تقلبات المشهد السياسي في تركيا وتأثير ذلك على الازمة السورية -مقالات مختارة-
اللاجئون السوريون وتقلبات المشهد السياسي في تركيا/ بكر صدقي
ليس جديداً استثمار موضوع اللاجئين السوريين في الاستقطاب الداخلي التركي بين السلطة والمعارضة. غير أن اللوحة السياسية الجديدة التي أفرزتها الانتخابات البلدية، 31 آذار 2019، فاقمت من مخاوف اللاجئين السوريين على مصيرهم بعدما انضمت السلطة إلى المعارضة في الحديث عن ضرورة عودة اللاجئين إلى بلادهم.
وما إن أعلن عن فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري تانجو أوزجان برئاسة بلدية “بولو” حتى قال إنه سيوقف المعونات التي تقدمها البلدية إلى اللاجئين السوريين في مدينته. وعندما تعرض لانتقادات في وسائل الإعلام، برر قراره المرتقب بأن هناك أكثر من جهة تقدم معونات للاجئين من غير تنسيق فيما بينها، وعبر عن استيائه من “ارتداء السوريين لأفخر أنواع الملبوسات، في حين تضطر نساء تركيات مسنات لبيع أشياء بسيطة على الرصيف لتأمين احتياجاتهن”. وليته اكتفى باتخاذ
قرار وقف المساعدات ولم ينطق بهذا الكلام المصمم للتحريض ضد اللاجئين، في فترة عصيبة على المواطن التركي الذي يعاني من الصعوبات الاقتصادية التي باتت تضغط على مستوى معيشته، وبلغت البطالة نسبة 15% من قوة العمل، وفقاً للأرقام الرسمية.
كلام رئيس البلدية المذكور في سياق الصعوبات الاقتصادية والاستقطاب السياسي الحاد، يشكل وصفة مضمونة لبث الكراهية، وينطوي على خطر التحريض على اعتداءات، كما جاء في بيان نشرته مجموعة من منظمات المجتمع المدني في تركيا بلغ عددها 44 منظمة.
ولا يقتصر الأمر على حزب الشعب الجمهوري، كما لا يشمل كل ممثليه أو جمهوره. فقد تبارت الأحزاب السياسية، أثناء حملة الانتخابات المحلية، على إطلاق تصريحات تثير توجس اللاجئين السوريين، بما في ذلك تصريح مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة بلدية إسطنبول، رئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم الذي حذر اللاجئين من عواقب “إخلالهم بالنظام العام” كما قال. أما مرشحو الحزب الخيّر (أو الجيد) بقيادة مرال آكشنر فقد كانوا الأعلى صوتاً في مناهضتهم للاجئين السوريين، فرفع الحزب لافتات في حي الفاتح في إسطنبول الذي يقطنه عدد كبير من اللاجئين السوريين، وتنتشر فيه محالّهم التجارية ومطاعمهم، كتب عليها: “لن نتخلى عن حي الفاتح للسوريين!”.
وتستخدم الحكومة موضوع اللاجئين الذين بلغ تعدادهم أكثر من 3 ملايين ونصف، وفقاً لأرقام وزارة الداخلية، كورقة ضغط على المجتمع الدولي من أجل تحقيق مطلبها في إقامة منطقة آمنة في شمال شرقي سوريا، بدعوى توفير الشروط المادية لعودة اللاجئين السوريين بصورة آمنة، إضافة إلى المبررات الأخرى التي تسوقها بهذا الخصوص كـ “مكافحة الإرهاب والحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومستلزمات الأمن القومي لتركيا”، وهي جميعاً التعبير الموارب عن رغبتها في القضاء على “قوات سوريا الديموقراطية” أو إبعادها عن حدودها الجنوبية.
إذا تركنا شأن الأحزاب السياسية وألقينا نظرة على موقف المجتمع التركي من اللاجئين السوريين، سنرى أن الصعوبات الاقتصادية، وطول أمد إقامة اللاجئين على الأراضي التركية، قد أثرا سلباً على موقف المجتمع المضيف من “ضيوفه” غير المرغوبين، كما يتأثر بمواقف الأحزاب والإعلام ويستمد منهما حججاً على موقفه السلبي، سواء كانت قائمة على معلومات صحيحة أو إشاعات مفبركة بهدف التحريض أو بهدف تبرير الصعوبات الاقتصادية بالإشارة إلى كبش الفداء المناسب.
صحيح أن البيان المذكور فوق الذي وقعت عليه 44 منظمة مدنية، بما في ذلك مجالس مدن وغرف تجارة وصناعة واتحادات نقابية، يعكس جانباً آخر من المجتمع متعاطف مع اللاجئين ومأساتهم، ويواجه بشجاعة النزعات المناهضة لهم، لكنه لا يكفي لطمأنة اللاجئين السوريين الذين باتوا يعانون الكثير من التضييقات الإدارية كالحرمان من السفر بين المحافظات إلا بإذن سفر صادر عن إدارة الهجرة التي لا تعطيه، منذ بعض الوقت، إلا لحالات استثنائية.
على رغم ذلك، وعلى رغم تغير سياسة الحكومة من الصراع السوري، إلى حد كبير، بعد دخول تركيا إطار “تحالف آستانا / سوتشي” شريكاً لروسيا وإيران، ما زال قسم
كبير من اللاجئين السوريين يخشى من أي صعود للمعارضة التركية على حساب حزب العدالة والتنمية، كما حدث في الانتخابات البلدية الأخيرة حيث انتزعت المعارضة بلديات خمس مدن كبرى من يد الحزب الحاكم. السوري الذي تعلم من خبرته العملية، طوال الحقبة الأسدية المديدة، أن هناك دائماً ما هو أسوأ، مهما بلغت أحواله من سوء. وهنا في تركيا، تدهورت شروط اللاجئين السوريين، في السنوات الماضية، باطراد، لكنهم ما زالوا يتوجسون مما هو أسوأ بعد. تواتر المواقف السلبية لأحزاب المعارضة من اللاجئين، جعلهم يتمسكون بالحزب الحاكم ويدافعون عنه على رغم كل التغيرات السلبية التي طرأت على مواقفه منهم ومن المسألة السورية عموماً.
تقول أحدث الأخبار إن البيان الختامي لاجتماع “نور سلطان” (آستانا سابقاً) الذي عقد قبل يومين، تضمن دعوةً لكل من العراق ولبنان لحضور الاجتماع القادم بصفة مراقبين. إذا كانت دعوة العراق يمكن تفسيرها برغبة تركية في “الحفاظ على وحدة الأراضي السورية”، فدعوة لبنان لا يمكن فهمها إلا على خلفية هاجس إعادة اللاجئين السوريين “طوعاً”! أضف إلى ذلك أن كلاً من لبنان والعراق الرسميين هما من حلفاء نظام الأسد تحت العباءة الإيرانية الجامعة، بحيث يتحول هذا المحفل، بحضورهما، إلى تجمع لحلفاء النظام باستثناء تركيا.
تلفزيون سوريا
كأنها كانت انتخابات سورية في تركيا/ ماجد كيالي
بدت الانتخابات البلدية التركية الأخيرة، والتي ضاهت بسخونتها ونتائجها وتداعياتها الانتخابات التشريعية والرئاسية، بمثابة انتخابات مصيرية. وكأن هذه الانتخابات تؤسّس لمنعطف سياسي جديد، ليس بالنسبة إلى الأتراك، أو المهتمين الخارجيين، على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، وحسب، وإنما بالنسبة إلى السوريين، تحديداً. محرّك الشعور عند هؤلاء لا يتوقف عند الدلالات أو التبعات السياسية لأي تغيير في طبيعة الحكم في تركيا، إذ هو يشمل الخوف من نشوء أي وضع يهدد وجود حوالى 3 ملايين سوري، في هذا البلد، باتت لهم حياتهم وسبل تحصيل عيشهم وبيوتهم ومدارسهم وجامعاتهم ومحلاتهم وأحياؤهم.
والفكرة هنا أنه بقدر ما يمكن الحديث عن تدخلات تركية في الشأن السوري، في مختلف المجالات، منها التحكم بالمعارضة الرسمية (الإئتلاف الوطني)، فإنه يمكن الحديث، أيضاً، عن تغلغل أو تداخل سوري في المجتمع التركي، مع الفارق بين الجانبين، لمصلحة الجانب التركي طبعاً.
ومعلوم أن تركيا اضطلعت، منذ بداية الصراع السوري (مطلع العام 2011)، أي منذ 8 سنوات، بأدوار متعددة، فهي حاولت في الأشهر الأولى إقناع النظام بالتجاوب مع مطالب الحراك الشعبي، ثم انتقلت إلى دعم مطالب هذا الحراك، واحتضان المعارضة، السياسية والمدنية والعسكرية، في أراضيها، والمطالبة برحيل النظام. وبعد ذلك، كما شهدنا، فهي دعمت، أو شجّعت التحول نحو العسكرة، التي طغى عليها طابع “الإسلام السياسي” السلفي والجهادي والمتعصب. ثم فتحت حدودها لاستقبال ملايين اللاجئين، إن للاستقرار أو العبور إلى أوروبا. بيد أن تركيا منذ أواخر 2016، مع عملية “درع الفرات” وخروج مدينة حلب من سيطرة المعارضة، أو تحديداً منذ مطلع عام 2017، انتقلت إلى طور آخر تمثل بانخراطها في ما يمكن تسميته محور استانة، الذي يضم روسيا وإيران وتركيا، في انعطافة غريبة أو خارج السياق. ففيما هي تدعم المعارضة، وتطالب بإنهاء نظام الأسد، فإن كل من روسيا وإيران، تدعمان بشكل غير محدود ذلك النظام، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
ويمكن الاستنتاج من كل ما تقدم أن تركيا باتت بمثابة فاعل أساسي، وداخلي، في الصراع السوري، سيما أنها هي التي تبسط نفوذها، إن مباشرة أو مداورة، على مناطق واسعة في الشمال السوري، عند حدودها الجنوبية من غرب الفرات إلى مدينة إدلب، ومع وجود مقر المعارضة على أراضيها، ناهيك بثلاثة ملايين سوري باتوا جزءاً من نسيجها الاجتماعي، ليس فقط مع عمليات التجنيس، وإنما أيضاً عبر الانخراط النشط في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وبذلك، كان طبيعياً أن يأخذ الموضوع السوري، وبخاصة وجود السوريين في تركيا، مكانة بارزة في السجالات التي دارت إبان تلك الانتخابات، سواء بين الأحزاب التركية، أو بين السوريين أنفسهم، وإن ظلت هذه السجالات في معظم الأحوال مضبوطة، أو في نطاق السيطرة (باستثناء حادثة بسيطة أدت إلى مشكلات بين السوريين والأتراك في ضاحية اسنيورت في إسطنبول إبان الانتخابات السابقة)، بخاصة أنه لم يصدر من السوريين ما يسيء لصورتهم في هذا البلد، علماً أن غالبيتهم تعيش إما في مدن حدودية (غازي عنتاب) مثلاً، أو في مدينة إسطنبول، التي تعج بملايين السياح.
في هذا الإطار برز، مثلاً، موقف لافت لمرشحة المعارضة عن الحزب “الجيد” -القومي (المتحالف مع الحزب الجمهوري) في منطقة الفاتح في إسطنبول، التي يقطنها عدد كبير من السوريين، مع محلات وبقاليات ومطاعم، بتبنيها في حملتها الانتخابية شعاراً يقول: “لن أسلّم الفاتح للسوريين”. بل إن الأكثر لفتاً للانتباه، أن علي بن يلدريم، المرشح لرئاسة بلدية إسطنبول عن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، استدرج إلى الخطاب ذاته، وإن بشكل أخفّ، أو أقل توتراً بتعهده بعدم التهاون مع السوريين “إن أخطأوا أو تجاوزوا…”. وطبعاً ففي الحالتين، صدرت ردود فعل من سوريين كثر في إسطنبول، استنكرت موقف مرشحة المعارضة واستغربت موقف بن يلدريم، ولم تنس تلك الردود أن تذكر الطرفين بأن السوريين لم يسيئوا الضيافة، وأنهم يستحقون معاملة أفضل، وأنهم يشكلون إضافة إيجابية وحيوية في تحريك عجلة الاقتصاد التركي، وفي المجتمع التركي.
أما بعد ظهور نتائج الانتخابات البلدية، وخسارة “حزب العدالة والتنمية” معظم المدن الرئيسية، لا سيما العاصمة السياسية أنقرة والعاصمة التاريخية والسياحية والاقتصادية إسطنبول، فقد عبر سوريون، عن شماتتهم بسقوط مرشحة المعارضة في منطقة الفاتح، وعن انزعاجهم من خسارة حزب العدالة والتنمية لتلك المدن، بل إن بعضهم تحدث عن تزوير في الانتخابات، متناسين أن النظام في تركيا مختلف عن النظام الذي عهدوه في بلدهم، وأن الحزب الحاكم هنا هو حزب العدالة والتنمية، أي أنه المسؤول عن الانتخابات وسلامة إجراءاتها.
طبعاً، يمكن الحديث هنا عن وجود مشكلة تتعلق بكيفية تعامل معظم “التيارات الإسلامية” السورية (والعربية) مع الواقع التركي، لا سيما أن معظمها موجود في تركيا، فعلى رغم أن هؤلاء يمنحون الرئيس اردوغان كل دعمهم، ومديحهم، إلا أنهم لا يريدون أن يستوعبوا حقيقة أن تركيا دولة علمانية وديموقراطية. وبدل استنتاج الدروس من التجربة التركية، أو من تجربة حزب العدالة والتنمية، يريدون، في الأغلب، أن يطبقوا مفاهيمهم وتجربتهم عليه، أو على التجربة السياسية في تركيا، وهو الأمر الذي ينظر إليه من قبل معظم النخب التركية باستغراب، بل وباستهجان، حتى أن عمر فاروق (إعلامي تركي بارز وعمل سابقاً مستشاراً لرئيس الحكومة السابق محمد داوود أوغلو)، خاطبهم بصراحة قائلاً: “أفشلتم المشروع الديموقراطي في بلادكم ولا نريدكم أن تفشلوه في تركيا. تركيا دولة وطنية وديموقراطية”.
درج
إردوغان وسياسة الهروب إلى الأمام!/ أكرم البني
هي أشبه بعادة متوارثة أن يلجأ زعيم مستبد إلى خيار الهروب نحو الأمام لتعويض شرعية فقدها أو لتغطية أزماته والالتفاف عليها، مغلّباً مصلحته الخاصة وامتيازات السلطة على مصلحة الوطن، من دون أن يعير انتباهاً لنتائج ذلك في مفاقمة الأزمة ودفع الشعب الواحد نحو استقطابات حادة وشغله بصراعات جانبية غير مبررة سياسياً وقانونياً وأخلاقياً.
