تأثيرات الموقف التركي على الأزمة السورية– مقالات مختارة-
ورطة تركية/ مروان قبلان
يثير فشل تركيا في تحقيق أيّ من أهداف سياستها السورية خصوصاً، من بين قضايا أخرى عديدة، تساؤلاتٍ حقيقيةً عن كفاءة “الماكنة” السياسية التركية، وقدرتها على النهوض بأعباء (ومسؤوليات) القوة الإقليمية الكبرى التي تطمح إليها. وعلى الرغم من أنها الوحيدة من بين القوى الرئيسة التي تتصارع على الساحة السورية اليوم التي تملك حدوداً برية معها (نحو 900 كم تقريباً)، تجد تركيا نفسها الأقل قدرةً على حماية مصالحها، أو تحقيق أهدافها فيها. ففي حين تمكّنت كل من روسيا والولايات المتحدة، وحتى إيران، وجميعها تفصلها عن سورية الجغرافيا، ولا يربطها بها تاريخ، أن تحقق أكثر أهدافها أو بعضها، فشلت تركيا ليس فقط في تحويل سورية إلى سهم استراتيجي، كما كانت تطمح في بداية الأزمة، بل أيضاً في منع تحوّلها إلى منطلق لتهديد أمنها والإضرار بمصالحها.
منذ البداية، افتقدت تركيا استراتيجية واضحة للتعامل مع المسألة السورية، إذ غلب على مواقفها التردّد، وطغى عليها سوء الحسابات وفشل التقديرات. في بداية الأزمة، اعتمدت تركيا على موقف أميركي مساند، لكن الأميركيين خذلوها. ويذكر رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، أحمد داود أوغلو، أنه توسّل إلى إدارة الرئيس أوباما تأجيل الطلب من الأسد التنحي 24 ساعة بانتظار نتائج زيارته (الأخيرة) إلى دمشق في أغسطس/ آب 2011، ليفاجأ بأن هذا كان سقف الموقف الأميركي الذي لم يتغيّر سنوات بعد ذلك.
في صيف 2014، فشل الأتراك في التعامل مع صعود تنظيم “داعش”، ومنعتهم حساباتهم “الضيقة” من لعب دور قيادي في التحالف الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة، ما جعل الأخيرة تعتمد على الأكراد في محاربة التنظيم، وأضاعت تركيا بذلك فرصة مهمة لتسخير الأجندة الأميركية في سورية، لخدمة مصالحها هناك. وعندما أدركت تركيا خطأها، وبدأت التعاون مع الأميركيين، جاء التدخل الروسي ليقطع الطريق عليها.
لم تفشل الاستخبارات التركية في توقع التدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015 فحسب، بل وقعت أيضاً بعدها في مصيدة الرئيس بوتين الذي استغلّ المحاولة الانقلابية في يوليو/ تموز 2016، لجرّ تركيا إلى عملية أستانة، مستعيناً بطُعم اسمه عملية درع الفرات، حيث وافقت روسيا على السماح لتركيا بالسيطرة على مثلث جرابلس – الباب – أعزاز، وفي المقابل، وافقت تركيا على اتفاقية خروج المعارضة من حلب في ديسمبر/ كانون الأول 2016، ولتكون هذه بداية نهايتها.
من خلال عملية أستانة، وما سميت مناطق خفض التصعيد، تمكّنت روسيا من تصفية مواقع المعارضة السورية، الواحد تلو الآخر، محوّلة إدلب إلى منطقة تجمعٍ أخيرة لكل مقاتليها، بإشراف تركيا، وتحت رعايتها. لكن إدلب نفسها التي ظن الأتراك أنهم عقدوا تفاهماً مع بوتين بشأنها أخذت تتحوّل أداة ضغط رئيسة على تركيا، وذلك أيضاً نتيجة خطأ حساباتها.
كرد فعل على الموقف الأميركي المساند للأكراد، وضعف الإدانة الأميركية للمحاولة الانقلابية الفاشلة، قرّرت تركيا أن تميل نحو روسيا، لكنها بالغت في ذلك، عندما اعتقدت أنها كلما اقتربت من موسكو اندفعت واشنطن نحوها أكثر، ووصل الأمر إلى حد إبرام صفقة لشراء منظومة صواريخ إس 400 الروسية التي ضربت لدى الأميركيين وتراً حسّاساً، فجاء رد فعلهم على شكل إجراءات اقتصادية، تمثلت في إنهاء المعاملة التفضيلية لتركيا في التعاملات التجارية، كما أوقفوا إجراءات تسليم طائرات إف 35 لها.
الرئيس الروسي الذي يعنيه تدهور العلاقات الأميركية – التركية، وصولاً إلى إخراج تركيا من حلف شمال الأطلسي، راح يستخدم إدلب أداة للضغط على تركيا، لمنعها من إلغاء أو حتى تأجيل صفقة صواريخ إس 400. وعليه، بدل أن تنجح في استخدام استراتيجية التأرجح بين العملاقين لانتزاع أكبر تنازلاتٍ ممكنة، حشرت تركيا نفسها بينهما، فلا عادت قادرةً على إلغاء صفقة الصواريخ خوفاً من أن ترفع روسيا بطاقة إدلب في وجهها، ولا عادت قادرةً على المضي فيها خوفاً من إجراءاتٍ أميركيةٍ إضافيةٍ، في ظروف هشاشةٍ يمرّ بها الاقتصاد التركي، علماً أن واشنطن تعرض عليها أيضاً تفاهماً شرق الفرات، إن هي ألغت صفقة الصواريخ الروسية، لكن هذا سيكلفها إدلب غرباً. كيف تخرج تركيا من هذه الورطة؟ سؤال يحاول “أساطين” الاستراتيجية الأتراك الإجابة عليه، من دون نتيجة واضحة.
