معرض باريسي يفضح الهيمنة الرجالية في عوالم التكنولوجيا/ عمار المأمون
بدأت الحركات النسويّة منذ الثمانينات من القرن الماضي بإعادة النظر في التكنولوجيا، من منطلق أنها نتاج تصوّر ذكوريّ للعالم محفورٌ في الكودات وأنظمة التشفير التي تشكل الظاهرة التقنيّة، سواء كان الأمر مرتبطا بالذكاء الاصطناعي أو بأبسط الأدوات المنزلية التي تدّعي إعلاناتها أنها مُخصصة للمرأة (غسالة، براد..) القادرة على تشغيلها فقط، لا إصلاحها وفهم آلية عملها الداخليّة، فالتكنولوجيا التي أصبحت جزءا عضويا من حياتنا، ليست إلا أداة كأي أداة أخرى، تحمل خصائص تميزيّة وتهميشيّة في بنيتها، تجعلها تميل إلى خدمة دور على حساب دور آخر.
تقيم صالة غاتي ليريك الفنيّة في باريس معرضا مميزا بعنوان “Computer Girls”، أو ما يمكن ترجمته بـ”فتيات الكمبيوتر”، في إحالة إلى دور المرأة المهمل في التطور التكنولوجي، إذ تستضيف الصالة 23 فنانة عالمية ممن يحاولن إعادة كتابة تاريخ الظاهرة التكنولوجية والأشكال الفنيّة الصادرة عنها، كالفيديو آرت والطباعة ثلاثية الأبعاد، والواقع الافتراضي، وذلك لتفكيك هيمنة التكنولوجيا.
وهذا ما يعكسه اسم المعرض، المُقتبس من عنوان مقالة نشرت في الستينات من القرن الماضي في مجلة “كوزموبوليتن” النسائيّة، التي جاء فيها أن الكمبيوترات أتاحت وظائف جديدة للنساء، كأن يعملن كسكرتيرات ومنسقات مواعيد، إلا أن الأمر تغير في الثمانينات مع ظهور الكمبيوترات الشخصية أو ما يسمّى في المعرض بـ”ألعاب الصبيان”، التي أدت إلى ظهور طبقة من مهوسي التكنولوجيا (nerds) والذين أًصبحوا الآن ملّاك أكبر الشركات وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والبيع على الإنترنت.
تظهر قمة هرم الذكورية في عالم التكنولوجيا في الحكايات الشعبية والفضائح، كحالة واحد من مؤسسي فيسبوك الذي سرق صورا للطالبات من أرشيف جامعة هارفرد ونشرها ليتمكن أصدقاؤه من تقييم جمال من فيها، ما دفع الفنانة جينيفر تشان للسخرية من هذه “الأخويّة الذكوريّة” والعلاقات ضمنها في فيديو تحريك بعنوان “حفل شبقي”، تسخر فيه من هذه الأشكال الثقافية الذكورية بوصفها أسلوباً لـ”احتلال” الإنترنت الذي يمارسه بيل غيتس، وجيف بيزوس ومارك زوكربيرغ وغيرهم.
يستعيد المعرض أكثر من 200 حالة مُثبَتة لعبت فيها المرأة دورا هاما في الثقافة التكنولوجية، منذ بدايات عمليات البرمجة، مرورا بعمليات التشفير وفكه أثناء الحرب العالميّة الثانيّة، حتى ظهور كلمة “كمبيوتر”، التي كان من المفترض أن تكون مؤنثة بالفرنسية (ordinatrice) حسب العالم اللغويّ الذي وظفته شركة IBM في فرنسا، والتي رفضت توصيته وجعلت الكلمة مذكرة (ordinateur)، كذلك نتعرف على دور المرأة في تطوير الذكاء الاصطناعي، وكشف التحيز ضمنه خصوصاً في ما يتعلق بإحصائيات توزيع العمل على أساس النوع الاجتماعي.
القسم الأوّل من المعرض بعنوان “عندما ارتدت الكمبيوترات التنانير” وتدعونا فيه الأعمال الفنيّة للتعرف على دور المرأة في تطوير التقنيّة وعلاقتها مع الآلة منذ ظهور مهنة عاملات المقسم والضاربات على الآلة الكاتبة، هذه الرؤية التاريخيّة نراها في فيديو تجهيز للفنانة الأميركية جيني أوديل، المُنجز عام 2017 بعنوان “عادت بولي”، وهو استعادة لفيديو أنجز عام 1988 لامرأة ثلاثية الأبعاد تقوم بواجباتها المنزليّة والمهنيّة ترافقها موسيقى فيلم رعب.