في المثال التركي، يبدو أن هذا البلد بات يعاني، أسوةً بغيره من البلدان، أزمة عميقة جراء احتقان مجموعة من المشكلات التي لم تجد طريقها إلى الحل، وطالت حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، لكن ما يعمّق هذه الأزمة أكثر ويوسّع تداعياتها، هو استهتار الرئيس التركي رجب إردوغان، بها وإصراره على اتباع كل أشكال التهرب من الاعتراف بأسبابها الحقيقية، حتى لو تهدد مستقبل البلاد وأُسس وحدتها ونهضتها، وأُطيح بالحياة الديمقراطية كطريق مجرّبة لتمكين مختلف قوى المجتمع من المشاركة في البناء والتنمية والتقدم، والتي من دونها ما كان إردوغان ليصل إلى ما وصل إليه اليوم.
فماذا يمكن أن يُقال؟! عندما يرفض إردوغان الإصغاء لرفاق دربه القدامى الذين شاركوه بناء الحزب ومكّنوه من قيادة البلاد، ويزدري ملاحظاتهم ونصائحهم لتفادي الأخطاء وتصحيح ما يمكن تصحيحه قبل فوات الأوان، والأسوأ عندما يندفع لمهاجمتهم على أنهم أشخاص انتهازيون يسيئون لمسيرة الحزب وتجب محاسبتهم وتحميلهم تبعات أفعالهم، وفي مقدمهم الرئيس السابق عبد الله غُل، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، لا لسبب جلل، بل لأن الأول دعاه لاحترام إرادة الناخبين ومبدأ التشارك في الحكم، ووجّه الثاني رسالة نقدية صريحة إليه وإلى الحكومة ينبههما فيها إلى ما يحدث من مثالب ويدعوهما لتصويب الأداء في إدارة مختلف الملفات المهمة في تركيا، كملف التردي الاقتصادي والفساد، وملف الحريات والأمن، وملف العلاقات الخارجية، ثم طرائق الحزب الخاطئة في صياغة تحالفاته، والأضرار الناجمة عن تداخل الصلاحيات بين أمانة الحزب ورئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة!
والحال، بدل أن يحترم إردوغان إرادة الناخب ويضع نصب عينيه الانتصار لقواعد الحياة الديمقراطية وتعويم دوره كرئيس للجميع، يسارع إلى الطعن في نتائج الانتخابات البلدية، محاولاً تغييرها في مدينة إسطنبول، لإعادة تمكين حزبه فيها ومنع المعارضة من إدارتها، مستقوياً بثلة من الفاسدين وبتصريحات حليفه رئيس الحركة القومية المتشددة، عن ضرورة إلغاء الانتخابات نهائياً في ظل الأزمة العميقة التي تمر بها البلاد! ولا يخرج من هذا السياق إدانته الخجولة لتهجم أنصاره على زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال أوغلو، ومحاولتهم إيذاءه جسدياً! بل يؤكده استثمار وتوظيف المحاولة الانقلابية الفاشلة، لتشديد القبضة القمعية وخلط الأوراق للتنكيل ليس فقط بالانقلابيين وإنما بمختلف خصومه، بدليل الحملات التي قادها ولا يزال يقودها إردوغان بنفسه لكمّ كل الأفواه، والتي تطال، بصورة لا تطاق، أي موقف يعترض على سياساته وأي رأي ينتقده، لتتواتر اعتقالات إعلاميين ومثقفين وإغلاق صحف وحجب لمواقع التواصل الاجتماعي، وأيضاً المعارك المتعددة الأشكال التي تخاض لتأليب الرأي العام ضد الأكراد بصفتهم الخطر الأكبر على تركيا، ولتسويغ قمع ومحاصرة نواب حزب الشعوب الديمقراطية على أنه نصير للإرهاب!
وماذا يمكن أن يقال؟! حين يتناسى إردوغان حقيقة أن حرصه على محاربة الفساد وصدقية تنفيذ الخطط الإنتاجية والخدمية وما رافقها من انتعاش اقتصادي، كانا من أهم الحوافز التي مكّنته شعبياً وسهّلت وصوله إلى سدة الحكم، لنراه، ورغم تفاقم المشكلات الاقتصادية وتراجع قيمة الليرة والقدرة الشرائية، يتوغل أكثر في تشويه المناخ الاستثماري وحماية ظواهر الفساد والاستئثار المالي، التي باتت تلصق بأهم المقربين منه وبعض أفراد أسرته! وأيضاً عندما يطيح إردوغان قاصداً بالنموذج الذي حاول الترويج له عن التعايش بين الدين والديمقراطية والعلمانية، وبالدور الذي يُفترض أن يلعبه حزبه في إشاعة الاعتدال الإسلامي وتعرية جماعات التطرف والتعصب، حيث يتقصد اليوم استحضار مختلف الصغائر التي تؤجج التعارض بين الموروث الديني والأسس العلمانية للدولة، في محاولة لتنميط حياة المجتمع إسلامياً وفرض الهوية الدينية على حساب الحريات الفردية والتنوع والتعددية، موظفاً التاريخ الإمبراطوري العثماني لتعبئة قوى متخلفة وغوغائية يعتقد أنها قادرة على نجدته لردع أطراف تركية لا ترضى بدولة دينية، ومكرساً جهداً خاصاً لدعم جماعات الإسلام السياسي التي تصدرت مشهد الربيع العربي كي تعزز نفوذها وتُحكم سيطرتها على مجتمعاتها، والأنكى ما رشح من دعمه الخفي لتنظيمي «داعش» و«القاعدة»، إنْ بتغطية مصادر أسلحتهما وتمويلهما، وإنْ بتسهيل مرور آلاف الجهاديين للالتحاق بهما.
وتكتمل محاولات الهروب إلى الأمام بجنوح إردوغان إلى التخلي عن سياسة «صفر مشاكل» التي اتبعها خلال الفترة الأولى من حكمه، نحو تصعيد التدخلات التركية في شؤون المنطقة والعالم، إنْ عسكرياً في سوريا والعراق وليبيا، وإنْ سياسياً عبر التفنن في توجيه الشتائم والاتهامات إلى بعض الحكومات الغربية، وترهيب مواطنيها بأنهم لن يكونوا آمنين في شوارعهم، ثم تطاوله على الشعب الأسترالي وتهديده بالويل والثبور، تعليقاً على العملية الإرهابية ضد المسلمين في نيوزيلندا، وأخيراً هجومه الطفولي على نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، لأنه خصص يوماً لإحياء ذكرى مجازر السلطنة العثمانية ضد الشعب الأرمني، في حين لا يتردد أو يخجل من الخنوع لآخرين لتجنب أي ضرر قد يلحق بخططه وطموحاته، كهرولته المذلّة لاسترضاء تل أبيب، ورسائل الاستجداء والاعتذار لموسكو بعد إسقاط إحدى طائراتها.
هل تصح قراءة هروب إردوغان نحو الأمام وإصراره على إنكار الأسباب الحقيقية لأزمته وسبل معالجتها، كمحصلة للانحدار السياسي الذي يشهده الرئيس التركي وحزب «العدالة والتنمية» جراء تشوهات استئثارهما بالحكم لعقد ونصف من الزمن؟ أم هي رد غير عقلاني على أزمة بنيوية عميقة بدأت تطال جماعات الإسلام السياسي عموماً وإردوغان الذي يدّعي زعامتها، وتجلّت بانكشاف روحها الاستبدادية وسقف دورها النهضوي، بعجزها، بعد تجاربها في السلطة، عن إحداث نقلة نوعية لإدارة المجتمعات وتخفيف مشكلاتها؟ أم أن الأمر يتعلق بتنامي نزعة الغطرسة والغرور والأنانية لدى إردوغان، يحدوها استغلال ثقةٍ منحها الناس له في ظروف خاصة، ثم تمكنه من السلطة بعد تغيير الدستور، ومن النيل من أهم معارضيه، ربطاً بموجة الشعبوية والعنصرية المتصاعدة في العالم؟
الشرق الأوسط
أردوغان إذ يدخل عباءة بوتين/ مهند الحاج علي
ليست العلاقات الأميركية-التركية على ما يرام. لا تحتاج هذه الجملة إلى تحليلات كثيرة ومعمّقة، ذاك أن التوتر بين الحليفين التاريخيين يتسلل إلى أكثر من موقع في السياسة. اليوم، تُعاقب الولايات المتحدة تركيا على صفقة سلاح مع روسيا. بعدما اشترى الأتراك صواريخ “أس 400” الروسية، أوقفت واشنطن تسليم قطع غيار مقاتلات “أف 35” الى أنقرة. يقلق الأميركيون من إمكانات استغلال موسكو نشر منظومة الدفاع الجوي في أحد بلدان الناتو، لتطويرها كي تكون أكثر فاعلية في مواجهة الأسلحة الغربية.
المشهد الأكثر قسوة ووضوحاً للتوتر بين الجانبين، هو أن الجيش الأميركي، الحليف الطبيعي لتركيا المنضوية في الحلف الأطلسي (الناتو)، بات الداعم الأساسي للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، العدو اللدود والتاريخي لتركيا. هنا أحد أوجه مقتل العلاقات التركية-الأميركية.
الكتاب والسياسيون الأتراك يُركزون على تبدل الموقف الأميركي في سوريا، باتجاه الإبتعاد عن الأكراد والانسحاب، مدخلاً إلى تحسن العلاقات مع واشنطن. لكن السياسة الأميركية تنحو بإتجاه آخر. حتى الأكراد باتوا اليوم واثقين من بقاء القوات الأميركية في منطقتهم، بل صاروا يبتسمون بسُخرية كلما سُئلوا عن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاباً قريباً من سوريا. المؤسسات الأميركية مثل الدفاع والخارجية معهم، وبالتالي فإن أي قرار للبيت الأبيض سيُؤجل حتماً بُعيد صدوره. ووصل التوتر في هذا الملف موقعاً متقدماً. حتى إن الأتراك لم يجدوا سوى مستشار الرئيس السابق باراك أوباما للأمن القومي الجنرال جيمس جونز ليترأس المجلس الأميركي-التركي (لوبي تركي في واشنطن). جونز يؤيد دوراً متقدماً لواشنطن في دعم توسيع المنطقة التركية الآمنة في شمال سوريا باتجاه المناطق الكردية. حينها، تُنفذ القوات الأميركية انسحاباً لمصلحة الأتراك، بما يُعزز العلاقة الثنائية على أكثر من صعيد.
لكن أنقرة اليوم باتت تُواجه سياسة أميركية في المنحى المعاكس، ليس على الصعيد السوري فحسب، بل في ملفات أخرى تجد أنقرة نفسها معنية بها. في هذا السياق علينا قراءة إعلان البيت الأبيض سعيه لإدراج جماعة “الإخوان المسلمين” على قائمة المنظمات الإرهابية. كيف يقرأ الأتراك اعتبار “الإخوان” منظمة إرهابية و”العمال الكردستاني” حليفاً؟
الحقيقة أن دعم فروع التنظيم في أنحاء العالم العربي، واحتضان منفييه وقياداته، من أركان السياسة الخارجية لتركيا. اسطنبول اليوم باتت عاصمة لمنفيي كل فروع التنظيم، ومن ضمنها حركة “حماس” الفلسطينية، والفرع المصري للتنظيم و”الإصلاح” اليمني وسائر الجماعات الأخرى.
ربما لهذا السبب جاء الرد التركي قاسياً على لسان الناطق بإسم حزب “العدالة والتنمية” الحاكم عمر جليك. جليك اعتبر أن “المساواة بين جماعة إرهابية تميل للعنف المتطرف مثل داعش، وبين جماعة تتحرك وفق القانون والديمقراطية كالإخوان المسلمين، ستكون من أكبر أخطاء التاريخ”. ذاك أن “إقفال سبل المشاركة الديمقراطية، وحظر العناصر الديمقراطية، خطوة من شأنها المساعدة في ظهور عدد من التنظيمات الإرهابية بشكل خفي”، وهو “أكبر دعم يمكن تقديمه للدعاية لداعش” ولليمين المتطرف في العالم الغربي، وفقاً لجليك.
يبقى لتركيا أن تنحو أكثر باتجاه تعزيز العلاقات مع روسيا. البلدان يتعاونان في الملفين السوري والليبي، ويُعززان العلاقات العسكرية والأمنية بينهما، علاوة على الرقعة المتسعة للمصالح الاقتصادية المشتركة. وحده رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يُنافس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عدد لقاءاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لكن متى تتحول العلاقة الروسية-التركية إلى خيار استراتيجي حقيقي لأنقرة؟ هذا السؤال رهن التطورات على الأراضي السورية، ومدى ذهاب واشنطن في عقابها الأتراك على حيازة الأسلحة الروسية. لمثل هذه الانعطافة أثر طويل الأمد على نطاق التأثير الأميركي في منطقتنا، يتجاوز ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
المدن
رسالة أوجلان: بلدية اسطنبول مقابل “المنطقة الآمنة”؟/ سعيد قاسم
دعا زعيم حزب “العمال الكردستاني” المسجون في تركيا عبدالله أوجلان، الاثنين، في رسالة وجهها إلى “قوات سوريا الديموقراطية”، إلى تغليب الحوار والسياسة على القتال في العلاقة مع تركيا.
وقرأت المحامية نوروز أويسال، رسالة أوجلان المعتقل في سجن ايمرالي بتركيا منذ العام 1999، في مؤتمر صحافي باسطنبول، وقالت إنه سمح لهم بلقاء أوجلان للمرة الأولى منذ العام 2011. وجاء في نص رسالة أوجلان: “نحن نؤمن بقدرات قوات سوريا الديموقراطية وأنه يجب حلّ المشاكل في سوريا ضمن إطار المحافظة على وحدة الأرض على أساس الديموقراطية المحلية المنصوص عليها في الدستور الأساسي، بعيداً عن ثقافة الإقتتال”.
رسالة أوجلان جاءت في وقت تتجه فيه التناقضات في العلاقة الأميركية مع تركيا و”قسد”، نحو الحلحلة. وهو ما أشار اليه مسؤولون أتراك بأن واشنطن تبدي مرونة حيال التفاهم بخصوص المنطقة الآمنة إبان زيارة المبعوث الأميركي جيمس جيفري، لانقرة. وأكدت على هذا التوجه أيضاً، رئيسة المجلس التنفيذي لمجلس سوريا الديموقراطية” الهام أحمد، خلال ملتقى العشائر، حين لمحت إلى خطة أميركية لاشراك “قسد” في المباحثات الدولية الخاصة بالأزمة السورية.