العربي الجديد
خلفيات الضوء الأخضر التركي في إدلب/ سمير صالحة
أثار التصعيد الأمني الأخير الذي تسببت به قوات النظام السوري بالتنسيق مع المقاتلات الروسية في مناطق سيطرة المعارضة بريف حماة، ومنذ 25 نيسان الماضي، تساؤلات كثيرة حول ما يجري.
أصوات في دمشق تقول إن قوات النظام ستكمل عمليتها العسكرية، من أجل تحرير المناطق من الإرهابيين، بعد سقوط الخط الدفاعي وفتح الطريق أمام التقدم السريع والواسع. لكن هناك أصوات أخرى تقول إن ما يجري هو أبعد بكثير من مسألة “الحرب على الإرهاب” لأنه يدور ضمن منطقة خفض التصعيد المتفق عليها تركيا وروسيا ولأن مشاركة الروس في العمليات بهذا الشكل العنيف يعني أنهم وراء بناء معادلات سياسية وميدانية جديدة هناك.
قبل أسبوعين تحديدا كانت أنقرة وسط عاصفة من الانتقادات والاتهامات الحادة من قبل أقلام وأصوات عديدة تتساءل عن أسباب السكوت عما يجري. البعض في الإعلام العربي كان يتحدث عن صفقة تركية روسية حول مقايضة تل رفعت بالطرق الدولية مقابل فتح الطريق أمام قوات النظام لتواصل عمليات قضم الاراضي في إدلب ومحيطها. قرأنا وسمعنا من يتحدث عن رغبة تركية روسية في فتح الطريق أمام قوات النظام للتقدم نحو مواقع “هيئة تحرير الشام” لإخراجها من المعادلة بعدما عجزت أنقرة عن فعل ذلك في تعهدات أستانا وسوتشي.
نظرية المؤامرة دفعت الراغبين في تصفية الحسابات مع تركيا لطرح تساؤل ما الذي يعنيه قيام قوات النظام السوري وحلفائه بقصف مناطق محيطة وقريبة من نقاط المراقبة التركية، في إطار تصعيده العسكري ضد المناطق السكنية في إدلب فتنسحب منه القوات التركية مكتفية بنقل الإصابات وتسجيل الاعتراض على هذه العملية لدى الشريك الروسي؟
موسكو أزعجها فشل اجتماعات أستانا 12 وتجدد الاتصالات بين أنقرة وواشنطن حول سوريا والتحرك الدولي الداعم للموقف التركي باتجاه وقف الهجمات ضد المدنيين في إدلب. لذلك حركت قوات النظام هناك لكن السؤال ومنذ أسابيع كان حول ما ستفعله أنقرة وهل سيكون هناك ردّ تركيّ على كل هذه الاستفزازات أبعد من رسائل التعبئة العسكرية على الحدود؟
الروس لا يبدون الجدية باتجاه الضغط على دمشق لوقف إطلاق النار وكأن المسألة تتم بضوء أخضر روسي متعدد الأهداف: محاصرة تركيا بورقة الكارثة الإنسانية على حدودها ووجود حوالي 350 ألف مدني بدلوا من أماكنهم بسبب التصعيد الأمني وقصف النظام والمقاتلات الروسية المنطقة. لذلك كان لا بد من الرد وهذا ما فعلته أنقرة ولم تتحدث عنه بعد التنسيق مع الفصائل في حملة الانتقال من الدفاع إلى الهجوم للرد على كل هذا التصعيد. محاولة روسية واضحة بالتنسيق مع النظام للاستفادة من انشغال أنقرة بأكثر من ملف داخلي وخارجي وفرض واقع ميداني جديد على المنطقة وتركيا.
بعد عمليات القضم والتموضع العسكري الجديد لقوات النظام تحول الموقف الروسي فجأة من مجرد ساعي بريد ينقل المطالب التركية إلى دمشق ويحمل الرد الذي يقول إن النظام يقبل بوقف إطلاق النار شرط احتفاظه بالمناطق التي سيطر عليها مؤخرا. فكان الرد التركي ميدانيا أولا وبالتفاهم مع قوات المعارضة باتجاه التعامل مع كل هذه التحرشات والاستفزازات ثم سياسيا بالإعلان أن العودة إلى خارطة الطريق الروسية التركية في إدلب مشروطة بانسحاب قوات النظام من المناطق التي تمدد فيها في الأسابيع الأخيرة.
أولى مؤشرات التحول في الموقف التركي كشف النقاب عنها نائب الرئيس فؤاد أوكتاي عندما دخلت قوات المعارضة التركية إلى قرى تل رفعت ردا على الاستفزازات والتحرشات المتواصلة لمجموعات “قسد” التي تستفيد من الحماية الروسية هناك. ثم عادت وغادرتها في رسالة واضحة أن تركيا والفصائل لن يسمحوا بلعب ورقة تل رفعت ضدهم.
ثم جاء الرد التركي في أعقاب استهداف نقطة المراقبة التركية في تحد واضح لاتفاقية سوتشي. أين المسؤولية الروسية هنا وهل ستكتفي أنقرة بتحميل المسؤولية للنظام السوري الذي لن يغامر في القيام بعملية تصعيدية من هذا النوع دون موافقة موسكو؟
المؤشر الآخر المهم جاء على لسان الدبلوماسي التركي ومندوب تركيا في مجلس الأمن الدولي فريدون سينيرلي أوغلو خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي حول الهجمات على إدلب، والتطورات الأخيرة في سوريا، حين عبر عن قلق أنقرة البالغ إزاء انتهاكات وقف إطلاق النار من قبل النظام السوري منذ نهاية أبريل وحتى اليوم، التي تجاوزت 600 انتهاك، وأن هجمات النظام تشكل خطرا إنسانيا وأمنيا على تركيا وأوروبا، وأن ما تقوم به أنقرة وما ستفعله لاحقا هو من أجل حماية تفاهمات سوتشي.
