السوريون يشتهون انقلاباً/ معن البياري
تُبادر قيادة الجيش في الجزائر إلى إزاحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في تدخّلٍ منها على خط الأزمة التي استجدّت في البلاد بعد دفع الأخير إلى الترشّح لعهدةٍ رئاسيةٍ خامسة. يصبح الجيش صاحب المبادرة، ويُمسك دفّة الانتقال إلى متغيّرٍ جديد. وشعبيا، يُؤخذ تحرّكُه هذا موضع امتداحٍ أولا، قبل أن يدخل الحراك الجماهيري معه في مقايضةٍ بشأن استحقاقات التغيير المنشود. وفي السودان، كان منتظرا، منذ الأسبوع الأول للحراك الساخط على نظام عمر البشير، أن يُقدِم الجيش على فعل شيءٍ ما. ولم يكن متوقعا أن يتنحّى البشير، ويُسلّم السلطة لمتظاهرين في الشارع. ما كان منتظرا (ومطلوبا؟) في السودان، جرى يوم الخميس الماضي، ثم تدحرجت مستجداتٌ أكّد الجيش فيها نفسَه جسرا يتم عليه العبور إلى التغيير، أو مقادير منه، يحدّدها ما ستُحرزه التشكيلاتُ المدنيةُ والأهلية من المجلس العسكري، ومعها أحزاب المعارضة، في مسارٍ انتقالي، يأمله السودانيون ديمقراطيا، ويستوفي شروط الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والحريات العامة. وفي الأثناء، يُنتبهُ بكثافةٍ إلى الحدثين الجزائري والسوداني، وتتصدّر الفضاءَ الديمقراطي والوطني العام محاذيرُ عريضةٌ من احتيالٍ قد يستهدف مطالب شعبي البلدين، بكيفيةٍ تُشابه وثوبَ قيادة الجيش المصري، ممثلةً بوزير الدفاع الأسبق، عبد الفتاح السيسي، على السلطة، بانقلابٍ عسكري. إذ تشيع هذه المحاذير، المسوّغة، لا يغيب عن الأذهان، في كل الأحوال، أن الجيش في مصر هو من أمسك بلحظة الانعطافة التي أرادتها ثورة 25 يناير في 2011، وسار بالبلاد إلى تمرينٍ ديمقراطي أول، معلوم التفاصيل، بدا واعدا، قبل الضربة الارتدادية إياها التي أجهزت عليه.
يُؤتى هنا على هذا الأرشيف القريب، للانتهاء إلى أن السوريين راقبوا تلك الوقائع، وقبلها وفي أثنائها، الدور بالغ الإيجابية الذي أدّاه الجيش التونسي، وهو يكتفي بدوره حاميا لبلاده، وحارسا لها، إبّان الثورة التي أزاحت بن علي، وتالياً عند ارتحال التونسيين إلى مزاجٍ سياسي مغاير. ولا يحتاج واحدُنا إلى عقل أنشتاين ليلحظ التأسّي الفادح في حواشي السوريين، وهم يلهجون بسؤالٍ ينمّ عن حنقٍ غزير وأرطالٍ من الحسرة، ويتعلق بالأسباب التي تجعل الجيوش في مصر والسودان والجزائر وتونس تستشعر لنفسها دورا في أوطانها غير الذي يُنيط به نفسَه الجيش السوري، أي تجريد حملةٍ عسكريةٍ، قوامُها التمويت، بالبراميل وغاز السارين والقذائف العمياء، على الشعب، في الأسواق والميادين والمستشفيات والشوارع، والكنائس والمساجد إن لزم الأمر. لقد بات السوريون يشتهون انقلابا عسكريا، من أي نوع، يُبادر إليه أي ضابط، طالما أن فعلا كهذا سيعني، بداهةً، تغيير رأس النظام وعائلته الحاكمة. كتب كثيرون منهم على حيطان مواقع التواصل الاجتماعي بانفعالٍ عن سوء حظ السوريين، إذ لم يتمتّعوا بجيشٍ يشتهي السلطة، بعد أن نجح وزير الدفاع في 1970، حافظ الأسد، في أن يجعل انقلابه العسكري آخر الانقلابات في سورية، وهو التاسع في 21 عاما. ولم ينعموا بجيشٍ يُسعف مواطنيه بأي خريطة طريقٍ من أي لونٍ نحو أي تغيير، فيوقِف المقتلة المشهودة في البلاد، ثم يأخذ السوريين إلى مرحلة التقاط أنفاس، ينحسر، في غضونها، نزيف نزوحِهم عن بلدهم الذي يُتغنّى بجماله، ويباشرون تمرينا سياسيا يجادلون فيه أنفسهم بشأن أي المعابر في وُسعها أن تمضي بهم إلى شيءٍ من الديمقراطية والحريات والكرامة الإنسانية.
اجتهد باحثون ومثقفون ودارسون، سوريون وغير سوريين، في تحليل منظومات الدولة السورية، بعد الاستقلال (أو الجلاء الفرنسي عنها) في 1946، وعشيّته، وموقع الجيش فيها، والمراحل التي تمأسس في مسارها هذا الجيش. وتُيسّر هذه الاجتهادات إجاباتٍ عن سؤال السوريين المضني. ومن أحدث المساهمات وأبرزها في هذه القضية ما طرحه عزمي بشارة في كتابه “الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017)، حيث اشتمل على بابٍ مخصص للجيش السوري. وبإيجاز كثير، مخلٍّ بالضرورة، لقد تحول هذا الجيش من مؤسّسةٍ حديثةٍ تنتج هويةً وطنيةً إلى مؤسسةٍ حديثةٍ تكرّس البنى الطائفية التقليديةـ وترسّخها، وتحولها إلى طبقاتٍ من الحاكمين والمحكومين. إنه جيشٌ صيّره الأسد الأب مؤسسةً “يُحكَم” بها، بإنتاج عصبيةٍ معينةٍ يسيّجها هذا الجيش.. القصة كبيرة وعويصة إذن.
العربي الجديد