ويبدو أن محامي أوجلان، قد انتظروا انتهاء المبعوث الأميركي جيمس جيفري من نقاشاته مع الاتراك، بخصوص المنطقة الآمنة، قبل الاعلان عن مضمون رسالة زعيم “العمال الكردستاني”. إذ أعلن محامو أوجلان عن وجود الرسالة في 2 أيار/مايو، وأشاروا إلى أنهم سيعلنون مضمونها في وقت لاحق.
جيفري، كان قد ناقش مع المسؤولين الاتراك موضوع المنطقة الآمنة واللجنة الدستورية، قبل انتقاله إلى جنيف للقاء مسؤولين عرب وأوروبيين، كما التقى بمسؤولين من “الائتلاف السوري”. ويبدو أن هناك تحضيرات أميركية لخطة جديدة بخصوص خريطة تواجد القوى المحلية، في مسألة التفاوض. ويبدو أن ملتقى العشائر الذي نظمه “مسد”، هو جزء من هذه التحضيرات. نجاح الملتقى جاء تثبيتاً للتمثيل السياسي الذي بحث عنه “مسد”، كجسم سياسي معارض يمثل بقعة جغرافية. وعلى ذلك، فقد حارب النظام الملتقى بشدة، كما حاربته روسيا أيضاً، كون الترتيبات الأميركية الجديدة، ستقوض الجهود الروسية-الايرانية في حل المسألة السورية وفق مسار أستانة.
التوقيت الذي تُليت فيه رسالة أوجلان، جاء دقيقاً لجهة إقبال كل من “قسد” وتركيا على مرحلة حاسمة؛ إما التوافق على صيغة لادارة المنطقة الآمنة بضمانة أميركية، أو الدخول في صراع بعيد الأمد لا يضمن أيّا منهما كسب الرهان فيه وربما يخسر كلاهما في ظل سعي أطراف محلية واقليمية للعب دور فيه.
وعلى ذلك، يمكن أن يكون المخرج هو برسالة الزعيم الكردي المعتقل، الذي ربط المسألة الكردية في تركيا بشرق الفرات، وبالتالي يمكن أن تكون الصفقة تنازلاً تركياً للقبول بدور لـ”قسد” في المنطقة الآمنة، مقابل توجيه حزب “العمال الكردستاني” لأنصاره بالتصويت لصالح حزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات المعادة لبلدية اسطنبول، التي قررت اللجنة العليا للانتخابات المحلية إعادة تنظيمها.
ويعلم “العدالة والتنمية” أن عدداً كبيراً من الاصوات التي حصل عليها حزب “الشعب الجمهوري” كانت لانصار “العمال الكردستاني” في “حزب الشعوب الديموقراطية”، واعادة الانتخابات ربما لن تؤدي الى نتائج مختلفة إن لم يتوصل “العدالة والتنمية” إلى تفاهمات مع “قسد” من بوابة “العمال الكردستاني”.
الرسالة كانت تحمل تلميحا آخر يعزز من احتمال وجود صفقة سياسية، وهي اشارة اوجلان الى مشروعية مخاوف تركيا، وبالتالي إمكانية تحقيق تفاهمات بين “العمال الكردستاني” وتركيا بوقف العمليات القتالية بين الطرفين، في الداخل التركي.
الفائدة الأميركية من هذه الصفقة، ربما تتجاوز منافع الطرفين التركي والكردي، إلى ضمان تواجدهما في الصف الأميركي، خاصة تركيا. إذ إن توصل تركيا و”قسد” إلى حلول مرضية شرقي الفرات، سيعزز من دور تركيا غرب الفرات والشمال السوري، لتعود نداً سياسياً لروسيا والنظام، أي تحييد منطقة النفوذ الأميركي شرقي الفرات، عن دائرة الصراع. يصاف إلى ذلك، أن الانفتاح التركي على شرقي الفرات، سيحقق الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي للإقليم الجديد.
بالنسبة لـ”الاتحاد الديموقراطي”، فإن ما يجعله يرضى بأنصاف الحلول بخصوص الشريط الحدودي، هو إدراكه بأن أقصى فائدة يمكن أن يحققها في سيناريو المنطقة الآمنة، هو عدم السماح لقوة عسكرية محلية أخرى بالتواجد على الحدود. كما يأمل الابقاء على مؤسساته الادارية والسياسية كما هي، على أمل استمرارها في وضعها الحالي، لاعتقاده بأن لديه الشعبية الكافية كممثل سياسي وإداري لتلك المناطق.
يعرف الكرد في سوريا وتركيا والعراق، أن أفضل انفتاح تركي على القضايا الكردية، كان خلال فترة حكم حزب “العدالة والتنمية” الذي يُدرك أن الكرد يشكلون رقماً انتخابياً صعباً، قد يُحدد مستقبله السياسي في تركيا. ويجري هذا في وقت يتم فيه الحديث عن تأسيس أحزاب سياسية في تركيا جديدة تخرج من عباءة “العدالة والتنمية”، وقد تهدده إن لم يستعد بداياته السياسية الناجحة والتي اتسمت بالسلام الداخلي.
المدن
انتخابات إسطنبول/ معن البياري
كان الظن، بعد جلاء نتائج الانتخابات البلدية في تركيا، نهاية مارس/ آذار الماضي، أنها انفعالاتٌ غاضبةٌ، ستكون عابرةً، تلك التي بدت في كلام قياديين في حزب العدالة والتنمية، وفي مقدمتهم رئيس البلاد، أردوغان، بعد تبيّن خسارة الحزب رئاسة بلدية إسطنبول. ولكن فائضا من الأخبار لم يتوقف، طوال الأسابيع الخمسة الماضية، أوحى، (أو أكّد؟)، أن الأمر يتجاوز حالةً من النرفزة إلى ما قد يُحسب، عن حقٍّ، تعبيرا عن توطّن عقليةٍ في “العدالة والتنمية”، وقيادته، ترفض بديهية أن أمزجة الناس وميولاتها يحدُث أن تتغير، بل وتستنكر هذه العقلية أمرا كهذا، وترى أن حيازة الحزب رئاسة بلدية إسطنبول خمسة وعشرين عاما تعني أن هذه رئاسةٌ إلى الأبد. دلّ على هذا أن الأخبار الوافدة من العاصمة الاقتصادية لتركيا، ومهوى ملايين السياح والزائرين، كادت، باستثناء افتتاح واحدٍ من أكبر مطارات العالم فيها، لا تتعلق بغير طعن الحزب الذي يترأس تركيا منذ 17 عاما في عدم كسب مرشحه، بن علي يلدريم، رئاسة بلدية المدينة، وفي خطف حزب الشعب الجمهوري المعارض أغلبية مقاعد مجلس البلدية، ونيْل مرشحه، أكرم إمام أوغلو، رئاستها. وجرى الظن أن هذا الطعن محضُ إجراءٍ تقليدي، تأخذ به الأعرافُ الانتخابية المعهودة، كما هو قرار اللجنة العليا للانتخابات إعادة فرز أصوات المقترعين، غير أن الأمر لم يبدُ كذلك، بدلالة الكلام الكثير الذي راح يشكّك في أهلية هذه اللجنة في تنظيم عملية الاقتراع في إسطنبول (وحدها بالذات!). وفي الأثناء، ظلّ عجيبا أن الرئيس أردوغان بدا كأنه متفرغٌ لهذا الأمر، وظهر رئيسَ حزبٍ، ورئيسا سابقا لبلدية إسطنبول، فيما هو رئيسٌ للبلاد كلها، ولكل الأتراك وليس لمحازبيه فقط، وذلك من فرط ما جهر به من كلامٍ في المسألة، دلّ على أن شيئا مبيّتا يتم طبخه، من أجل “استرداد” رئاسة بلدية إسطنبول، وهو ما حسمَه إعلان اللجنة العليا للانتخابات، أول من أمس الاثنين، إعادة التصويت في إسطنبول الكبرى في 23 يونيو/ حزيران المقبل.
تلك المقدمات، وكثيرٌ مثلها، تسوق إلى سوء الظن بالقرار المثير، والمستهجن، وحسبانِه قد خضع لتأثيرات جهاتٍ نافذةٍ في السلطة التي يمسكها حزب العدالة والتنمية. ولا يملك صاحب هذه الكلمات قرائن تؤكد زعمه هذا، كما كثيرون غيره، في تركيا وغيرها، معجبون بالرئيس أردوغان وآخرون غير محبيّن له، استقبلوا قرار إعادة الانتخابات في إسطنبول بسخطٍ وارتيابٍ ظاهريْن، غير أن سوء الظن من حسن الفطن. وهذا أردوغان يسوّغ الفطنة المرجّحة هنا، عندما يقول، يومين قبل القرار، إنه يفضل إعادة الانتخابات، لأنها ستتيح للجنة العليا تبرئة ساحتها. وليس خافيا ما يشتمل عليه هذا الكلام، ومن رئيس البلاد تحديدا، من مسّ بأداء أجهزة الدولة، وانتقاصٍ من قدرتها على تيسير أجواء نزيهةٍ لاقتراع عشرة ملايين مواطن في مدينةٍ كبرى، غير أن أردوغان لم يكترث بذلك، وقال إن مخالفاتٍ شابت الاقتراع، الأمر الذي أعاد إشهارَه، ساعاتٍ بعد قرار إعادة الانتخابات، لمّا قال، مغتبطا ربما، إن “فسادا منظّما” شاب عملية التصويت، وطالب رجال أعمالٍ انتقدوا القرار بأن يعرفوا مكانهم.
من موقع الإعجاب بأداء الرئيس أردوغان في بلده، وبما أنجزه لمواطنيه، ومن موقع إطراء التجربة المقدّرة لحزب العدالة والتنمية في تعزيز قيم الديمقراطية والاعتدال الإسلامي، ومن موقع التسليم بشرعية تعديلاتٍ دستوريةٍ صوّت لها الأتراك، أجهزت على موقع رئاسة الوزراء، وأعلت صلاحيات الرئيس ومكانته، ومن موقع المعتصم بضرورة أن تبقى تركيا، البلد المسلم الجار للأمة العربية، في منجاةٍ من تراجعاتٍ في مسار تقدّمها الاقتصادي الناجح، من هذه المطارح جميعها، يجوز القول إن حزب العدالة والتنمية خصمَ كثيرا من صورته، وهو يبتعد عن تحرّي مواطن الزلل والإخفاق في أدائه، وجعلته يخسر مقاعد ليست قليلةً في الانتخابات البلدية، المطبوعة بداهةً بما هو خدماتي ومعيشي، ويُؤْثر على ذلك سلوكا متوترا، ويفتعل أسبابا مضافةً للتأزيم مع المعارضة وأحزابها، عندما لا يحتمل خسارته رئاسة بلدية إسطنبول، ويتعامل مع الواقعة وكأنها نهاية النهايات، فيما هي محطةٌ موصولةٌ بمقدماتٍ لها نتائجُها الأدعى للاحترام. والمشهد الذي رأينا قد ينبئ بما قد لا يسرّ حزب العدالة والتنمية وقيادته، وقد تتدحرج تفاصيل فيه إلى ما هو غير مرضٍٍ، لنا نحن الذين نخصّ الحالة التركية الراهنة بتثمينٍ مستحق.
العربي الجديد
في قرار إعادة انتخابات إسطنبول/ سمير صالحة
في خطوة أثارت كثيراً من الضجيج القانوني والسياسي والإعلامي قررت اللجنة العليا للانتخابات التركية إبطال جزء من نتائج انتخابات بلدية إسطنبول الأخيرة، داعية في 23 حزيران المقبل إلى توجه حوالي 10ملايين ناخب من سكان المدينة لاختيار رئيس بلدية جديد.
القرار جاء بعد اعتراض حزب “العدالة والتنمية” الحاكم على نتيجة فوز مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو والطعن فيها وتقديم أوراق ومستندات تتحدث عن تزوير ومخالفات وخروج عن قانون الانتخابات التركي الذي أعده الحزب الحاكم قبل سنوات. لكن الذريعة القانونية الأهم التي اعتمدتها اللجنة ودفعتها إلى قبول الطعن في النتائج كانت إشراف أشخاص لا يحق لهم ذلك على عملية الاقتراع والفرز والعد حيث إن القانون يلزم أن تتم عملية اختيار الأشخاص الذين سيقومون بهذه المهمة من الموظفين الحكوميين وهذا ما لم يحدث يوم 31 آذار المنصرم في العشرات من مراكز التصويت.
وعلى الفور جرد مرشح المعارضة الذي فاز بفارق 13 ألف صوتا من منصبه وتم تعيين محافظ إسطنبول بالوكالة لإدارة شؤون البلدية في المدينة حتى موعد الانتخابات وسط ضجيج سياسي وإعلامي جديد حمل معه نقاشات حول مسار الديمقراطية في تركيا وسلامتها.
تحليلات ومواقف كثيرة متضاربة بين أنصار القرار والمعارضين له. فمن يدعم القرار يقول إن الاعتراض حق قانوني وإن الذي دفع إلى ذلك هو النتائج المتقاربة بين أصوات الطرفين والمعلومات التي بدأت تظهر إلى العلن حول الخروقات والممارسات غير القانونية في العديد من مراكز التصويت. لكن الرافضين للقرار يتساءلون لماذا ألغيت نتائج انتخابات رئيس البلدية وحدها وليس كل الانتخابات مثل اختيار أعضاء المجالس والمخاتير مع أن أوراق الاقتراع وضعت كلها في ظرف واحد وفي عملية انتخابية واحدة؟
قيادات في العدالة والتنمية وبعد ساعات على إعلان النتائج دعت إلى تقبل ما جرى وقبول خسارة إسطنبول واعتماد أسلوب ولغة سياسية جديدة بينها الدعوة للم شمل المواطنين بكافة ميولهم بدلا من حالة الاصطفافات الحزبية والسياسية القائمة، إلا أن القرار الحزبي صدر بإعطاء الأولوية لعملية إعادة الانتخابات في إسطنبول ومعرفة نتائجها.
المراقبون في الداخل والخارج كانوا صباح اليوم التالي لإعلان نتائج انتخابات البلديات في عموم تركيا يحاولون رصد ردة فعل العدالة والتنمية وكيف ستكون عملية النقد الذاتي والدروس الواجب استخلاصها من خسارة بلديات المدن الكبرى، لكن الحزب وكما يبدو يريد استرداد إسطنبول مهما كان الثمن حتى ولو كان ذلك مكلفا له سياسيا واجتماعيا وحزبيا وعرض الكثير من الشعارات والمعايير والأسس التي تبناها عند انطلاقته قبل 17 عاما للخطر. إسطنبول لها مكانتها السياسية والحزبية والاجتماعية والاقتصاية بالنسبة لقيادات العدالة والتنمية وهو الرمز الذي سيكون التخلي عنه موجعا.