“استهداف نقطة مراقبة تابعة للجيش التركي في 4 أيار الحالي، وإصابة جنديين جراء ذلك، رغم الاتفاقيات والتفاهمات لا يمكن أن تصبح أعمال مشروعة باسم مكافحة الإرهاب”.
ربما الذي دفع أنقرة للتحرك في استراتيجية جديدة من هذا النوع هو تكرار موسكو أن كل تفاهماتها مع تركيا مبنية على أساس عودة النظام إلى السيطرة على كل الشمال السوري وحتى المناطق الحدودية عاجلا أم اجلا. وتمسك موسكو في رفض أي سيناريو يعيد تشكيل المجموعات المحسوبة على هيئة تحرير الشام من المواطنين السوريين ودمجهم مجددا في البنية السورية.
بين ما قاله وزير الدفاع التركي بعد خروج أنقرة عن صمتها في أعقاب عمليات الهجوم المضاد الناجح والصاعق للفصائل إن النظام في دمشق يسعى لعرقلة تفاهمات سوتشي التركية الروسية في أيلول 2018 حول إدلب والمنطقة العازلة. وإن أنقرة لن تخلي نقاط المراقبة ودعا موسكو لوقف النظام عن الاستمرار في خروقاته التي تهدد التفاهمات التركية الروسية وإن إدلب هي أرض سورية لكنها أرض جميع السوريين ومنهم الذين هربوا من ظلم النظام.”صحيح أن إدلب أرض سورية ولكن قاطني هذه المحافظة عانوا من ظلمكم، وتركيا كباقي الدول الأخرى ستقوم بما يلزم حين يتم إعداد دستور جديد للبلاد، وتجري الانتخابات وتشكل الحكومة الجديدة”.
الورقة الروسية الإيرانية التي تلعب ضد أنقرة منذ البداية كانت تهدف لتحريك مسألة محاربة الارهاب في إدلب الذي يتحصن في البقعة الجغرافية الأخيرة المتبقية له والذي يعيق التفاهمات ويعرقل الحلول في الملف السوري. وهذا ما كانت تركيا تعرفه وتراقبه عن قرب. لذلك رأينا الرسائل التركية الموجهة إلى موسكو تقول إن خروقات النظام في إدلب تتحمل موسكو مسؤوليتها المباشرة قبل دمشق نفسها. الروس هم الطرف الضامن أمام أنقرة وأية هجمات ينفذها لا يمكن أن تكون بمعزل عن موسكو وموافقتها حتى لا نقول تشجعيها على ذلك.
الرسالة التركية الأهم قد تكون حول أن لا معنى لهذه الاتفاقيات إذا ما كان النظام سيعرضها للخطر بشكل دائم وعلى هذا النحو “رغما” عن الروس والإيرانيين قبل أن يكون تحديا لأنقرة والفصائل.
الحرب في إدلب.. لا عزاء للسوريين/ راتب شعبو
يتأهب السوريون في إدلب وجوارها، وفي غير مكان من بلدهم، لدفع ضريبة حربٍ واسعةٍ بدأت عملياتها الأولية قبل أسابيع. ما هو نوع هذه الحرب التي تمهد لنفسها في إدلب اليوم؟ كيف يمكن تصنيفها؟ وكيف يمكننا فهمها؟ منذ زمن طويل، يمكن تلمس حدوده مع سيطرة العسكرة والإسلامية (أو قل العسكرة الإسلامية) على الثورة، لم تعد معادلة “شعب ضد نظام” قادرةً على استيعاب الصراع في سورية.
منذ زمن طويل، تضعضع النظام عسكرياً، واضطر لاستقدام مقاتلين من كل العالم، يدفعهم الارتزاق أو “الجهاد الشيعي”، كما اضطر للاعتماد المتزايد على دولتين حليفتين، إحداهما عظمى، وما يعني هذا من إدخال الصراع السوري في البازار السياسي العالمي. كما تضعضع النظام سياسياً، حتى انخفض بُعده السياسي إلى المستوى الأمني، أي إلى مستوى الحفاظ على السلطة بأي شكل، وبأي ثمن، الأمر الذي جعله قادراً على ارتكاب جرائم مشينة بحق محكوميه، ما أحاله إلى ما يشبه قوة احتلال.
أما الشعب السوري، فمنذ ذلك الزمن البعيد، جرى إبعاده عن الفعل، على يد عنف النظام أولاً، ثم على يد عنف فصائل عسكرية إسلامية الطابع، يغذّيها أيضاً الارتزاق أو “الجهاد السنّي” (في انفصالٍ بائن عن معنى الثورة وعمقها). كانت هذه الفصائل تحمي الناس من النظام لتستبدّ بهم وتقتلهم، في صورةٍ مطابقةٍ لفعل النظام تجاه “محمييه”. على هذا، اضمحلّ كثيراً الحضور الشعبي المستقل، كما في مناطق النظام كذلك في مناطق الفصائل العسكرية الإسلامية، وباتت “الحدود” تقام على كل من يخرج عن السلطة القائمة، سلطة الأمر الواقع، هنا وهناك.
