ماذا يريد بوتين حقّاً في سوريا؟/ ديمتري فرولوفسكي
لَم تسعَ روسيا أبداً إلى لعب دور المصلح الثانوي في الشرق الأوسط، بل كان هدفها استعادة وضعها كصانعِ قرار عالميٍّ.
حصلت روسيا على أفضل هدية يمكن توقعها من إدارة ترامب قُبيل عيد الميلاد مباشرة، وهي تشعر الآن بأنها طليقة اليدين لتحديد مستقبل حليفها الشرق – أوسطيّ الذي يمر بوضعٍ صعب. وفي ظل استعدادات الولايات المتحدة للخروج من النزاع السوري، لن تتغيّر استراتيجية الكرملين كثيراً؛ لأنّ تدخّلها لم يكن حول سوريا منذ بداية النزاع، فلطالما تمثّل هدف الكرملين في توسيع نطاق آثار الحملة الروسية في سوريا إلى خارج حدود منطقة الشرق الأوسط.
كان يُنظر دائماً إلى النزاع في المنطقة باعتباره أداة لاستعراض الطموحات الذاتية التي تكرّس وضع روسيا كقوة عالمية. وتعتبر موسكو أن انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من سوريا انتصاراً لها، ويعزّز رأسمالها السياسي إلى حدٍ كبيرٍ، ويمكنه أيضاً أن يسمح لموسكو بالتواصل مع القادة الأوروبيّين في فرنسا وألمانيا، وكذلك مع قائد السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، من خلال إقناعهم بتبني تصورهم الخاص للتسوية السياسية.
شنّت روسيا غاراتها الجوية بشكلٍ رسمي في سوريا في أيلول/ سبتمبر 2015، وفي الوقت نفسه، رافقت محاولات موسكو الصارمة لتضييق الخناق على شرق أوكرانيا، موجاتٌ من العقوبات سرعان ما تسبّبت في انهيار رأس المال السياسي الدولي للكرملين. وعلى رغم محاولاتها الحثيثة للبروز كأكبر عائق في العالم ومضايقة خطط العالم الغربي عند كل منعطف استراتيجي، كان هدف موسكو الحقيقي هو كسب نفوذٍ كافٍ لاستعادة مكانة روسيا ومواجهة العالم الغربي على قدم المساواة.
كانت أوكرانيا قضية خاسرة. وفقاً لميخائيل زيغار، المحرر السابق لقناة روسيا الإخبارية التلفزيونية المستقلة، Rain، حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عام 2008 أثناء قمة الناتو من أنه “إذا انضمّت أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ستفعل ذلك من دون شبه جزيرة القرم والمناطق الشرقية، وبكل بساطة ستتفكّك وتنهار”. لم يكن وارداً أبداً أن يسمح الكرملين بتقديم تنازلات عن الجمهوريات السوفييتية السابقة، وكانت طموحاته الدولية تتجاوز دائماً الاكتفاء بوضعية “القوة الإقليمية”، والتي اعتبرَها إهانة لروسيا عندما نطق بها الرئيس الأميركي باراك أوباما.
عندما تدخّلت روسيا في الشرق الأوسط، وجدت سوريا نفسها في حالة من الفوضى العارمة؛ حيث تتقاتل على أراضيها آلاف الجماعات المسلحة، مع بروز تنظيم “الدولة الإسلاميّة” كأكبر بعبع مخيف في العالم. ومع ذلك، ظلّت موسكو تعاني مما يسمَّى “المتلازمة الأفغانية”، التي سبقت انهيار الإمبراطورية السوفييتية. لا تزال أشباح حرب أفغانستان في الثمانينات تحوم في أروقة الكرملين، ولا يريد الروس أن ينتهي بهم المطاف من جديد للغوص في مستنقعٍ آخر في العالم الإسلامي. فعلى رغم أمل السوفييت بتحقيق انتصارٍ سريعٍ بعد الإطاحة بالرئيس الأفغاني حفيظ الله أمين، وإعادة تثبيت القيادة الشيوعية عام 1979، إلّا أنّ الجيش السوفييتي انتهى به الوضع إلى كارثة دامت عقداً من الزمن، فضلاً عن فقدانه حوالى 15 ألف جندي، ونتيجة لذلك، تم التعامل مع أي حملة عسكرية مُحتمَلة في سوريا بحذرٍ شديدٍ. وعلى رغم أن التدخل في سوريا كان بمثابة مقامرة غير محسومة العواقب، إلا أن الفوائد المرجَّحة فاقَت في نهاية المطاف المخاطرَ في نظر الاستراتيجيين في الكرملين.
