المنطقة العازلة شرق الفرات: الدبلوماسية والبنادق/ فراس علاوي
يستمر الحراك الدبلوماسي الذي تشهده أربعة عواصم إقليمية وعالمية، هي أربيل وأنقرة وموسكو وواشنطن، وعنوانه الأبرز المنطقة العازلة أو الآمنة في شرق الفرات، أو المنطقة الأمنية وفق التسمية الأحدث، التي تتحدث تسريبات عن أن أنقرة تريد اعتمادها لتكون تعبيراً عن الدور الأساسي الذي تأمله من هذه المنطقة، وهو إبعاد مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية عن حدودها لضمان «أمنها القومي».
وليس هذا العنوان على تعدد مسمياته هو القاسم المشترك الوحيد لهذا الحراك، بل أيضاً البروز المتكرر لاسم أحمد عاصي عوينان الجربا، رئيس تيار الغد السوري، والرئيس السابق للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في سوريا، الذي تتحدث الأنباء عن توجهه إلى موسكو خلال اليومين القادمين، لإطلاع المسؤولين الروس على خطته بخصوص منطقة شرق الفرات، التي تبلورت بعد زياراته المتكررة إلى كردستان العراق وتركيا والولايات المتحدة.
وكان الإعلان الأميركي عن الانسحاب من شرق الفرات قد جاء نقطة تحول في مسار التوتر الذي كان يسود المنطقة، جراء التهديدات التركية بشن عملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات، إذ بدأت جميع الأطراف بإعادة حساباتها على أساس هذا التطور الجديد، ومن بينها تركيا، التي أعلنت تأجيل عملياتها لحين التفاهم مع الأميركيين على ترتيبات ما بعد الانسحاب، مواصلة في الوقت نفسه تصعيدها الدبلوماسي والكلامي، وحشد قواتها وقوات فصائل سورية موالية لها على خطوط التماس مع مناطق سيطرة قسد.
وتحاول الحكومة التركية الضغط على الأميركيين لإنجاز اتفاق يؤدي إلى إبعاد مقاتلي وحدات حماية الشعب عن حدودها، فيما يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة لا تريد التخلي عن حليفها الكردي، وفي الوقت نفسه لا تريد إغضاب أنقرة، فاتجهت الإدارة الأميركية إلى إمساك العصا من المنتصف، ليولد طرح المنطقة الآمنة كحل وسط يجنب المنطقة الصدام العسكري الذي يبدو أن أحداً لا يريده.
من جهتها، تلقفت روسيا الغضب التركي من التلكؤ الأميركي بخصوص تنفيذ اتفاق منبج، وبخصوص ملف شرق الفرات، لتعمل على تعويم نظام الأسد من خلال تسويق اتفاق أضنة الموقع سابقاً بين حافظ الأسد وتركيا، والذي يسمح للأتراك بالدخول إلى العمق السوري لحماية أمنهم القومي، ليكون تنفيذه بديلاً عن طرح المنطقة الآمنة. وقد تحدثت أنباء عن زيارة أمنية لضباط أتراك إلى موسكو للقاء نظرائهم في نظام الأسد برعاية روسية، بهدف البحث في تفعيل اتفاقية أضنة.
يستغل الأتراك هذه الطروحات الروسية للضغط على الأميركيين، ويتركون الباب موارباً في الوقت نفسه لخطة باتت تحمل إعلامياً اسم «خطة الجربا»، وتتضمن العمل على إيجاد قوات بديلة على الأرض، تشكل عازلاً بين الحدود التركية ومناطق سيطرة المعارضة السورية المدعومة تركياً من جهة، وبين مقاتلي قوات سوريا الديموقراطية التي تشكل وحدات حماية الشعب نواتها الأساسية من جهة أخرى. ويفترض أن تنتشر هذه القوات على طول المنطقة المحاذية للحدود التركية السورية، من فش خابور على نهر دجلة في أقصى الشرق السوري، وصولاً إلى أطراف جرابلس على نهر الفرات، بحيث تنتشر القوات العربية في المدن والمناطق ذات الكثافة العربية، فيما تنتشر قوات كردية في مناطق ذات كثافة كردية.