طرد هذا التحول الثورة وقيمها ومعناها إلى خارج الميدان، وطرد جزءاً مهماً من جسد الثورة إلى خارج البلاد، لكن الجانب الأكثر خطورة في هذا التحول هو التأسيس لصراع مدمر يدفع
ضريبته السوريون من أرضهم وأرواحهم وخيراتهم، وتحرّكه مصالح ليست فقط غير سورية، بل ومضادّة للسوريين. أخطر ما في الأمر أنه تأسس في سورية صراعٌ لا يمكن تفاديه، كما لا يمكن انتظار أي نتيجةٍ سياسيةٍ مفيدة منه. في هذا، كما هو مفهوم، خسارات متوالدة للسوريين ولسورية. ومن بين الخسائر البارزة، في الفترة الأخيرة، الاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على الجولان السوري. يقيننا أن الإدارة الأميركية ما كان يمكنها أن تقدم على هذا القرار، لولا هذا التحول، والذي أوصل البلد الأم للجولان إلى حضيض سياسي ومجتمعي غير مسبوق، سهّل اتخاذ القرار المذكور وتمريره.
على هدي الصورة السابقة، تبدو الحرب الدائرة في إدلب صراعاً بين ضوارِ على فريسة اسمها إدلب. منذ مايو/ أيار 2017 (أستانة 4)، اعتبرت إدلب والمناطق المجاورة لها من حلب وحماة واللاذقية إحدى مناطق خفض التصعيد الأربع، وتم الاتفاق على حدود هذه المنطقة في سبتمبر/ أيلول 2017 (أستانة 6). المناطق الثلاث الباقية هي جنوب غرب سورية (درعا والقنيطرة)، الغوطة الشرقية، ريف حمص الشمالي. وقد استعاد النظام هذه المناطق الثلاث بين مارس/ آذار ويوليو/ تموز 2018. وكان اتفاق سوتشي (سيبتمبر/ أيلول 2018) بين روسيا وتركيا من بين الأسباب التي أجلت عملية عسكرية مزمعة للسيطرة على المنطقة الرابعة (إدلب). وفي حين رحّبت جميع الأطراف بالاتفاق، كان من الواضح أنه مؤقت، وغير قابل للحياة، لأنه يحاول تفادي ما لا يمكن تفاديه، أقصد حسم موضوع السيطرة على إدلب، سيما مع وجود، ثم سيطرة، هيئة تحرير الشام (المصنفة إرهابية من جميع الأطراف بمن فيهم تركيا). من المفهوم أن السيطرة الجهادية على إدلب حالةٌ غير قابلة للدوام، أولاً لأنها توجد في منطقةٍ حساسةٍ من الناحية الجيوسياسية، وثانياً لأنها مضادّة للنسق السياسي العالمي، ولا تستطيع مقاومته.
رمى اتفاق سوتشي ثقل المهمة الأساسي على كاهل تركيا التي قبلت بالمهمة، لتفادي موجة لجوء من حربٍ كانت تبدو وشيكة. يبدو أن تركيا راهنت على الزمن الذي قد يحمل تطوراتٍ “أميركية” ما. وحين فشل الرهان، ووجدت تركيا نفسها محشورةً بين روسيا وأميركا، تخلت عملياً عن المهمة، واختارت أن تستثمر في المشكلة، بدلاً من أن تساعد على الحل. وعلى عكس المحاججات التركية التي كانت تذهب إلى أن تثبيت “خفض التصعيد” سوف يقود إلى عزل الجهاديين المتطرّفين، تمدّدت هيئة تحرير الشام، وسيطرت على كامل إدلب، وسحقت، خلال أيام، فصائل عسكرية محسوبة على تركيا، من دون أن تحرّك هذه ساكناً. وفي المقابل، لم تعترض الهيئة على تحرّك القوات التركية، لتثبيت نقاط المراقبة في مناطق إدلب. لتركيا “العدالة والتنمية” قدرة ملحوظة على التنسيق، والاستفادة من الحركات الإسلامية، بكامل طيفها.
يبقى نشوب معركة حسم السيطرة على إدلب أمرا يصعب تجنّبه. استعادة سيطرة “الدولة
السورية” على كامل أراضيها عنوان هذه الحرب من موقع النظام وحلفائه، وهو عنوانٌ له قبول دولي، طالما بقي النظام ممثلاً للدولة السورية في الأمم المتحدة، وله قبولٌ لدى قطاع غير قليل من السوريين، سواء من منطلق وحدة الأراضي السورية أو من منطق الخشية من “لواء اسكندرون” آخر، أو من باب تصفية الوجود الجهادي .. إلخ. أما غالبية الأهالي هناك، فإنهم لا يرحبون بعودة النظام، وقد عبّروا عن رفضهم الصريح له في ثورتهم الأولى، كما أنه أذاقهم، بعد ذلك، صنوف القصف التي لم توفر حتى المخيمات. في عيون هؤلاء الأهالي، سوف تبدو استعادة النظام إدلب أقرب إلى الاحتلال، سيما أن حوالي ثلث المقيمين في إدلب اليوم هم من السوريين الذي خرجوا من مناطق أخرى، دخلها النظام، سواء باتفاق مصالحة أو بدونه، أي إنهم ينظرون إلى النظام عدوّا يفرّون منه.
