لنمرحْ قليلاً مع بشار -مقالات تناولت الخطاب الأخير له-
لنمرحْ قليلاً مع بشار/ عمر قدور
ظهور بشار الأسد في خطاب لم يعد بالأمر الذي يسترعي الانتباه، والنسبة الأضخم من وسائل الإعلام تجاهلته، وبعضها أشار له في سياق عابر ضمن التغطية الروتينية للحدث السوري. لا تُستبعد، في تفسير التجاهل، صعوبة العثور في متن الخطاب عمّا يمكن اعتباره خبراً جديداً قد يثير انتباه القارئ، ولو كان ذلك على سبيل تصيد أخطائه مثلما يفعل أصحاب المؤامرة الكونية المزعومة.
بالطبع ثمة تفسير نعرفه جميعاً، هو عدم انتظار إطلالة بشار لمعرفة توجهاته، أو بتعبير حيادي منقرض: معرفة توجهات السياسة السورية. تصريح للافروف أو بوغدانوف سيجد صدى أكبر بكثير لما قد يحمله من دلالات حقيقية على التوجه في الملف السوري، أو تصريح لقائد الحرس الثوري رغم بهرجات الخطابة والتوعد بتدمير إسرائيل سيؤخذ بجدية نوعاً ما، أما شخص من طراز قاسم سليماني فمن عادته ترك الخطابات للذين يراهم أقلّ شأناً وتأثيراً في الواقع. لعل هذا الإدراك، الموجود أيضاً لدى شريحة واسعة من المؤيدين، هو أفضل رد على افتراءات بشار في ما يخص السيادة الوطنية، أو افترائه على مفهوم السيادة من أصله.
لا ندري لماذا خرج بشار بخطابه، فالمناسبة نظرياً هي استقباله الفائزين في “انتخابات” الإدارة المحلية، وهي كما نعلم مناسبة جرى اختراعها فقط ليتحدث، إذ لا أحد ينظر بجدية إلى مسرحية الانتخابات أو إلى أولئك الفائزين فيها. تزامنُ الخطاب مع ذكرى أول مظاهرة حدثت في سوريا “وهي مظاهرة الحريقة في دمشق” قد يكون متعمداً، أو هو على الأرجح كذلك، وعليه يكون الخطاب برمته نوعاً من النكاية، وهي وإن لم تكن الأولى من جهته فإن الإصرار عليها يعكس إحساساً بالضعف وشعوراً بالنقص أكثر مما يحمل إحساساً بالقوة والانتصار.
في مظاهرة الحريقة المذكورة نزل يومها وزير الداخلية ليقول للمتظاهرين جملته الشهيرة جداً: عيب يا شباب.. هذه مظاهرة! أما الشعار الذي أطلقه المتظاهرون يومها، وهو الشعار الذي بذل بشار ما في وسعه للتنكيل به، فقد كان: “الشعب السوري ما بينذل” (لا يُذل). وكما هو معلوم لم يوفر بشار طريقة لإذلال السوريين خلال ثماني سنوات إلا واستخدمها أو ابتدعها، بما في ذلك أن يكون ما تبقى منهم تحت قبضته محكوماً من وحشية وفساد قويين عليه وتابعيْن رخيصين لطهران وموسكو.
إننا هنا ندخل في قلب المرح الذي يتسبب به بشار كلما تحدث، ففي خطابه فقرة كاملة نطق بها بتركيز شديد، هي المخصصة لشتم المعارضة. إذ لا يدعو إلى الضحك شيء مثل تلك الجدية التي يتحدث بها عندما يخاطب المعارضين بأقوال من نوع: “أنتم عرضتم أنفسكم منذ البداية ومعكم الوطن للبيع.. ولا أقول عرضتم مبادئكم فأنتم لا تحملون مبادئ أساساً”. أو من قبيل “لكن بعد التجربة من قبل المالكين الجدد وبالرغم من كل عمليات التجميل والتطوير والتعديل لم تحققوا المهام المطلوبة منكم فقرروا بيعكم في سوق التنزيلات… وربما يتم تقديمكم وفوقكم رزمة من المال ولن يقبل بكم أحد لكن بيعكم تم من دون الوطن لأن الوطن له مالكون حقيقيون لا لصوص”.
المرح مع الكلام المقتبس أعلاه لا يبدأ من الركاكة اللغوية، لأننا قد ألِفنا من صاحبها ما هو أكثر ركاكة. يجوز لنا أن نبدأ، ولو اعتباطاً من اتهامه المعارضين بأنهم لصوص، إذ وفق كلامه في الفقرة ذاتها هم باعوا أنفسهم، بينما تُقدّر ثروة أسرته وفق تقرير قديم لمجلة فوربس “المتخصصة بمتابعة ثروات المشاهير والزعماء” بمئة واثنين وثلاثين مليار دولار، ولا حاجة لتوضيح مصدر هذه الثروة، لأن أباه من قبل تحدث مراراً عن نشأته في أسرة أقرب إلى الفقر، بل في أسرة لا تملك حتى ثلاجة السيسي الشهيرة الفارغة إلا من الماء.
لندعْ جانباً البلاغة التقليدية عن تلك التي تحاضر بالشرف، المفارقة ليست هنا، إنها في التصويب مع كل إطلالة على أموال قبضها معارضون، وكأن دافع الكلام غصّةٌ مبعثها الحسد والغيظ في المقام الأول. ومن دون أن ننكر وجود فاسدين في صفوف المعارضة، سيتسلل المرح من المفاضلة التي يفرضها الخطاب نفسه، أي بين فاسد وقاتل مئات الآلاف يحظى بداعمين ومشغّلين لم يتخلوا عنه بعد وبين فاسدين صغار تخلى عنهم داعموهم. كلمة الوطن في هذا السياق ستضفي مزيداً من المرح لمجيئها تماماً في السياق الخاطئ.
لعلنا لا نغالي بالقول أن شيئاً ما، على الصعيد نفسه، يؤرق بشار الأسد. فهو عندما يخرج عن شتيمة المعارضين يتجه على المنوال ذاته إلى اتهام أردوغان بالعمالة لأمريكا، من دون أن يوضح ما إذا كانت عمالة الأخيرة مأجورة أم تطوعية! وإذا كانت لنا مآخذ عديدة على سياسات أردوغان “في الشأن السوري تحديداً” فإن اتهامه بالعمالة لأمريكا “بخاصة رغم الخلافات التركية-الأمريكية الحالية” هو اتهام فقير أو ضحل، أو صادر عمن لا يعرف سوى هذه اللغة، ولا يعرف شيئاً عن سياسات دولية تقوم على التقاء المصالح أو تضاربها، لا على منطق الاستقواء الداخلي والتبعية الخارجية فحسب. إننا إزاء المنطق الذي يقود إلى النكتة المعروفة، وهي أن ترامب عميل لأمريكا!
الحديث عن أمريكا ومؤامراتها صار في حد ذاته نوعاً من الفكاهة، ولا يكفي ردّه إلى فلكلور الممانعة، فالموقف الرسمي الأمريكي منذ عهد أوباما تحاشى تنحية بشار عن السلطة، وضغطت واشنطن في العديد من المناسبات الحاسمة كي لا يصل دعم المعارضة إلى حد إسقاطه. وكما نعلم لإسرائيل حصتها من المواقف الداعمة لبقائه، والحق أن الخطاب لا يخلو من بعض الحصافة لجهة إسرائيل، فهو لم يتوقف عند انتهاكاتها ولم يتوعد ولو على سبيل اللغو بالرد عليها.
لو أجرينا تعديلاً على تسجيل الفيديو للخطاب، وجعلناه بالأسود والأبيض، لكنا أمام نسخة مشابهة لخطابات حافظ الأسد، عندما كان يجري توزيع الأدوار على الجمهور، فيُحدد لهم مسبقاً عند أية جملة ينبغي أن يصفقوا، وعند أية جملة ينبغي أن يقف واحد منهم ليلقي شعراً أو سجعاً رديئاً في مديحه. المشكلة في زمن الألوان أن ذلك بات مضحكاً مثلما تكون أية محاكاة رديئة، فالمحاكاة الرديئة تصنع لنا بركاكتها وأخطائها تهريجاً معاكساً لما قد تبتغيه. أيعني هذا أن الأسد وأتباعه لم يتعلموا إطلاقاً خلال ثماني سنوات؟ بلى، لقد اكتسبوا بعض المفردات الجديدة، وقد رأينا كيف امتدحه أحد الحاضرين قائلاً: “شعب وجيش أنت أميره”. كلمة “أمير” لم تكن واردة من قبل في أدبيات الموالاة، وأول استخدام لها كان باتهام المعارضة “أولاً في مدينة بانياس” بأنها أقامت إمارة إسلامية. بشار نفسه يبدو أنه اكتسب مفردات من الخصوم، فهو قد استلهم متأخراً شعار “أسد في لبنان وأرنب في الجولان”، بعد أن أعاد السوريون صياغته أثناء الثورة بما يناسب الحال، ليخاطب المعارضين بصياغة أقل تماسكاً: ما لي أراكم أسوداً على دولتكم وأمام المحتل فأنتم عبارة عن قطط.
المدن
بحيرة أوهام بشار الأسد/ علي الصراف
يعيش الرئيس السوري بشار الأسد في بحيرة أوهام، ولكنها مليئة بالكائنات السامة التي استولدها بنفسه، حتى أنه لا يستطيع أن يضع إصبعا في الماء، لأن واحدة من تلك الكائنات سوف تلدغه.
الوهم الأول أنه إذا دخل انتخابات فسوف يفوز بها. حسابيا هذا غير عاقل، كما أنه غير ممكن من الناحية العملية. أي انتخابات جديدة سوف تتطلب قبوله بثلاث لدغات. أولها أن تخضع الانتخابات لرقابة دولية صارمة. وثانيها أن يشارك في التنافس عليها معارضون حقيقيون له، لا مجرد قرقوزات لا يجرأون حتى على التصويت لأنفسهم. وثالثها أن يسمح بدعاية انتخابية متساوية، سوف تشكل فضيحة حقيقية لمنجزات نظامه النيرونية. عدديا، فإن ثلاثة أرباع السوريين باتوا ضحايا مباشرين لجرائمه. ولا أعرف بأي خراب سيغري الربع الباقي من أجل التصويت له.
