ميناء اللاذقية عنوان مرحلة جديدة للإمبريالية الإيرانية
دخل مخطط إيران للتوسع الإقليمي مرحلًة جديدة بعد تمكنها من إدارة ميناء اللاذقية المطل على البحر المتوسط، رغم تعرضها لعقوبات اقتصادية كان لها تأثير مالي سلبي على الجماعات المسلحة التي تقدم الدعم لها في العراق وسوريا ولبنان، أو الطبقة الوسطى الإيرانية، لكنها في مقابل ذلك لا تزال تقاتل في المنطقة لتبرز كقوة إقليمية على الرغم من تعارض المصالح المشتركة بين الأطراف الإقليمية والدولية المتحالفة أو المعادية لإيران.
يواجه التوسع الإقليمي الذي تعمل طهران على تحقيقه مشاكل داخلية نتيجة تعزيز الولايات المتحدة الأمريكية الحصار الاقتصادي على طهران، الذي بدأه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلانه انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني العام الماضي رغم معارضة الاتحاد الأوروبي، ثم دفعه بسلسلة عقوبات اقتصادية للضغط على طهران مقابل انسحابها من العراق وسوريا.
فقد ساهمت حزمة العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على إيران العام الفائت باندلاع تظاهرات شعبية في العاصمة طهران وباقي المدن احتجاجًا على ارتفاع الأسعار وهبوط الريال الإيراني، وانسحاب شركات غربية لنقل النفط من الاتفاقيات التي أبرمتها مع البلاد، وكانت طهران حتى ما قبل تشرين الثاني/نوفمبر الماضي تُصدّر 2.6 مليون برميل من النفط الخام يوميًا بقيمة تفوق أربعة مليارات دولار، لكن تقارير صحفية تحدثت عن توقع انخفاضها للنصف بعد فرض العقوبات الأمريكية.
ويزيد من تدهور الاقتصاد الإيراني الدعم الذي تقدمه للجماعات المسلحة التي تدعمها في العراق وسوريا، فإذا أخذنا على سبيل المثال سوريا، فإن تقارير صادرة عن الأمم المتحدة تشير إلى أن إيران تنفق في سوريا ستة ملايين دولار سنويًا، لكن هذا الرقم لا يقارن بحجم الدعم العسكري، وتكفلها بدفع رواتب شهرية تقدر بـ800 دولار أمريكي للمقاتلين الذين يقاتلون ضمن الجماعات المسلحة التي تدعمها، بمبلغ يقارب مائة مليون دولار سنويًا.
ومن الواضح أن النظام الإيراني القائم يدرك خطورة تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد التي تسعى لأن تكون بين الدول الكبرى على المستوى العالمي، فقد حذر رئيس محاكم الثورة الإيرانية موسى غضنفر آبادي من استعانة طهران بمقاتلين أجانب في الجماعات المسلحة التي يدعمونها لقمع أي انتفاضة شعبية محتملة ضد “الثورة الإسلامية الإيرانية” على حد تعبيره، وهو ما يدّل على المستوى المرتفع من الاحتقان الشعبي نتيجة الأزمة الاقتصادية الراهنة.
هل يحقق النظام الإيراني القائم طموحه الإقليمي؟
في قراءة سريعة لمجمل التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، نرى أن محاولة طهران توسيع نفوذها الإقليمي يصطدم بمواجهات مباشرة أو غير مباشرة مع مصالح متضاربة لمجموعة من الدول الغربية الفاعلة في الشرق الأوسط، أو القوى الإقليمية.
النظام السوري: ما بين موسكو وطهران
على الرغم من التقارب بين النظام السوري وطهران، والذي ظهرت ملامحه واضحًة من خلال الزيارة التي أجراها بشار الأسد إلى طهران قبل أكثر من شهر، فإن النظام نفسه يخضع لضغوط من الحليف الروسي، كانت واضحة في الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى دمشق، وحذر فيها على لسان بوتين، الأسد من “التواطؤ” مع طهران ضد موسكو، وضرورة انسحاب القوات الإيرانية من سوريا، فيما جاء ذلك على خلفية التقارير التي تحدثت عن إدارة طهران لميناء اللاذقية.
ووفقًا للمعطيات المتوفرة من قبيل تباطؤ النظام السوري في المضي بتنفيذ العملية السياسية، وبدء العمل باللجنة الدستورية، يبدو أن هناك تناغمًا مع السياسة الإيرانية في الأزمة السورية، من بينها إجراءه تغييرات في مناصب القيادات العسكرية والأمنية كان آخرها تعيين للواء كفاح ملحم قائدًا لما يعرف بـ”شعبة الاستخبارات العسكرية” بدلًا عن اللواء محمد محلا الذي أصبح مستشارًا أمنيًا في القصر الجمهوري. وقد أشارت تقارير صحفية إلى أن زيارة رئيس الأركان الإيراني محمد باقري كان لها دور في ذلك.