رغم المسافة الزمنية الواسعة التي تفصلنا عن موعد الانتخابات الجديد إلا أن آخر استطلاعات الرأي بدأت تتحدث عن تقدم أكرم إمام أوغلو مجددا في الانتخابات المرتقبة، خصوصا إذا ما تمكنت أحزاب المعارضة من توحيد صفوفها ونجحت في كسب حزب “الشعوب الديمقراطي” المحسوب على الأكراد في تركيا مرة أخرى إلى جانبها. قرار حزب “السعادة” الإسلامي الذي نجح في الانتخابات الأخيرة بالحصول على 100 ألف صوت هو أيضا في غاية الأهمية في حال اعتمد سحب مرشحه لصالح مرشح المعارضة في إسطنبول. لكن الذي قد يقلب النتيجة لصالح مرشح “تحالف الجمهور” بن علي يلدرم هو عودة أصوات الفئة المغبونة أو الغاضبة أو القلقة للحزب حيث وصلت حسب بعض مراكز الاستطلاعات إلى حوالي 4 بالمئة فهل تعود هذه الفئة إلى حضن الحزب؟
الجديد هذه المرة هو الطلب المقدم من قبل حزب “الشعب الجمهوري” المعارض إلى اللجنة العليا للانتخابات داعيا لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهتها البلاد العام المنصرم، وأن حجته في ذلك هي الحجة نفسها التي ساقها حزب العدالة والتنمية في طلب إلغاء نتائج انتخابات بلدية إسطنبول حيث شارك العشرات من غير الموظفين الرسميين في الإشراف على العملية الانتخابية والفرز والعد. هل تعطيه اللجنة ما يريده؟ وما الذي سيحدث إذا ما استجابت لطلب قانوني من هذا النوع؟ وكيف ستبرر موقفها إذا ما رفضت طلب الحزب وهل ستكون مقنعة في ذلك؟
مرة أخرى يظهر أن قرار الناخب التركي وهو في الطريق إلى الصناديق سيكون تحت تأثير أكثر من عامل سياسي ومعيشي واجتماعي قبل أن يكون حول البرامج المطروحة بين المتنافسين على خدمة إسطنبول وتطوير المدينة فهل ستقنعه مثلا طروحات الاستهداف والمؤامرة التي يتحدث عنها البعض؟ أم أنه سيصغي إلى تحذيرات الكثير من الأصوات والأقلام في الداخل والخارج حول حساسية ودقة مسار الأمور في تركيا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا؟
هناك من يقول إن “العدالة والتنمية” لو ترك نتائج انتخابات إسطنبول جانبا وأعطى أولويته للأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها البلاد لكان استرد فورا ثقة قواعده والمواطن التركي بكافة أطيافه وميوله السياسية والحزبية، لكنه ومن خلال قرار حمل المواطن مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع يكون قد غامر بفتح الأبواب أمام الكثير من المفاجآت السياسية التي قد لا تعجبه عشية يوم الرابع والعشرين من حزيران المقبل.
وهناك من يقول أيضا إن التزام العدالة والتنمية بالنتائج الأولية المعلنة من قبل اللجنة العليا للانتخابات كان سيعطيه الفرصة لاسترداد قوته الشعبية ومراجعة مواقفه وسياساته ليكون أكثر تماسكا وقوة. لكنه اختار التصعيد على هذا النحو لأنه لم يستوعب هزيمة إسطنبول بعد خسارته العديد من المدن الكبرى. الواضح أيضا أن العدالة والتنمية الذي رفض طرح أسباب خسارته للمدن الكبرى في هذه الآونة معطيا الأولوية لمسألة إعادة الانتخابات في إسطنبول قد يجد نفسه أمام ورطة أكبر تتجاوز المراجعة الداخلية في حال نجح مرشح المعارضة في هزيمة بن علي يلدرم مرة أخرى. فكيف سيتصرف الحزب وقياداته إذا ما جاءت نتيجة الانتخابات بعد شهر ونصف مخيبة للامال؟
تلفزيون سوريا
تركيا والانحدار السلطوي/ جلبير الأشقر
يقولون أن مقياس الديمقراطية ليس الفوز بالانتخابات بل القبول بخسارتها. وهو قولٌ صحيح إذ أن ما يميّز الديمقراطية النزيهة عن السلطوية التي تستخدم الانتخابات وسيلة لإضفاء صبغة الشرعية الديمقراطية على حكمها (خلافاً للاستبداد الفظّ الذي يحكم بلا انتخابات أو بإجراء انتخابات صوَرية على طريقة ما اعتادت عليه شعوب منطقتنا من طقوس لدى الأنظمة «الجملوكية» كالنظامين البعثيين العراقي والسوري أو نظام القذّافي)، إن ما يميّز الديمقراطية النزيهة، إذاً، هو بالتأكيد الاستعداد الحقيقي لتسليم السلطة للخصوم والمنافسين لو فازوا بالأغلبية.
وفي ضوء هذا المقياس تحديداً أشاد العديد من المعلّقين الصادقين بنتائج الانتخابات المحلّية التركية الأخيرة، التي جرت في نهاية شهر مارس/ آذار الماضي، إذ أسفرت عن خسارة التحالف الحاكم لأهم مدن البلاد، بما فيها العاصمة السياسية أنقرة والعاصمة السكّانية والاقتصادية اسطنبول. (قلنا «المعلّقين الصادقين» لنميّزهم عن جماعات تقريظ اردوغان لأسباب عقائدية من باب «انصرْ أخاك في العقيدة ظالماً أو مظلوماً»). بيد أن المعلّقين المذكورين تسرّعوا في الإشادة بالديمقراطية التركية في ضوء النتائج المعلنة، إذ لم يميّزوا بين الخسارة الانتخابية والإقرار بها، فامتدحوا النظام السائد في تركيا حال إعلان نتائج الانتخابات وقبل أن يقرّ النظام بخسائره الأهمّ فيها.
والحال أن التحالف الحاكم، وهو يتألف من »حزب العدالة والتنمية«، بزعامة الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان، و«حزب الحركة القومية»، حزب أقصى اليمين القومي التركي (ذراعه الميليشياوي «الذئاب الرمادية»)، التحالف الحاكم هذا لم يتأخر عن الطعن بنتيجة الانتخابات في أنقرة واسطنبول بعد أن كان قد أسرع إلى إعلان فوزه في هذه الأخيرة، ولم يقرّ بتاتاً بهزيمته. وقد تركّز مجهود التحالف الحاكم الرامي إلى الطعن بنتيجة الانتخاب على مدينة اسطنبول، إذ أن فارق الأصوات جاء فيها أقل بكثير مما في أنقره، فضلاً عن أن بلديتها أكثر أهمية نظراً لكونها مدينة عملاقة.
والحقيقة أن هذا النمط من التمسّك السلطوي بالحكم ليس بالجديد، بل غدا سمة اردوغان الرئيسية منذ أن فقد حزبه الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية لعام 2015، فحداه الأمر على حلّ المجلس المنتخَب وإجراء انتخابات جديدة بعد بضعة أشهر في العام ذاته. وترافق ذلك مع تغيير نهجه السياسي بصورة جذرية توخّياً للفوز بأي ثمن، بحيث عقد تحالفاً سياسياً مع «حزب الحركة القومية»، كان ثمنه إعادة إشعال الحرب ضد الحركة القومية الكردية بعد سنوات طوال كانت خلالها إحدى خير سمات حكم اردوغان أنه حقّق هدنة طويلة مع تلك الحركة.
ومع ذلك، فإن منعطف اردوغان السياسي لم يكفِ كي يعوّض عن امتعاض عدد متزايد من الأتراك من انزلاقه نحو السلطوية ومن فساد حكمه المتعاظم، لاسيما المحسوبية التي يشكّل أبرز المنتفعين منها صهره، وزير المالية والخزانة برات آلبيراق، وهو المشرف أيضاً على السياسة الاقتصادية الفاشلة التي تسير بتركيا نحو الهاوية مع تزايد مطّرد في البطالة وارتفاع الأسعار. فبالرغم من انتهاز اردوغان فشل المحاولة الانقلابية التي حيكت ضدّه في عام 2016 كي يصفّي مؤسسات الدولة من معارضيه، وذلك بتسريح حوالي 150،000 موظّف (عِشر موظفّي الدولة التركية!) ويُحكم سيطرته على تلك المؤسسات، لم يفُز بالاستفتاء الدستوري الذي نظّمه في العام التالي كي يعزّز صلاحياته الرئاسية، وبالتالي تمركز السلطة بين يديه، سوى بأغلبية ضئيلة (فارق ثلاثة بالمئة) وذلك وسط احتجاجات شديدة من قِبَل المعارضة التي أشارت إلى جملة واسعة من الممارسات المنافية للديمقراطية وللقوانين، ولم تحصل حتى على إعادة فرز الأصوات الذي طالبت بها. وانسجاماً مع هذا النهج السلطوي، رفض التحالف التركي الحاكم نتيجة انتخابات بلديّة اسطنبول وطالب، بل فرض إعادة فرز الأصوات فيها. ولمّا جاءت إعادة الفرز تؤكد فوز مرشّح «حزب الشعب الجمهوري»، أهم أحزاب المعارضة، طالب التحالف الحاكم بإعادة إجرائها كاملة، مدّعياً أن نتيجتها شابتها عيوبٌ من شأنها تشويه العملية الديمقراطية. وقد تكون هذه المرّة الأولى في التاريخ يحتجّ فيها على إفساد الانتخابات حزبٌ سيطر على مؤسسة ما، بلديّة اسطنبول في هذه الحالة، لمدّة خمسة عشر عاماً بلا انقطاع، وذلك في ظل حكم الحزب ذاته للبلاد بصورة متواصلة. والحال أن المسؤولين عن الإشكالات الإدارية التي تذرّعت بها غالبية أعضاء «اللجنة العليا للانتخابات» التركية، وهم مدينون بمناصبهم للحزب الحاكم، أناسٌ عيّنهم الحزب ذاته، الذي لم يستطع قط أن يتّهم المعارضة بالتزوير لما كان مثل ذلك الاتهام سوف يثير من استغراب وتهكّم.
أما سبب هذا التمسّك العنيد ببلدية إسطنبول، فليس بالسياسي صرفاً بالطبع، ولا يفوت أي مدرك لأمور السياسة أن السيطرة على مؤسسة كبيرة، سواء أكانت دولة برمّتها أم بلدية مدينة كبيرة، إنما تفسح المجال أمام شتى أنماط الانتفاع والمحسوبية والانحياز السياسي. فبلدية اسطنبول تمنح آلاف العقود في شتى المجالات، لاسيما البناء والأشغال العامة والخدمات على اختلافها، وهي عقود تفلت في تركيا من أنواع الرقابة الصارمة والمستقلة التي تعرفها الدول الغربية (وحتى تلك لم تستطع منع حصول بعض «الفضائح»، التي أدّت إلى سجن المسؤولين عنها).
وقد كشفت مراسلة صحيفة «نيو يورك تايمز» (3/5/2019)، كارلوتا غال، نقلاً عن صحافة المعارضة التركية، عن بعض ما يجري وراء ستار بلدية اسطنبول، وهذه بعض الأمثلة المتعلقة بتمويل الجمعيات في العام الماضي وحده: منحت البلدية 74 مليون ليرة (13 مليون دولار) لجمعية الشباب التركي التي يشارك ابن اردوغان الأصغر، بلال، بإدارتها؛ 51 مليون ليرة (9 ملايين دولار) لجمعية الشابات والتربية التي تشارك ابنة اردوغان، إسراء، زوجة برات آلبيراق، بإدارتها؛ 41 مليون ليرة (7 ملايين دولار) لجمعية الفريق التكنولوجي التي يترأسها صهر اردوغان الآخر، زوج ابنته سميّة، سلجوق بيرقدار. هذا وينجلي سببٌ رئيسي من أسباب تمسّك اردوغان العنيد ببلديّة اسطنبول في وعد مرشّح المعارضة الفائز بانتخابات نهاية مارس/ آذار، أكرم إمام أوغلو، بالتدقيق بكافة حسابات البلدية وكشفها للجمهور بينما تكتنفها السرّية في الوقت الراهن. وقد أدرك الجميع أن جماعة الحزب الحاكم التي كانت مُشرفة على البلدية قد انتهزت فرصة تأخير تسليم مقاليدها حتى يعاد فرز الأصوات، كي تسحب كافة الملفات المُحرجة من مقرّ البلدية.
وماذا بعد؟ لو قبلت المعارضة بخوض الانتخابات المكرّرة في اسطنبول بدل مقاطعتها، هل يرضخ اردوغان لضغوط شخصيات بارزة من أعضاء حزبه، كرئيس وزرائه السابق أحمد داود أوغلو، تعارض انزلاقه نحو الانفراد بالحكم، فيسمح بإجراء انتخابات نزيهة خاضعة لإشراف ديمقراطي كامل من قِبَل المعارضة، أم يستمرّ في انحداره السلطوي ويُجري انتخابات أشبه بما تعوّدنا عليه في البلدان العربية؟ الأمر المؤكد الوحيد هو أنه لو اختار الطريق الثاني، لوضع الدولة التركية برمّتها على كفّ عفريت.
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي
إعادة الانتخابات البلدية في إسطنبول ورسالة أوجالان/ بكر صدقي
كان أول أيام رمضان في تركيا حافلاً بالمفاجآت. بدأت بإعلان مكتب المحاماة الموكل بقضية زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجالان أن محاميين من المكتب زاراه في سجنه، يوم الخميس 2 أيار/مايو، وسيعلنان رسالة منه في مؤتمر صحافي بعد الظهر. في الموعد المحدد تلا المحاميان الرسالة أمام مراسلي وسائل الإعلام، دعا فيها أوجالان، قوات سوريا الديمقراطية إلى حل المشكلات بالحوار، من خلال المساهمة في الدستور، بما يحافظ على الخيار الديمقراطي في شمال شرق سوريا في إطار الدولة الواحدة، مع الأخذ بعين الاعتبار الهواجس الأمنية التركية. كما أكد على أن الصحة والسلامة البدنية والروحية والعقلية للمضربين عن الطعام من نواب حزب الشعوب الديمقراطي هي أهم من أي شيء آخر.
الواقع أن صياغة نص الرسالة بدت مرتبكة ومربكة، والكلام أعلاه ترجمة «محسّنة» بقدر ما يسمح الأمر بالتدخل، من غير إخلال بالمعنى. محتوى الرسالة يستجيب لمطالب الحكومة التركية في أكثر من نقطة، بما يسمح لنا بالتشكيك في صدورها عن إرادة حرة. أي أنه من المحتمل أن يكون هناك نوع من الإملاء، أو على الأقل التفاوض على الصيغة مما جعلها ركيكة.
