شبعا ومزارعها.. مرآة الغثيان اللبناني/ محمد أبي سمرا
يستعيد بعض ا لساسة اللبنانيين اليوم مسألة مزارع شبعا في تصريحاتهم وتغريداتهم، بعد إقدام إسرائيل على ضم هضبة الجولان السورية المحتلة منذ العام 1967 إلى أراضيها واعتبارها إسرائيلية. وغداة انسحاب الجيش الإسرائيلي من الشريط الحدودي اللبناني الجنوبي في العام 2000، استعمل “حزب الله” وأمينه العام حسن نصر الله المزارع إياها التي لم يشملها الإنسحاب الإسرائيلي (“التحرير”) واحدة من ذرائعه للإحتفاظ بسلاحه وبقائه ملتزمًا دور المقاومة الدائمة حتى اكتمال “التحرير”. وفي غمرة إنجاز قوى الإستقلال اللبنانية تحرير لبنان من السيطرة الأمنية والسياسية السورية الأسدية، جرّ “حزب الله” لبنان إلى حروب مع الدولة العبرية في تموز 2006، واستعمل انتصاره المزعوم فيها لتفكيك تلك القوى الاستقلالية الهشة، المضطربة والمرتكبة أصلًا، والمرتاعة من حملة الاغتيالات المنهجية التي تعرضت لها في سياق الاستقواء عليها وإخضاعها لسياسة الحزب الخميني الإقليمية. وفي سكرة انتصاره المزعوم نسى الحزب إياه مزارع شبعا، فيما حاولت الحكومة اللبنانية الإستقلالية الأولى بعد اغتيال رفيق الحريري وجلاء الجيش السوري وأجهزة استخباراته عن لبنان في نيسان 2005، انتزاع اعتراف رسمي سوري بأن المزارع لبنانية وليست سورية، كي تسعى بالضغط الدبلوماسي الدولي لجلاء إسرائيل عنها، والمتذرعة بأنها أرض سورية احتلتها مع الجولان منذ العام 1967، فيما استعملتها السياسات السورية الأسدية ذريعة لاستمرار “وحدة المصير والمسار” بين لبنان وسوريا، ولاستمرار مقاومة إسرائيل من لبنان وحده منذ العام 1973. وهي المقاومة التي أدت إلى حروب لبنان الأهلية – الإقليمية وتمزيقه منذ سبعينات القرن العشرين، وورثها “حزب الله” ما بعد الحملة العسكرية الإسرائيلية على لبنان صيف 1982.
واستمر حزب الحروب الدائمة على نسيانه مزارع شبعا، ونقل قواته إلى سوريا وشارك في الحرب على شعبها الثائر على نظام الأسد منذ العام 2011. وها هي المزارع – الذريعة تعود اليوم إلى دورها الإعلامي الغثياني بعد ضم إسرائيل الجولان السوري المحتل.
أساطير وحدود
الحق أن تلك المزارع نموذج مصغر عن قصة “لبنان القوي بضعفه” في سياسات النخبة السياسية اللبنانية (المسيحية تحديداً) في مواجهة أنظمة العروبة العسكرية التي حاولت زجه في منازعاتها وعداواتها منذ خمسينات القرن العشرين. فما هي تلك القصة؟
قبل خلوها تمامًا من المزارعين والرعاة في مطلع السبعينات، كانت مزارع شبعا الكثيرة تنتشر على كتلة مرتفعة من الهضاب الجبلية الخضراء الممتدة إلى الجنوب من قمم جبل الشيخ (حرمون) الشاهقة الجرداء الفاصلة بين لبنان وسوريا، وصولًا إلى التخوم الشمالية لسهل أو غور الحولة في فلسطين. وهي هضاب المقلب الغربي اللبناني من الجبل الذي تنحدر كتلته الضخمة حتى منبع نهر الحاصباني ومجراه وتخوم سهل مرجعيون، وحتى تخوم هضبة الجولان السورية على المقلب الشرقي للجبل نفسه.
