الأسدية إذ تتجاوز خطر الحلفاء/ عمر قدور
بينما ينشغل العالم بما يبدو تنافساً روسياً-إيرانياً على احتكار السيطرة على بشار، أو استتباعه بشكل مفضوح، لا تبدو العصابة الأسدية مكترثة، ولا تبدي أي تذمّر ولو على سبيل التخفيف من وقع الإهانات. إذعان العصابة قد يُفسَّر بوضعها تحت الوصاية المزدوجة، وتجريدها من كافة أدوات القرار، فضلاً عن أنها الآن لا تستطيع ممانعة حليفين من هذا العيار، أو أياً منهما بمفرده.
قد يُفسَّر التصاغر الأسدي أيضاً بمنطق القوة الذي لا تفهم العصابة سواه، ومن ضمنه تحتفظ باستقوائها على السوريين، في حين تكون أمام الخارج في موضع مشابه لأولئك الذين تتولى سحقهم. لكن تجريد العصابة هكذا، مهما بلغ انحطاطها الأخلاقي ووحشيتها وعمالتها، ربما لا يكفي لسبر أغوارها. على الأقل هناك معطيات تدعم تطلعها إلى الخروج من ورطتها الحالية، وبعض ما نراه من مظاهر الضعف قد يراه قادة العصابة نوعاً من المرونة المؤقتة ليس إلا، مع تعويلهم على ما يعتبرونه حنكة أثبتت نجاحها حتى الآن.
على سبيل المثال، لم يأتِ الوجود الروسي المباشر إنقاذاً عسكرياً فحسب بعد فشل الميليشيات الشيعية، فمن وجهة نظر العصابة أتى كخلاص من السيطرة الإيرانية المطلقة. وإذا حُمِّل التدخل الروسي تطلعات العديد من القوى الدولية والإقليمية، بعضها يتعلق بإخراج إيران وبعضها الآخر يتعلق بتأهيل العصابة الحاكمة لتصبح نظاماً، فإن عقل العصابة يعمل على بقاء الوصاية المزدوجة واللعب في المساحة المتاحة بين طرفيها. بشار ليس روسياً ولا إيرانياً “ولا سورياً بالطبع”، بخلاف الأحكام أو التمنيات التي تُطلق هنا وهناك، هو ينتمي لكل ما يبقيه في السلطة سواءً كان حلفاً أو مجموعة من التناقضات والتعقيدات، ولا يمانع في أن يكون ذلك نوعاً من عدم الاستقرار طويل الأمد.
يرتكز تفكير العصابة على أنها فعلت بالسوريين الأكثر وحشية ما لا يمكن لعاقل تخيله، ورغم ذلك حظيت بمباركة دولية لبقائها. هي إذاً مطلوبة بما هي عليه، ويصعب العثور على بديل عنها يملك مواصفاتها أو مواصفات أدنى. من وجهة النظر هذه، ذلك يعني أن قرار التغيير لا تمتلكه موسكو أو طهران “أو كل منهما على انفراد” وحدهما، فهناك قوى غربية لن تفرّط بالزمرة الأسدية إذا أدى التفريط بها إلى تفكك البنية الأسدية بمجملها كما حصل للتركيبة الصدامية أو القذافية. بخلاف ما نظن، لا يعتبر الأسديون أنفسهم في مأزق، بقدر ما يرون المجتمع الدولي في مأزق جراء الإصرار على بقائهم والخسارة المتعمدة لأي خيار آخر، وعلى المجتمع الدولي تحمل أعباء تلك النتيجة رغماً عن موسكو وطهران إذا اقتضت الضرورة.
يرى بشار “بوصفه وريث الأسدية” نفسَه قد التقط ما تريده حكومات غربية، تحديداً في لعبة الحرب على الإرهاب، وهو بذلك شريك لها حتى إذا أنكرت الشراكة أو تحاشت الإعلان عنها. أبعد من ذلك، إذا كانت الحكومات الغربية تتحاشى تلويث سمعتها مباشرة برعاية الأسدية فهذه مصلحة مشتركة، لأن شراكةً أوسع لم تكن يوماً ضمن اهتمامات الأخيرة بما ترتّبه الشراكة العلنية من التزامات الحد الأدنى في الجانب السياسي. لنتذكر أن الأسدية حالت دون تطوير الشراكة مع أوروبا في أكثر من مناسبة سابقاً، وعرقلت تنفيذ العديد من المشاريع والالتزامات الأوروبية في لبنان أيام الوصاية عليه.
