلام السياسي في تركيا، وكذلك من خلال كذبة دعم الإدارة الأمريكية لهم، وهو ما يجد سوقاً رائجة، أوسع من الأولى، تضم كل الطيف المعادي لأمريكا في المجتمع التركي، يشمل إلى بقايا اليسار المنقرض، القوميين والإسلاميين كذلك.
الموضوع الآخر الذي يجد صداه في الإعلام التركي، بخصوص سوريا، هو موضوع اللاجئين السوريين الذين تجاوز عددهم ثلاثة ملايين و600 ألف. تحت عنوان «ماذا يحدث في غازي عنتاب؟» كتب الصحافي برهان جولاق، من يومية «يني جاغ»، قبل أسابيع قليلة، عن حادثة، ربما هي الأولى من نوعها، عن اعتداء شبان سوريين على شابين تركيين في أحد الأحياء الشعبية في المدينة التي تستضيف 400 ألف لاجئ سوري. في حين كانت الصحف التركية تتجاهل، عموماً، حوادث اعتداءات متكررة ضد لاجئين سوريين، في المدينة نفسها ومدن أخرى، أو تنقلها بلغة محايدة وباردة. كتب جولاق بلغة حماسية تحريضية صورت اللاجئين السوريين، عموماً، كما لو كانوا مجرمين بطبيعتهم، في حين يعاني المجتمع المحلي المسالم من تجاوزاتهم التي وصلت درجة القتل.
في السابق كان الإعلام المعارض للحكومة يصور اللاجئ السوري على أنه يملأ الفضاء العام ضجيجاً ووسخاً، يتحرش بالفتيات التركيات، وهرب من الحرب في بلده ليقاتل الجندي التركي بدلاً منه، ويستولي على المساعدات الحكومية وفرص العمل على حساب المحتاجين من المواطنين الأتراك، فضلاً عن أن الحكومة تمنحهم الجنسية ليصوتوا في الانتخابات لمصلحة الحزب الحاكم.
مع حادثة غازي عنتاب المذكورة أعلاه، بات اللاجئ السوري خطراً على أمن المواطن التركي، على الأقل في رأي كاتب «يني جاغ». الغريب في الأمر أن الإعلام الموالي يبدو ضعيفاً أمام وجهة النظر «المعارضة» بشأن الصراع الأساسي في سوريا أو موضوع اللاجئين على السواء. الحكومة نفسها، بدلاً من اتخاذ موقف إيجابي يملك، عموماً، مقومات أخلاقية قوية بشأنه، في كلا موضوعي الصراع واللاجئين، نراها في موقف دفاعي ضعيف. إلا في ما يتعلق بالموضوع الكردي، سواء في سوريا أو داخل تركيا، فهنا تتنمر الحكومة على معارضيها بالصوت العالي والإجراءات القاسية. أما أكاذيب من نوع أن كل المعارضة السورية المسلحة تتألف من جهاديين أو أنهم مدعومون من واشنطن، فلا نجد رداً عليها. وكذا في ما يتعلق بمشكلات اللاجئين السوريين ومواقف المعارضة منها. لا مفر، أمام هذه المفارقات، من البحث عن تفسيرها في الحسابات الانتخابية.
كاتب سوري
القدس العربي