أما في فيديو أوديل نرى ذات المجسم ثلاثي الأبعاد، لكنه محاط بشاشات تمثل ديستوبيا سورياليّة معاصرة حسب أوديل، تحاط فيها “المرأة” بعناوين عريضة تمر دوماً على الشاشات أمامنا، كـ”خمسة طرق تزيد من فعاليتك الإنتاجية”، أو “كيف تحوّلين الخبز المحترق إلى أكلة لطيفة”، أطنان من النصائح التي ترسم دور المرأة وما عليها فعله ضمن فضاء رجوليّ، تحكمه تقنيات تسعى إلى جعلها مثل روبوت يتقن كل الوظائف المنزليّة، هذه السلطة الرجولية نراها أيضاً في أعمال الطباعة الرقمية التي أنجزتها أدويل والتي تستعيد فيها صوراً من ثمانينات القرن الماضي لكمبيوترات شخصيّة وتجعله أقرب لكولاج يمثل “سلطة الشرطة” و”سلطة الرقابة” اللتان تمارسها التكنولوجيا.
يحمل القسم الثاني من المعرض اسم “افعليها بنفسك وتقنيات المقاومة” وفيه تحاول الأعمال الفنيّة الكشف عن التحيز الذي تحويه الكودات البرمجيّة والذي نتلمسه في المعلومات النهائيّة كالصور ثلاثية الأبعاد والعمليات الرياضية المعقدة.
هذا التحيّز لا بد من الوقوف بوجهه ومقاومته والأشكال التي يروج لها عبر مقاومة التكنولوجيا نفسها وأساليب استخدامها اليوميّة وهذا ما نشاهده في الفيديوهات والأدوات التي أنتجتها “داشا إلينا” الفنانة الفرنسية التي أسست ساخرةً (مركز الألم التكنولوجي) الذي تقدّم فيه حلول عملية وذاتية التحضر لمقاومة أشكال الألم والمعاناة المختلفة التي تنشأ بسبب استخدم التكنولوجيا، لنرى أنفسنا أمام سخرية مضاعفة، الأولى موجهة ضد الفيديوهات الجديّة المشابهة، والتي ما ترتبط عادة بمهمات المنزل أو التجميل أو الأزياء، والثانية تعكس تعلّقنا الزائد بالتكنولوجيا وتأثيرها العميق على تكويننا العقلي والجسدي، إذ صممت إلينا علبة للتركيز، وقلم يُعلق بالرأس للضغط على شاشة الموبايل دون استخدام اليدين.
القسم الأخير من المعرض بعنوان “احتكاكات علميّة” ويُوجّهْ فيه الانتقاد للذكاء الاصطناعي الذي كلما ازداد تطورا اكتشفنا تكوينه المتحيّز جندريا وعرقيا وتماهيه مع مفاهيم غياب العدالة الاجتماعيّة، كون منتجيه ومصمميه ينتمون إلى فئة مستفيدة ومتنفذّة تهتم بمصالحها فوق كل شيء، وهذا ما نراه في فيديو للمصممة والفنانة سيمون سي نيكويل بعنوان “مخاطر الحياة”، الذي يكشف المعاير المستخدمة في تكوين الأجساد الرقميّة (ثلاثية الأبعاد) المستخدمة في السينما والعمارة والقطاعات الجنائيّة.
إذ نشاهد مجسماً لهيلاري كلينتون وآخر من قاعدة بيانات قيصر التابعة لإدارة الطيران الأميركيّة التي تحوي أكبر عدد من الأجساد الرقمية، أما الأخير فهو “كيرتوس ثاي” المصمم ليختبر الحد الذيّ يفقد فيه الجسد شكله البشري “الطبيعي”، هذه المجسمات الثلاثة تخبرنا كيف أن المقاييس والمعايير الداخلية والاختلافات في تمثيل الأجساد رقميا قائمة على أسس وبيانات عنصرية لتحديد قدرة الجسد على تحمّل الخطر أو شكله الطبيعيّ، كما أن هذه البيانات ليست إلا وسائل لترسيخ الصورة النمطية العنصرية، خصوصا في ما يتعلق بالملونين وكيفية تكوين صورهم رقمياً بناء على شهود العيان في حالات الجرائم، فملامحهم وطريقة حركتهم مبرمجة مسبقا لتثير تصاميمهم الشبهة.
كاتب سوري
العرب