الوهم الثاني أنه يستطيع أن يحافظ على طبيعة نظامه كما هو. هذا النظام سقط في أعين الناس. كما أنه سقط من عداد الأنظمة القابلة للإصلاح. إنه نظام اشترط على شعبه أن يبقى كما هو، أو أن يدوس على رؤوس الجميع بالأحذية. وهذا ما حصل بالفعل، حتى لم يعد خيار الإصلاح مطروحا. لأنه كان من الأساس غير ممكن. النظام يدرك أن أي تغيير فيه كان سيعني أن يطلق العنان للمطالبة بدولة قانون، بينما هو نظام فساد، ولا يعيش إلا على أعمال الترويع، إلا كما يعرفها السوريون كـ”حارة كل مين إيدو إلو”.
الوهم الثالث أنه يستطيع أن يستعيد سيطرته من قوى التدخل التي استجلبها لحماية بقائه. فالحقيقة هي أن كل من إيران وروسيا جاء ليبقى، واستحكم السيطرة على الأرض وبنى فوقها مصالح لم يعد ممكنا التراجع عنها. وهو لن يحكم إلا من خلالها. ويعرف أنه سوف يُلدغ لدغة قاتلة فور أن يُظهر أدنى إشارة على التمرد على أي أحد.
الوهم الرابع أنه يستطيع أن يعيد بناء ما تهدم. إذ لا روسيا ولا إيران تملكان من السعة المالية ما يكفي لتمويل إعادة إعمار تتطلب نحو 200 مليار دولار. وفي المقابل فإن استثمارات الدول الأخرى لا بد وأن تكون مشروطة بضمانات. أولها أن يكون هناك نظام صالح للبقاء، لا نظاما أقرب إلى الجثة المتعفنة.
الوهم الخامس أنه يستطيع أن يواصل رفع شعاراته البالية عن الصمود والتصدي. فهذا الهراء، صارت إسرائيل تسخر منه كل يوم تقريبا. بل إنها تضرب قواته وميليشيات حلفائه بالتنسيق مع حليفه الآخر بالذات، من أجل أن يعرف حدوده داخل بعض غرف قصره، لا كلها طبعا. وهذه الحدود لم تعد تسمح له بترديد العنتريات السابقة.
الوهم السادس أنه يستطيع السيطرة على سوريا السابقة. فهذا البلد تفكك إلى كانتونات منفصلة عن بعضها البعض. وتعيش كل منها بموجب تسويات مؤقتة وضمانات لا يملك التحكم بكل مفاصلها. وهذه المحميات ستظل قادرة على التمرد حالما تسنح لها الفرصة أو يتوفر لها المبرر.
الوهم السابع أن عودة بعض السفارات العربية هي تعبير عن الاعتراف بأنه حقق انتصارا. الحقيقة هي أن عودة السفارات تمثل مسعى، لا يقبل الاشتباه، لبناء روابط مع سوريا المستقبل، ولإرساء الأسس لاستئناف عروبة تم دوسها تحت أقدام المشروع الفارسي.
الوهم الثامن أنه يستطيع أن يقف بجوار نظرائه من القادة العرب كقرين لهم. فجرائمه التي طالت الملايين من البشر، أكبر بكثير من أن تسمح له بأن يجلس بينهم على كرسي مريح، أو حتى أن يتحدث معهم بكلام يخرج عن أغشية الدبلوماسية الباردة.
الوهم التاسع أنه يستطيع أن يحكم على الأقل كانتونه الخاص. فهزيمته الفاضحة حيال شعبه سوف تحرك ضده وضد عصابته الكثير من الغضب الدفين. وما لم يحصل على ضمانات بلجوء سياسي في طهران أو موسكو، فإنه قد لا ينجو في ذلك الكانتون الذي لاقى هو نفسه من المرارات والأسى ما لاقته سوريا كلها. ومع انكشاف سجلات الوحشية التي ارتكبها نظامه، فإن هذا الكانتون سرعان ما سيكون أقرب إلى التبرؤ منه، لا القبول به، ولا حتى حمايته.
الوهم العاشر “سوريا الأسد” و”الأسد إلى الأبد”، شعاران لا يزالان يحتفظان بأي معنى. فآخر شيء يمكن للمجنون أن يتخيله، هو أن يقترن هذا البلد بشعارات بليدة كهذه. الناس لم تدفع دماءها من أجل أن تقع في حفرة تعود لتحتقر قدرتهم على الإنجاب.
بشار الأسد، وسط تلك البحيرة من الأوهام القاتلة، غير قادر على السباحة ضد ما صنعه بنفسه. وأقصى ما يمكن أن يطمح إليه، طائرة هليكوبتر تقله إلى مكان بعيد، لا يعرفه أحد.
العرب
خطاب الأسد.. رئيس صالح لشعب عاطل/ راتب شعبو
بعد ثماني سنوات من الموت والدمار وصنوف البؤس كافة، وبعد أن وصلت نسبة السوريين الذين يعيشون في حالة فقر إلى 85%، بحسب تقارير الأمم المتحدة، وبعد دمار أو تضرّر حوالي ثلث المباني، ونصف المباني المدرسية والمستشفيات، بحسب تقارير البنك الدولي، وبعد وصول المجتمع السوري إلى حضيضٍ من الإنتاج الاقتصادي، وحضيض من الانقسام الطائفي، ومن الفلتان الأمني وانتشار الجريمة، وبعد أن أصبح السوري مشرّداً ومنبوذاً في كل مكان، بما في ذلك داخل بلده، وبعد أن أصبحت سورية ملعباً للدول الصغرى منها والكبرى، لا يتردّد الأسد في القول: “ما أريد التأكيد عليه إنه لم تكن ممكنة حماية الوطن من السقوط في المحرقة التي حضرت له، لولا الإرادة الشعبية الواحدة عبر مختلف أطياف وشرائح المجتمع السوري”. الوطن إذن، بعد هذا كله، لم “يسقط في المحرقة”. من الواضح أن الأسد يريد القول “حمايتي من السقوط في المحرقة”، السقوط في المحرقة في نظره لا يتعلق بكل ما مرّ ويمر على سورية من مآس وكوارث، إنه يعني فقط تفكيك نظام حكمه.
في مكانٍ آخر من خطابه، وفي معرض حديثه عن اللجنة الدستورية، يفاجئنا الأسد بالقول إن هناك من الشعب السوري من “يعارض الدولة”، فيتكلم عن “الجانب الآخر من الشعب السوري الذي لا يوافق على وجهة نظر الدولة”، لكي يقول إن الثلث “المعارض” من لجنة صياغة الدستور المقترحة لا يمثلون هذا الجانب، وهم “طرفٌ عميل” لا أكثر. نحن لا ندافع عن هذا الطرف، وسوريون كثيرون لا يجدون في هذا الطرف ممثلاً لهم، ويُدركون أن مؤسسات
المعارضة السورية لا تملك من أمرها الكثير، تماماً كما لا يملك نظام الأسد من أمره الكثير، لكن لا يقول لنا الخطاب كيف يمكن، إذن، تمثيل “هذا الجانب من الشعب السوري الذي لا يوافق على وجهة نظر الدولة”؟ وأين هو من يمثله؟ وهل يمكن، في دولة الأسد، أن يوجد ممثلٌ لجانب من الشعب السوري “لا يوافق على وجهة نظر الدولة”، من دون أن يكون عميلاً؟
قد يستغرب المرء كيف يفسح منطق الأسد مكاناً لوجود “هذا الجانب من الشعب السوري”، ولكن القصد من قوله هذا لم يكن إقراراً بحقيقة وجود انقسام سياسي في المجتمع السوري، بل القصد هو تجريد المعارضين (هكذا بالجملة ومن دون تحديد ومن دون حتى ذكر المفردة المرذولة نفسها) من أي تمثيل، تمهيداً لوصفهم عملاء. لا بأس، طبيعي أن يكون هناك انتهازيون وفاسدون وعملاء في أي حركةٍ سياسيةٍ، وطبيعي أن يكثر هؤلاء حين تتعرّض الحركة السياسية المعارضة إلى آلة إنكار وإبادة سياسية وفيزيائية، كما شهدنا في سورية، وطبيعي أن تتوفر في صفوف هذه الحركة كل صنوف القذارات السياسية. ولكن تماهي الحركة بهؤلاء الأشخاص يعني أنك ضد معنى الحركة أصلاً، ولست ضد الأشخاص القذرين فيها، بل يعني أنك أقرب إلى هؤلاء الذين يتيحون لك، بقذارتهم السياسية، أن تستخدمهم وتعمّم صورتهم، لطمس معنى الحركة المعارضة بالجملة، ويعني أخيراً أنك تهييء الوطن “لمحرقةٍ” مستمرة.
يستنفر خطاب الأسد اللغة لاحتقار السوريين، والحط من قيمتهم، سواء من منهم في صف “الإرادة الواحدة” أو من منهم في الصف الآخر المرذول. لا يوفر الخطاب مفردة سيئة: “سماسرة، رخيصون، خونة، ازدراء، احتقار، غدر، غش، نفاق، عميل، مرتزق، نفوس مريضة، حقد، جهل، فساد، قلة أخلاق، أنانية، ذل، هوان .. “. أن تأتي هذه المفردات على لسان أعلى سلطةٍ في النظام هذا يعيد التأكيد، لمن لا يزال بحاجةٍ إلى تأكيد، على أنه لا اندمال للجرح السوري في استمرار نظام الأسد الذي لا يكفّ عن زرع الشقاق في صفوف الشعب، والاستثمار في هذه الشروخ.
لدينا، في الداخل، “الفساد والتعدّي على حقوق الآخرين والأنانية والغش والأمور التي نعيشها جميعاً”، وفي الخارج لدينا الخونة.. إلخ، ولكن هذا لا يمنع الأسد، مع ذلك، من القول إن “الانقسام الاجتماعي الحقيقي في سورية غير موجود”، أي إن الانقسام الذي جعل السوريين على ضفتي حربٍ مدمرةٍ لم تنته (كما يصر الأسد بحق)، وستستمر إلى أجل غير معلوم، لا بل إنها أنجبت حروباً عديدة يعدّدها الأسد كما يلي: العسكري، والحصار، والإنترنت، والفساد، نقول إن الانقسام الذي ولّد كل هذا الصراع هو، في نظر الأسد، زائف وغير موجود، لأنه لا يرى في الواقع إلا من هم في صفّه، أي “الطرف الوطني” الموحد حول قيادته، والذي ينبغي له أن يشقى ويجوع من دون أن يشكو، لكي لا يسقط الوطن في “المحرقة”. أما من هم في غير صف الأسد، فهؤلاء غير مرئيين، ولا ينبغي لحذفهم من الصورة أن يُزعج أحداً، لأن في حذفهم تطهيرٌ للوطن. هكذا إذن تكون الإرادة واحدةً، لأننا لا نرى إلا إرادة من هم معنا.