وكان مسؤولون أتراك قد تحدثوا عن توافق أميركي- تركي على إقامة منطقة آمنة بعمق 20 ميلاً (28-30) كم، خالية من القوات والقواعد الأمريكية، وعن إبعاد سبعة آلاف مقاتل لقوات سوريا الديموقراطية إلى الداخل السوري، وهو ما لم يعلّق عليه الجانب الأميركي نفياً أو تأكيداً حتى الآن. أما الجهة التي ستملأ الفراغ الناشئ على الأرض، فهي حسب الخطة التي يحاول الجربا تسويقها من خلال زياراته المكوكية، قوات النخبة، الذراع العسكري لتيار الغد الذي يرأسه الجربا، وقوات بيشمركة روج آفا الكردية.
كانت قوات النخبة قد تأسست في ربيع 2016، وسيطرت على قرى بادية أبو خشب ومالحة الذرو ورجعان وأم مدفع في ريفي محافظة الحسكة ومحافظة دير الزور بعد معارك مع تنظيم داعش. وتتكون هذه القوات من نحو ثلاثة آلاف مقاتل من أبناء القبائل العربية في شمال شرق سوريا، قاتلوا إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة. ورغم الدور المهم الذي لعبته هذه القوات في معارك مدينة الرقة، إلا أن خلافات بينها وبين قيادة قسد، أدت إلى تجميد عملها، حتى أنها لم تشارك في معارك دير الزور لاحقاً. ويحظى تيار الجربا بدعم مصري وإماراتي وسعودي، وهو مقبول أميركياً أيضاً، كما أن اتصالات مستمرة جمعته بالجانب الروسي، ويبدو واضحاً أن الجربا يسعى لأن يكون مقبولاً من جميع الأطراف، بما فيها تركيا، ما سيؤدي إلى منحه دوراً سياسياً وعسكرياً وأمنياً مهماً في المنطقة.
أما بيشمركا روج آفا فهي قوة تتكون من مقاتلين أكراد سوريين، يتبعون للمجلس الوطني الكردي، المنضوي في ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، وقد تلقوا تدريباتهم في أربيل على يد البيشمركة الكردية العراقية. وهي قوات مقبولة تركياً بسبب موقفها المناهض لوحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي، ويترواح تعدادها ما بين 8 آلاف و12 ألف مقاتل.
ولا تحظى هذه الخطة بقبول قوات سوريا الديمقراطية حتى الآن، التي تحاول الضغط على الطرفين التركي والأميركي من خلال إجراء مباحثات مع موسكو والنظام في دمشق، بهدف التعاون معهما لمواجهة التهديدات التركية في حال تم تنفيذ الانسحاب الأميركي فعلاً. وقد شهد الموقف الحاد لقوات سوريا الديمقراطية تراجعاً خلال الأيام الماضية، بعد زيارة إلهام أحمد، رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطي، إلى واشنطن أواخر الشهر الماضي، والتي أعلنت أثناءها عن استعداد قسد للحوار مع أنقرة بخصوص منطقة شرق الفرات، وهو ما يبدو ناتجاً عن ضغط أميركي للقبول بالمنطقة العازلة، وخطط نشر قوات بديلة فيها.
وكانت هذه الخطة أيضاً محوراً للزيارة التي قام بها أعضاء في هيئة التفاوض السورية المعارضة لأربيل أول الشهر الجاري، والتي التقوا خلالها بالمسؤولين في إقليم كردستان العراق، الأمر الذي أكده عضو هيئة المفاوضات قاسم الخطيب، العضو في تيار المستقبل الكردي أيضاً، الذي تكلم عن مناقشة خطة انتشار قوات النخبة وبيشمركة روج آفا في المنطقة العازلة أثناء الزيارة. وهو ما يمكن اعتباره موافقة تركية ضمنية أولية على الخطة المطروحة، باعتبار أن أياً من مكونات الائتلاف المعارض، لا يمكنها القيام بتحركات كهذه إذا كانت تعارضها أنقرة.
هكذا، يبدو أن الخطوط العامة للمنطقة الأمنية في شرق الفرات قد باتت واضحة، وأن أحمد الجربا يقترب من هدفه في أن يكون محط إجماع جميع الأطراف الفاعلة في المسألة السورية، لكن الخلافات لا تزال مستمرة حول التفاصيل والترتيبات المباشرة على الأرض. ويبقى مصير هذه الخلافات رهناً بما سيرشح عن نتائج الاجتماعات الأمنية المستمرة بين الأمريكيين والأتراك، وبما سينتج عن اللقاء الثلاثي الذي سيجمع قادة تركيا وإيران وروسيا في الرابع عشر من الشهر الجاري لمناقشة الوضع السوري.
موقع الجمهورية