يبقى الأهم هو إعطاء الإذن بهذه الزيارة، بعد ثمان سنوات من منع لقاء أوجالان بمحاميه! كما أن الرسالة لم تسلم بيد أوجالان للمحاميين، بل مرت بمرحلة «انتظار» فلم تسلم إلا بعد انقضاء الزيارة بـ3 أيام، وأعلنت بعد 4 أيام، قبل ساعات قليلة من إعلان الهيئة العليا للانتخابات قرارها بشأن إلغاء نتائج انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، وتحديد موعد جديد لإعادتها في 23 حزيران/يونيو القادم.
ربط كثير من المحللين، بحق، بين الحدثين المتزامنين، على ضوء قرار الهيئة المذكورة، فقالوا إن السماح بزيارة أوجالان ومضمون رسالته، مناورة من الحكومة لشق صفوف المعارضة في انتخابات الإعادة، بإبداء بادرة حسن نية تجاه الناخبين الكرد الذين كان لتصويتهم لصالح مرشح «الشعب الجمهوري» أكرم إمام أوغلو دور مرجح في فوزه. وذلك بالإيحاء أن عملية السلام التي أوقفتها الحكومة في العام 2015، يمكن أن تستأنف بعد انتخابات الإعادة. لكن حزب الشعوب الديمقراطي لم يتأخر في إعلان موقفه الرافض لقرار الهيئة العليا للانتخابات، وعن استمرار دعمه للمرشح إمام أوغلو. يمكن القول إن لعب ورقة أوجالان لم تنفع الحكومة، وهو ما جعل أردوغان يعلن في اليوم التالي، بلا مواربة، أن استئناف لعملية السلمية أمر غير وارد.
ثمة تفصيل آخر مهم يتعلق بزيارة المحامين، وهو أن قرار السماح بها جاء بعد يوم واحد من زيارة ممثل الإدارة الأمريكية في الملف السوري جيمس جيفري لأنقرة. فمضمون رسالة أوجالان، في جانبها المتعلق بسوريا، يتماشى مع المحاولات الأمريكية لحل المعضلة العويصة المتمثلة في التوفيق بين الحليف الركي والحليف الكردي تمهيداً لتحقيق سحب القوات الأمريكية من سوريا. تتواتر تسريبات بشأن حوار، ربما غير مباشر، بين الحكومة التركية و«قسد» بتسهيل من واشنطن. من هذا المنظور يمكن قراءة القسم السوري من رسالة أوجالان، وبخاصة تأكيده فيها على وجوب أخذ الهواجس التركية بعين الاعتبار.
ماذا بشأن قرار الهيئة العليا للانتخابات؟
لقد قوبل قرار الإعادة بردود فعل غاضبة، فسمعت أصوات قرع على القدور وأدوات المطبخ في كثير من أحياء إسطنبول، في أعقاب إعلان القرار مباشرةً، ونزل الناس إلى الشوارع في منطقة بشكطاش، منددين بالقرار الظالم. أما في المستوى السياسي فقد اعتبرت أحزاب المعارضة أن القرار يقضي على مصداقية الهيئة العليا التي خضعت لضغوط هائلة من الحزب الحاكم وحليفه القومي، فارتكبت جريمة بحق نفسها وبحق القانون، معلنة قبولها التحدي، مع ذلك، والاستعداد لخوض انتخابات الإعادة في حزيران/يونيو.
الواقع أن قرار الهيئة يفتقد لأي مبررات قانونية. فبعدما أعيد عد الأصوات في عدد كبير من الصناديق، ولم تعثر على ما يشوب العملية الانتخابية، كما فشلت محاولات حزب العدالة والتنمية في الطعن بمصداقية أعداد كبيرة من الناخبين، لم يبق أمامه غير الطعن بتشكيل اللجان المسؤولة عن الصناديق. هذا المبرر هو الذي وافقت عليه الهيئة في تسويغ قرارها. الأمر يشبه معاقبة فريق كرة قدم بسرقة الفوز الذي حققه، بسبب اعتراض الفريق الآخر على شخص حكم المباراة، من غير أن يثبت أن الحكم المذكور انحاز للفريق الآخر بما يؤثر على نتيجة المباراة. أضف إلى ذلك أن الناخب الاسطنبولي قد أدلى بثلاث ورقات داخل ظرف واحد وضعه في الصندوق، واحدة لانتخابات المجلس البلدي في منطقته، والثانية لانتخاب مجلس بلدية إسطنبول، والثالثة لانتخاب رئيس بلدية إسطنبول. فتم الاعتراض فقط على الورقة الأخيرة، مع أنها قدمت جميعاً للجنة الانتخابية ذاتها موضوع اعتراض حزب العدالة والتنمية. فأصبح القرار سياسياً بوضوح، ومعناه ظاهر: عدم موافقة الحزب الحاكم على نتيجة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول.
لقد أدى القرار، قبل كل شيء، إلى فقدان الثقة بالهيئة العليا للانتخابات، وهي هيئة قضائية قراراتها مبرمة. كما تشكل انطباع في أذهان الأتراك بأن حزب العدالة والتنمية الذي صعد إلى السلطة قبل 17 عاماً من خلال صناديق الاقتراع لن يتخلى عنها حتى لو خسر في الانتخابات. أضف إلى ذلك أن المعارضة التي طالما كانت مشتتة وفاشلة في تشكيل بديل، حازت، بسبب قرار الهيئة الجائر، تفوقاً أخلاقياً واضحاً باعتبارها الطرف المظلوم. وتسبب مسلك السلطة في تلميع نجم أكرم إمام أوغلو الذي بات كثيرون ينظرون إليه بوصفه المنافس المحتمل لأردوغان في الانتخابات الرئاسية القادمة.
كل ذلك وليس هناك أي ضمانة لفوز مرشح السلطة في انتخابات الإعادة، بل هناك كثيرون ممن يتوقعون فوزاً بفارق أكبر لإمام أوغلو. فهل ارتكب أردوغان غلطة الشاطر بإصراره على الاحتفاظ ببلدية إسطنبول، أم أنه يخبئ مفاجآت أخرى في جعبته من شأنها أن تقلب النتيجة لصالحه؟
سنرى الجواب في الأيام القادمة.
كاتب سوري
القدس العربي
أردوغان والمقايضة بالدم السوري/ عديد نصار
خلال كلمته في اجتماع مجلس حلف شمال الأطلسي الاثنين قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “أعدنا الهدوء إلى إدلب، وبذلك منعنا مقتل مئات الآلاف من الأبرياء، وقطعنا الطريق أمام موجة هجرة كانت ستهز أوروبا”.
كلام أردوغان، الذي توجه به إلى الأوروبيين خصوصا، في استمرار لعملية الابتزاز التي دأب عليها حيالهم في موضوع أزمة اللاجئين، لم تكن له أي دلائل عملية حقيقية على الأرض السورية. فقذائف الطائرات الروسية وبراميل طائرات النظام جنبا إلى جنب مع القصف المدفعي والصاروخي استمرت بالانهمار على قرى وبلدات ريفي إدلب الجنوبي الشرقي والجنوبي الغربي، وكذلك على ريف اللاذقية الشرقي وقرى وبلدات جبل الزاوية وسراقب وكفرنبل، لتضيف إلى قوائم الضحايا والمصابين والنازحين الذين لا يجدون مكانا يأوون إليه سوى بساتين الزيتون.
وكالمعتاد، تستهدف قوات النظام وطائراته وكذلك الطائرات الحربية الروسية النقاط الطبية والمستشفيات ومراكز وسيارات الدفاع المدني لتمنع إمكانية إسعاف المصابين ولتزيد من حجم الخسائر البشرية.
لقد مر على المنطقة المشمولة باتفاق “خفض التصعيد” والتي يضمنها الرئيسان أردوغان وفلاديمير بوتين من خلال اتفاق سوتشي الذي عقداه حول إدلب في شهر سبتمبر 2018، أسبوع من التصعيد لم تشهده من قبل أدى إلى مقتل المئات من المدنيين وجرح الآلاف وتشريد مئات الآلاف، ولم يحرك الضامن التركي ساكنا. وحين تكلم أردوغان في اجتماع الحلف الأطلسي تكلم كذبا.
لقد اعتدنا على سياسة أردوغان القائمة على المقايضة بالدم السوري منذ بداية الثورة السورية في عام 2011. حينها حاول التفاهم مع نظام الأسد الذي كانت تربطه معه اتفاقيات استراتيجية على صعد الاقتصاد والتجارة والتنسيق الأمني، وذلك خوفا على المكاسب الكبرى التي تحققها له تلك الاتفاقيات.
وحين فشل في إقناع بشار الأسد بالتعامل الإيجابي مع الحراك السلمي وقتها، شارك مع القوى الدولية والإقليمية في تطويق الثورة السورية وتفخيخها بالجهاديين الذين فتح لهم الحدود العريضة للتوغل إلى المناطق التي باتت خارج سيطرة النظام، وسهل لهم الحصول على الأموال والعتاد ليكونوا الخنجر الذي يطعن الشعب السوري الثائر من الخلف، وليلتحقوا بالإرهابيين الذين أطلقهم بشار الأسد من معتقلاته ليشكلوا معا الفصائل الجهادية المسلحة: جبهة النصرة وتنظيم داعش وأحرار الشام وسواها من المسميات التي عمل أردوغان على الاستثمار فيها والمقايضة بها حيث يجد ذلك مفيدا لمد نفوذه على الساحة السورية.
يمكن ملاحظة النفس الطويل الذي اتبعه أردوغان في سياسته السورية خصوصا بعد إسقاط قواته للطائرة الروسية فوق الحدود التركية – السورية، حيث لمس بوضوح أن الوجود الروسي في سوريا ليس مؤقتا ولكنه يتمتع بقوة التوافق مع الولايات المتحدة. لذلك رأيناه يذهب بنفسه إلى سان بطرسبورغ لملاقاة الرئيس الروسي بعد أن اعتذر له عن إسقاط الطائرة الروسية.
ومنذ ذلك التاريخ برزت بوضوح سياسة المقايضة التي انتهجها أردوغان في سوريا، فقد ترافق سقوط مدينة حلب مع توغل الجيش التركي في الشمال السوري ودخوله مدينة جرابلس في إطار عملية ما سمي بدرع الفرات، وكانت عملية غصن الزيتون واجتياح عفرين مع سيطرة النظام على الغوطة وريف حمص الشمالي، واليوم تحاول قوات النظام بدعم الطيران الحربي الروسي قضم المنطقة منزوعة السلاح المشار إليها في اتفاق سوتشي، في حين تحاول تركيا، الضامنة الصامتة عما يدور في إدلب، قضم منطقة تل رفعت.
لا يا سيد أردوغان. لم يعد الهدوء إلى إدلب، ولا تزال مجازر النظام الأسدي والحليف الروسي متواصلة هناك، وما زال مئات الآلاف من السوريين ينزحون إلى مناطق في العراء قد يرونها أكثر أمنا، وما زال الدم السوري الذي تقايض به يسفك والضحايا قد لا يجدون من يواريهم.
في الليالي الماضية لم ينم السوريون في إدلب لينهضوا إلى سحورهم كما باقي الناس، وقد وصلنا من أصدقاء مقيمين في سراقب خبر عن مجزرة ارتكبها الطيران الروسي في إحدى القرى المجاورة. والضامن التركي ينام قرير العين، ففي الأفق الكثير من المقايضات على ما يبدو.
كاتب لبناني
العرب
إدلب والحرب بالوكالة في سوريا/ بهاء العوام
ما يحدث في مدينة إدلب وريفها اليوم، أسقط ورقة التوت الأخيرة عن الحرب السورية. الحرب التي تخوضها أربع دول عبر وكلاء محليين، تواجهوا بعد أن حطت الحرب على الإرهاب رحاها في البلاد، وانحصر دورهم في حماية غنائم ومناطق المحتل الذي يمثلونه ويضربون بسيفه.
أربع دول تحتل سوريا وتحلم بالتنسيق في ما بينها من أجل تثبيت مصالحها هناك إلى الأبد، فتصبح الدولة السورية واحدة نظريا، ومقسمة واقعيا. لكل محتل ذراع عسكرية يضرب بها عندما يتحدث مع الآخرين بالسلاح، وأبواق تنطق بلسانه زمن السلم في المحافل الدولية والدبلوماسية.
ما يثير الدهشة في وكلاء المحتلين الأربعة، العسكريين منهم والسياسيين، هو معرفتهم بنوايا من يمثلون، وإدراكهم حقيقة أنه لا يكترث لمستقبل البلاد إلا بما يحفظ مصالحه. وعلى الرغم من ذلك يواصلون خديعة أتباعهم والترويج لضرورة تأييد هذا المحتل بحجة قضية بلادهم.
كل وكيل محتل إن جاز التعبير، يقول إن مصلحة سوريا هي ما يشغله، والحقيقة أن ثمن ولائه للمحتل هو المال أو السلاح أو المواقف المؤيدة لقضيته الخاصة. وسواء حصل عليها كلها أو بعضها، فإن إطالة أمد الأزمة في البلاد هي السبيل الوحيد لضمان استمرار تدفق المكاسب عليه.
قد تبدو مساءلة أي من الوكلاء مبالغة في وطنية لم يعرفها السوريون منذ تسلم حزب البعث للسلطة في العام 1963، ولكن بمنطق الواقعية السياسية لا بد أن يتنبه الوكلاء لحقيقة أن مصالحهم لن تسير توازيا مع مصالح المحتلين إلى الأبد، وسيأتي يوم يقامر المحتل على مصلحة حلفائه.
لقد عاش الأكراد في الشمال هذه التجربة عندما قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سوريا قبل أشهر، فسارعوا إلى دول وعواصم العالم يستجدون حماية بعد رحيل الأميركيين. صحيح أن ترامب تراجع عن قراره وأبقى على بضع مئات من جنوده هناك، ولكن دوام الحال من المحال.
قبل الأكراد اختبرت فصائل المعارضة في غوطة دمشق ودرعا والقلمون، كيف يبيع المحتلون حلفاءهم على الأرض، وها هي التجربة تتكرر اليوم في إدلب وريفها، فأنقرة تعيد تقسيم مناطق النفوذ بينها وبين موسكو هناك، ولا يوجد أمام “الجيش التركي الحر” سوى القبول أو الموت بنيران الروس.
على الضفة المقابلة باع النظام جميع خياراته للروس والإيرانيين مقابل الحصول على دعم الدولتين في قمعه للثورة الشعبية، وهو اليوم يبيع الأراضي والبنية التحتية وشبكات النقل ومصادر الطاقة والجيش والأمن. لن يتوقف الأمر هنا وإذا لم تحل الأزمة في البلاد سيبيع الوزارات ودوائر الدولة.