يتقدّم الأسد خطوة أخرى في عرضه تصوره عما جرى في البلد خلال السنوات الماضية، فيقول: “الحرب كانت بيننا نحن السوريين وبين الإرهاب حصراً”. “نحن السوريين” ضد “الإرهاب”، هذه هي معادلة الصراع في السنوات الماضية إذن. الأسد هنا يجمع كل المعارضة السورية بكل تلاوينها، ويضعها في خانة الإرهاب مجرّدة من الجنسية السورية، ليضعها مقابل
“نحن السوريين”. لا وجود لألوانٍ سياسية في المعارضة، لا وجود لقمعٍ سياسي متواصل ضد معارضين سوريين، لا وجود لاحتكارٍ للسلطة والثروة، لا وجود للذل الذي وصل بالسوريين إلى حد طلب الموت بدلاً عنه. في نظر الأسد، لا يوجد معارضون سوريون ديموقراطيون علمانيون، حريصون على شعبهم، وكانوا يرون، منذ زمن بعيد، إن الأسد يقود البلد إلى “المحرقة”، ولا يوجد معارضون يعملون لإخراج وطنهم من المحنة التي أوصله إليها نظام الأسد. ما يوجد هو فقط، وبكل بساطة، “نحن السوريين” ضد “الإرهاب”.
كل من هو خارج (نحن) ليس إلا عميل ومرتزق وخائن ..إلخ، لكن الأسد لا يوفر هذه الـ”نحن” من التوبيخ، لأن “الحقيقة تقول إن هناك حربا وإرهابا وحصارا، وهناك قلة أخلاق وأنانية وفسادا”. ماذا لنا أن نفعل أمام شعبٍ تتناهبه الخيانة والسمسرة والانتهازية والعمالة من جهة، والأنانية والفساد وقلة الأخلاق من جهة أخرى؟ لن نجد أمامنا سوى الحل الوحيد الذي يقترحه الأسد، وهو “إعادة إصلاح النفوس المريضة وتطهيرها من الحقد والجهل وزرع القيم والأخلاق فيها، وتنقيتها من شوائب الانهزامية وتشريبها بالمفاهيم الوطنية” و”إعادة بناء العقول وإصلاح النفوس”.
ليس اليوم هو مجال إصلاح النفوس، لأن “التحدّي الأساسي الآن هو تأمين المواد”، كما يؤكد الأسد. الشعب جائع، وهناك نقص في الغاز والوقود وغيرها من المواد، ولا وقت الآن “للتربية الوطنية”. الخطة إذن هي تكريس النفس لخوض الحروب الأربع، ثم بعد الانتصار (هل يمكن الانتصار بالنفوس المريضة والعقول التي تحتاج إلى إعادة بناء؟) سوف يتفرّغ الرئيس الصالح لإصلاح نفوس شعبه العاطل وعقوله.
العربي الجديد
خطاب بشار الأسد… النور ضد العتمة/ مصلح مصلح
في كتابه “عن الأسلوب المتأخر”، يرصد إدوراد سعيد أثر الزمن على العلاقة التي يقيمها مبدع العمل الفني، سواء كان موسيقيًا أو روائيًا أو شاعرًا، مع الواقع الذي يعيش فيه كلما تقدم به العمر، فالذي يميز المبدع صاحب الأسلوب المتأخر عن غيره من المبدعين الآخرين هو خروجه على أفكاره التي كان قد استمات في الدفاع عنها في بداية حياته الفكرية، وما ذلك إلا لاعتقاده أن ثمة طرق ومسارب للحقيقة الفنية يمكن للمبدع أن يرتادها أو يجربها، رغم القلق وعدم اليقين الذي قد تنطوي عليه مغامرته الفكرية تلك، رافضًا في الوقت نفسه الإصغاء إلى غواية الطمأنينة والهناءة التي تغري بها فترة آخر العمر.
قد يبدو تركيز سعيد في اكتشافه الأسلوب المتأخر عند المبدعين في المجال الفني مبررًا، كون الأمر قابلًا لقياس ومقاربة المنتجات الفنية ومن ثم الحكم عليها، إلا أن الأمر يظل مدعاة للتساؤل عن السر الذي دفعه لاستثناء السياسيين المبدعين، رغم أن السياسية فن عميق مليء بالمغامرة المشفوعة بحكمة تدبير تشظيات الواقع اليومي وانفجاراته، ربما لاعتقاده أن السياسي المبدع والخلاق هو صاحب أسلوب متأخر بالضرورة.
في خطاب بشار الأسد في حضرة جوقة أعضاء المجالس المحلية، يبدو الرجل في حل من آثار الزمن وتقلباته، فلا هو صاحب أسلوب متأخر ولا متقدم، ولا حتى بأسلوب ما بين المنزلتين حيث نعثر عليه رجلًا بليدًا على الآخر، لا يجرؤ على معاقرة السياسة المبدعة التي تجترع حلولًا إبداعية لأزمات الواقع، وما ذلك إلا لأن طريقة قراءته للأحداث محكومة بطابع صارم من إنكار الوقائع والبديهيات التي تنهض عليها السياسة الحديثة، فالسياسة في عرفه لا تنهض على فكرة إدارة الشؤون العامة للناس، أي ما هو مشترك بينم، ولا على العمل بإزالة التعارض بين مصالحهم المتعارضة، سواء عبر التفاوض أوالتوسط بينهم وفق مؤسسات الدولة الدستورية، بل عبر الإخضاع والسيطرة.
الأزمة السياسية كمفرز من مفرزات السياسة في عرف الأسد ما هي إلا أزمة فساد أخلاقي صارخ، أو شرخ كبير في ضمير الأشخاص الذين قرّروا الخروج على طاعة سلطته، لا علاقة لها كما يرى بالتعدي على حقوق الناس السياسية وهدر كراماتهم. الناس وفق القراءة السحرية السابقة صنفان، إما خانع ذليل يتشرف الأسد بمنحه لقب مواطن، وإما معارض متمرد مسكون بالشر حتى من قبل ولادته، الأمر الذي لا يليق به سوى وضعية الخائن، الذي يستحق عقوبة الموت عن جدارة استحقاق، وهي قراءة تتقاطع في جوهرها مع القراءة التي حاولت الملحمة البابلية “عندما في الأعالي” من خلالها تفسير الطبيعة الشريرة للإنسان، من حيث كونها تعود لطبيعة الملاط الإلهي الذي خلق منه، الذي كان خليطًا من دم إبليس الشقي وحفنة من صلصال الأرض المدنسة.
المتابع لخطابات الأسد التي قدّر له أن يلقيها في أوقات الأزمات والنوائب التي عصفت بأحوال مملكته، يجد فيها خليطًا متعمدًا وغريبًا من البذاءة والاحترام، من العدوانية والمهادنة، من القسوة واللين، الأمر الذي لا يمكن أن يعزوه المرء إلا لرغبة مضمرة في لاوعي الأسد في تقمص الذات الإلهية القادرة على كل شيء، إلا أن الحظ لم يحالفه هذه المرة كي يكون مقنعًا، فكيف لإله كلي القدرة أن يعجز عن تأمين جرة غاز لكل عائلة شهيد أو مصاب؟
العدوانية التي أظهرها الأسد هذه المرة تجاه أنصاره عبر تهديده لهم بالخيانة، لم تكن فقط مجرد رغبة في إظهار الوجه القبيح والمظلم لسلطة الرئاسة، بل تهديد صريح بمعاقبة كل من تسول له نفسه بعدم تبني خطابها التبرري، في تفسير أسباب أزمة المحروقات والكهرباء والإصرار في الذهاب إلى حد كشف جوهر السلطة القبيح الذي يتلطى وراء الفساد الإداري والمفاضلة بين الموالين الأخيار.
في الخطاب الذي تخللته بعض طقوس التهريج والتصفيق، حرص الأسد على الظهور بمظهر الإله القادر على الخلق من الفم، من خلال تجنبه استخدام يديه الغبيتين اللتين تبددان القداسة في أقصى تجليها، إلا أنه لم يجد بدًّا من أن يطوح بهما مرات مرات بقصد نقل إشارت التهديد تارة، والاستجداء تارة أخرى، الأمر الذي يعكس أنه لم يكن في وضعية رجل السلطة الذي يتحدث عن الأزمة بقصد أن يحورها ويطوعها، ويقنع أنصاره بصوابية رؤيته لها، بل كان رئيسًا رثًّا يحاول جاهدًا أن يستعيد بعض من سطوته التي بددتها عجزه في مواجهة الظلمة والبرد والفساد، الذي ينهش قلب مملكته العاجزة عن إضاعة شموع انتصاراتها.
الترا صوت
ماذا وراء تمييز الأسد بين “العميل الأميركي” و “العميل التركي”؟/ حسين جمو
تصدر المشهد السوري احتمالات الحوار، ثم الاتّفاق، بين النظام والأكراد، في الأيام الأولى لإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قراراً بسحب القوات الأمريكية المتمركزة شرق الفرات.. إلا أن الاضطراب الأمريكي، والغربي، بخصوص هذه الخطوة، والانقسام داخل الإدارات في الدولة الواحدة، فضلاً عن تمسك النظام السوري بعقلية 2011، عمل على تخريب “خط الحوار” الذي كان ممهداً فتحه بين دمشق والأكراد.
في كلمة له خلال استقباله رؤساء المجالس المحلية، رفع الرئيس السوري، بشار الأسد، منسوب التحذير والوعيد للأكراد السوريين وحلفائهم ضمن “قوات سوريا الديمقراطية”، باعتبار أن هذه القوة المسيطرة على كامل منطقة الجزيرة (المسماة شرق الفرات) هي الخصم الأقوى للنظام بعد تقزيم المعارضة السورية عبر العملية السياسية (أستانة وسوتشي).
تعد كلمة الأسد، أمام المجالس المحلية، الأحد 17 شباط/ فبراير، من أكثر الخطابات التي عكست مخزوناً هائلاً من الغضب. وليس من الواضح كيف سينعكس هذا الغضب على سوريا، وعلى بشار الأسد نفسه.
نبرة الأسد، في الفقرات التي وجهها ضمنياً للكرد، كانت زاخرة بأدبيات التمهيد للحرب. فـ”اللامركزية” التي يطالب بها المجلس السياسي لقوات سوريا الديمقراطية، وهي فكرة مطروحة كبديل عن الفيدرالية، تصبح وسيلة “لإضعاف سلطة الدولة”، و”مخطط للتقسيم” وفق خطاب الأسد.