نحن، عندما نفكر ضمن منطق السياسة، نرى مأزق العصابة بأكثر مما تراه. فتدمير البلد لا يعنيها حقاً سوى من زاوية مكاسب إعادة إعماره ثانية، أي عبر سرقة نسبة ضخمة من المساعدات التي قد تأتي لإعادة الإعمار. وإذا كانت المساعدات مشروطة بإشراف الجهات المانحة فسترفضها العصابة بذريعة الاستقلالية والسيادة، وستفضّل بقاء الخراب والدمار حتى في البنى التحتية الضرورية إذا لم تقبض الثمن. كذلك هو الأمر في ما يخص عودة اللاجئين، فالعين أولاً على الشبان الذين هربوا من الالتحاق بقواتها، وفي المرتبة الثانية تأتي ضرورة استعادة بعض الكفاءات والمهارات الضرورية لمزرعة العبيد.
الحديث عن خسائر سورية، في ما يخص الإبادة والتدمير والتهجير، لا يمس الزمرة المتسلطة، وكي يمسها ينبغي أصلاً أن تتحلى بقليل من الانتماء للبلد. كما شاهدنا، وشاهد العالم كله، كانت المقتلة السورية فرصة للتكسب والإثراء لأفراد العصابة من أعلى الهرم لأسفله، ومفهوم الاستباحة الذي شهدناه كان استئنافاً لمسيرة عقود من النهب المنهجي والإفقار، فلم يكن على سبيل الانتقام من الثورة فحسب. فائض التدمير الذي حدث كان “خارج دائرة الانتقام” يصدر عن أولئك الذين يعرفون جيداً أنهم لن يعيدوا البناء على حساب مكاسبهم القديمة والمستقبلية، ولأسباب غير حربية إطلاقاً دُمّرت مناطق حيوية من أجل الاستيلاء عليها واستثمارها تجارياً.
مما نعرفه عن العصابات أن لا شيء يضغط عليها، سوى المسدس عندما يوضع بجدية على صدغ أحد قادتها الكبار، وربما يراوغ القادة حتى لحظة تلقي الرصاصة فعلاً. لذا لن يكون هناك تعديل في سلوك العصابة الأسدية، وإذا كان عامل الوقت ضاغطاً على العديد من القوى، بما فيها الحليفان الروسي والإيراني، فهو لا يضغط عليها إطلاقاً، ولا ترى أنها أمام أي استحقاق ملحّ. على العكس من ذلك، كانت الأسدية دائماً تلعب على استهلاك الوقت الذي لا يعني لها شيئاً بالمعنى الاستراتيجي بينما يمتلك قيمة بالنسبة للآخرين، وعندما يصرّح الناطقون باسمها أنهم لن يتغيروا وأن على الآخرين مراجعة حساباتهم فهذه الأقوال تٌبنى على خبرة طويلة سابقة في استنزاف الوقت.
قد يكون مثيراً للدهشة إذا قلنا ما نعرفه عن اعتقاد العصابة الأسدية أنها تمتلك ذكاء يفوق الجميع، وهذه الصورة لا تُسوَّق داخلياً فقط من أجل التغرير بقاعدة مغفّلة. هو بالأحرى اعتقاد مبني على عقود من القدرة على البقاء، وعلى عقود من الوحشية والاستباحة، وعقود من الثبات ضمن عالم متغير. ما سبق كله يمنح العصابة الثقة في أنها ستتجاوز خطر الحلفاء الحاليين، بعد استخدامهم في التخلص من خطر السوريين. قد يصعب التكهن بمآل منطقي لهذه الثقة المفرطة، على الأقل تلزمنا معرفة أدقّ بكيفية تفكير المافيتين الحليفتين.
المدن