من التهديد بجزأرة سوريا إلى التهديد بسورنة الجزائر/ بكر صدقي
من كان يتصور أن يأتي يوم تنقلب فيه الآية إلى هذا الحد؟ تهديدات رئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى، من منبر البرلمان، تعيد إلى الذاكرة كلاماً قاله، في العام 2001، عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري آنذاك، تعليقاً على انتشار المنتديات في سوريا في مناخ ما سمي بـ “ربيع دمشق” القصير. فقد حذّر “أبو جمال” الذي سينشق لاحقاً عن النظام الذي همشه، من التساهل مع ارتفاع نبرة النقد المعارض (داخل صالونات مغلقة!) فقال إنه إذا استمر هذا التساهل سيضطر النظام لإنزال الدبابات إلى الشوارع!
إنزال الدبابات إلى الشوارع هو إجراء وقائي تلجأ إليه الدكتاتوريات العسكرية لمنع التحركات الشعبية المحتملة. ربما لم يكن نائب الرئيس، حينذاك، يتوقع أن تمتلئ شوارع المدن السورية بأعداد كبيرة من المتظاهرين السلميين، كما سيحدث بعد عشر سنوات، في سياق ثورات الربيع العربي، ولكن من المرجح أنه كان يعرف رد الفعل “الغريزي” للنظام الذي كان جزءاً منه، لفترة طويلة، على أي اعتراض شعبي محتمل ضد النظام: مواجهة الحراك السلمي بالحديد والنار. حين وقع الفأس في رأس النظام، وانطلقت الثورة الشعبية في آذار 2011، كان قد مضى على انشقاق خدام ست سنوات، وأصبح خارج المشهد منذ وقت طويل.
تهديد أو يحيى ينطلق أيضاً من معرفة غريزة النظام العسكري في الجزائر الذي سبق وخاض حربه الأهلية ضد السكان في تسعينات القرن الماضي، وكلفت أكثر من مئتي ألف قتيل. في كل من سوريا والجزائر نجا النظامان المتشابهان وأفلتا من المحاسبة على ما فعلاه ببلديهما، الأول في مطلع الثمانينات والثاني في مطلع التسعينات، ودفع البلدان ثمن انتصار النظامين المجرمين عليهما.
ومن أهم وجوه ذلك الثمن ضعف وتشتت قوى المعارضة في البلدين، مما أنتج عجزاً مزمناً عن تقديم بديل عن النظام القائم، وهو ما سيشكل أحد أسباب انكسار الثورة في سوريا، ونتمنى ألا يكرر الجزائريون هذا المصير.
غير أن الحالة الجزائرية، اليوم، فيها شيء غير مسبوق، لا في سوريا ولا في غيرها، ألا وهو عجز النظام أيضاً عن تقديم بديل للكرسي المتحرك الذي يحكمون باسمه، مما قد يشير
إلى غياب التماسك الداخلي للنظام. بالنسبة لسوريا كان توريث الحكم لابن حافظ الأسد هو الذي حافظ على تماسك النظام واستمراره، إضافة إلى أن استحقاق البديل قد جاء قبل اندلاع موجة ثورات الربيع العربي بعشر سنوات، تجاوز فيها النظام كثيراً من المطبات القاتلة كاغتيال رفيق الحريري وإخراج الجيش السوري من لبنان. في حين أن النظام الجزائري يواجه اليوم استحقاق البديل الذي سوّفه دورةً بعد دورة من الانتخابات الرئاسية المتتالية، ويواجه أكبر موجة احتجاجات سلمية في تاريخه في الوقت نفسه.
هذا ما يدعو للتفاؤل. فمن المرجح أن يضطر النظام، تحت ضغط الحراك الشعبي، إلى تقديم بديل عن عبد العزيز بوتفليقة، ولا يمكنه أن يفعل ذلك بمعزل عن مطالب الشارع التي تتجاوز مجرد استبدال وجه جديد من داخل النظام بالجثة المتحركة التي أرادوا لها أن تستمر في حكم الجزائريين. سوف يلجأ النظام إلى اتخاذ إجراءات محدودة، إضافة إلى تغيير المرشح الرئاسي، بهدف امتصاص النقمة المتراكمة، وسنرى ما يمكن أن يكون الرد الشعبي عليها، ثم رد النظام على الرد الشعبي.. في تكرار لما بات مألوفاً في مناخ الثورات.
يأمل المرء أن يتصرف الجزائريون في مسار مختلف عن المسار السوري، وهو ما يتطلب حداً أدنى من المسؤولية الوطنية
لدى النخبة الحاكمة، أو قسم منها، المؤسسة العسكرية بصورة خاصة. فمن شأن عدم الانجرار نحو السيناريو السوري الذي هدد به أويحيى وما يمثله من النخبة الحاكمة، بمواجهة الحراك الشعبي السلمي بلا إراقة دماء، أن يشكل نقطة انعطاف كبيرة في تاريخ الجزائر المثخن بالجراح. كما أن المعارضة الجزائرية مطالبة بتحمل مسؤولياتها التاريخية في أن تكون أهلاً لقيادة مرحلة جديدة. الإسلاميون بخاصة الذين كانوا طرفاً في صراع التسعينات، ورأوا ما فعله الإسلام السياسي بثورات الربيع العربي، سيكونون أمام اختبار كبير.
ولانتصار العقل، كما هو مأمول، في الجزائر، أن يشكل نقطة انعطاف إيجابية في مسار التحولات العربية، ورداً على الخراب الذي واجه به نظام الأسد مطالب الشعب السوري. فالنموذج السوري يعطي درسين متعارضين: درس كما فهمه أويحيى وهدد به الجزائريين بالحذو حذو المجرم بشار الأسد، ودرس للنخبة الحاكمة التي يمثلها المذكور بأن الخيار الأسدي لا يمكنه أن يكون مخرجاً لأزمة النظام.
يتنكب الجزائريون والسودانيون، اليوم، مهمة تتجاوز جغرافيا البلدين إلى مهمة أكبر هي تصحيح مسار الربيع العربي بعد انتكاسته الكبيرة في سوريا وليبيا واليمن، ليعاود انطلاقه بديناميات أكبر، وربما في بلدان جديدة.
تلفزيون سوريا