قبل بدء أهالي شبعا- وهي قرية جردية في وادٍ منعزل في سفح قمة جبل الشيخ – بإقامة منتجعات شتوية لقطعان ماعزهم في تلك الهضاب، كانت على الأرجح هضاباً برية غير مأهولة. فروايات الشبعاويين لا تربط بتاريخ محدد ومعلوم حركة الانتجاع التي خرجت من بلدتهم في اتجاه الهضاب جنوباً. وحين يحاول محدثهم حثّ ذاكرتهم للوقوف على حادثة أو قرينة قد تفضي إلى ربط حركة الانتجاع بتاريخ ما، غالبًا ما يقولون إن بلدتهم نشأت منذ نحو 600 سنة، وأن المزارع موجودة في ذاكرتهم وجود بلدتهم، وتضاعف بعدما طردتهم إسرائيل منها واحتلتها في مطلع السبعينات. وفي رواياتهم غالباً ما يتحدثون عن القِدم السحيق لما يسمونه “مزار إبراهيم الخليل” الذي يعرفونه أيضاً باسم “مشهد الطير”، وينسبونه إلى إقدام النبي ابراهيم – بعدما أمره الله – على ذبح طيور أربعة ودق لحمها وخلطها في المكان الذي أنشئ فيه لاحقًا المزار، بعدما نادى النبي الطيور، أي كتلة اللحم المسحوق، وأمرها بالطيران، فانبعثت حية وطارت. ولم يتوقف أهالي شبعا عن الوفاء بنذورهم وأضاحيهم لـ “مزار مشهد الطير” هذا إلا بعد ما عزّ عليهم الوصول إلى مزارعهم التي يقع في وسطها، ويتجاوز عددها 15 مزرعة شبه عائلية مسكونة ولكل منها اسم يميزها عن الأخرى، وتنتشر على الهضاب وبين الشعاب الحرجية على مسافة نحو 20 كلم جنوب بلدتهم. وغالباً ما يتحدثون عن بقايا آثار قديمة في المزارع ويقولون إنها تعود إلى عهد الرومان والممالك القديمة، مع ألوف أشجار الزيتون الألفية المعمرة.
وتختلط في مرويات أهالي شبعا وتلتبس أسبقية نشوء بلدتهم على نشوء المزارع، لكن الراجح أن أهالي شبعا أنشأوا قريتهم وتوطنوا فيها مع مزارعهم في أزمنة متعاقبة وافدين من سهل الحولة وحوران ونواحي سوريا وفلسطين. والثابت أن المزارع شهدت ازدهارها ما بين القرن التاسع عشر ومطلع خمسينات القرن العشرين، فتنامى فيها الرعي والزراعة (الحبوب والزيتون) وكانت مصدرًا أساسيًا لمعاش أهالي شبعا، قبل ازدهار زراعة البساتين المثمرة المروية حول بلدتهم في أواخر الأربعينات. وكان كل مزرعة من المزارع المزدهرة في تلك الحقبة المديدة تضم حوالى 8/15 بيتاً لإقامة دائمة أو متنقلة بينها وبين القرية الجردية. ومن لم يزر المزارع إلا بعد نشوء دولة إسرائيل في فلسطين، كان يذهله في أواسط الخمسينات مشهد برك الماء في سهل الحولة المحتل، حيث تشعشع المستعمرات اليهودية ليلًا بأضواء الطاقة الكهربائية، فيما يسهر الشبعاويون لياليهم على أضواء نيران يشعلونها أمام بيوتهم في مزارعهم، وعلى ضوء القناديل في بيوتهم في القرية. وكانت الدهشة إياها تصيب أهالي شبعا من أجيال سابقة، فيما هم يشاهدون أولى موجات المستوطنين اليهود يستخدمون الجرارات في حراثة أراضي سهل الحولة واقتلاع نباتات السدر منها وزراعتها على نحو هندسي منظم.
مزرعة المغر الحائرة
الثابت في حياة أهالي شبعا وذاكرتهم أن مزارعهم تقع في أرض لبنانية منذ صاروا هم لبنانيين أو حملوا الجنسية اللبنانية بعد نشوء “دولة لبنان الكبير” سنة 1920. لكن المزرعة الأكبر والأكثر ازدهارًا ببيوتها ووفرة محاصيلها والإقامة الدائمة فيها – وهي مزرعة مغر شبعا على كتف سهل الحولة، ويتكاثر فيها أبناء عائلات ماضي وسرحان والزغبي الشبعاوية – كانت الوحيدة الواقعة مع أراضيها الزراعية داخل الأراضي السورية بناء على الحدود التي رسمتها سلطات الانتداب الفرنسي والبريطاني. ولأن المقيمين في تلك المزرعة الكبيرة شبعاويون أبًا عن جد اختاروا حمل الجنسية اللبنانية. وعندما حاولت السلطات السورية بعد الاستقلال تجنيسهم رفضوا استبدال جنسيتهم اللبنانية، ولشدة ما تعرضوا لمضايقات الأمن السوري في الأربعينات والخمسينات، وخصوصاً بعد قيام دولة إسرائيل سنة 1948، حاول أهالي مغر شبعا الحصول على الجنسية السورية للخلاص من عسف الاستخبارات السورية، رفضت سلطات سوريا تجنيسهم. لذا فضلوا ترك مزرعتهم تباعًا حتى هجروها تماماً عام 1967 واحتلتها اسرائيل، قبل أن تستكمل احتلال المزارع تباعاً في السنوات الثلاث التالية.