لقد رأوا في هزيمة تنظيم “الدولة الإسلاميّة” وتزعُّم المبادرة في بناء تسوية سياسية في سوريا فرصةً لترسيخ وضع روسيا كقوّة عالمية. وكانت فرصة القتال إلى جانب الدول الغربية، إضافة إلى علاقات موسكو الخاصة مع النظام السوري وإيران، التي قادت معظم العمليات القتالية على الأرض، تعني أن بإمكان الكرملين تقديم نفسه كطرفٍ يقاتل قوّةً شريرة عالمية، يجسدها تنظيم “الدولة الإسلاميّة”، وفي الوقت نفسه ضمان الحصول على مزايا نسبيّة.
كان البروز كقوة إقليمية هدفاً آخرَ تتوّخاه روسيا. في خطابه أثناء الجلسة العامة للجمعية العموميّة للأمم المتحدة، التي انعقدت قبل يومين فقط من انطلاق الحملة الجوية، منَحَ بوتين روسيا “دورَ المصلح” من خلال توجيه خطابه الشهير للولايات المتحدة سائلاً: “هل تدركون الآن على الأقل ماذا فعلتم؟”.
استشعرَت موسكو الفرصةَ لملء الفراغ في منطقةٍ يتفشى فيها النزاع، وكانت الفرصة تتعاظم كلما زادت خيبة الأمل الأميركية من سياسات التدخل التي اتّبعتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لقد حقّق دور المصلح فوائده، لكن روسيا لم تدخل سوريا لإصلاح الوضع؛ فقد كان قصد بوتين دائماً أن يكون أكثر من مجرد مصلح، كان يريد أن تكون موسكو لاعباً لا يمكن تجاوزه.
لم تكن أعمال روسيا بدافع الانتهازية وحسب، ولا تستند إلى التفكير التكتيكي قصير الأجل فحسب، ولم يكن الهدف في سوريا هو الاستيلاء على ما تبقى، وإنما كان لاستعراض العضلات وبرهنة ما تملكه من قوة.
تبيَّنَ أنّ مقاربة موسكو كانت بمثابة نعمة متخفّية، في ظلّ الوضع المضطرب الذي يشهده الشرق الأوسط. فعندما يقرر شخصٌ واحدٌ في الكرملين -مع مجموعة صغيرة من المساعدين المختارين- كلَّ شيءٍ خلال مكالمة هاتفية، فتلك طريقة مألوفة لتسيير الأمور تتماشى مع طريقة عمل الأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء المنطقة.
بعد ثلاث سنوات من القصف المتواصل، وعلى مدار قمم السنة السابقة في سوتشي (روسيا) وأستانا (كازاخستان)، بات واضحاً أن روسيا كانت تسعى إلى تحقيق تسوية سياسية؛ وتكلّلت مغامراتُها -على ما يبدو- بنتائج إيجابية. وساعدت أعمال الكرملين على ضمان الوصول إلى جميع الأطراف المتنازعة في المنطقة، وأصبح صوت روسيا الآن مسموعاً، بدءاً من أروقة السلطة في طهران والقاهرة، إلى القصور الفارهة في دول الخليج.
وعلى رغم أن الطريق إلى التسوية السياسية وجهود إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع سيكون مَسلَكاً وعراً، إلا أنّ هناك ثقة بأنْ يتمخّض إطارُ عمل أستانا في النهاية عن النتيجة المقبولة للأطراف كافة؛ الأمر الذي جعل الكرملين يشعر بالحاجة إلى بدء تقليص وجوده الإقليمي، والعمل في المقابل على تحقيق مصالحه الأصلية الربحية (زيادة التجارة والرأسمال السياسي الإقليمي) التي يجب أن تكون واضحة لجميع الأطراف في المنطقة.
حتى قبل أن يتخذ ترامب قرارَ الانسحاب من سوريا، كانت موسكو كسبت بالفعل ما يكفي من رأس المال السياسي، واستخدمت نفوذها المتمثل في قوتها الصلبة لتصبح الوسيط الرئيسي – بما يجعلها شريكة للجميع وليست صديقة لأحد. والآن، في ظل انسحاب واشنطن طواعيةً من المعادلة السورية، تظلّ موسكو متيقّظة حيال احتمال عودة الأطراف الفاعلة العنيفة من غير الدول مثل تنظيم “الدولة الإسلاميّة” أو جماعة “النصرة”؛ لكن موسكو تنوي أيضاً تحويل استراتيجيتها العنيدة إلى استراتيجية أكثر انتهازية. من جديد، يسعى الكرملين جاهداً إلى ترسيخ وضعه وتأكيد نفسه كصانع قرار؛ إذ تريد موسكو من دول المنطقة التعاملَ معها كقوّة قادرة على انتهاز الفرص – سواء كان ذلك في مجال الطاقة أو صادرات الأسلحة أو الزراعة- إضافة إلى الحفاظ على توازنٍ أمنيّ ملائم.
هذا المقال مترجم عن موقع Foreign Policy ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
درج