استغلال المحتلين لوكلائهم في سوريا لن ينتهي، فهم يدركون ضعف الوكلاء وقدرتهم المستمرة على التنازل، إما حرصا على مكاسب فردية، وإما انطلاقا من خوف الجماعات من العودة إلى أوضاع ما قبل الثورة السورية عام 2011، فيفقد الأكراد شبه دولتهم شرق الفرات، وتخسر جبهة النصرة شبه إمارتها في غربه.
بات للحرب السورية اليوم تعريف واحد فقط، هو حرب المحتلين عبر وكلائهم. لم تعد حربا عالمية على الإرهاب، ولا حربا بين الحكومة والمعارضة. ولكن الإيجابي في الأمر، أن السوريين، المؤيدين منهم والمعارضين، قد استفاقوا من وهم نصرة قادتهم والولاء لهم “ظالمين كانوا أم مظلومين”.
اليوم، عندما تقرأ في تعليقات ومقالات أبناء إدلب قبل غيرهم من السوريين، تجد نقدا مباشرا لجبهة النصرة والفصائل السورية التابعة لتركيا في الشمال، وتدرك كم تكشف من عري الحرب التي جلبها النظام إلى البلاد، وباعت المعارضة في مزاداتها أحلام الملايين من السوريين باسترداد حق لا يموت.
صحافي سوري
العرب
لماذا لا تنسف تركيا مسار أستانا؟/ إسماعيل كايا
تتصاعد انتهاكات النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين للاتفاقيات الموقعة مع تركيا بصفتها الدول الثلاث الضامنة لمسار أستانا، وتتصاعد مع ذلك أصوات المعارضة السورية وسكان الشمال السوري المُطالبة لأنقرة بنسف مسار أستانا طالما أن الاتفاق الأساسي المتعلق بـ”وقف التصعيد” لم يحقق الغاية الأساسية منه بوقف التصعيد والقتل والدمار.
هذه المطالب تبدو محقة جداً، فالنظام يواصل هجماته بدعم من المليشيات الإيرانية وبغطاء جوي روسي على مناطق مختلفة مصنفة “منطقة خفض تصعيد” في محافظة إدلب ومحيطها
وأرياف اللاذقية وحماة وحلب، ومناطق أخرى مشمولة بـ “المنطقة منزوعة السلاح” التي جرى الاتفاق عليها مؤخراً بين تركيا وروسيا ولم يتم الالتزام بها إلى درجة كبيرة.
التصعيد في “مناطق خفض التصعيد” وصل ذروته في الأيام الأخيرة بالتزامن مع فشل الجولة الثانية عشر من اجتماعات أستانا في التوصل لتفاهمات واضحة حول الوضع العسكري في الشمال السوري أو المسار السياسي المتمثل في الاتفاق على تشكيل لجنة إعادة صياغة الدستور، حيث تكثفت الغارات الجوية والهجمات الصاروخية وبالتالي هجمات المعارضة المضادة، كل ذلك عقب تصريح مفاجئ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلوح فيه مجدداً بالخيار العسكري الشامل في إدلب، والغضب الروسي من الحديث عن إمكانية التوصل لاتفاق بين واشنطن وأنقرة حول إقامة المنطقة الآمنة شرقي نهر الفرات بدون التنسيق مع موسكو.
كل ذلك من الطبيعي أن يدفع للغضب والمطالبة بإنهاء مسار أستانا عقب التساؤل عن قيمة الاتفاقيات طالما لم تتمكن من حماية المدنيين ووقف الهجمات. لكن وبعيداً عن ردود الفعل المتسرعة والغاضبة، تجري الحسابات السياسية لدى المعارضة السورية والقيادة التركية على مستوى أعقد وبواقعية أكبر تفرضها المعادلة العسكرية والسياسة الصعبة في الشمال السوري، ولا سيما موازين القوى على الأرض.
فعلى الرغم من تواصل الانتهاكات فإن الاتفاقيات التي توصلت لها تركيا مع روسيا في أستانا هي من تمنع حتى اليوم النظام وروسيا من شن هجوم عسكري واسع وشامل على إدلب وما تبقى من أرياف اللاذقية وحماة وحلب وهو ما يعني فعلياً سيطرة النظام السوري على كامل الأراضي السورية، وإنهاء فصائل المعارضة العسكرية عملياً على الأرض.
فالواقعية تقول إن الطرف الآخر هو الأقوى عسكرياً وبفارق هائل، فلا مجال للمقارنة بين القدرات الجوية والبرية التي تمتلكها روسيا وإيران والنظام بما تمتلكه فصائل المعارضة السورية في إدلب ومحيطها عقب تجفيف أغلب الدعم العسكري والمالي لها، وبالتالي فإن انهيار الاتفاقيات السياسية التي تضبط التحرك العسكري الواسع في تلك المنطقة يعني تحول المعادلة إلى موازين قوى عسكرية تميل بشكل كبير لصالح النظام وحلفاؤه.
ما يجري فعلياً هو معركة عض أصابيع بين روسيا وتركيا، فروسيا حاولت على الدوام إنهاء القدرة العسكرية للمعارضة السورية بشكل تام قبيل الدخول في المسار السياسي لكي تفاوض المعارضة بدون أي أوراق قوة، بينما عملت تركيا ولا زالت من أجل تحقيق اختراق حقيقي في المسار السياسي قبيل الحديث عن المصير النهائي لإدلب وسلاح المعارضة السورية.
فطوال الأشهر الماضية ضغطت موسكو بكافة الطرق السياسية والعسكرية على أنقرة لإدخالها في مواجهة عسكرية مباشرة مع هيئة تحرير الشام
وهو ما رفضته الأخيرة على الإطلاق وسعت إلى تأجيل هذا الاستحقاق رغم تصنيفها للهيئة على أنها (منظمة إرهابية) وذلك لاعتقادها الراسخ أن روسيا تريد توريطها في مهمة ليس لها فيها ناقة ولا جمل وتخدم النظام بدرجة أساسية.
ولتأجيل حسم مصير إدلب، ماطلت تركيا مرارا مع روسيا، وانتقلت من اتفاق مناطق خفض التصعيد إلى اتفاق المنطقة منزوعة السلاح ولاحقاً لتسيير الدوريات، وغيرها من التوافقات المرحلية لهدف أساسي يتمثل في تحقيق تقدم بالمسار السياسي قبل فقدان المعارضة السورية أبرز أوراق القوة المتبقية في يديها.
في هذا السياق، وبعد أن فشلت روسيا في استفزاز المعارضة لنسف التفاهمات القائمة، اتجهت في الأيام الأخيرة للتحرش بتركيا عسكرياً لدفعها للتراجع من تصدر المشهد في إدلب ومحيطها، فكثف الهجمات الجوية بالقرب من نقاط المراقبة التركية، وحركت النظام لمهاجمة نقطة مراقبة تركية، وأوعزت إلى الوحدات الكردية لتكثيف هجماتها على الجيش التركي انطلاقاً من تل رفعت.
لكن الرد التركي كان مفاجئاً لروسيا على ما يبدو، حيث نفذ الجيش التركي عملية عسكرية خاطفة في تل رفعت وضرب الوحدات الكردية هناك، كما لم تقم أنقرة بأي جهد للحد من رد المعارضة السورية على الانتهاكات المتصاعدة، ونفذت المعارضة هجمات قوية على نقاط النظام والمليشيات الإيرانية والقواعد الروسية، ما يعني أن التفاهمات التركية الروسية لا تمنع المعارضة على الإطلاق من الدفاع عن مواقعها أو الرد على الهجمات.
وبناء على كافة المعطيات السابقة، وغيرها الكثير، لا يبدو من الصواب على الإطلاق ولا من مصلحة المعارضة السورية وأهالي إدلب أن تقوم تركيا بالانسحاب من الاتفاقيات الموقعة مع روسيا حول إدلب وهو ما يعني فعلياً نسف مسار أستانا، لأن ذلك سيكون إلى حد كبير بمثابة هدية لروسيا التي لن تتردد في توفير الدعم الكامل للنظام لشن هجوم عسكري واسع سيتمكن في نهايته من السيطرة على ما تبقى من أراضي محررة بيد المعارضة، مستفيداً من حجة “محاربة الإرهاب”، وانعدام المواقف الدولية القادرة على لجم النظام وداعميه.
تلفزيون سوريا
جحيم إدلب.. هل تآمرت تركيا حقا على السوريين؟/ د. محمد العمر
تشكل محافظة إدلب مع ريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي وجزء صغير من ريف اللاذقية الشمالي منطقة خفض تصعيد وفقا لاتفاق تم توقيعه في سبتمبر أيلول من العام 2017 بين كل من تركيا وروسيا وإيران، في العاصمة الكازاخية استأنه (نور سلطان حاليا). وفي سبتمبر/أيلول من العام 2018، أبرمت كل من تركيا وروسيا اتفاق “سوتشي” بهدف تثبيت وقف إطلاق النار في منطقة «خفض التصعيد» تلك. وفقا لهذا الاتفاق قامت المعارضة السورية بسحب أسلحتها الثقيلة من المنطقة التي شملها الاتفاق في شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام. ساد الهدوء الحذر منطقة خفض التصعيد من وجود خروقات متفرقة على مدار الشهور الماضية قبل أن تنفجر الأمور من جديد في حملة شرسة بدأها النظام مع حلفائه الروس والإيرانيين على إدلب ومحيطها قبل عدة أيام وخلفت مئات القتلى والجرحى وعشرات آلاف المشردين في العراء ناهيك عن الدمار الهائل.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا متعلق بشكل أساسي بالموقف التركي الذي يبدو غير مفهوم لكثير من السوريين. فبينما تتوالى الصور والمشاهد القاسية والغير إنسانية من إدلب، تبدو تركيا، بوصفها أحد الضامنين لاتفاقيات وقف التصعيد في إدلب، متراخية في الوقوف أمام هذا الهجوم الشرس. فما هي خلفيات الموقف التركي من الهجوم على إدلب وهل حقا باعت تركيا السوريين هناك مقابل صفقات أخرى؟ ولماذا تحركت روسيا في إدلب في هذا التوقيت؟
في الحقيقة، بعد توقيع اتفاق سوتشي الروسي التركي، لم يكن عسيرا على أي مراقب لمجريات الصراع في سوريا وما افرزه من توازنات دولية وإقليمية معقدة من أن يتنبأ بأن الاستقرار في إدلب لن يكون طويل الأمد وبأن المحافظة ستعود إلى واجهة العنف مجددا في وقت ليس بالبعيد. هذا بالضبط ما أشرنا اليه في مقالتنا المنشورة بتاريخ الخامس والعشرين من شهر سبتمبر أيلول الماضي تحت عنوان “اتفاقية ادلب…استراحة محارب أم مقدمة لعودة الاستقرار؟”.
قلنا وقتها أن الاتفاق الروسي التركي في إدلب لن يرسم خطوطا مستدامة لحدود الصراع على سوريا. فبينما يكمن عامل التثبيت الأقوى وشبه الوحيد في الإرادة التركية التي تستهدف الحفاظ على هذا الاتفاق، إلا أنه لدينا مجموعة متكاملة من العوامل والظروف التي يمكن أن تؤدي إلى انهياره في أي وقت.
فالروس ليسوا أهلا للثقة في الحفاظ على تعهداتهم والتزاماتهم من جانب. كما أنهم بارعون للغاية في اختلاق الذرائع حال أرادوا تغيير موقفهم. أضف إلى ذلك عدم وضوح معالم الصفقة، أو بصيغة أدق، الثمن الذي دفعه الأتراك للروس ليقتنصوا منهم اتفاق سوتشي في الوقت الذي كانت فيه جحافل النظام وحلفائه تتجهز لاقتحام إدلب اسوة ببقية المحافظات السورية. هذا الغموض، إضافة إلى عدم وجود أي شيء ينبئ بوجود اتفاق متكافئ بين البلدين، يجعنا نرجح افتراض أن روسيا اختارت تأجيل المعركة في ذلك الوقت مرحليا بسبب تهديدات غربية وخاصة أمريكية محذرة من اقتحام ادلب، فقامت وقتها بالاستجابة للرغبة التركية بتجنب اقتحام إدلب وذلك لتحقيق مكاسب تكتيكية في جذب انقرة إلى جانبها وربما قبض ثمن ذلك.
أضف إلى كل ذلك بأن تركيا لا تمثل مركز قوة كبيرة في سياق الحالة السورية على الرغم من تواجدها العسكري في بعض المناطق. فالوجود التركي إنما كان نتيجة لاتفاقيات تم توقيعها مع روسيا التي تمثل فعليا مركز الثقل الرئيسي على الأرض السورية. لولا هذه الاتفاقيات ما كانت تركيا تستطيع أن تتدخل عسكريا في سوريا، لا في درع الفرات ولا في غصن الزيتون. كذلك لم تكن تركيا قادرة عسكريا على حماية إدلب لو لم تقتنص دبلوماسيا اتفاقية سوتشي من الروس، هذه الاتفاقية التي يبدو لنا بان الظروف الدولية وقتها إضافة إلى الإصرار التركي الكبير لعبا دورا كبيرا في تمريرها لدى الروس.
لماذا تحرك الروس في إدلب؟
نعتقد بأن التحرك العسكري الروسي السوري الأخير في إدلب جاء كنتيجة لانزعاج روسيا بسبب فشل النسخة الثانية عشرة من محادثات استانه. فبينما كانت تسعى روسيا لتحقيق انجاز سياسي، فإن تركيا لم تستجب لرغبتها فيما يتعلق بتشكيل اللجنة الدستورية. من جهة أخرى فإن الأنباء الواردة عن تفاهمات تركية أمريكية بشأن إقامة منطقة آمنة شرق الفرات قد أزعجت الروس بشدة. فالمنطقة الآمنة التي يتم الحديث عنها والتي من المفترض أن تمتد من جرابلس غربا إلى عين ديوار شرقا على امتداد الحدود التركية السورية سيتم فرض حظر طيران فيها ومنع تقدم النظام السوري وحلفائه من الروس والايرانيين اليها. وهو ما يشكل ضربة لمخططات روسيا بالتقدم إلى هذه المناطق حال الانسحاب الأمريكي من سوريا.
هل تركيا متآمرة مع روسيا في إدلب؟
في الحقيقة، وبعيدا عن الكلام العاطفي الذي قد تفرضه المناظر المؤلمة لأهلنا في إدلب، والرغبة في رؤية دور تركي أكثر فاعلية للجم هذا التغول الروسي، فإننا لا نعتقد بأن تركيا متورطة في أي صفقة مع الروس خلف ما يجري في المحافظة المنكوبة اليوم وذلك لعدة أسباب منطقية:
نعتقد بأن تركيا وقعت مجددا في فخ التوازنات الأمريكية الروسية في سوريا ولا نعتقد بانها متآمرة بأي شكل من الأشكال لما يجري في إدلب من فظائع، إلا أنها للأسف مقيدة اليدين سياسيا وميدانيا
أولا: تركيا كانت الدولة الوحيدة التي بذلك جهود مشهودة وجبارة ووقفت بقوة ضد اقتحام إدلب أواخر العام الماضي واستطاعت أن تقتنص اتفاقية سوتشي مع الروس والتي جنبت المحافظة بالفعل مصيرا أسود.