العسف السوري والتخلي اللبناني
في الأربعينات بدأت عذابات أهالي مزارع شبعا على يد المخابرات السورية، بعدما كان وضعهم عاديًا وطبيعيًا قبل استقلال سوريا ولبنان عن الانتداب الفرنسي. وتزامنت عذاباتهم مع بدء موجات هجرتهم من المزارع والقرية إلى الكويت في مطالع الخمسينات. ويروي أهالي شبعا قصصًا كثيرة عن لجوئهم إلى السلطات اللبنانية لحمايتهم من العسف السوري بإقامة مخافر لبنانية في مزارعهم، لكن تلك السلطات اتبعت كعادتها دفن رأسها في الرمال تغاضياً عن المطالبات، ما دام المطالبون أهالي قرية حدودية جنوبية، بل في أقصى حدود لبنان الشرقية المتاخمة لسوريا. وحتى العام 1958 كانت تحضر إلى المزارع دوريات قوى الأمن الداخلي اللبناني في جولات شكلية متقطعة، رفعًا لعتب الأهالي. ولم يكن من حضور للأمن السوري في المزارع، إلا حينما كانت قوافل تجارة مهربي شبعا على البغال تجتاز الحدود اللبنانية وتصل إلى حوران والجولان، وقبلها إلى فلسطين، فيطاردهم في الجولان وحوران رجال الأمن والمخابرات السورية، ويقودونهم إلى القنيطرة.
وعام 1958 لم يدرك أهالي شبعا أن “الثورة” التي ساروا في ركابها ضد عهد كميل شمعون الرئاسي، سوف تبدأ بتقويض أركان حياتهم الزراعية والرعوية في مزارعهم وبلدتهم. ففي أيام تلك “الثورة” وفد إلى شبعا مسلحون سوريون وراحوا ينظمون بعض شبانها في ما سموه “المقاومة الشعبية”. ولا يزال اسم “علي الوحش” الذي يقولون إنه بدوي، حيًا في ذاكرتهم. فهو من أدار “المقاومة” في البلدة والمزارع، واقتاد زوجات “السوريين القوميين” الفارين من شبعا إلى مرجعيون، وأخذهن إلى بيت في المزارع واحتجزهن فيه طوال أسبوعين. وعندما اعترض وجهاء شبعا على تلك الفعلة اقتيدوا إلى القنيطرة وتعرضوا للإهانة والضرب. وقام “علي الوحش” أيضاً باختطاف معلم مسيحي قومي سوري من بلدة إبل السقي ويدرس في شبعا، وقتله في المزارع، وفجر في ساحة شبعا سيارة قومي سوري آخر.
وإذا كان أهالي شبعا قد احتفلوا في نهاية “الثورة” في ساحة بلدتهم هازجين أهازيج النصر ضد نوري السعيد وكميل شمعون، وتأييداً لجمال عبد النصار، فإنهم لم يدركوا أن رجال الأمن السوريين سوف ينشئون مخافر لهم في مزارع شبعا كانت مهمتها تجنيد الرعاة مخبرين يراقبون سواهم من أهل بلدتهم حفاظًا على “الأمن القومي العربي” ضد إسرائيل. وكانت حجة السلطات السورية في ذلك أن السلطات اللبنانية أقرّت بضعفها وبعدم حماستها للعروبة، وبعزوفها عن حماية تلك المنطقة الحدودية المتاخمة للدولة العبرية. وهكذا توقفت دوريات قوى الأمن الداخلي اللبناني عن الوصول إلى المزارع، وتركتها في عهدة المخافر السورية التي يندر ألا تحفظ ذاكرة أي من الشبعاويين حكاية، بل حكايات مريرة لا تحصى عن التسلط الذي ألحقته بهم تلك المخافر. ومنذ مطلع الستينات راح الحذر والخوف والريبة يراود كل من يجتاز بيادر شبعا إلى مزارعها، إلا رعاة الماعز الذين كانوا يكثرون من إطعام رجال المخافر السورية من ذبائحهم، ويجلبون لهم المياه على البغال من نبع بانياس في سوريا، وأحيانًا ينقلون لهم نساءهم من الديار السورية لينزلن في ضيافة الرعاة وكرمهم المرغمين عليه. وحتى هزيمة حزيران 1967، ظل الوضع في المزارع مريبًا، إلا في مواسم قطاف الزيتون التي يقيم الأهالي في أثنائها أسبوعين في مزارعهم من دون أن يروعهم رجال المخافر. وحين أخذ رجال المقاومة الفلسطينية يرابطون في شبعا وبساتينها، وراحت دورياتهم الاستطلاعية تصل إلى المزارع ويقيمون الكمائن فيها، وينطلقون منها في بعض عملياتهم، بادرت إسرائيل إلى قضم المزارع واحدة تلو أخرى، حتى وصلت أخيراً إلى تخوم شبعا، فأقامت هناك شريطًا مكهربًا وطردت الفدائيين الفلسطينيين من قواعدهم ومكاتبهم في البلدة، وهجّرت ما تبقى من أهالي المزارع وهدمت منازلهم فيها. والموجة الأخيرة من مهجري المزارع الذين لا يملكون بيوتًا في شبعا، أقاموا خيمًا في بساتينها الغربية ومكثوا فيها صيفًا في انتظار تدبر أمورهم للهجرة إلى الكويت أو إلى صحراء الشويفات قرب بيروت، واستمر نزيف الهجرة من شبعا إلى الخليج العربي وضواحي بيروت طوال السبعينات والثمانينات.