لم يحدد الرئيس السوري الجهة التي يوجه لها الرسائل والتهديدات. بعض الفقرات موجهة لكل من خرج عن سلطته، بشكل أو بآخر، ومطالبة بتسوية القضايا بما يتناسب مع مطلع العام 2011. فقوله إن “مع كل شبر يتحرر، هناك عميل وخائن يتذمر”، و “البعض رهن نفسه للبيع وتم شراؤه”، تصلح لتوصيف المعارضة السورية وكذلك قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً للمفاهيم الخاصة بالنظام السوري.
وعاد الأسد، بعد عدة فقرات، إلى التمييز بين “العميل الأمريكي” و”العميل التركي”. فخاطب “المجموعات العميلة للأمريكي” بالقول: “الأمريكي لن يحميكم وستكونون أداة بيده للمقايضة.. لن يدافع عنكم سوى الجيش العربي السوري”.
أما بخصوص “العميل التركي”، فقد كانت النبرة موجهة إلى جهة مهزومة، وأمرها محسوم، وذكرها مجرد مضرب للمثل، على عكس كلامه حين خاطب “قسد”. فالأخير خصم ما زال في موقع المنتصر، لكن النظام يقول له: إليّ مرجعكم. أما “العميل التركي” فبات في خبر كان.
وبعد أن فشل “المتآمرون على سوريا باعتمادهم على الإرهابيين والعملاء في العملية السياسية” – بحسب الأسد- “انتقلوا إلى المرحلة الثالثة، وهي تفعيل العميل التركي في المناطق الشمالية”. ولعل ما وصف به الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يعبر عن عقلية الانتصار والتشفي ضد دولة دأبت منذ ثمان سنوات على جعل سوريا، بنظامها ومعارضتها وأكرادها، ساحة خلفية لأمنها القومي. فالأسد سخر بقوة من “الإخونجي أردوغان” الذي يقوم بـ”الاستعراضات المسرحية” ويحاول أن يظهر بمظهر “صانع الأحداث”، لكنه في واقع الأمر، بالنسبة للأسد، فإن أردوغان “عبارة عن أجير صغير عند الأمريكي”.
من الواضح أن باب الحوار بين النظام والأكراد يتجه للإغلاق. فالغربيون تركوا أملاً للكرد بضمان حمايتهم، وهذا ما كبح “سلة التنازلات” التي كانت جاهزة لتقديمها للنظام. والأخير يريد تلك السلة كاملة، طوعاً أو كرهاً، بغض النظر عن الموقف التفاوضي للطرفين.
تصعيد الخطاب ضد “العميل الأمريكي” يحمل في طياته احتمالات أخرى، على رأسها قراءة النظام لمستقبل الشمال السوري في الشهور المقبلة. فإذا رجّح أن عملية عسكرية تركية واسعة النطاق، ضد “قسد”، شبه حتمية، فإن تفادي امتداد المواجهة إلى النظام (أي تفادي مواجهة الجيش التركي) يتطلب خطاباً حاداً – غير مبرر- تجاه الأكراد، وتحويلهم إلى خصم وعدو، والعدو حين يتعرض إلى حرب من عدو آخر، فلا التزام للنظام تجاه الأمر. ففي نهاية الحرب، لديه وسائل تمكنه من المطالبة بكافة الأراضي التي تحتلها تركيا. لكن هل يفعلها بالمجان؟ مؤخراً ذكرت تقارير صحفية أن قوات سوريا الديمقراطية عرضت على النظام تسليمه مدينة الطبقة، على سد الفرات، مقابل عمل مشترك لطرد الاحتلال التركي من عفرين، وقيل إن النظام رفض ذلك.
هذا التنافر، الذي قد يتحول إلى عداوة دامية، ليس ناتجاً عن استغلال أحدهما للآخر، بل إن كل طرف يعيش في حقبة زمنية مختلفة عن الآخر. فالنظام السوري يريد تكرار تجربة 1982، حين خرج من المعركة ضد “الإخوان” أقوى وأكثر سطوة. وفعلياً، فإنه على وشك النجاح على إعادة المعارضة السورية برمّتها إلى عام 1982. فيما تريد “قسد”، عبر مجلسها السياسي، الانطلاق من أرضية أخرى، صريحة، وهي أن النظام أضعف مما كان عليه عام 2011، وأنه ليس المنتصر الوحيد في سوريا، عسكرياً.
النظام السوري يريد تكرار تجربة 1982، حين خرج من المعركة ضد “الإخوان” أقوى وأكثر سطوة. وفعلياً، فإنه على وشك النجاح على إعادة المعارضة السورية برمّتها إلى عام 1982
لدينا إذاً، ثلاثة أزمنة مختلفة في سوريا. بالنسبة للنظام والمعارضة، فالتاريخ عاد بالمعارضة إلى عام 1982 بما أن المنتصر هو النظام، حسب كافة المعطيات لتاريخ هذا اليوم. بالنسبة للنظام والأكراد، فإن النظام يريدها 2011، وعلى هذا الأساس يحدد هامش الحوار مع الأكراد، والقامشلي تريدها 2019، وعلى هذا الأساس تطرح الحوار مع النظام.
خطاب الأسد جاء بالتزامن مع تكرار روسيا على لسان نائب وزير خارجيتها، سيرغي فرشينين، الدعوة إلى “البدء بحوار بين الاكراد ودمشق”. وأردف بالقول: “بالتأكيد، نعلم المشكلات بين دمشق والاكراد، لكنني أعتقد أن ثمة حلا عبر الحوار”.
أما نتائج الحوار الذي لم ينطلق بعد، فقد حددها الأسد لخصومه كطريق للخلاص من العقاب: “إن السبيل الوحيد للتراجع عن الضلال هو الانضمام إلى المصالحات وتسليم السلاح للدولة”.
الواقع أن لدى الأكراد وحلفائهم شرق الفرات “ورقة حاسمة” يتظاهر النظام أنها لا تهمه. فعودة الأكراد إلى الدولة، بالصيغة التي يحددها النظام (المصالحات وتسليم السلاح)، أو تدمير الأكراد، عبر تركيا، سيدفع النظام ثمنه لاحقاً. فبدون اتفاق قائم على الاعتراف بالدور البارز الذي لعبه الكرد، لأسبابهم الخاصة، في محاربة الإرهاب والفصائل الموالية لتركيا، ودون تخلي النظام عن عقلية المنتصر الوحيد، فإنّ تمرير أي حل سياسي يقوم على انتخابات رئاسية وبرلمانية، تحت رقابة دولية، لن يكون في صالح الأسد. ففتح جبهة من قبل قوى غرب الفرات (النظام أو تركيا) ضد تحالف “شرق الفرات” قد يبقي الأسد بلا أصوات كافية في الانتخابات التعددية المفترضة التي ستحدد مستقبل سوريا، سواء كان “شرق الفرات” من الخاسرين في المعركة أو المنتصرين
درج
خطاب بشّار الأسد…مجلس محلّيّ للجواكر والمهرّجين/ مهنا بلال الرشيد
كنت أتصفّح تويتر، وإذ بصفحات إخباريّة متعدّدة تقول: بعد قليل خطاب لبشّار الأسد، في البداية لم أتشوّق إلى فكرة المشاهدة، وتابعت جولتي في تويتر، فتكاثرت كلمة (عاجل)، ولا سيّما من صفحات الممانعة والممانعين؛ الذين سيظفرون -بعد طول إفلاس-بمادّة إعلاميّة، أعتقدُ أن تقتاتَ عليهما قنواتُهم؛ ويسترزق منها ممانعونهم شهرًا قادمًا، ولربّما أكثر.
دفعني الفضول إلى فتح تطبيق “الفضائيّة السّوريّة” عبر الهاتف الجوّال؛ فأيقنت صدق الخبر العاجل، حين وجدت كتابة شباطيّة حمراء (نسبة إلى شباط شهر الحبّ)، تقول: انتظروا خطاب بشّار الأسد بعد قليل، ويبدو على “تَتَر” الفضائيّة المكرّر ملامح الانهماك؛ كأنّها أمّ العروس ليلة زفافها، وتخلّل الانهماك خلل فنّي، عرضوا فيه نصف دقيقة من فيلم وثائقيّ عن الانفجار الذّرّي، ثمّ عادوا يكرّرون “التَّتر” المملّ؛ حتّى علا التّصفيق، وظهر عريس الغفلة بعد طول انتظار.
دخل بشّار القاعة الكبيرة من باب جانبيّ، ورفع يده يلوّح بها، متوجّهًا نحو منبره على خشبة المسرح؛ ليؤدّي دور البطولة في عمل مسرحي
دخل بشّار القاعة الكبيرة من باب جانبيّ، ورفع يده يلوّح بها، متوجّهًا نحو منبره على خشبة المسرح؛ ليؤدّي دور البطولة في عمل مسرحي مكتوب لرئيس يخطب بجماهير (المجالس المحلّيّة) الّذين اختارتهم فرقة المراسم في الحرس الجمهوريّ بعناية فائقة لحضور الخطاب، ويشاركه في المسرح الحداثيّ ثلاثون ممثّلًا تقريباً، وزّعهم رجال أمن الدّولة على الصّفوف والكراسي بين الجماهير، وتشارك هيثم سطايحي وبثينة شعبان ودريد لحّام ونزار عمر الفرّا في كتابة سيناريو الخِطاب وقصّته، ووزّع نائب رئيس مجلس الشعب نجدت أنزور الحوار والأهازيج على “الممثّلين؛ ممثّلي الشّعب في المجالس المحلّيّة”، وكان زهير رمضان من خلف الكواليس يشير إلى الجماهير عند نهاية مشهد وبداية آخر، كلّما أحس بعطش بشّار أو تلعثمه أو سمع منه حِدّة وصفيرًا بحرف “الثّين لا ثمح الله”.
بدأ الخطاب المشؤوم، وأنا أقول في نفسي: بعد قليل تأتي زبدته؛ فينقز “جوكر محلّيّ” يفسد عليّ “لذّة الخطاب”، وينزع “جماليّة التّلقّي”، ويربك عندي “متعة التّأويل”، ويتلو صوت “الجوكر” تصفيق يشنّف الآذان، أيقظ فينا حنينًا لأيّام خالية؛ صارت جزءًا من ذاكرتنا على قساوتها، تذكّرتُ فيها خطابات البيعة والقَسم والتّصفيق المتلاحق عبر السّنوات لحركة تصحيحيّة يتيمة.
