التشكيلي السوري خليل عبد القادر: اللوحة هي التي أنتجت المناهج النقدية
حاوره: دلدار فلمز
في البال موال وبقايا أناشيد لم تكتمل وحكايات حزينة ممزوجة برياح الشمال وبكاء النساء الكرديات، عن ما مضى في حقول البطيخ الأحمر يوماً ما، وعن أشياء أخرى لها وقع خاص وعميق. عن هذه العوالم والرؤى كان الحوار مع التشكيلي السوري خليل عبد القادر ..
■ البحث والمغامرة أساس تطور الفنون، لماذا برأيك نفتقد ذلك؟
□ بداية، لقد ساهم اليونان في تأسيس البنية الهيكلية للفنون، إذ مرّت التجارب الفنية آنذاك بمراحلها الفطرية، وتطورت شيئاً فشيئاً بحثاً عن الحقيقة المعرفية. فبالعودة إلى النهضة الرومانية والإيطالية مثلاً، من خلال الفن القوطي المعارض للفكرة القائلة: بكشف الطبيعة للوصول إلى البنية الخفية للمظاهر، وفي فلورنسا وبسبب علمنة الفن، حوّل المذهب الطبيعي نشاط الفنان من الخفي إلى المرئي، حيث بلغت ذروة نجاحها وفق مبادئ الرياضيات مع دافنشي- الرسم المنظوري، فتمَّ تكريس الفن إلى الإنسان وليس إلى الخالق. وللبحث عن الحقيقة دفع الفنان أقصى ما لديه، فليس الفنان إلا الإنسان إذ قد تصل به الحساسية لدرجة الإفراط لالتصاق بإنسانية الإنسان كما حدث لفان كوخ، حينما عمل واعظاً في السجون والمناجم، ولقب بالمجنون لشده حبه للناس، وتخلوا عنه فهرب إلى الطبيعة ليرسمها، كان يشعل عينيه بحرائق ألوان، فمساحات هائلة من الخيبات كانت تلاحقه.
وعندما رحل غوغان إلى تاهيتي كان مقتنعاً بأنه سوف يعيش ربيعاً في الجنة، فرأينا مجموعته الرائعة (قرب البحر/ دعابة / وآرياريا) بدأت الوحدة تثقل عليه. كان غوغان يرسم المضطهدين من شعوب المستعمرات بينما كان مونيه مشغولاً أياماً طويلة في رسم انعكاسات الشمس على كاتدرائية روان. فالفن منذ البدء تجسيد لقيم رمزية وتعبيرية. ولم يعد الفنان يقتصر على تسجيل لحظة آنية، فباستخدامه لمجموعة بقع لونية، أصبح بإمكانه إشغال فضاءات واسعة ومعطرة بدون أن يحدها بخط. وظهور ماسورة اللون سهّل على الفنان الكثير من التحرك والخروج من مرسمه، وباكتشاف الإنسان لآلة التصوير طوَّر كثيراً من اختبارات الفنان البصرية، فلم يعد أسير اكتشافات عفوية في الفن. أما عن افتقارنا إلى هذه المسايرة والبحوث المغامرة في البحوث في المجال الفني لخدمة الحقيقة، فكل التطورات التي حدثت في الفنون، وما لحقها من مذاهب ومدارس فنية، كانت توازيها جملة تطورات في الحياة الاجتماعية والسياسية في أوروبا، وكانت المدارس والمذاهب الفنية لها فلاسفتها ومنظروها ونقادها. أما في مجتمعاتنا كيف لك أن تبحث عن مدرسة تجريدية في الفن التشكيلي لدينا وما زلنا نروي الشجرة بالشعارات وليس بالماء.
■ اعتمدت على المكتشفات العلمية وخاصة السيريالية، بشكل أساسي علم النفس، فكيف تنظر إلى تأثير هذه المكتشفات في فنك وهل لها دور في إظهار تقنياتك الفنية؟
□ إنها مغامرة الحرية، الوحدة عبء غير محتمل، ولأن حاجة الإنسان إلى الماء لم تتغير فلا تهمني في إنشاء لوحتي أن يستخدم الإنسان في حياته أو يركب الصاروخ لحضور عرض أزياء في باريس ولندن وأنا أعلم جيداً أن كيمياء اللون هو رحم الأرض وكيمياء الموت أن تنشر الجثث على حبل غسيل. لذا أتحاشى الاختيار الصادق وأسكن الهروب الحر خوفاً أن يشوب اللون غبار المكان.
■ حين ترسم لوحة، هل تولد التداعيات على نحو حر، أم أنها ثمرة إعداد وتحضير؟
□ حينما أرسم تنساب في عماء هذا الجسد زوبعة قسرية، تحتويني غيمة فتهطل في أرض بعيدة، إنها ذاكرة الصباح، زهور برية إذ يمتشق النعمان والريحان والبابونج على السطوح الطينية فيسكنني الموال.
■ ماذا عن بشار العيسى، عمر حمدي، وسليم بركات؟
□ سؤالك جزء من فخاخ سليم بركات، هذه الكلمة التي انتشرت بخفة الريش في جسد النص الشعري والكتابة الأدبية في سورية، الثلاثة دخلوا في قواميس الفنون والآداب العالمية، وساهموا بجهودهم لإيصال الفن التشكيلي السوري والتعريف به عالمياً إلى جانب ترجمة أعمال سليم بركات الأدبية إلى أغلب اللغات العالمية الحية. بشار العيسى، وشم في ذاكرة الصباح لم تفارقه أسطورة مموزين، ووعل «جودي» في باريس، بينما فرش عمـــر حمدي من ضوء الشرق عالمه الفنّي بطابع سحري وبأنامل مترفة بأوراق النعناع، ذرف من الدمــــع على سطوح لوحاته التي أضافـــت دماءً جديدة على الانطباعية، وبقدرة هائلة على التعبير. يتسرب الضوء إلى أجزاء لوحته كاشفاً بذلك عن عري أحزانه في ضباب أوروبا. أما سليم بركات فهو الوحيد الذي تمنعك كتاباته من التحدث عنها، سوى أنه يرسم بالكتابة ظلاً لرطوبة الأشياء والأسماء.
■ هل ترى أن اطلاع الفنان على مناهج النقد ومعرفة أسرار لوحة يقتل فيه روح التلقائية؟
□ اللوحة هي التي أنتجت المناهج النقدية، أما التلقائية التي أتناولها فتأتي مع المعرفة وبعدها، فكيف لك أن تختار للنبع مجرى!
القدس العربي