الباطون واليباب
الثمانينات والتسعينات كانت وبالًا عمرانيًا على شبعا نفسها، واستمر ذلك الوبال حتى الساعة. فمن ما حصله مهاجروها في بلدان الخليج وبيروت (وهم معظم سكانها) لم يجدوا شيئًا يفعلونه بتلك الثروات المالية الصغيرة والكبيرة، سوى تشييد بيوت من طبقات ثلاث أو أربع على بيوتهم الحجرية التقليدية القديمة، على منوال العمران في حي السلم، وسرعان ما تحول عمران البلدة إلى ما يشبه عمران الأوزاعي العشوائي. ثم راح بعض الأثرياء من المهاجرين يشيدون قصورهم على التلال المتاخمة للبلدة، وتشارك الجميع على قضم أراضي المشاع البلدي كله، ونشبت بينهم جميعاً خلافات وشجارات لا تنتهي، فيما كانت بساتين البلدة المجاورة تتعرض للهجران والخراب واليباس، وتسرب مياه الصرف الصحي المبتذلة والمتكاثرة إلى مياه الينابيع. وأشجار الجوز وأجماتها على مجاري النبعين الغزيرين اصفرت وماتت. وبعد جلاء الجيش الإسرائيلي في العام 2000 من الشريط الحدودي المحتل، تراكمت في محاكم حاصبيا مئات الدعاوى القضائية بين أهالي شبعا، بسبب منازعاتهم ومشاجراتهم على اقتسام أراضي المشاع البلدي. وشبعا اليوم في عمرانها مرآة للعمران اللبناني في الحرب (1975-1990) وما بعدها: قصور لا لزوم لها، وبنايات عشوائية مثل أحياء حي السلم، وسيارات دفع رباعي مزدحمة في طرق ضيقة، وتلوث في مياه الينابيع، وباطون زاحف في الأرجاء كلها.
ومنذ العام 2012 وصلت موجات اللاجئين السوريين من حوران (تحديداً بلدة بيت جن السورية) إلى شبعا، حتى بلغ عددهم فيها حوالى 6 آلاف لاجئ نزلوا مستأجرين في بيوتها الكثيرة الخالية. ومنذ سنتين راح يتناقص عدد أولئك اللاجئين، وبقي منهم نحو ألفي لاجئ، يعملون في تشييد البيوت في شبعا وفي استصلاح بعض بساتينها البائرة.
وحدة المصير والمسار
في الخطابة والتصريحات العامة والرسمية عن ضياع مزارعهم، يتناسى أهالي شبعا حلقة أساسية من تاريخ المزارع وملابسات ضياعها، ويتكتمون عليها. وذلك على خلاف ما يفعلونه في أحاديثهم الخاصة في ما بينهم. والصحافة والهيئات السياسية اللبنانية تذهب غالب مذهبهم في هذين التناسي والتكتم. أو أنهم هم أنفسهم تعلموا من الهيئات السياسية الرسمية والصحافة إسقاط تلك الحلقة وكتمانها والتستر عليها. والحلقة “المغيبة” هذه تمتد بين العام 1955 و1967. ففي هذه السنوات كلها لم يكن للدولة العبرية وجيشها أي حضور يذكر في التحولات التي أصابت علاقة أهالي شبعا الكثيرة. أما الحاضر الأكبر والأساسي فكان عسف الأمن السوري. والسبب في تغييب ذلك العسف وحلقته هو “الحفاظ على وحدة الصف العربي” المزعوم، والتي أمست “وحدة المصير والمسار” بين سوريا الأسد ولبنان الساحة الوحيدة للمقاومة، من “فتح لاند” إلى دولة “حزب الله” الراهنة.
المدن