واشنطن ستنسحب من سوريا بعد انتهاء مهمة توزيع الأدوار/ رانيا مصطفى
نجح صقور الإدارة الأميركية في التريّث بالانسحاب من سوريا، بعد أن أعلنَه الرئيس دونالد ترامب فوريا وكاملا في تغريدته في 19 ديسمبر من العام الماضي. ثم وجّه مجلس الشيوخ الأميركي الخميس الماضي ضربة موجعة لترامب بالتصويت بأغلبية ساحقة على تعديل قانوني غير ملزم يعارض قرار الانسحاب من أفغانستان وسوريا. فيما يسعى المستشار الأمني جون بولتون إلى فرض خطّة بالبقاء في قاعدة التنف على الحدود السورية الأردنية العراقية، لضبط انتقال الميليشيات الإيرانية والعراقية الداعمة للنظام، وفق ما ذكرت صحيفة فورين بوليسي الأميركية.
الجدلية الدائرة حول القرار ضمن دوائر الإدارة الأميركية الأمنية والتشريعية والدبلوماسية، ومع الديمقراطيين، وضمن الحزب الجمهوري نفسه، تُظهر أنّ الخلافات لم تكن حول جذر القرار، بل حول توقيته وكيفية تطبيقه؛ إذ أن هذا الانسحاب كان ضمن استراتيجية الولايات المتحدة العامة، منذ قرار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما التدخل على رأس تحالف دولي لمحاربة داعش، في النصف الثاني من عام 2014.
يمكن وصف سياسة ترامب بالشعبوية، لرجل الصفقات الذي يعشق الظهور الإعلامي، خاصة في ما يتعلق بوعوده الانتخابية بالانكفاء الأميركي وسلسلة من الانسحابات من الاتفاقات الدولية، والانقلاب على سياسات أوباما.
لكنه لا يستطيع الخروج عن هامش استراتيجية أميركية عامة، وعن عقائد المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية الثابتة. فمن الواضح أن أولويات السياسة الأميركية في العقد القادم تتجه نحو شرق آسيا، لتعزيز أسطولها العسكري في الباسيفيك، ومواجهة خطر الصين الاقتصادي. لكن تراجع اهتمامها بالشرق الأوسط لا يعني التخلي عن مصالحها فيه، والتي تتركز في العراق والخليج العربي، حيث تقيم قواعدها العسكرية، وبضرورة الحفاظ على أمن إسرائيل، وتحجيم دور الدول التي اختارتها لملء الفراغ في دولٍ ليست لها مصالح كبيرة فيها، مثل سوريا.
ورغم أن نظام الأسدين، الأب والابن، دأب على إعلان العداء لأميركا إلا أن الإدارات الأميركية المتعاقبة، باستثناء إدارة بوش الابن، كانت راضية عن دوره في المنطقة، وتحالفت معه في أكثر ملف، وعقدت معه اتفاقيات استثمار النفط. لكنّ اندلاع الثورة السورية بزخم واسع جعل إدارة أوباما تتأهب للعب دور الشرطي في توجيه مجريات الأمور في سوريا.
ورغم تصريحات باراك أوباما وهيلاري كلينتون النارية بضرورة رحيل الأسد، إلا أن السياسة الأميركية كانت تتجه نحو استمراره في قمع الثورة السورية، وكانت راضية عن مسرحيات الفيتو الروسي – الصيني المتكررة لقرارات مجلس الأمن. بل وعقدت مع روسيا اتفاق جنيف في سنة 2012، إقرارا منها بأن سوريا منطقة نفوذ روسية، وكانت استراتيجيتها اللاحقة في سوريا هي لتحجيم الدور الروسي، وليس لإلغائه، وعدم إعطاء تركيا حصة كبيرة من سوريا، وكان لها موقف داعم لكل اتفاقيات المقايضة التي عقدتها روسيا مع تركيا في سوريا، في حلب وجرابلس والغوطة الشرقية وعفرين، وتخلّت عن كتائب الموك في الجنوب، لمصلحة النفوذ الروسي، وضغطت بخطوطها الحمر، لنجاح اتفاق المنطقة العازلة في إدلب، لكنها أيضا قصفت القوات التابعة لروسيا حين حاولت عبور نهر الفرات دون رضاها.