عاد الرّئيس للخطاب مجدًّدًا، وعدتُ لأنتظر الزّبدة من جديد؛ فنقز “جوكر جديد”، فقلت في نفسي: كيف يتجرّؤون على مقاطعة خطاب الرّئيس المهمّ بعد طول غياب؟! لعلّها حماسة أو مغامرة عفويّة، قد تودي بصاحبها إلى مصير لا يُحسد عليه؛ ثمّ وضعت يدي على زرّ التّصوير لألتقط صورة لشاشة الجوّال إذا نقز “جوكر آخر”، وفجأة تظهر “بنت البستون” مقاطعة خطاب الرّئيس؛ صوّرتُها، وأصغيت لكلام الرّئيس حول “أزمة جِرار الغاز وشفافيّة توزيعها في جبلة”، وقبل أن أفهم مقاصد الرّئيس، نقز-مُقاطعًا-“ختيار الدّينار”، ثمّ تكاثرت المقاطعات، وتوالى تصوير الشاشة في الجوّال؛ ليظهر “تُرس الزّهر”، وقد وزّعها الإخراج الفاشل في شرق القاعة وغربها وشمالها؛ فتلاشى الصّوت في فضاء المكان الرّحيب، وحين كان المصّورون يحاولون اصطياد عفويّة البنات تصويرًا، عاد الرّئيس إلى الحديث عن الجزء الرّابع من مسلسل “غراندايزر”، وقد أطلق عليه كُتّاب خطاب الرّئيس اسم: “الجيل الرّابع من الحرب الكونيّة”، وعندما بدأتُ أفهم شيئًا من شرح بشّار عن أحداث الحرب الكونيّة في الفيلم، ودور (الفيس بوك) في تشويه الحركة التّصحيحيّة والتأثير السّلبيّ (للآيفون) في (نظريّة الحكم الوراثيّ)، تزاحمت “الجواكر” حمرًا وسودًا، وهي تُقاطع خطاب الرّئيس، ثمّ هزج “ختيار الكوبا” بأنشودة من تراث السّويداء، وتسبّبت “بنت الزّهر ” وفي رواية أخرى “بنت الذّباب” بخروج الرّئيس عن النّصّ، وتقديم تحيّة لأهالي إدلب (خصّ نصّ) في اللّحظة الّتي كان فيها طفلٌ بريء من أطفال إدلب، يحترق بقذائف جنود ماهر وبشّار في خان شيخون.
تكاثر عندي تصوير الشّاشة بشكل لم أتوقّعه أبدًا، فقلتُ: لعلّ نجدت أنزور ارتكب خطأً في الإخراج، أو ربّما فسّر زهير عبد الكريم لمحمّد قبنض نصّ الخطاب لدى بشّار بطريقة مختلفة عن تفسير زهير رمضان؛ فأدّى الأمر إلى ارتباك إخراجي واضح لدى نجدت أنزور.
عاد الرّئيس للخطاب مجدًّدًا، وعدتُ لأنتظر الزّبدة من جديد؛ فنقز “جوكر جديد”، فقلت في نفسي: كيف يتجرّؤون على مقاطعة خطاب الرّئيس المهمّ بعد طول غياب؟!
ثم قلت في نفسي مرّة أخرى: لأترك التّصوير للاهتمام بمرامي الخطاب ومقاصده، ولا شكّ أنّي سأجد كثيرين قد صوّروا الخطاب وسجّلوه؛ وفعلًا تركت التّصوير، واستمعتُ إلى باقي حفلة الخطاب؛ فلمست تطوّرًا ملحوظًا في النّظرة إلى شركائنا في الوطن من مليشيات روسيا وحزب الله ونوري المالكي حسب نظريّة (الوطن لمن يدافع عنه) في خطاب بشّار السّابق؛ لتظهر نظريّة “الأصحاب الحقيقيّين للوطن”.
ثمّ عاد النّقّازون للظهور؛ وبسبب نقزهم لا بسبب نقص في فصاحة الرّئيس-لا سمح الله-لم أفهم نظريّة: (انتصرنا مع بعض) ولم (ينتصر بعضنا على بعض)، حاولت تفسيرها بأنّ طفل خان شيخون المحترق أثناء الخطاب شريك بالانتصار مع ابن بشّار صاحب مونديال الرّياضيّات؛ فلم يستقم في ذهني المعنى أبدًا، فقلت: سأجرّب محاولة تأويليّة أخيرة، قبل أن أعدّ صور الجواكر والختايرة وبنات البستوني والدّينار في شاشة الجوّال؛ فوجدت بشّار يقول: ما لم يحقّقوه بالحرب لن يحقّقوه باللّجنة الدّستوريّة العميلة؛ فقلت بصوت مرتفع: كأنّك يا أبو زيد ما غزيت، وكذلك قلت: (وفسّر الماء بعد الجهد بالماء) حين تذكّرت تصديقي السّاذج لكذبته حين خاطب بشّار الثّوار في لحظة من لحظات اشتداد الثّورة ضدّه، ودعاهم إلى ترك السّلاح، والحصول على ما يريدون بتعديل الدّستور والعمل السّياسي؛ فتندّمت على متابعة الخطاب، وأحصيت في جوّالي اثنتين وخمسين لقطة لشيّاب الخطاب وبناته وجواكره ومهرّجيه.
تلفزيون سوريا
نتائج التطبيع الخليجي مع الأسد أسرع من المتوقع!/ علي حسين باكير
بدأت تداعيات التطبيع العربي ولاسيما الخليجي مع الأسد تظهر بشكل أسرع مما كان متوقعاً، ففي خطاب له يوم الأحد امتد لأكثر من ساعة، شنّ الأسد هجوماً حاداً على معارضيه السوريين واصفاً إيّاهم -في مشهد قديم متجدد- بأنّهم عملاء وخونة ولصوص، وأن الحل الأمثل بالنسبة لهم هو الاستسلام، رافضاً ما اعتبره أي تدخل خارجي لصياغة الدستور وملقيا باللوم على الخارج إزاء تدهور الوضع مؤخراً في المناطق التي يسيطر عليها النظام داخل سوريا. وهاجم الأسد كذلك خلال كلمته تركيا بشكل عنيف، كما تطرق إلى سياسة الولايات المتّحدة مشيراً في الوقت عينه إلى أنّه لن يتوقف لحين استعادة كل الأراضي السورية.
وتعدّ هذه الكلمة بمثابة بوصلة لتقدير توجهات النظام السوري خلال المرحلة المقبلة لاسيما فيما يتعلق بالتحديات الداخلية والعلاقة مع الخارج والموقف من تركيا. وبالرغم من أنّه اعترف أنّ نظامه لم يحسم المعركة وأنّه لا يزال يخوض حرباً عسكرية من بين حروب أخرى، إلا أنّه وبعد مرور حوالي ثماني سنوات على اندلاع الثورة السورية، يبدو أنّ بشار الأسد عازم على العودة إلى المربّع الأول. ما السبب الذي قد يكون أقنع الأسد بأنّه بات في وضع
التطبيع الخليجي مع الأسد أعطى الأخير على ما يبدو جرعة مجانية من الثقة بالنفس بشكل يجعل من إمكانية الوصول إلى تسوية سياسية حقيقية بناءً على قرارات الشرعية الدولية أمراً صعباً للغاية
مرتاح يغنيه حتى عن خوض مفاوضات شكلية مع المعارضة أو التوصل على الأقل إلى اتفاق سياسي لإنهاء الأزمة في سوريا؟ هل جاء خطابه بإيعاز من روسيا و/ أو إيران، أو ربما أراد أن يختط لنفسه مساراً يرسل من خلاله رسائله الشخصية إلى الآخرين بدلاً من أن يكون متلقيا لها؟
كل هذا وارد، لكن الأكيد التطبيع الخليجي مع الأسد أعطى الأخير على ما يبدو جرعة مجانية من الثقة بالنفس بشكل يجعل من إمكانية الوصول إلى تسوية سياسية حقيقية بناءً على قرارات الشرعية الدولية أمراً صعباً للغاية. أبرز المؤشرات على هذا التوجه، وصف رأس النظام السوري المعارضة بأبشع الأوصاف وذلك في محاولة لنزع الشرعية عن دورها أولاً، وللتملص من الاستحقاقات المترتبة على العملية السياسية ثانياً، وهي العملية التي تتضمن إعادة كتابة الدستور، والتحضير للانتخابات.. إلخ، وكلها استحقاقات من غير الممكن أن يخوضها النظام مع نفسه فقط إلا إذا كان يريد تجاهلها تماماً، وهذا بالفعل ما يمكن فهمه من خلال خطابه يوم الأحد الماضي.
خلال كلمته، هاجم الأسد بشكل متكرر تركيا، ووصف كذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنّه مجرد “إخونجي وأجير صغير عند الأميركي”، مستثنيا ربما للمرة الأولى العديد من الدول الخليجية التي لطالما أشار إليها سابقا كالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال. استثناء الدول الخليجية لا يمكن فهمه إلا ضمن سياق عملية إعادة التطبيع الجارية، وبهذا المعنى أيضاً فإن كلمة الأسد تأتي في إطار الضغط المتواصل على أنقرة من قبل العديد من الدول للاعتراف بالأسد أولا، وللتحضير لعملية مواجهة
أهمية متابعة الضغط على هذا النظام من خلال العقوبات لإجباره على الالتزام بالعملية السياسية ذات المصداقية التي يحاول التهرّب منها
تركيا في سوريا من خلال التحالف الذي يتم إرساء أرضيته حالياً بين نظام الأسد من جهة والدول الخليجية المعنيّة كالإمارات والسعودية –ومصر أيضا- من جهة أخرى.
نقطة أخرى من المهم التطرق إليها وهي إشارة الأسد إلى مواجهة نظامه مشاكل جمّة نتيجة العقوبات الخارجية، وهو الأمر الذي يؤكد أهمية متابعة الضغط على هذا النظام من خلال العقوبات لإجباره على الالتزام بالعملية السياسية ذات المصداقية التي يحاول التهرّب منها، وهي نقطة تتقاطع أيضاً مع ضرورة أخذ واشنطن بالاعتبار التداعيات السلبية لموقف بعض حلفائها الخليجيين على مستقبل سوريا وذلك نتيجة لانفتاحهم على الأسد مجاناً ومن دون مقابل.
التطبيع مع الأسد سيعطيه أوراقا من دون شك، وسيصعب العملية السياسية، لكن للآخرين أوراقهم أيضا في وجه نظام استخدم كل أنواع القتل ضد شعبه. وبالرغم من أنّ البعض يسارع إلى الاعتراف بما يعتبره انتصاراً للأسد، لا يزال المشهد يبدو بعيداً عن هذا الواقع تماماً. ما نحتاجه هو النظر إلى الصراع من زاوية أخرى والتعامل مع الوضع بأسلوب مختلف وأدوات مختلفة. الاستسلام الآن لا يعني أنّ تضحيات الآخرين قد ذهبت هباء فقط، بل يعني أنّ على أجيال من السوريين الخضوع مجدداً ليس للأسد فقط، وإنما لابنه ربما أيضا خلال المئة عام القادمة!
