أمريكا إذا تابت!/ عمر قدور
في أول رد غير مباشر للرئيس الإيراني حسن روحاني على خطاب الاتحاد الذي ألقاه ترامب أعلن الأول أن نهج نظامه يقوم على بناء علاقات ودية مع العالم بأسره، وحتى مع أمريكا إذا تابت، واعتذرت عن تدخلاتها السابقة في إيران، وأبدت استعدادها للاعتراف بعظمة ورفعة الأمة الإيرانية وثورتها الإسلامية العظيمة. يبقى من الاقتباس أن روحاني أبدى تسامحاً بتعبيره عن الاستعداد الدائم لقبول توبة أمريكا رغم الظلم الذي تسببت به خلال سنوات! من جانبه أوضح المرشد خامنئي، لمناسبة انتصار ثورة الملالي أيضاً، أن شعار “الموت لأمريكا” يستهدف تحديداً الموت للقلة التي تدير هذا البلد ولا علاقة لها بالأمريكيين، من أمثال ترامب وبولتون وبومبيو، أي الموت لقادة أمريكا!
نحن إذاً في انتظار تلك التوبة، إذا حدثت، وينبغي انتظارها من قلة فالتة وشريرة تتحكم بالأمريكيين البسطاء والسُذّج. القيادة الأمريكية وفق هذا الخطاب هي التي لم تُنتخب من الشعب الأمريكي، بصرف النظر عمّا شاب الانتخابات الأمريكية الأخيرة من طعون، وليس المرشد الذي يقدّم نفسه وكيلاً عن الإمام الغائب. ولعل استرجاع بعض اللمحات من خطاب ترامب في الكونغرس، بصرف النظر عن رأينا بترامب أيضاً، يعطي فكرة عن المسافة الضوئية التي تفصل بين العدوين. ترامب تباهى محقاً بقوة أمريكا، وذكر أرقاماً في الاقتصاد تُعدّ فلكية مقارنة بالعديد من الدول الثرية لا بالاقتصاد الإيراني المتعثر، وذكر أرقاماً تخص الموازنة العسكرية يصعب مقارنتها بنظيراتها لدى دول تُعدّ دولاً عظمى قياساً إلى إيران.
مما قاله ترامب في خطابه عن حالة الاتحاد أن الأمم العظمى لا تخوض حروباً طويلة الأمد، وترجمة ذلك أنها لا تدخل في حروب استنزاف ولا تضحي بأبنائها أو باقتصادها. بالطبع يتحدث ترامب من موقع القوي القادر على خوض الصراعات بطرق أخرى. أما القيادة الإيرانية، وأمثالها في المنطقة، فحسابات الربح والخسارة لديها تتعلق أولاً بقدرة النظام على البقاء، وبتدعيم قوة النظام عبر القمع بحيث لا يمكن إسقاطه أو تغييره سوى عن طريق القوة. هذا في المقام الأول ما يجعل صوت حكام طهران عالياً ومستهتراً بالعقوبات الاقتصادية، طالما أنها أثّرت وستؤثر على الشعب الإيراني المسحوق أصلاً.
السياسة الأمريكية الحالية تستأنف سياسة أوباما الانسحابية من المنطقة، إلا أنها تتميز عنها بجانبين؛ محاصرة إيران اقتصادياً على نحو غير مسبوق، واستعادة سباق التسلح الذي كان قد توقف مع انهيار الاتحاد السوفيتي. من الخطأ الظن أن هذه السياسة تعبّر فقط عن جنوح ترامبي، فهي تتوافق تماماً مع السياسة التقليدية للجمهوريين، ويمكن القول بأن آثارها بعيدة المدى شبه مضمونة. لقد جُرّبت من قبل ورأينا كيف أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي، ورأينا أيضاً المأساة التي تسببت بها العقوبات للشعب العراقي، من دون نسيان آثارها على نظام صدام ككل الذي فقد مكامن قوته تدريجياً.