من ناحية ثانية، تسيطر هيئة تحرير الشام (هتش)، التسمية الأخيرة، حتى الآن، لجبهة النصرة، على حوالي 80% من إدلب، وعلى حوالي 90% من الأسلحة الثقيلة، بعد أن نفذت في الشهر الأول من هذا العام، هجوماً خاطفاً ضد الفصائل الأخرى وفكّكتها، واستولت على ما تحوزه من أسلحة. على هذا تشكل الهيئة، التي ليس لها حلفاء معلنين، القوة الأساسية في مواجهة قوات النظام وحلفائه. سوريون قليلون لا يرون اليوم أن الهيئة قوة مضادّة للثورة. الفصائل العسكرية المنافسة لها تقول إنها ليست سوى نوع من المافيا، همّها الأساسي هو المال، وإنها شكلت “حكومة الإنقاذ” للتغطية على سرقاتها، بحسب اتصالات عن بعد قامت بها مجموعة الأزمات الدولية، ونشرتها في تقريرها “أفضل الخيارات السيئة لإدلب السورية”، الصادر في 14 مارس/ آذار 2019، والذي يصل إلى نتيجة تقول: “من غير الواضح إذا كانت هيئة تحرير الشام تدافع عن شيء آخر سوى الحفاظ على سلطتها”.
كل من طرفي الصراع المباشرين لا هم له في الواقع سوى الحفاظ على سلطته. تساوي الإفلاس السياسي بين هذين الطرفين السوريين الأساسيين يرد الحرب القائمة إلى بعدها العسكري المحض من الجهة السورية، ويجعلها تستمد بعدها السياسي من الأطراف الخارجية الفاعلة “الحليفة”، التي تشتري مصالحها بدماء السوريين ومآسيهم وانحدارهم على سلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد. الحرب في إدلب اليوم هي استمرار لسياسة غير سورية، بوسائل عسكرية سورية. أو هي غذاء لمصالح دول خارجية على حساب مصالح كل سورية وكل السوريين.
إدلب امتحان الضامن التركي/ بشير البكر
تواجه تركيا اليوم سؤالا صعبا، يتعلق بموقفها من هجوم النظام السوري باتجاه محافظة إدلب، التي لا تزال أجزاء واسعة منها تعيش تحت مظلة اتفاق خفض التصعيد، والذي وقّعته تركيا وإيران وروسيا قبل عامين. ومنذ الأسابيع الأولى، لم تحترم روسيا الاتفاق، وخرجت من خانة الطرف الضامن. أما إيران فلم تكن مؤهلةً لتكون طرفا ضامنا، ولم يصدّق أحد، من السوريين وغير السوريين، أنها سوف تغير مواقفها في رعاية النظام، والدفاع عنه عسكريا وسياسيا.
وقبل أن يصل التهديد الروسي إلى إدلب اليوم، قضمت روسيا وإيران مناطق خفض التصعيد، واحدةً تلو الأخرى، بدءا من ريف حمص، وبعد ذلك غوطة دمشق ومحيطها، ومن ثم الجنوب في محافظة درعا، وأدّى ذلك إلى نزوح كبير من المناطق الثلاث من الرافضين للمصالحات مع النظام. وجرت العملية وفق اتفاقات وتفاهمات بين الأطراف الثلاثة الضامنة. وبناء على ذلك، تحولت إدلب إلى ملاذٍ أخيرٍ لقرابة ثلاثة ملايين، بمن فيهم السكان الأصليون، والذين لم تعد لديهم خيارات أو جهات نزوح يهربون إليها من حملة القتل والتهجير التي يشنّها الروس والنظام منذ ثلاثة أسابيع، وأدت إلى وضع مأساوي على الصعيد الإنساني الذي وصفته الأمم المتحدة بأنه “منعطف جديد للصراع”. وقالت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، روز ماري ديارلو، في إفادة أمام مجلس الأمن، يوم الجمعة الماضي “إذا استمر التصعيد والهجوم الذي نراه حاليا، سنواجه تداعياتٍ كارثيةً تهدد السلم والأمن الدوليين”.
وفي كل يوم يمر، تشتد الأزمة تعقيدا، في بعديْها، الإنساني والسياسي، وتلقي بثقلها على تركيا قبل غيرها، لعدة أسباب: الأول جيوسياسي، فهذه المنطقة ضمن دائرة التأثير التركي المباشر، وليست بعيدة جغرافيا، مثل الغوطة أو الجنوب، كما أن علاقاتٍ واسعةً تربط تركيا مع أهلها. والثاني أن تركيا ضامنةٌ راهن السوريون على دورها وقدرتها على فرض رأيها، ومنع روسيا من أن تنفذ مخططات القتل والتهجير. والسبب الثالث أن غالبية الفصائل العسكرية في هذه المناطق على صلة وثيقة بتركيا، وتعوّل على دعمها العسكري في المعركة الحالية تحديدا.
وفي واقع الأمر، تصرفت تركيا بما يساعد هذه الفصائل على مواجهة مخطط الاجتياح الشامل للنظام الذي كان يريد الوصول إلى عمق إدلب. وتفيد معلوماتٌ من الفصائل في الميدان بأنها سمحت بانتقال أسلحةٍ نوعيةٍ مضادة للدروع من بعض المناطق التي تقع في نفوذها إلى ساحات المعارك، وهذا ساعد على صد الهجوم. والواضح أنّ المعارضة السورية المسلحة تعتبر هذه المعركة مصيرية، ولذا تضع ثقلها العسكري فيها، كي لا يتكرّر سيناريو أحياء حلب الشرقية أواخر عام 2016، وسيناريو الغوطة الشرقية بداية عام 2018، حيث فقدت المعارضة السورية مواقعها. وتعدّ محافظة إدلب المعقل البارز للمعارضة السورية، وفي حال خسرته، لا يبقى لها إلا ريف حلب الشمالي والشمالي الغربي الذي يعتبر منطقة نفوذ تركي بلا منازع. وما كانت المعارضة السورية المسلحة قادرةً على رفد جبهات إدلب بالمقاتلين والسلاح، لولا الضوء الأخضر من أنقرة التي تدرك أن النظام يسعى إلى التوغّل أكثر في عمق محافظة إدلب.