تلفزيون سوريا
خطاب الأسد وسوريا المستباحة/ رضوان زيادة
ألقى بشار الأسد خطابا أمام مجموعة من شبيحته من النوع الرديء جدا في التصفيق وترديد الكلام الفارغ كي لا نقول الشعارات لأنه لم يعد للنظام أية شعارات يرددها، القتل والتعذيب والخوف يملأ سوريا كلها اليوم، والفقر والعوز والحاجة هي حقيقة السوريين اليوم داخل سوريا لا أمل لهم بالحصول على الغاز ولا كهرباء ولا ماء صالح للشرب إلى غير ذلك من الحاجات الأساسية اليوم التي لا يمكن لأية دولة إلا أن يكون هدفها الأول والرئيس هو السعي لتأمينها.
هدف الخطاب الآن هو الرد على الأزمة الاقتصادية الخانقة بنظرية الحروب الأربعة التي أعلنها الأسد، وبالتالي على الشعب الذي قتلناه وهجرناه أن ينتظر عقوداً لأننا ما زلنا في حالة الحرب التي تبرر لنا كل ما فعلناه وسنفعله من قتل وتعذيب وتشريد، الأسد اليوم كما قلت أكثر من مرة هتلر زماننا المعاصر مع الفارق بالطبع في طموحات هتلر القومية وانعدام هذه الطموحات لدى الأسد اللهم إلا في المفاخرة بالقتل، النتيجة هي ذاتها على المستوى المتقدم في استخدام كل أنواع الأسلحة من أجل قتل السوريين وتصفيتهم.
ستنهي سوريا بعد أيام تقريبا عامها الثامن من الأزمة التي بدأت كثورة سلمية لها مطالبها المحددة في الإصلاح السياسي وإعادة هيكلة النظام السياسي على أسس ديمقراطية تستجيب لحاجات الشعب السوري سياسيا واقتصاديا.
استطاع نظام الأسد تدريجيا تحويل هذه الثورة السلمية إلى حرب أهلية طاحنة، كما وتحول النظام السوري نفسه وتدريجيا إلى ميليشيا قوية تشارك في صراع
يائس مع الشعب السوري. يسعى بشار الأسد لاستنزاف سوريا من الموارد المالية والبشرية، والأكثر خطورة من كل ذلك هو تدمير النسيج الاجتماعي السوري من خلال خلق صراع طائفي بغيض. لقد تجاهل النظام، أو تحلل منذ بداية الثورة من جميع الالتزامات في زمني الحرب والسلم. واجه الثورة السلمية بالرصاص الحي، والتي حصدت أرواح خيرة الشباب في سوريا، ومع تحول الثورة إلى ثورة مسلحة لم يتردد النظام في سحق ودوس قواعد الحرب أيضا، وبالتالي تحولت كل المستشفيات والمناطق السكنية والمساجد، والكنائس إلى أهداف للقصف بالبراميل والصواريخ، وامتلأت الفروع الأمنية بمئات الآلاف من السوريين الذين يقتلون تحت التعذيب وقد أظهرت الصور التي تم تسريبها من الفروع الأمنية حجم ومستوى التعذيب والوحشية التي يعيشها السوريون في أقبية المخابرات. وهكذا، نجد أن الشعب السوري يكافح على مدى السنوات الماضية ليس فقط للحفاظ على المقاومة، ولكن الأهم من ذلك، تماسكه ضد سياسة منهجية تهدف إلى كسره وتحويله إلى أقليات متناحرة ومتصارعة.
بعد كل هذه السنوات حيث بلغ عدد القتلى أكثر من خمسمئة ألف وتحول أكثر من ثلثي سكان البلاد إلى مشردين نازحين أو لاجئين، وظهرت الجماعات الإرهابية مثل داعش وغيرها التي سيطرت على أجزاء كبيرة من سوريا، ولكن ما يزال الأسد يكرر تقريبا الكلمات نفسها التي استخدمها في بداية الانتفاضة في مارس 2011، وكأنه يعيش في عالمه الخاص الذي نسجه من خياله بأنه قادر على العودة بسوريا إلى ما كانت عليه قبل مارس ٢٠١١.
قد يكون حال الأسد وكلماته نموذجا لأي دكتاتور، رأينا ذلك من قبل مع هتلر، صدام حسين، وميلوسيفيتش، وغيرهم من الذين يعتقدون أنهم سيكونون قادرين على كسب الحرب حتى وهم يعيشون في مخبأهم السري، وتاريخ معظم الطغاة يكشف عن ممارسات شبيهة لما يقوم به الأسد اليوم فهو يعيش في فقاعته الخاصة به، وهذا النوع من الطغاة يصبح أكثر خطورة مع الوقت وفي الوقت نفسه تصبح قضية إزالته أو القضاء عليه أقل أولوية لأن تكلفتها أكثر ارتفاعاً.
ربما كان تركيز المجتمع الدولي اليوم منصباً على بروز داعش وسيطرتها على أراض واسعة في سوريا كما هي حال إدارة ترامب اليوم، وزاد هذا الاهتمام من تركيز وسائل الإعلام الغربية على داعش
بعد ذبحها للعديد من الرهائن، لقد ارتكبت داعش الكثير من الجرائم ضد الشعب السوري وخاصة في المناطق التي تسيطر عليها في الرقة ودير الزور، فهي تمنع المرأة من الذهاب إلى المدارس، وإغلاق كافة الأماكن العامة وتطبيق الإعدامات والجلد في الساحات العامة و قطع الرؤوس باسم الإسلام وقد جرى تطبيق ذلك بحق الكثير من السوريين الذي يرفضون أوامرهم كما حدث ذلك للكثير من الناشطين في سوريا.
هذه هي المعضلة التي تواجه الشعب السوري اليوم بين حكومة الأسد التي تعني القصف اليومي بالبراميل المتفجرة وبين داعش التي تحكم باسم الشريعة، ينبغي على المجتمع الدولي ألا يسمح لهذا أن يستمر، عليه مسؤولية ودور لمساعدة الشعب السوري لإنهاء هذا الكابوس وفتح مستقبل ديمقراطي بالنسبة له.
تلفزيون سوريا
الأسد مجرم وكذّاب بامتياز، ولكن ماذا عن الآخرين؟/ محمود الحمزة
شعبنا، الذي فجر ثورة عظيمة، وأثبت شجاعته وتوقه اللامحدود إلى الحرية ودولة القانون، اصطدم بجدار أصم، صنعته قوى محلية وإقليمية ودولية، لا تسمح لهذا الشعب بالتقدم نحو أهدافه المشروعة. تكالبت عليه قوى العالم، تحت شعارات مختلفة أخطرها تلك التي تقول إنها مع الثورة، لكنها عمليًا ضد الثورة.
وإذا كانت الدول “المتحضرة” تكذب وتنافق علينا؛ فلماذا لا يحق لبشار الأسد أن يكذب، وهو الرئيس “المنتخب شرعيًا” والمعترف به في الأمم المتحدة حتى اليوم، بالرغم من جرائم الحرب التي ارتكبها! تصوّت تلك الدول في الجمعية العامة، وتعترف بالائتلاف الوطني السوري ممثلًا شرعيًا للشعب السوري، وتترك ممثل النظام بشار الجعفري المتعجرف يلقي كلمته، في كل جلسة لمجلس الأمن تتعلق بسورية، بغياب ممثل عن الثورة!
ما شهدناه يوم أمس 17 شباط/ فبراير هو مسرحية هزلية، عرضها بشار الأسد ومجموعة من الحثالات المصفقين. والغريب أن الأسد -بعد ثماني سنوات من صراعٍ دامٍ- ما يزال قليلَ إحساس ومغرورًا بقدراته التنظيرية البائسة. وديدنه هو تقسيم الشعب السوري إلى “خونة ووطنيين”. فكل من يخالفه الرأي هو “عميل وتابع للأجنبي”، ويتحدث عن “السيادة”، ولا يذكر سوى تركيا كدولة محتلة، لكن أين أميركا وروسيا وإيران وشبيحة العالم التي دعاها بنفسه لقتل السوريين!
يتحدث عن الصعوبات المعيشية التي يعانيها السوريون، ويقول هناك فساد وقلة أخلاق، لكنه يضع الحق على الشعب نفسه، بينما يعرف السوريون جيدًا أن الفساد والتسلط والتشبيح مصدره الأسد، وحاشيته من آل مخلوف وشاليش وأجهزة المخابرات المجرمة الفاسدة.
لا يمكن مقارنة الأسد وحاشيته الأمنية إلا بأسلوب وزير الإعلام الهتلري غوبلس، الذي كان يقول: “اكذب واكذب واكذب.. حتى يصدقك الناس”، لكن الحقيقة أن بشار نفسه لا يصدق نفسه! لكنه يؤدي دوره في المسرحية، ولا يمكنه أن يتراجع، على الرغم من النهاية التراجيدية التي تنتظره. وعلى أي سوري أن يخجل من هذه الجوقة المسرحية التي جمعت أفرادَها المخابرات ليصفقوا ويُظهروا عراضات شعبية كاذبة، عن حبهم للأسد بعد كل جرائمه ضد الإنسانية.
يتهم الأسد الآخرين بما هو يمارسه ويعيشه يوميًا، فهو الذي أصبح تابعًا وعميلًا وأجيرًا لدى نظام الملالي ولدى الكرملين، وباع سيادة سورية، وقتل الشعب، وأنهك المجتمع، ودمّر البلد ببراميله وأسلحته الفتاكة، وهو الذي بدأ بالقتل ونشر الطائفية وتقسيم السوريين على مبدأ: “من معي فهو وطنيّ، ومن ضدي فهو عميل وخائن”.
يقولون إن الشعب السوري يجب أن يقرر مصيره بنفسه، ومن ضمن ذلك وضع الدستور، لكنهم (أي القوى الدولية والإقليمية) هم من يُناقش ويُقرر مصير الشعب السوري بغياب ممثليه، وهم من وضع وأشرف على قائمة “اللجنة الدستورية”، ولأن المقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة؛ فلا خير يُنتظر من اللجنة الدستورية، ولا من الدستور الذي ستصوغه؛ لأن الأغلبية المطلقة لأعضاء اللجنة لا يُمثلون إلا أنفسهم، ويا ليت أنّ المشكلة في نصّ الدستور. فالموضوع سياسي بامتياز، وإن لم تُخْلَق ظروف مناسبة وآمنة لتطبيق الدستور -أيًا كان نوعه- فلا خيرَ ينتظر منه، والظروف الآمنة تعني -بكلمة واحدة- وجود نظامٍ يحترم رأي الشعب، ويخلق الظروف لمشاركته في أجواء حرة، وهذا لن يحدث في ظل نظام عصابة الأسد التي لا ترى الأشياء إلا من خلال منظارها الخاص المشوّه، حيث سورية بما فيها مزرعة لبيت الأسد، كما بيّنت مسرحية خطاب الأسد أمس.