وفي 2013 رفضت واشنطن طلب أنقرة بتشكيل منطقة آمنة في الشمال من حلف الناتو لإيواء المهجّرين، لأن مثل هذه الخطوة ستمكّن المعارضة من الإطاحة بنظام الأسد، وستعطي تركيا حصة أكبر في سوريا، كونها الداعم الأساسي لهذه المعارضة؛ واليوم واشنطن على وشك الموافقة على هذه الخطوة بعد إخماد الثورة السورية وتحجيم الدور التركي بسبب هاجسه من التمدّد الكردي الذي دعمته أميركا.
وفي الأصل صادرت الولايات المتحدة إمكانية حصول الجيش الحر على التسليح، بإجبار الدول الداعمة للمعارضة على تقديم السلاح عبر غرفتي الموك والموم للكتائب المعتدلة، وتقنين هذا التسليح ثم إيقافه، دون محاولة جدية لمنع وصوله إلى الكتائب الإسلامية.
وهنا يبرز خطأ المعارضة السورية، المستمر إلى الآن، في التعويل على دور أميركي – أوروبي – تركي لإسقاط النظام، على غرار ليبيا أو العراق، حيث أن “غوغائيتها” منعتها من قراءة الاستراتيجية الأميركية في سوريا والمنطقة.
تنامى تنظيم الدولة الإسلامية وتمدّد من العراق إلى سوريا في ظروف غامضة ومفاجئة، ولا يخفى على أحد الدور الاستخباراتي لدول عديدة، والمتغلغل في قيادات الصف الأول والثاني للتنظيم. وإذا كان التنظيم حجّة لتدخل الولايات المتحدة على رأس تحالف دولي، فهذا لا يلغي حقيقة أن عليها محاربته بجدّية لمنع تمدده وانفلاته وعودته بالوقت الحاضر؛ فالولايات المتحدة تريد استقرار المنطقة، بعد إخماد الثورات، لضمان مصالحها في العراق، وفي الخليج العربي، ولضمان أمن إسرائيل، ولكنها تريده استقرارا يبقيها ممسكة بمفاتيحه.
تحجيم إيران في سوريا مطلب عربي وإسرائيلي ملحّ تستغله روسيا لتقوية حلفها مع العرب وإعادة تعويم النظام السوري، فيما تسمح لإسرائيل بمواصلة قصفها للمواقع الإيرانية على الأراضي السورية.
ورغم أن واشنطن صرّحت مرارا بشرط إخراج القوات الإيرانية من سوريا، وتسعى لعقد مؤتمر وارسو ضمن خطّتها لتشكيل حلف عربي أوروبي ضد التوغل الإيراني في سوريا واليمن وغيرهما، إلا أن الوقائع تقول إنه ليس من أولوياتها.
تدخل الميليشيات الإيرانية وتخرج عبر الحدود العراقية على مرأى من القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة التنف، وهي لم ترفض الدعم الإيراني لنظام الأسد، وتكتفي بالعقوبات الاقتصادية على إيران.
التواجد الإيراني في سوريا بات ورقة ابتزاز أميركية في وجه حلفائها الراغبين بخروج إيران؛ والقولُ بتحجيمه هو ورقة ضغط على إيران نفسها، ربما للتوصل إلى اتفاق نووي بشروط جديدة، بعد أن ترك ترامب الباب مفتوحا أمام إيران ودول أوروبا لهذا الاحتمال.
تفضلّ الولايات المتحدة إرساء الاستقرار في سوريا، وهي تمسك بكل ملفات الصراع المعقدة والمتشابكة، رغم جديتها في الانسحاب عاجلا أم آجلا؛ لكنها في الوقت عينه تُعدّ لفرض قانون قيصر، والذي سيفرض على النظام الدخول في مرحلة استنزاف بسبب عزلته والحصار الاقتصادي الذي سينتج عن القانون، ما سيجبر روسيا على القبول بتغيير سياسي، كشرط أساسي لدخول المجتمع الدولي في مشاريع إعادة الإعمار.
كاتبة سورية
العرب