ثانيا: أن المراقب للوضع الميداني سيجد بوضوح بأن تركيا نفسها مستهدفة منه. فهناك تعمد في قصف محيط نقاط المراقبة التركية المنتشرة في المنطقة، كما أن إحدى هذه النقاط قد تعرضت بالفعل لقصف مدفعي مباشر خلف إصابات في صفوف الجنود الأتراك مما أجبرهم على توفير غطاء جوي لإخلاء الجرحى. أضف إلى ذلك قيام النظام السوري لأول مرة باستهداف قرية مريمين التابعة لعفرين والتي يسيطر عليها الجيش التركي إضافة إلى استهداف الأكراد للجيش التركي وفصائل المعارضة المتحالفة معه انطلاقا من تل رفعت مما تسبب في مقتل عدد من الجنود الاتراك.
قام الجيش التركي بالرد على هذه العمليات وتقدم في تل رفعت على الرغم من وجود تفاهمات مع روسيا تمنع ذلك. فسر البعض التقدم التركي هذا في تل رفعت كصفقة بين تركيا وروسيا بحيث تتقدم الأخيرة في إدلب مقابل تقدم تركيا في ريف حلب، وهذا ما يتنافى مع المنطق السليم وسياق الاحداث.
ثالثا: تشتت وضع المعارضة السورية في إدلب وتناحرها إضافة إلى تصنيف بعض فصائلها على لوائح الإرهاب الدولية، كلها أمور تصعب المهمة التركية وتعيق صانع القرار التركي الذي بات حذرا وكأنه يمشي في حقل للألغام. وعلى الرغم من أن تركيا متحالفة مع بعض الفصائل المقاتلة من المعارضة السورية والتي أظهرت قدرا لا بأس به من الانضباط للتوجيهات التركية، إلا أن تركيا لا تستطيع توجيه هذه الفصائل لقتال النظام السوري أو روسيا.
هذه النقطة معقدة للغاية، فنحن الآن في سياق عملياتي لا يمكن معه المجازفة، فلو وجهت تركيا فصائل المعارضة المحسوبة عليها لقتال الروس أو النظام السوري فسيقود ذلك حتما إلى مواجهة مباشرة مع الجيش التركي الذي سيكون ملزما بدعم هذه الفصائل، وهذا ما سيدخل تركيا في وضع صعب على كل المستويات السياسية والعسكرية، بل يمكننا القول بأن هذا السيناريو هو ما يبحث عنه أعداء تركيا لتوريطها في وضع غير قانوني واتهامها بالوقوف إلى جانب مجموعات إرهابية في إدلب.
في المحصلة، نعتقد بأن تركيا وقعت مجددا في فخ التوازنات الأمريكية الروسية في سوريا ولا نعتقد بانها متآمرة بأي شكل من الأشكال لما يجري في إدلب من فظائع، إلا أنها للأسف مقيدة اليدين سياسيا وميدانيا وغير قادرة فعليا على تقديم الكثير.
سوريا: جولة جديدة من حرب السيطرة على الشمال/ سلام السعدي
بلغت الحملة العسكرية التي أطلقها النظام السوري وحلفاؤه في ريف مدينتي حماة وإدلب ذروتها خلال الأسبوع المنقضي. فالحملة التي بدأت منذ 26 أبريل الماضي بقصف مكثف بكافة أنواع الأسلحة تطورت خلال الأسبوع الماضي إلى هجوم عسكري لا يزال مستمرا، وقد نجح في انتزاع السيطرة على بلدات رئيسية تقع ضمن ما يعرف بمنطقتي “خفض التصعيد” و”المنطقة منزوعة السلاح”.
يعتبر الهجوم البري أحد مؤشرات اندفاع النظام السوري وحلفائه لتضييق الخناق على مدينة إدلب، وصولاً إلى استرجاعها بعمل عسكري ستكون له تبعات إنسانية مرعبة. ويضاف إلى ذلك مؤشران آخران، أولهما مشاركة القوات الروسية بشكل مباشر وفعال، سواء في عمليات القصف الجوي أو بالهجوم البري، وهو ما لم يحدث منذ توقيع اتفاقيات التهدئة في شهر سبتمبر الماضي. والثاني هو اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف في موسكو في سياق توسيع الحملة العسكرية ومواجهة الضغوط الدولية المتوقعة جراء تزايد أعداد النازحين وارتفاع الخسائر في صفوف المدنيين في الأسابيع القادمة.
اللافت أن ما يحدث يأتي بعد أسابيع قليلة على إعلان وزير الخارجية الروسي أن الهجوم العسكري على مدينة إدلب ومحيطها غير ممكن في الوقت الحالي، مشدداً على الاتفاقات مع الجانب التركي. ورغم أن ما يحدث هو خرق واضح لتلك الاتفاقات، بقيت أنقرة صامتة في ما بدا أنه موافقة على الهجوم الحاصل.
أطلق الصمت التركي تكهنات بشأن “صفقة” مع روسيا تسمح بموجبها الأخيرة لأنقرة بالتوغل في مدينة تل رفعت التي تسيطر عليها القوات الكردية مقابل تغاضي أنقرة على التحركات الروسية في ريفي حماة وإدلب. ولكن الأرجح أن موسكو متحررة من أي تعهدات تركية، وهي تتحرك بفعل فشل تركيا في إنهاء سيطرة جبهة النصرة على مدينة إدلب ومناطق واسعة من شمال سوريا حسب ما جرى الاتفاق عليه في سوتشي بين الجانبين.
النظام وحلفاؤه سيعملون كل ما بوسعهم لمنع تثبيت الوضع القائمالنظام وحلفاؤه سيعملون كل ما بوسعهم لمنع تثبيت الوضع القائم
الأرجح أيضا أن تركيا غير متمسكة بتلك المناطق وقد وافقت بأنها على المدى البعيد، ستؤول لحليف روسيا، أي للنظام السوري. هكذا يمكن تفسير الصمت التركي رغم تكثيف قوات النظام السوري هجماتها الجوية والصاروخية حتى على محيط نقاط المراقبة التركية، وهو ما أدى لوقوع عدد من الإصابات بين الجنود الأتراك الأسبوع الماضي.
لكن القرار بإطلاق الحملة العسكرية يرتبط أيضاً بالتطورات السياسية والعسكرية للمشروع الكردي- الأميركي في مناطق شمال وشرق البلاد خلال الأشهر الماضية. إذ أعاد تراجع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن سحب قواته من سوريا الحياة لذلك المشروع، وقرع أجراس الإنذار لدى موسكو وطهران وأنقرة. فبعد إعلان ترامب عن “انسحاب سريع″ للقوات الأميركية من سوريا مطلع العام الحالي، فضّل حلفاء النظام السوري انتظار تحقق ذلك، وبالتالي تجنب التصعيد العسكري خشية أن يؤخر ذلك عملية الانسحاب.
ولكن خلال الأشهر الماضية، قررت الإدارة الأميركية الإبقاء على جزء من قواتها دون تحديد مدة زمنية لذلك، كما طلبت من حلفائها الأوروبيين مشاركتها في حماية المنطقة على المدى الطويل. وفضلاً عن ذلك أبدت الإدارة الأميركية رغبة في توسيع الدور العربي في تلك المناطق. ويشمل ذلك دعم المكونات العربية المحلية لتحقيق الاستقرار وتخفيف الآثار السلبية للحكم السلطوي الذي تفرضه القوات الكردية.
كما شجعت واشنطن مشاركة دول عربية، وخصوصا كل من السعودية والإمارات، في عمليات تثبيت استقرار طويل الأمد في مناطق شرق الفرات حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية. الأخيرة بدورها تعرضت لضغوط أميركية لتوسيع المشاركة السياسية وتجنب كل ما يمكن أن يؤدي لانفجار أمني في المنطقة. وفي هذا السياق، جاء “ملتقى العشائر السورية” الذي نظمته قوات قسد في مدنية عين عيسى شمالي الرقة قبل نحو أسبوعين.
أثار المؤتمر غضب النظام السوري الذي وصفه بـ”الخيانة الوطنية”. وإذا كان موقف النظام السوري مفهوماً ومتوقعاً، فقد جاء الموقف الروسي حاداً بشكل غير مألوف. إذ خصصت وزارة الخارجية الروسية بياناً للحديث عن الملتقى، معتبرة أنه يهدف إلى تقويض جهود التسوية ومسار أستانة من جهة، وإلى إتاحة المجال للولايات المتحدة لكي تحافظ على “وجود طويل الأمد” في سوريا من جهة أخرى. كما اتهمت موسكو واشنطن بتقديم “الرشوة” لمن حضروا وتجنيد مشاركين لا يتمتعون بحيثية اجتماعية أو قبلية، ما يوضح حجم التوتر الروسي الذي كان قد بدأ يتصاعد مع الحديث عن اتفاق أميركي- تركي حول منطقة عازلة في شمال البلاد محاذية للحدود التركية.
ولم يكد الحاضرون يختتمون أعمال الملتقى حتى أعطت روسيا كل من النظام السوري والميليشيات الطائفية المساندة له الضوء الأخضر لتكثيف الحملة العسكرية وتوسيعها لهجوم بري، موفرة التغطية الجوية الضرورية لنجاحها. سوف يعمل النظام وحلفاؤه كل ما بوسعهم لمنع تثبيت الوضع القائم باعتباره “حلاً فعلياً” طويل الأمد. ويبدو أن السيطرة على “مناطق خفض التصعيد” من المعارضة السورية تقع في صلب ذلك في الفترة القادمة.
كاتب فلسطيني سوري
العرب
الحرب في وقتها تماماً/ عمر قدور
بينما تحشد الإدارة الأمريكية مزيداً من قواتها وأسلحتها في المنطقة، تحسباً لتهديدات إيرانية، تهاجم قوات الأسد التي تطغى عليها القيادة الروسية ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي. كنا شهدنا في التوقيت ذاته تصعيداً في غزة أيضاً، وهو ما لا ينبغي فصله عن التفاصيل الأخرى للوحة وإن توقف التصعيد بفضل وساطات متعددة. ما لا تُعرف حدودها بعد هي الحرب الدائرة الآن في سوريا، وهل هي “معركة الحسم” كما يروّج إعلام الأسد، علماً بأن الأسد نفسه ليس صاحب قرار فيها؟ أم أنها ستتوقف عند ابتلاع مساحة كافية ضمن الحسابات الروسية الحالية؟
قبل أسابيع كان كل الاهتمام مركزاً على موضوع تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، وقد ترافق معه ظهور أزمة معيشية غير مسبوقة في مناطق سيطرة الأسد، بل بدا كأن تلك الأزمة سيكون لها ارتدادات غير محسوبة جراء عجز وفشل الأسد في معالجتها. التصعيد الحالي أتى في توقيت مناسب جداً لطي الحديث عن الأزمة، وبدل الحديث عن الفشل هناك اليوم حديث آخر عن الانتصار، خاصة عندما يُفهم الانتصار كأنه تغلب على “العدو” التركي وعلى أردوغان شخصياً. الأهم ربما كون الحرب وسيلة تقليدية للهروب إلى الأمام، ولطالما كانت أداة للتخلص من الأسئلة الملحة داخلياً وصرف الانتباه نحو الخارج.
وجود قوتين عظميين في المنطقة أمر لا يستدعي الترقب، فهما موجودتان لسنوات خلت في مساحة ضيقة من سوريا ضمن قواعد مُتفق عليها بصرامة. على هذا الصعيد يمكن القول بوجود تكامل أو تنسيق بين الطرفين، قد يأتي على انفراد أو عبر تنسيق كل منهما مع تل أبيب. أكثر من ذلك، نستطيع القول بتوازي الضغط الأمريكي على إيران مع الضغط الروسي على أنقرة من البوابة السورية، من دون رصد رد فعل أمريكي يوحي بعدم الرضا عن السلوك الروسي الحالي.
وجود تفاهم أمريكي-روسي ضمني لا يعفي حكم أردوغان من المسؤولية التامة عن سياساته، وعن الانقلاب الذي نراه اليوم إذ يتعرض للضغط من الحليف القديم والجديد معاً. هذا الموقع يخالف التوقعات القديمة حول قدرة أنقرة على اللعب بين واشنطن وموسكو، بموجب موقعها الجيوسياسي، فتركيا لم تحقق استفادة معتبرة بقدر ما تصاغرت الفائدة إلى مستوى الحساسية المعتادة إزاء الملف الكردي. لنا أن نقارن مثلاً بين الطموحات الإيرانية أو الإسرائيلية بالمقارنة مع نظيرتها التركية، وأن نهمل في المقابل اللغو الدارج عن طموحات سلطانية لأردوغان ليس هناك في الواقع ما يؤشر إليها سوى خطاب شعبوي بائس، وفي كل الأحوال المسألة تتعلق بحسابات وصراعات النفوذ لا بالمؤامرة على إسلامية أردوغان وحزبه كما يواظب الإسلاميون على الإيحاء بذلك.
مع الهجوم الحالي “الروسي في المقام الأول” على ريفي حماة وإدلب، أعلنت أنقرة عن تقدم في المفاوضات حول “المنطقة الآمنة” التي يُفترض إقامتها على أراض تسيطر عليها الميليشيات الكردية، بينما لم يصدر أي تأكيد رسمي أمريكي ما يترك الإعلان التركي موجهاً للاستهلاك المحلي. أيضاً، وزيادة في توضيح المغزى، كانت قوات ما يُسمى “الجيش الوطني” التابعة لأنقرة قد هاجمت الميليشيات الكردية في “تل رفعت”، قبل عودتها بتعليمات تركية مفادها خضوع المنطقة لتفاهمات ما تزال سارية مع موسكو. بعبارة أوضح، لن تحصل أنقرة على ثمن لقاء المناطق التي ستذهب إلى سيطرة الأسد وحلفائه، أو بالأحرى لقاء تمريغ صورتها كضامن لأمن تلك المناطق المكتظة بسكانها وبالنازحين إليها.