لو كان لدى بشار الأسد وحلفائه إحساسٌ وأخلاق؛ لما استمروا في المنطق والموقف السياسي نفسيهما على مدى ثماني سنوات، بالرغم من الكارثة الكبرى التي حلت بالسوريين، ومسببها الرئيس هو نظام الأسد، باستخدامه كلّ ما يملك من أسلحة، ومعه نظام الملالي الاستبدادي الفاسد الذي يُعاني شعبه الجوعَ والحرمان، وينفق المليارات على أجنداته القومية التوسعية، وروسيا بأسلحتها الحديثة التي اعترفت قيادتها بأنها جرّبت أكثر من 200 صنف جديد من الأسلحة في سورية، واكتشفت أن بعضها يحتاج إلى إعادة تحديث بعد التجريب، بوقاحة وقلة أخلاق.
كلهم يشتركون في كذبة كبرى، هي أنهم يحاربون “الإرهاب”! لكننا نعرف أن القوى الإرهابية هي صناعة استخباراتية إقليمية دولية، وُجدت لإجهاض الثورة حصرًا، وترهيب الشعوب، وإبقاء الأسد في الحكم ولو إلى حين، وإننا نعرف تمامًا أن تنظيم (داعش) الإرهابي ومشتقاته هم أشباح تظهر وتختفي في الزمان والمكان المطلوبين، عند الحاجة.
عندما سقط الاتحاد السوفيتي عام 1991، وانهار المعسكر الاشتراكي وحلفه العسكري “حلف وارسو”؛ سقطت الأيديولوجيا الشيوعية في العالم، وقد كانت الشبحَ الذي يُحاربه الغرب الرأسمالي المتحضر، لذلك اخترعوا “الإرهاب”، وبدأ ذلك بتفجيرات نيويورك عام 2001 التي اتهموا فيها المسلمين المتطرفين، ومن هنا ظهر شبح عالمي جديد، يخوفون به الشعوب هو “الإرهاب الإسلامي”، وأصبح كل مسلم مُتّهمًا حتى تثبت براءته. وصارت أميركا والغرب ومن التحق بهم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يدّعون بأن الفكر الإرهابي مرتبط بالإسلام، وفي كل مرة نجد أنفسنا مضطرين إلى توضيح أن الدين لا يمكن أن يدعو للقتل والإرهاب، وأن الإرهاب بالفعل صناعة لا علاقة لها أصلًا بالدين أو المعتقد أو القومية، إنما يُلبَس الإرهاب ثوبًا دينيًا أو غيره لسهولة خداع الناس به، وهو يعدّ أخطر ظاهرة عرفها العالم في القرن الحادي والعشرين، لأن أحدًا في العالم لا يعرف ما المقصود بالإرهاب بالضبط، وما معاييره ومن الجهات الداعمة له!
في منطقتنا، هناك أنظمة تمارس الإرهاب ضد شعوبها، وفي مقدمتها نظام الأسد، وطبعًا “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني، إذًا هناك إرهاب الدولة وإرهاب الجماعات وإرهاب الأفراد، وكله موجود في منطقتنا، على نحو واسع، لكنه غير موجود في أميركا اللاتينية بهذه الصورة أو في أفريقيا إلا قليلًا، والسبب مرتبط بأمن “إسرائيل”، وتعمل على تحقيق ذلك كلُّ الإدارات الأميركية المتعاقبة ومعها دول كثيرة في أوروبا وآسيا، من ضمنها روسيا، وذلك هو مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي يجب، من أجل تنفيذه، تفتيت المنطقة، وتدمير جيوشها وبنيتها التحتية، وتهجير شعوبها وخلق فوضى، وتأسيس كيانات طائفية ودينية وقومية هزيلة، ودول فاشلة قائمة على الاستبداد، تكون فيها “إسرائيل” الأقوى، ليمكنها القول إنها دولة يهودية.
بشار مجرم وكذّاب. هذه حقيقة متفق عليها كونيًا؛ لكن ماذا عن الآخرين؟
الواقع أن الكل يكذب، والكل عديم أخلاق، بدءًا من نظام الأسد وحاشيته وحلفائه بلا استثناء، والفصائل الإسلامية المسلحة، والقوى السياسية التي تنافق باسم الثورة، وصولًا إلى كل من حشر يده في قضية السوريين، وكأنه أتى ليساعدهم، لكنه في الحقيقة يقول حقًا يُراد به باطل، فكل من تدخّل إنما جاء يبحث عن كعكة مغمسة في دماء المذبحة السورية، وكل هذه الفئات لا تُمثّل الشعب السوري ولم يفوضها، ويبقى الشعب السوري هو صاحب القرار والرأي في النهاية، ولو اجتمعت قوى الأرض كلها على إجبار السوريين على شيء لا يقبلونه، فلن تُفلح.
الطامة الكبرى هي أن مجموعات ليست قليلة من الشعب السوري تربّت على أيدي عصابة الأسد، فتعلمت الكذب والنفاق والنصب والاحتيال، ومنها فئات معارضة تدّعي أنها تدافع عن الثورة، ولكنها إما تنافق أو ترى أنها هي الثورة ومنبع الوطنية، وبذلك فهي ترى الثورة من خلال شخصيتها ومرآتها، وهذا من أسباب تراجع الثورة.
نحن بحاجة إلى وقفة مع الذات ومراجعة الضمير، وأن يُحدد كلُّ واحد دوره الحقيقي وإمكاناته الواقعية في العمل الوطني، وأن يضع مصلحةَ الشعب السوري -قولًا وفعلًا- في أولوياته، وأن يتخلى كثيرون عن ادعاءاتهم بأنهم يمثلون الثورة ويمكنهم قيادتها، وليتركْ كل من لا يستطيع تأدية دور عملي مفيد الشعاراتِ والأقوالَ بأنه يخدم الثورة، وليفهم الجميع أن الله {لا يُغَيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهِم}.
موقع جيرون
أجير صغير على أنقاض سورية/ أسامة أبو ارشيد
من استمع إلى نبرة وعبارات التحدي وزعم الانتصار في كلمة الرئيس السوري، بشار الأسد، يوم الأحد الماضي في دمشق، أمام رؤساء المجالس المحلية في المحافظات السورية، سيتوهم أن الرجل يُحكم قبضته على بلاده فعلا، وأنه لا يزال رئيسا لها متمتعا بكامل الصلاحيات والنفوذ الذي كان لديه قبل ثماني سنوات، واقع الحال في سورية اليوم غير ما حاول أن يَظْهَرَ عليه الأسد في كلمته. وربما ليس أدلّ على ذلك من أن الرجل الذي كان يتهدّد ويتوعد، ويتحدث عن هزيمة الولايات المتحدة وتركيا، وحلفائهما على الأرض السورية، لا يستطيع، إلا نادرا، مغادرة قصره الرئاسي في دمشق، وبحماية روسية بالدرجة الأولى. أيضا، أهمل الأسد في كلمة نشوة النصر الزائف أن نظامه تداعى إلى حد كبير، بحيث إن انسحاب إيران، أو مليشياتها، من سورية، وتحديدا حزب الله اللبناني، سيعني سقوط دمشق نفسها، وهروبه من القصر ذاته الذي كان يُسْمِعُ العالم منه عنترياته الفارغة. بدون روسيا وإيران لا يوجد نظام أسد، ولولاهما لكان اليوم قتيلا، أو شريدا، أو لاجئا في موسكو أو غيرها من مدن العالم القليلة التي تؤيد وحشية نظامه.
في الكلمة ذاتها، صَبَّ الأسد غضبه على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ووصفه بأنه “إخوانجي، وهو عبارة عن أجير صغير عند الأميركي”، واتهمه بأنه لا يمكنه القيام بأي دور لم تكلفه به واشنطن. مضيفا أن أردوغان يستجدي الأميركيين منذ ثماني سنوات لكي يسمحوا له بالدخول “إلى المنطقة الشمالية في سورية والمنطقة الشرقية، وكان الأميركي يقول: ابقَ
جانبا دورك لم يأت بعد”. وللمفارقة هنا أوجه عدة. أولا، إن هجوم الأسد على أردوغان جاء بعد ثلاثة أيام فقط من صدور البيان الختامي لقمة سوتشي في روسيا، والتي اتفق خلالها الرؤساء، الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، أردوغان، والإيراني، حسن روحاني، على تنسيق الجهود لإحلال الأمن والاستقرار في مناطق شمال شرقي سورية، وعلى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وعودة اللاجئين، والالتزام بمسار أستانة لحل الأزمة، وهو المسار الذي يتشكل، حصريا، من روسيا وتركيا وإيران. بمعنى أن هذه الدول الثلاث هي التي تقرّر في كثير من الشأن السوري، في حين ينفذ الأسد ما اتفق عليه، نيابةً عن روسيا وإيران، وهو ليس له ولا لنظامه رأي معتبر.
المفارقة الثانية أن الأسد الذي تحدث بتحقير وتصغير عن أردوغان يظن أن السوريين، والعالم، نسوا الإهانات العديدة والمتكررة التي وجهها حلفاؤه الروس له، وعلنا أمام كاميرات التلفزة. ونذكّر هنا بحادثتين. في شهر يونيو/ حزيران 2016، نشر الإعلام الروسي فيديو مع الصوت للأسد وهو يستقبل، في قصره في دمشق، وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو. ويظهر الفيديو علامات الدهشة على وجه الأسد وهو يرحب بزائره الذي جاء على غير ميعاد، ومن دون إخطار الرئاسة السورية، كما تقتضي قواعد البروتوكول. وبدون تفكير، خاطب الأسد شويغو: “أنا سعيد جدا بلقائكم اليوم، مفاجأة سارّة”. مضيفا: “لم أكن أعلم أنكم ستأتون شخصيا”. وتعود الحادثة الثانية إلى ديسمبر/ كانون الأول 2017، عندما زار بوتين قاعدة حميميم العسكرية الروسية في محافظة اللاذقية. مرة أخرى، تعمّد الروس إهانة الأسد، حيث كان الأخير ينتظر بوتين مع شويغو وقائد القوات الروسية في سورية، سيرغي سوروفيكين، عند سلم الطائرة. وعندما توجه بوتين نحو المنصّة ليلقي كلمة أمام القوات الروسية في القاعدة، حاول الأسد اللحاق به، إلا أن أحد الضباط الروس جذبه من ذراعه، أمام كاميرات التلفزة، طالبا منه التوقف وعدم مرافقته إلى المنصة.