ويدرك النظام السوري جيدًا أنه من الصعب إخراج إيران من الأراضي السورية خلال الوقت الراهن، بالأخص بعد قول المسؤول الإيراني البارز محسن رضائي إن بلاده إذا أعطت دولارًا واحدًا ستأخذه أضعافًا، وطالب بتواجد للاقتصاد الإيراني مثل التواجد العسكري في سوريا، كما أن طهران أعلنت في شباط/فبراير الماضي أنها حققت 90% من أهدافها في سوريا، وهو ما يؤكد على عمق تحالفها مع النظام السوري المشتت بين تلبية مصالحها أم مصالح موسكو الإستراتيجية في المنطقة.
العراق.. سيطرة عسكرية وأمنية
تمكنت طهران من بسط نفوذها بشكل فعّال في العراق بعد تأسيسها لجماعة الحشد الشعبي العراقي الذي يضم فصائل مسلحة معروفة بولائها الشديد للحكومة الإيرانية، وفعليًا فقد تعاظم النفوذ الإيراني ليس في العراق فحسب، إنما في سوريا أيضًا بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مناطق واسعة من البلدين، وانهيار القوات العراقية المدعومة من واشنطن أمام مقاتلي التنظيم المتشدد قبل خمسة أعوام.
وقد أشارت الباحثة في الشأن العراقي جنيف عبده إلى أن التنظيمات المنضوية ضمن الحشد الشعبي تلعب في الوقت الراهن دورًا مختلفًا عن السبب الذي أنشئت من أجله، واصفًة الحشد بـ”سلاح إيران الرئيسي في العراق”، وأن قادتها المتحالفين مع طهران يرغبون في أن يصبح بديلًا للقوات العراقية ما يجعلهم يتلقون أوامرهم من طهران بشكل مباشر، وكان رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي قد أصدر العام الماضي مرسومًا ينص على ضم الحشد الشعبي إلى القوات العراقية الرسمية.
وتملك طهران مقاتلين مدعومين من قبلها على الحدود السورية – العراقية من كلا الجانبين، وهو ما يسمح لها بفرض نفوذها بشكل أكثر فعالية بين البلدين، ويسهل لها السيطرة على الطرق الرئيسية التي تربط بين دمشق – بغداد، ويسمح بتدعيم تواجدها بشكل دائم في المنطقة على المدى القريب، كما أن الحشد الشعبي تحول لتنظيم سياسي لديه كتلة تمثله في البرلمان العراقي، وظهر ذلك واضحًا عبر تعطيل تشكيل الحكومة العراقية بعيد الانتخابات البرلمانية العام الماضي على خلفية خسارة كتلة الفتح المدعومة إيرانيًا.
موسكو وتل أبيب.. مصالح مشتركة
عكس حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول إعادة رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل خلال استقباله نتنياهو في موسكو عمق التقارب الروسي – الإسرائيلي حول ملفات مختلفة، يأتي من ضمنها التواجد الإيراني في في سوريا، حيثُ وصف نتنياهو زيارته لموسكو بأن هدفها “التنسيق المستمر والخاص الذي يجري بين جيشينا”، وبحث الأزمة السورية “بشكل مفصل للغاية”، وهو ما انعكس في تصريحات الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الذي أكد استعداد بلاده لمناقشة الخطة الإسرائيلية لحل الأزمة السورية قبل يومين من وصول نتنياهو.
وكانت تقارير روسية تحدثت عن رفض إيران لعب دور “الأخ الأصغر”، واعتبار نفسها “منافسًا” لموسكو في سوريا، رغم محاولات موسكو احتواء التواجد الإيراني و”الحد من حجم وجودها (إيران) العسكري في سوريا” وفقًا للتقرير عينه، لذلك تحاول موسكو تحجيم الدور الإيراني في سوريا عبر ممارستها لضغوط على النظام من أجل انسحاب القوات الإيرانية من البلاد، لكن ذلك يصطدم بعامل الصراع الإيراني – الروسي داخل بنية النظام السوري نفسه.