نضيف إلى ما سبق أزمة أردوغان الداخلية المتمثلة بخسارة الانتخابات البلدية، وصولاً إلى قرار إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول وانعكاساته، مع ما يعنيه كل هذا من زيادة ارتهانه للتحالف مع التيار القومي المتشدد. أي أن حكم أردوغان هو في أضعف حالاته منذ فشل محاولة الانقلاب، أو منذ تبديد الرصيد الذي ناله بسبب تلك المحاولة. الهجوم على ريفي حماة وإدلب في هذا التوقيت يستبطن عجز أردوغان عن إبداء أي رد فعل، وعجزه عن التلويح بالانعطاف نحو واشنطن التي تدرك مأزقه أيضاً، وليست في وارد مدّ يد العون بخاصة بعد أزمة صفقة صواريخ S400 العالقة بين الطرفين حتى الآن.
ربما تتحفظ واشنطن على هجوم شامل يخلق أزمة إنسانية فاضحة، ويتطلب إجابة سريعة عن مصير الجهاديين المصنفين على لائحة الإرهاب الدولية. هذا قد يتقاطع أيضاً مع رغبة موسكو التي لا تستعجل حسماً نهائياً يختتم ما تسوّقه كانتصارات عظمى، وربما ترجّح عليه التقدم بإيقاع تُقبل وحشيته من الغرب، ولا يتسبب سريعاً بانهيار مسار أستانة، فضلاً عن أن الاحتفاظ بورقة يمكن التهديد والتكسب بها قد يكون خياراً مجزياً أكثر من اجتياح بري واسع لا بأس بتأجيله. وكما نعلم فإن حصر المعركة الأخيرة بما سيتبقى من إدلب تكتيك تكاد تكون نتائجه مضمونة، فإذا كان من السهل القضاء على التنظيمات التي طالما صُنٍّفت معتدلة فإن الهجوم على تنظيمات مصنفة إرهابية لن يلقى معارضة أو استنكاراً دوليين، وما يُحكى عن الكلفة البشرية لهكذا معركة لم تثبت صحته سوى في ما يخص الضحايا المدنيين، وتجربة المقاومة الهزيلة لداعش مع تبخر كوادره فيها ما فيها من دروس.
أن نشير إلى هول المذبحة الحالية والمؤجلة فهذا لن يستثير ضمائر المعنيين باستمرارها، وإذا كان لنا تقسيم مراحل الصراع فقد نكون اليوم أمام معارك الإقصاء الأخيرة التي لن تقل شراسة عن سابقاتها. لقد عشنا من قبل إقصاء القضية السورية بفتح الساحة أمام الميليشيات الشيعية ونظيراتها السنية، بهدف إنهاك الطرفين، ثم عشنا مرحلة ضبط فوضى السلاح بطرد اللاعبين الصغار خارج الحلبة، بما في ذلك طرد داعميهم العرب. الآن ربما حان دور القوتين الإقليميتين المتبقيتين “إيران وتركيا”، ولعل إبرام صفقة روسية-أمريكية تخص سوريا متوقف على الانتهاء من هذه المهمة وقدرة الروسي على تأدية القسط الأكبر منها.
المدن
معركة ريف حماة/ ميشيل كيلو
بدأت روسيا ما تعتقد أنه آخر معاركها السورية التي نجمت عن تعقيداتٍ وأوضاع كانت تعتقد أنها لم تعد عقبة في طريق الحل، بعد عودة الأسدية إلى ثلاث من مناطق خفض التصعيد، وتسليم موسكو وطهران بأولوية الدور والحضور التركي في المنطقة الرابعة، منطقة حماة التي تدور الحرب في أطرافها اليوم.
من الصعب اعتبار ما يجري حلقةً أخيرةً في الحرب التي سيمهد انتهاؤها لـ”جنيف”، ولتطبيق القرارات الدولية، وصولا إلى الحل الدولي الذي ينتظره السوريون منذ ثمانية أعوام. والمرجّح أن تهدد الحرب الروسية الراهنة، في حال كان هدفها إعادة إدلب ومنطقتها إلى النظام، بقلب العلاقات والتحالفات القائمة بين تركيا وروسيا، وتبدّل علاقات بدت تحالفيةً، وتستعيد تحالفاتٍ بدت منتهية، ولا يستبعد اصطدام موسكو بأنقرة، إن نقض عمل روسيا العسكري اتفاق سوتشي حول أولوية حضورها في المنطقة، لأن ذلك سيعني تقليص دور أنقرة في سورية تمهيدا لتقليص حصتها من الحل أو حذفها، بينما كان يبدو أن إيران، وليس تركيا، هي التي يُراد لها أن تخرج صفر اليدين من الصراع. ولأن تركيا لن تقبل أن تتعرض لهزيمة بهذا الحجم، وهي مكتوفة اليدين، فالمرجح أن يكون هناك اتفاق بين الدولتين بشأن دخول روسي محدود أرضيا إلى ريف حماة الشمالي، لأهميته بالنسبة لدور قوات موسكو في سورية، ولهز إصبعها في وجه جبهة النصرة التي لم تشارك في القتال أو تتعرض للضرب. لم تدخل موسكو لتقوّض نفوذ تركيا في المنطقة، أو حصتها من الحل الدولي، أو لتغيير وضع أطراف تفاهمات سوتشي وعلاقاتهم، أو مصير منطقة إدلب، ولو كان هدف موسكو تقويض حضور تركيا ودورها، لشاركت هيئة تحرير الشام في القتال، ولصدرت عن قواتها تحذيراتٌ عسكرية ما، في عموم منطقة إدلب، وليس فقط على خط المواجهة، ولتعرّضت قاعدة حميميم لعمليات قصفٍ بمئات الصواريخ يوميا. لم يحدث هذا، لأن موسكو تريد تحاشي وقوع أية متاعب جدية في علاقاتها مع أنقرة التي يرجّح أن تقوم، في حال شعرت بالاستهداف، بما يشكل خطورة بالنسبة لموسكو: عبر عودتها إلى حليفها الأميركي، وفق صيغة تعاونٍ جديدة على الأرجح، قد تكون محل بحثٍ في أيامنا، تعزّز التزام حلف شمال الأطلسي بالدفاع عنها، وحمايتها من جلافة الرئيس الروسي بوتين وعدوانيته. وهناك إشارات إلى تقارب أميركي/ تركي في الآونة الأخيرة، كالتفاهم على المنطقة الأمنية شرق الفرات، وصفقة طائرات إف 35، وصواريخ الباتريوت، وإس 400، وما يعنيه ذلك من تخلٍّ تركي عن المقترح الروسي بشأن منطقةٍ آمنة تنجز بالتفاهم مع الأسد، ووفق صيغة أضنة الأمنية، فضلا عن إمكانية وضع منطقة إدلب تحت حماية أميركية، أسوة بشرق الفرات، في حال ساء الوضع مع روسيا وعادت مياه الأطلسي الأميركية إلى الجريان في أنهار السياسة التركية.
ستواجه موسكو مشكلات صعبة مع أنقرة، إذا لم تكن حربها الراهنة محدودة في المكان والزمان، وكان هدفها المس بإشراف تركيا على منطقة إدلب، وعائدها دفع إسطنبول إلى أحضان واشنطن، في ظل احتمالاتٍ مقلقةٍ تلوح في أفق السياسة الدولية والمحلية، منها الهجمة الأميركية على إيران التي تضفي الجدية علي احتمال إخراجها من سورية، وانهيار النظام الأسدي الذي إن حدث أو خرجت طهران من المشرق، رفع الغطاء الإقليمي والمحلي عن موسكو، في لحظةٍ مفصليةٍ تتسم بالتوتر الشديد في علاقات العملاقين، الروسي والأميركي، قد يجد بوتين نفسه، في حال أغضب تركيا، وعجز عن دعم إيران، وإنقاذ الأسد، مكشوفا، وفي حالة دفاع عن دورٍ لن يجلب له غير المصاعب التي تتحدّى قدراته.
العربي الجديد
رسالة أوجلان/ شورش درويش
كانت العادة منذ تسلّم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا أن يخاطب زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، مناصريه عبر رسائل مطوّلة. قبل ذاك، كانت مرافعاته أمام المحاكم التركيّة وسيلته في بث رؤيته لحل المسألة الكردية في تركيا، وفق خرائط طريق أعدّها بعناية، بيد أن العزلة التي فرضتها الحكومة على الرجل أفضت إلى التكتّم عن أفكاره ورؤيته التطوّرات ونظرته إلى الأحداث. تراجع إحكام العزلة قبيل الانتخابات البلدية التركية، من خلال السماح لشقيق أوجلان بزيارته التي وُصفت حالته السياسية بالجيدة، من دون حديثٍ في تفاصيل أخرى، وكان أمر الزيارة تعبيراً عن إمكانية تخفيف وطأة العزلة ومقدّمة للسماح لمحاميه بلقائه، هم الذين ما فتئوا يتقدّمون بمئات طلبات الزيارة التي قوبلت بالرفض من النائب العام. وقد تمكّن محامو أوجلان من زيارته أخيرا، وأفصحوا عن رسالة مقتضبة، كثرت التكّهنات والتفسيرات حولها.
سبق أن تُوّج جهد أوجلان الحثيث ببدء مرحلة الهدنة بين “الكردستاني” والحكومة التركية، وبات الحديث عن عملية سلام كردية تركية أقرب إلى الصيغة الواقعية الوحيدة المتاحة، غير أن عملية السلام وما رافقها من هدنةٍ تهدّمت منتصف 2015 بفعل عدّة عوامل، ليس آخرها تطوّر الأوضاع في سورية التي مكّنت وحدات حماية الشعب من تشييد كيان كردي، طمح القائمون عليه إلى التمدّد غرباً للوصول إلى شواطئ المتوسّط، الأمر الذي وضع الأتراك في حيرةٍ إزاء وحدات محلّية بدت قادرةً على تشكيل كيان ملهم لأكراد تركيا، وقادرٍ على تقوية مركز الحزب في أي مفاوضاتٍ مقبلة مع الحكومة التركية، وكذا شكّل تحالف الوحدات عبر رافعتها الأوسع قوات سورية الديمقراطية (قسد) وقوّات التحالف الدولي مرآة جديدة، ترى عبرها تركيا حقيقة حجم القوّات الكردية، ما استلزم جهوداً تركيّة مضاعفة لتطويق هذه الحالة، تمثّلت في عمليتي “درع الفرات” التي قطعت الطريق على التمدد الكردي، ثم “غصن الزيتون” التي انتهت باحتلال عفرين، ثالث مقاطعات “كانتونات” الإدارة الذاتية، أواخر مارس/ آذار 2018.
تحدثت الرسالة عن وجوب أن تراعي (قسد) “الحساسيات التركية”، ما يعني أن عزلة أوجلان والتعامل معه بغلاظة لم يكونا الحل الأمثل طوال المدّة السابقة، وأن الإفادة من رسائله التي
تركّز على التعاون ووقف الحرب أهم بكثير من محاولات عزله وطمس أفكاره. كما يصحّ الحديث أن المستفيد من مناخات الانسداد السياسي، كانت الأحزاب التركية الأخرى، إذ استثمر فريقها المقرّب والحليف الحالي لحزب العدالة والتنمية، حزب الحركة القومية، في تقوية نفوذه القوميّ المتطرّف على حساب الحزب الحاكم، وكان لشريك حكم أردوغان ورئيس وزرائه الأسبق، أحمد داود أوغلو، تعليق مهم في هذا الصدد، إذ اعتبر أن هذا التحالف مكلف لـ”العدالة والتنمية”، وربما كان يقصد أنه تحالف يقوّي من مركز القوميين الأتراك، على حساب المعتدلين والأكراد والأوساط المحافظة، من دون أن يجني “العدالة والتنمية” (الحاكم) أي منفعة. بدرجة أكبر، استفاد معارضو الأخير، وفي مقدمتهم حزب الشعب الجمهوري الذي نفذ من شقوق الخلافات التي تتصاعد بين “العدالة والتنمية” وحزب الشعوب الديمقراطي الذي كان قد سدّد طعنة نجلاء للحزب الحاكم، عندما وجّه ناخبيه في كبريات الولايات لدعم خصوم أردوغان، ما أفضى إلى تقدّم المعارضة في إسطنبول التي مثّلت منطلق سيرة نجاح “العدالة والتنمية”، ودرّة تاج حكمه الطويل. ولعل التذكير بتصريح زعيم الشعوب الديمقراطي الأسبق، صلاح الدين ديمرطاش، في معرض تعليقه على نتائج الانتخابات البلدية التركية، “لسنا أغبياء”، يشي بتطوّر تكتيكات الحزب الانتخابية، وقدرته على التحكّم في المشهد السياسي، عبر دعم مناوئي الحزب الحاكم، حتى وإن لم يحملوا أي أجندة خاصّة لحل المشكلة الكردية. والمهم في هذا السياق هو الربط بين رسالة أوجلان وجولة إعادة الانتخابات في إسطنبول، إذ من شأن تطبيع العلاقة بين أوجلان والحكومة التركية إفساح المجال لتوقّف الناخب الكردي من إيذاء “العدالة والتنمية”، أو تحييد الكتلة الكردية على الأقل، والحال أن رسالة أوجلان القصيرة قد تشكّل مدخلاً للتطبيع بين الأكراد في تركيا وسورية على حدٍّ سواء والأتراك، وقد يؤدي إلى صعودٍ موازٍ للجانبين، شريطة أن يُبنى على ما قاله أوجلان، وعدم التعامل بخفّة مع الرسالة، كما حصل مع رسائله السابقة.
لا يمثّل القول إن “قسد” ستكون سعيدة بالتعاون مع الجانب التركي إذاعة لسرّ، فقد سبق لقيادة في هذه القوّات أن عبّرت عن رغبتها التوصّل إلى صيغةٍ تنهي التهديدات التركية المتواصلة، من ذلك ما صرح به القائد العام للقوات، مظلوم كوباني، عن وجود اتصالاتٍ مع تركيا، برعاية وسطاء لم يذكر أسماءهم ، كما لا يمكن إغفال النجاح الذي قد تحققه تركيا في حالة التفاوض مع “قسد” لجهة وقف مسلسل التنازلات التي قدّمتها لمنافسيها في سورية، بغية تطويق الصعود الكردي.
أي تقدّم ملحوظ في نتائج انتخابات إسطنبول لصالح الحزب الحاكم، حتى وإن لم يتكلّل الأمر بنجاح له، سيكون مردّه فاعلية رسالة أوجلان، كما أن مراعاة “قسد” للمصالح التركية في سورية ستكون وثيقة الصلة بالرسالة إياها. يبقى الأهم معقوداً على جدّية الأطراف على جانبي الحدود السورية التركية في عدم التعامل مع الرسالة على أنها تكتيك آنيّ، يفرغ المبادرات والرسائل اللاحقة من أي معنى، بل اعتبارها مقدّمة نظرية للتحوّل نحو الحوار والوئام بدل العداء المفتوح.
العربي الجديد