ذلك غيضٌ من فيضٍ لرجل يقدّمه أنصاره على أنه “زعيم” في “محور الممانعة”، ويبالغون في نسج أوهامٍ من قبيل انتصار “سورية الأسد” و”الممانعة”، وكأن الطائرات الحربية الإسرائيلية لا تسرح وتمرح في أجواء سورية، بل وفوق دمشق نفسها، تتصيّد القواعد العسكرية الإيرانية، وقوافل الأسلحة لحزب الله، فضلا عن قادتهما وكوادرهما العسكريين على الأرض. النكتة السمجة هنا أنه في كل مرة تنفذ إسرائيل قصفا جديدا في سورية، يخرج عليك أنصار نظام الأسد مبرّرين عدم تفعيل روسيا لمنظومات صواريخ “أس 300″، و”أس 400″، التي تغطي كل الأراضي السورية، بذريعة أن الطيران الإسرائيلي، إما قصف من الجولان المحتل، أو من الأجواء اللبنانية. ولكن لن تجد أحدا يشرح لك لماذا لم تسقط أنظمة الدفاع الجوية الروسية الصواريخ المهاجمة!
إذاً، قد يكون نظام الأسد حقّق انتصارات عسكرية كبيرة على الأرض في العامين الماضيين،
كما في ريف دمشق وريف حمص، وأجزاء من ريف حماة، والمنطقة الجنوبية، كما قال الأسد نفسه. لكن الحقيقة أن تلك الانتصارات العسكرية لم تكن لتتم لولا التواطؤ الأميركي أولا، وتخاذل أنصار المعارضة السورية، بما في ذلك تركيا نفسها، ثانيا، التي فوّتت فرصا كبيرة قبل التدخل الروسي خريف عام 2015. وعلى الرغم من ذلك، وهذا ثالثا، فإن نظام الأسد كان على شفير هاوية الانهيار عام 2012 لولا تدخل إيران ومليشياتها، ثم تدخل الروس عام 2015، بعدما لم تستطع إيران ومليشياتها وحدهما الاستمرار في حماية الأسد. أبعد من ذلك، يتحدّث الأسد عن الانتصار، وكأن حوالي مليون إنسان من شعبه لم يقتلوا، وأضعافهم مصابون، وملايين آخرين إما نازحون داخل بلادهم المدمرة أو مشرّدون خارجها. سورية اليوم بلد ممزّق، تحكمه عصابات محلية، ومليشيات أجنبية، ودول إقليمية ودولية، وهي من تقرّر بشأنه. وما الأسد إلا “أجير صغير”، ويُستخدم تعبيره هنا، عند الروسي أولا، والإيراني ثانيا. تُرى، لو كان قدّر للشاعر، أبو بكر محمد بن عمار الأندلسي، أن يدرك زماننا هذا، ماذا عساه كان سيقول في وصف كثيرين من حكام العرب اليوم، ومنهم الأسد!؟ ابن عمار هذا هو صاحب البيتين التاليين في وصف حكام الأندلس المُخْزينَ في زمانه:
وممـا يزهدني فـي أرض أندلـس أسمـاء معتمـد فيهـا ومعتـضد
أسمـاء مملكـة فـي غير موضعـها كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد
أترك التوصيف والإجابة لكم.
العربي الجديد
حرب الأسد على المعارضين والمؤيدين على السواء/ سلام السعدي
في ظل استمرار المراهنات الأوروبية والأميركية على إمكانية استخدام أوراق الضغط المتبقية بحوزتهم لرسم مستقبل سياسي لسوريا ما بعد الحرب يكون مختلفا عن ذلك الذي قادها إلى الكارثة، جاء خطاب بشار الأسد الأخير ليبدد تلك المراهنات ويوضح تمسكه بنظام إقصائي شديد المركزية، لا يتسامح مع أي شكل من أشكال المعارضة أو النقد وحتى لو صدر عن قاعدته الشعبية. من حيث الشكل والمضمون، أكد الخطاب على هدف النظام الرئيسي الذي لم يتغير طيلة ثماني سنوات من الحرب وهو العودة إلى ما قبل العام 2011.
من حيث الشكل، تحيلنا جميع التفاصيل إلى عصر ما قبل الثورة، عصر عبادة الفرد. دخل الأسد ليخاطب رؤساء مجالس الإدارة المحلية على وقع الهتافات المعهودة منذ عهد الأسد الأب “بالروح بالدم نفيدك يا بشار”. أثناء الخطاب تعاقب عدد من الحضور على إلقاء ما يبدو أنه قصائد رديئة تشيد بحكمة القائد وبصمود الشعب في وجه المؤامرة. إنها ذات آليات زراعة الخوف وتعزيز صورة رئيس النظام كقوة متعالية على الشعب، يعمل الجميع على تقديم فروض الطاعة والولاء له.
من حيث المضمون، كرر الأسد ما كان يرد في خطاباته خلال الأعوام الماضية، إذ وصف المعارضة السورية بالإرهاب وبأنها عميلة للغرب ولدول إقليمية ومؤكدا بالتالي استحالة عقد مفاوضات معها فضلا عن تقديم التنازلات. وإذا كانت خطاباته السابقة قد وصفت بأنها منفصلة عن الواقع، فإن خطابه الجديد مدعوم، نسبيا، بالواقع الذي تحقق خلال العامين الماضيين، والذي شهد هزيمة المعارضة المسلحة واستعادة النظام السيطرة على معظم أراضي البلاد.
الجديد في الخطاب هو ردوده المباشرة وغير المباشرة على الأحداث الجارية وما يتوقعه من تطورات لاحقة. ويبرز في مقدمة تلك التطورات العمل على كتابة دستور جديد للبلاد ودفع قوى غربية ومحلية نحو خيار اللامركزية.
تعتقد القوى الغربية أن بإمكانها الضغط على روسيا وإيران والنظام السوري لإقرار اللامركزية كنظام سياسي يوسع من المشاركة السياسية. وقد جرى بناء هذا الرهان على حقيقة وجود بضع أوراق ضغط بحوزة التحالف المعارض للأسد. أولى تلك الأوراق هي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والتي تشكل نحو 30 في المئة من مساحة البلاد. يضاف إلى ذلك الربط بين مساهمة الغرب بإعادة الإعمار وبين تقديم التنازلات السياسية.
وجاء خطاب بشار الأسد ليؤكد مخاوفه من أوراق الضغط تلك ورفضه المطلق لخيار اللامركزية. ما زاد من تلك المخاوف هو فشل مفاوضات النظام مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي حول مستقبل مناطق شمال سوريا، وتصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعد اجتماعه مع نظيريه الروسي والإيراني، بأن ملامح النظام السياسي المستقبلي لسوريا بدأت بالظهور.
وفضلا عن ذلك، لا يطمئن الأسد إلى قرار الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا وخصوصا بعد إعلان وزارة الدفاع الأميركية أنها لن تسلم مناطق سيطرتها لنظام الأسد حتى بعد انسحابها.
هكذا، شن الأسد هجوما عنيفا على فكرة اللامركزية معلنا أن لنظامه رؤيته الخاصة للامركزية والتي تقوم على وجود مجالس الإدارات المحلية. أما ما تطرحه المعارضة والغرب فهو بحسب الأسد “لامركزية شاملة” تضعف سلطة الدولة وتضعف “المفاهيم الوطنية”، وتكون النتيجة “تراجع التجانس الاجتماعي وتقسيم المجتمع″ وصولا إلى “تقسيم الوطن”. ويستدرك الأسد بالقول إن هذا السيناريو لا يمكن أن يحصل بسبب عدم وجود انقسام اجتماعي حقيقي وبسبب إجماع الشعب على سلطة الدولة ومركزيتها.
ومن ثم انتقل الأسد للهاجس الثاني والمتعلق بارتفاع مستوى النقد الموجه للنظام في الأماكن التي يسيطر عليها، ومن قبل قاعدته الشعبية بسبب استمرار تدهور المستويات المعيشية والخدمية. إذ تعيش كافة المدن السورية أزمة خانقة في ما يخص المحروقات والتي تكتسب أهمية كبيرة في فصل الشتاء. يقف السوريون في طوابير طويلة لا تنتهي أمام منافذ البيع الرسمية للحصول على جرّة غاز ولكن من دون طائل. وفضلا عن ذلك، تواصل أسعار المواد الغذائية ارتفاعها في ظل تدنٍ متواصل لدخول السوريين وارتفاع معدلات البطالة والفقر. ولم تفلح محاولات حكومة النظام السوري لاحتواء الأزمة، وهو ما أطلق موجات غضب غير مسبوقة على مواقع التواصل الاجتماعي أثارت مخاوف النظام.
واستغل الأسد الخطاب ليوضح لقاعدته الشعبية أن النقد، كل أنواع النقد، مرفوض تماما لأنه “يخلق انقساما في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى وحدة الرأي والتوجه في القضايا الرئيسية”. وأضاف “علينا تعميم ثقافة التنوع الذي يعني الغنى، بدلا من ثقافة التناقض والتنافر التي يسعى أعداؤنا إلى تعميمها واستغلالها”. ورغم تقديره لانفعال السوريين، أصرّ الأسد على التمييز بين “الانفعالات الصادقة والانفعالات الكاذبة الهادفة لحصد الإعجاب”.
وهنا، وجد الأسد نفسه مضطرا لتنحية خطاب “النصر” جانبا وليؤكد بدلا منه على “استمرار الحرب على سوريا” والتي تتسبب في معاناة الناس. فالتركيز على انتصار النظام خلال الأشهر الماضية نشر نوعا من التفاؤل في صفوف المؤيدين بتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وهو ما تبين لاحقا أنه مجرد وهم. هكذا راح الأسد يؤكد على دور الحصار الاقتصادي المفروض على البلاد، وعلى أن المخطط الجديد بعد فشل الحرب هو خلق الفوضى داخل سوريا، محذرا جمهوره من التورط في هذه الفوضى؛ “بهذا الجو الفوضوي يغرق البعض باستعراض عضلاته النقدية والفكرية والبلاغية بدلا من أن يسعى للحل”، هكذا علق الأسد.
بعد ثورة شعبية شارك فيها الملايين من السوريين، وبعد حرب مدمرة قتلت أكثر من نصف مليون وهجرت نصف سكان البلاد، لا يزال النظام السوري رافضا لإبداء أي قدر من المرونة السياسية، وهو ما يقوله الكثير عن الطبيعة الطغيانية لهذا النظام؛ نظام الأبد.
كاتب فلسطيني سوري
العرب