وتتقابل تل أبيب مع موسكو في الحد من النفوذ الإيراني داخل سوريا، فقد أشارت الصحافة الإسرائيلية في الشهر الماضي لرصد أقمار صناعية إنشاء إيران مصنعًا للصواريخ الدقيقة شرق سوريا، إضافة للقواعد العسكرية التي أنشاتها في مناطق مختلفة من سوريا، من ضمنها في الجنوب قرب الحدود مع هضبة الجولان المحتل، وترى تل أبيب من هذا المنطلق أن تحالفها مع موسكو قد يساعدها في الحد من النفوذ الإيراني عبر تنفيذ ضربات جوية على المواقع الإيرانية داخل سوريا بالتنسيق المشترك، وهو ما يصب في مصلحة الطرفين لتحجيم الدور الإيراني في البلاد التي مزقتها الحرب.
الولايات المتحدة.. الحرب بالحصار
منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض اتخذت واشنطن سلسلة قرارات ضد إيران، بدأتها بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية على طهران، ومؤخرًا تحدثت تقارير عن اتجاه واشنطن لتصنيف الحرس الثوري الإيراني كـ”منظمة إرهابية”، لكن هذه المرة جاء الرد الإيراني سريعًا عندما هددت بأن قواتها ستعتبر “الجيش الأميركي مثل تنظيم الدولة الإسلامية في كل أنحاء العالم”.
كما أشارت تقارير صحافية إلى أن العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران منعت الأخيرة من نقل النفط إلى سوريا منذ 2 كانون الثاني/يناير الماضي، ووفق صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية فإن واشنطن تسعى من خلال هذه العملية لإضعاف النظام الإيراني اقتصاديًا، وفرض حصار على النظام السوري بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وإنهاء التواجد الإيراني في سوريا الذي تعتمد عليه بشكل أساسي في وارداتها النفطية.
وبحسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فإن تأثير العقوبات الاقتصادية على إيران بدأ يظهر على حلفائها في الشرق الأوسط، لكنها قللت من حجم العقوبات معتبرًة أنها لن تؤدي بالضرورة لتخفيض إنفاقها العسكري، فالارتباط بين طهران والجماعات المسلحة التي تدعمها يتقدمه العامل الأيديولوجي قبل العامل المالي، كما يمكن لهذه الجماعات أن تُستخدم من قبل طهران لضرب القوات الأمريكية في العراق وسوريا، إلا أن هذا الخيار لا يزال مستبعدًا بالمقارنة مع تصعيدات عسكرية سابقة حصلت بين الطرفين.
السعودية والإمارات تحت حماية أمريكية
عند الحديث عن التوسع الإيراني في الشرق الأوسط لا يمكن تجاهل الدور السعودي – الإماراتي في التأثير على قرارات ترامب ضد إيران ولصالح إسرائيل في نفس الوقت، فقد عملت واشنطن للحد من النفوذ الإيراني في منطقة الخليج العربي، كما حدث في توقيع اتفاقية مع سلطنة عمان تنظم وصول السفن والطائرات إلى مينائي الدقم وصلالة المطلين على الخليج العربي عبر مضيق هرمز الموازي للسواحل الإيرانية.
لكن الأمر في الخليج لا يقتصر على ذلك فحسب، حيثُ تتنافس الرياض مع طهران على البروز كقوة إقليمية في الشرق الأوسط، وفي هذا الشأن قامت الرياض بتخفيض سعر النفط على المستهلكين الذين يواجهون صعوبات بالحصول على النفط الإيراني، كما أنها عملت في الآونة الأخيرة على زيادة إنتاجها النفطي للاستحواذ على حصة أكبر في السوق العالمي، بضغط أمريكي.
وتتلقى الرياض دعمًا من حليفتها المباشرة أبوظبي، فقد عمدت أبوظبي في الآونة لزيادة إنفاقها المالي على ترسانتها العسكرية، كما أشارت تقارير إلى أن طيارين إماراتيين تلقوا تدريبات لدى الجيش الأميركي قبل توجههم لشن غارات جوية في اليمن، الذي يشهد صراعًا إيرانيًا من طرف، وسعوديًا إماراتيًا من طرف آخر، لكن الأهم من ذلك أن الرياض وأبوظبي يدخلان الصراع الإقليمي في المنطقة مستندين للدعم الذي يقدمه لهما ترامب، مقابل صفقات عديدة من بينها ما أصبح يعرف بـ”صفقة القرن”.
وعلى ذلك، فإن طهران على الرغم من دخولها في صراعات إقليمية أو عالمية مع أطراف دولية مختلفة، فإنها لا تزال تعمل على استكمال توسيع نفوذها الإقليمي رغم الحصار الاقتصادي المفروص عليها، والواضح أن الصراع الاقتصادي سيبقى قائمًا خلال الوقت الراهن مع محاولات إضعافها إقليميًا، فيما تقوم بتمتين نفوذها الإقليمي في سوريا والعراق ببطء تماشيًا مع المناورات التي تعمل عليها للالتفاف على العقوبات الاقتصادية.
الترا صوت