نعم، هناك حرية حركة لأنشطة فيلق القدس، وقد تبقى موجودة. هذا لا يعدو كونه تفصيلاً صغيراً تستطيع طهران المباهاة به، لكن نعلم أن حركة تهريب الأسلحة عبر سوريا تٌستنزف أيضاً بالضربات الإسرائيلية. في ميزان الربح والخسارة العقلاني؛ لا تقارن كلفة القصف الجوي الإسرائيلي بنظيرتها الإيرانية من حيث كلفة تصنيع السلاح وشحنه وتهريبه، ثم تدمير ما تطاله القذائف الإسرائيلية منه. وفي وسع أي عاقل ملمّ بالتوازنات الدولية معرفة مآل أي تهديد جدي لإسرائيل، عبر ما يصل من شحنات الأسلحة إلى وجهته في لبنان، أو لا يحتاج ذلك الكثير من الجهد العقلي لأن خطابات المقاومة والممانعة نفسها تتحدث عن إسرائيل كمحمية غربية، إذا تجاوزنا التفوق العسكري الإسرائيلي الذاتي.
يستطيع مسؤولو إيران التفاخر بسيطرتهم على أربع عواصم عربية، أما ميزان الربح والخسارة الذي يهم المواطن الإيراني فيقول كلاماً آخر. إذ ليس هناك ربح مُنتظَر من الإنفاق على حرب استنزاف في بلد فقير مثل اليمن، وبالمثل لا يمكن انتظار عوائد مماثلة للأموال التي أُنفقت من أجل إبقاء بشار الأسد على خرائب بحاجة إلى حوالي نصف تريليون دولار لتعود كما كانت من قبل، ولا عائدات منتظرة تقابل ما أُنفق على حزب الله منذ إنشائه حتى الآن. الكلام عن التعويض بنفوذ استراتيجي لا يعوض واقعياً تلك المليارات التي أُنفقت، وحدود التوسع الإيراني محكومة أصلاً بمنافسين دوليين وإقليميين ذوي إمكانيات لا يُستهان بها على مختلف الأصعدة.
ربما علينا التذكير بأن الشكل الكلاسيكي للاستعمار قام أصلاً على محركات اقتصادية، وقسم كبير من أسباب انتهائه أتى لانتفاء الدوافع الاقتصادية ذاتها، أو بعد أن بات تحقيقها يمر بطرق مختلفة. التذكير يبدو ضرورياً للمقارنة مع النزوع التوسعي لأنظمة المنطقة، وهو نزوع تسنده العسكرة والمغامرة، ويكون مكلفاً اقتصادياً، أو بالأحرى كارثياً على المدى المتوسط والبعيد. الدرس الذي لا يريد قادة طهران الاستفادة منه هو أن القدرة على التوسع لا تعني تلقائياً القيام به، وإلا كنا أمام موجات استعمارية من دول لديها إمكانيات أعلى، وإلا ما كنا لنجد الغرب قد طوى إلى غير رجعة صفحة الاستعمار.
على نحو يوافق ما يتمناه نظام الملالي، لقد قدّمت السياسات الأمريكية خدمات جليلة له. بفضلها تخلصت طهران من حكم صدام وسيطرت على العراق، وبفضلها تخلصت من حكم طالبان على الجهة المقابلة، ولم تتخذ الإدارات الأمريكية موقفاً حازماً إزاء دعم الحوثيين في اليمن، أو دعم حزب الله من قبل، وسهّلت “بل تواطأت على” إدخال الميليشيات الشيعية لقتل السوريين. والحق أن نظام الملالي كان يضمر السعادة بالهدايا الأمريكية المتتالية، بينما يواظب إعلامياً على إظهار العداء لأمريكا، وإذا كان هذا النظام يتمتع بازدواجية فليس هناك ما يمنع الازدواجية عن السياسات الأمريكية، ومنها تقديم هدايا مسمومة للآخرين.
المدن