ولكن المسألة لا تقف هنا، إذا أخذنا في الاعتبار السلوك الروسي القائم على الكذب والابتزاز، الأمر الذي يتطلّب موقفا تركيا نوعيا في هذه المرة، يقدّم ضمانات للمدنيين في المقام الأول، توقف مسيرة التهجير، وهذه مهمة عاجلة لا تقبل التأجيل، لأن أكثر من ربع مليون نازح من الهاربين من المعارك الحالية يعيشون في البراري. وهناك حوالي ثلاثة ملايين في إدلب وحدها ينتظرون ما ستسفر عنه الجولة الراهنة.
العربي الجديد
هل لتركيا مشروع في سوريا/ مهند الحاج علي
يحوي القصف الروسي والسوري العنيف في شمال سوريا اليوم، بعضاً من الغضب اثر الهزيمة المذلة لهذا التحالف وميليشياته في بلدة كفرنبودة بالريف الحموي. ذلك أن تركيا استعادت هيبتها في هذه العملية، وأظهرت أن دورها ليس إلى انحسار، بل قد يتقدم بفعل المفاوضات والعمل الدؤوب على تدريب وتوحيد الميليشيات السورية المختلفة تحت راية “الجيش الوطني” في المنطقة التركية “الآمنة”.
رغم أن العنصر الفصائلي فيها ما زال بارزاً، أظهرت هذه القوة العسكرية، قُدرة قتالية جيدة، وأسلحة متطورة نسبياً. من بين المشاهد القادمة من المنطقة، كان رتل مدرعات من طراز “بانتيرا أف 9” التي تتميز بسرعتها وبمعدات الاتصال المتقدمة فيها، وبقدرة فائقة على نقل المقاتلين في ساحات النزاع. وهذا مشهد قلّ نظيره على جانب المعارضة المسلحة الضعيفة التسليح والتنظيم، والأهلية الطابع.
دخول “الجيش الوطني” على الخط بدعم تركي، ومن منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” المحميتين تركياً، يؤشر إلى أهمية منطقة ادلب لأنقرة. أولاً لأن تركيا لا ترغب في أزمة لجوء جديد مصدرها 3 ملايين شخص يقطنون المنطقة، بل بالعكس، تريد ارساء استقرار يُعيد جزءاً مهماً من اللاجئين المقيمين على أراضيها.
وثانياً لأن أنقرة ترغب في اتساع رقعة المنطقة الخاضعة لهيمنتها بكل الاتجاهات، لا انحسارها. وهذا ما كشفه المبعوث الأميركي الخاص الى سوريا السفير جيمس جيفري أمام الكونغرس هذا الأسبوع. جيفري قال إن الولايات المتحدة وتركيا والأكراد يدرسون منذ شهور احتمال اقامة منطقة آمنة على طول الحدود السورية-التركية. لكن واشنطن لن توافق على الطلب التركي كاملاً، إذ تريد أنقرة منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً.
المهم أن تركيا تسعى إلى توسيع رقعة هذه المنطقة بالكامل، ويبدو أن ضغوطها على الأميركيين عبر صفقة صواريخ “أس 400” مع موسكو، ليست بلا طائل، بل قد نفيق يوماً على منطقة آمنة واسعة تُبعد المتمردين الأكراد عن الحدود التركية، مقابل إلغاء الصفقة الروسية برمتها.
جيفري لم يُخف التوجه الأميركي للحل مع تركيا، إذ تحدث أمام الكونغرس عن خفض سقف التوقعات الكردي، وأن مستقبلهم في سوريا بعد ارساء السلم فيها (لم يُحدد طبعاً أسس هذا السلم، تاركاً الباب مفتوحاً أمام تأويلات عديدة). نعرف الآن بأن الجيش الأميركي لن ينسحب في المدى المنظور، ويترك حلفاءه الأكراد وحدهم لمواجهة المخاطر من كل حدب وصوب. لكن في الآن ذاته، ليس الدعم أو الوجود الأميركي منوطاً بمشروع سياسي محدد، بل على ارتباط بتسوية لن تشمل روجافا الكردية. هذا قرار أميركي.
والمطلوب من تركيا اليوم، صراحة مماثلة مع السوريين. أعادت أنقرة توكيد دورها في إدلب، وأظهرت أنها وحدها القادرة على إدارة ساحة المعركة بمختلف مكوناتها لمنع السقوط.
لذا من الضروري أن يسأل السوريون تركيا اليوم عن شكل التسوية السورية “المقبولة” ودور المعارضين فيها، وعمّا إذا كانت هناك ثوابت أو أسس لأي صفقة أو مفاوضات مقبلة، وحتى عن حقوق المقيمين في المنطقة الآمنة تحت الإشراف التركي. هل تجري انتخابات، أو تُنظم الحياة السياسية في المنطقة ضمن إطار معين؟
المنطقة الآمنة وحدها غير كافية للمضي بمثل هذا المشروع في الشمال السوري، بل من المطلوب اتساعها شرقاً نحو مناطق السيطرة الكردية، وباتجاه ادلب أيضاً حيث تبدو المهمة أصعب. لو اتسعت الرقعة التركية شمالاً بهذين الاتجاهين، قد تُقارب مساحة الأراضي حينها حجم لبنان. ومن المطلوب أيضاً ارساء نوع من الاستقرار الأمني في هذه المناطق، بما يحتاج الى تفاهمات أو حتى اتفاق مع الجانب الكردي، لا تبدو أنقرة في وارده.
حتى ذلك الحين، يبدو الدور التركي غير واضح المعالم بما يعني السوريين، في انتظار بازار إقليمي يبيع فيه كل طرف ما يملك من أوراق
المدن
مأزق تركيا في إدلب/ وائل عصام
مع تسرب أنباء عن أن تركيا أبلغت فعلا الفصائل المعارضة القريبة منها، أن اتفاقيات سوتشي واستانة مع روسيا وايران، تعتبر لاغية، تضع تركيا نفسها في موضع محرج مجددا، كونها قدّمت نفسها في آخر نسخة من اتفاقات المناطق الآمنة، كدولة ضامنة في اتفاقية مناطق خفض التصعيد، التي شملت أربع مناطق للمعارضة، وفشلت في ضمان أي حماية لتلك المناطق من هجمات النظام وحليفتيها في أستانة روسيا وإيران.
فبعد سقوط المناطق التي ضمنتها تركيا في الغوطة ودرعا وريف حمص، عادت إدلب لتشكل اختبارا جديدا لمدى قدرة تركيا على فرض وزنها الإقليمي في الملف السوري، والإيفاء بتعهداتها كدولة ضامنة، وتنفست المعارضة السورية الصعداء عندما قاومت تركيا مساعي روسيا والنظام لبدء هجوم لاستعادة إدلب، وأنجزت اتفاقا جديدا لشريط عازل، ووقف مؤقت لإطلاق النار، لكن المسؤولين الروس والسوريين أكدوا أن الاتفاق مؤقت، ولم يكن معرفة ذلك يتطلب تصريحا من لافروف، لأن المتابع لمسار النزاع في سوريا، يدرك أن النظام السوري وحليفتيه روسيا وايران، لن يتركوا منطقة في سوريا خارج سيطرة النظام، وأن طريق التفاهمات السابقة في أستانة وسوتشي كان مجرد جهد سياسي من حلفاء النظام في طهران وموسكو، لتأجيل معارك ثانوية مقابل المعارك الأهم في كل مرحلة، فأقنعوا فصائل المعارضة المرتبطة بتركيا بتهدئة جبهة الغوطة وحمص ودرعا، بينما كان النظام منشغلا في حملة كبرى في السخنة ودير الزور، لمسابقة النفوذ الامريكي في منطقة الحدود، ثم استفرد النظام بتلك المناطق واحدة تلو الاخرى، وكأنها كانت تنتظر مصيرها مستسلمة، وسارعت القوى الثورية للانخراط السريع بالمصالحات والتسويات، ليصبح مقاتلو دوما عناصر في جيش النظام اليوم في إدلب، بل يلقى 14 عنصرا منهم حتفهم بصفوف النظام! هذا التخبط لعب عدد من الدول الداعمة دورا في تعزيزه لدى الفصائل، المهيئة أصلا له، فحتى المناطق التي تسيطر عليها تركيا اليوم في عفرين ودرع الفرات، باتت مناطق خضراء للنظام غير مسموح لفصائل تركيا فيها بمهاجمة النظام، ومن يفعل ذلك ككتيبة الشرقية بقيادة أبوخولة الموحسن، الذي هاجم تادف، تتم معاقبته، ليقوم بالانشقاق مؤخرا عن درع الفرات وينضم لجيش العزة، بينما أصبحت ساحة إدلب الخاضعة لتحرير الشام هي الساحة الوحيدة التي يمكن للثورة أن تقاتل فيها النظام، فانتقلت بعض فصائل تركيا لإدلب للقتال هناك، بدون أن تستطيع فتح معركة واحدة من مناطق درع الفرات التركية باتجاه تل رفعت أو تادف.
وهكذا كان من المفترض منذ البداية التموضع التركي الجديد لجانب روسيا وإيران في الملف السوري، وأن أي مشاركة لتركيا في أي اتفاقات ضمان، محكوم عليهم بالدوران في حلقة السياسة الروسية الداعمة للأسد، مع منح أنقرة أولوية للتهديد الكردي والتطبيع مع النظام السوري، واتضح ألا قوة اقليمية أو دولية قادرة على معادلة النفوذ الإيراني والروسي في سوريا، فهما بالتالي وما داما خاضا حربا لسنوات لتعزير سلطة الأسد، واجها فيها قوى دولية وإقليمية، مؤيدة للمعارضة، فلن يقبلا أن تشكل أنقرة أي عائق أمامهما لإكمال مشروعهما لدعم الاسد، وصولا للسيطرة على إدلب في الشهور المقبلة، رغم الثمن الباهظ الذي سيدفعه النظام، بسبب المقاومة الشرسة للجهاديين في تحرير الشام والتركستان وجيش المهاجرين والانصار وانصار الدين وحليفها جيش العزة، وما بعد إدلب، سيكون على تركيا في العام المقبل ربما، إخلاء جنودها من درع الفرات وعفرين لتعود سيطرة الاسد، التزاما بالتفاهمات مع روسيا، التي سمحت أصلا لتركيا بدخول هاتين المنطقتين، دخلت وهذا ما لا يستوعبه الكثير من منظري المعارضة السورية، الذين يعتقدون أن تلك المناطق ستكون آمنة مستقبلا للمعارضة السورية والنازحين.
الامر نفسه ينطبق على توقعات «المظلة الآمنة التركية في إدلب»، ورغم أننا أشرنا منذ تسعة شهور، في هذه الزاوية إلى أن تركيا لن تستطيع فعل شيء لمواجهة الهجوم المرتقب منذ شهور على إدلب، بل توقعنا أن نقاط المراقبة التركية «ستكتفي بالمراقبة» عند بدء الهجوم، لكن وكعادة المحللين المتعاطفين مع تركيا، انطلقوا في تصورات خلبية، تضخم من القدرة التركية على تشكيل «مظلة آمنة» لإدلب، واستبعدوا تنازل تركيا عن موقفها المعاند والحامي لإدلب، قبل أن يتبين أن المظلة التركية «مثقوبة»، فالوزن السياسي والعسكري لتركيا في سوريا اليوم لا يؤهلها للعب هذا الدور، بل إن انقرة تحدثت وعلى لسان كبار مسؤوليها أنها لا تمانع بعودة سيطرة النظام على أراضيه، إذ إن تركيا باتت تنظر للأسد على انه تهديد ثانوي مقابل التهديد الكردي المتنامي، لكن ولسوء التقديرات والإمكانيات التركية، لا هي واجهت التهديد الثانوي، الأسد، ولا هي استطاعت إكمال مهمتها التي طالما وعدت وتوعدت بها، بتطهير شرق الفرات من القوى الكردية المناوئة لها، إذ إن القيود الامريكية الروسية منعتها هذه المرة من التوغل مجددا في الاراضي السورية، على عكس ايران التي تتوغل في أربع دول عربية وترسل ميليشياتها بدون انتظار إذن من أحد، وهذا يقودنا ربما لطبيعة السياسات والنفوذ الخارجي الهش لتركيا في دول الجوار العربي، خصوصا العراق وسوريا، اللذين تعرضا لهجمة طائفية كبيرة، تأمل فيهما المكون السني أن يلعب الاتراك دورا في معادلة الدور الايراني، لكن هذه الأمنيات لم تكن خاضعة لأي قراءة تحليلية تقيس موازين القوى وفرق النفوذ الاقليمي بين البلدين، وطبيعة سياساتهما الخارجية.
لا شك أن تركيا لا ترغب برؤية حمام الدم في إدلب، وسبق أن أعلنت رسميا أن الهجوم على ادلب سيسبب لها ازمة جديدة متمثلة بنزوح الالاف لتركيا، ولكن تركيا وضعت نفسها في موقف لا تحسد عليه، فلا هي تمكنت من احترام تعهداتها كدولة ضامنة، ولا أرغمت روسيا وايران على وقف هجومهم على ادلب، ولذلك ارتفعت أصوات النقد والاتهام لتركيا، بأنها شريك لروسيا في الهجوم، وانها تنسق معها لإنهاء المعارضة، وهذا اتهام غير موضوعي وقفز لاستنتاجات غير صحيحة، فإن تكون تركيا «غير قادرة» على دعم المعارضة لا يعني أنها «متآمرة عليها»! السياسة التركية في الملف السوري قد توصف بأنها محدودة التأثير وسيئة التقديرات، لكن هذا لا يعني انها متآمرة مع روسيا لمحاربة المعارضة.
ما يحصل من تراجع تركي في إدلب، يذكرنا ايضا، بإحدى الحقائق الماثلة في مسار الثورة السورية، وهي أن أحد أسباب انحسار الثورة السورية هو ضعف فعالية حلفائها، مقارنة بحلفاء الأسد، ايران وروسيا.
القدس العربي
رسالة أوجالان: قراءة إضافية/ بكر صدقي
تحتاج الرسالة المقتضبة التي وجهها عبد الله أوجالان إلى الرأي العام، في السادس من شهر أيار الحالي، إلى مزيد من التحليل بسبب شبكة التعقيدات المحيطة بظرفها. فقد صدرت في وقت تصارع فيه القيادة التركية مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية، من شأن إلقاء نظرة متكاملة عليها أن يضيء معانيها والغرض منها بصورة أفضل. فإضافة إلى توقيت الإعلان عن مضمون الرسالة الذي تزامن مع قرار الهيئة العليا للانتخابات بإلغاء نتائج انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول وتحديد موعد لإعادتها، هناك مجموعة من المشكلات الضاغطة على الحكومة بحاجة إلى اتخاذ قرارات حاسمة بشأنها، في الاقتصاد والسياسة الخارجية، ويداها مقيدتان بشروط موضوعية يصعب التأثير عليها بصورة منفردة.
ففي الشأن الاقتصادي، لم تنفع جميع محاولات الترقيع والقسر في رفع معدل النمو، أو خفض معدلات البطالة والتضخم المنفلت، ومواجهة هبوط قيمة العملة المحلية، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية. وباتت الليرة التركية عالية الحساسية إزاء التطورات السياسية، بحيث أدى قرار إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول، مثلاً، إلى هبوط حاد في سعر صرفها أمام العملات الصعبة.
الأزمة الناشئة أساساً عن فقدان الثقة الاستثمارية بسبب هشاشة الوضع السياسي، مرشحة للتفاقم بسبب الضغوط السياسية الخارجية المتصاعدة. نتذكر، في هذا السياق، تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الصيف الماضي، التي هدد فيها بـ«تدمير الاقتصاد التركي» بسبب الأزمة الدبلوماسية حول القس الأمريكي الذي كان محتجزاً في السجون التركية، ثم أطلق سراحه بعد حين. ليس المقصود بهذا التذكير إلقاء مسؤولية الأزمة الاقتصادية في تركيا على «الخارج الشرير» كما تحاول وسائل الإعلام الموالية أن تفعل، بل للقول إن الاقتصاد التركي مفتوح على مخاطر من هذا النوع بسبب السياسة الاقتصادية المتبعة التي تتحمل مسؤوليتها الحكومة. بكلمات أخرى السياسة المتبعة هي التي تجعل من تهديد ترامب المذكور أمراً قابلاً للتحقيق. وليس المقصود أيضاً انتقاد الليبرالية الاقتصادية المنفتحة على العالم، بقدر ما يتعلق الأمر بأن لهذا الخيار مستتبعاته السياسية، فلا يمكن أن تربط اقتصادك بروابط استثمارية وتجارية مفتوحة مع العالم الليبرالي، وتتنكر لقيمه ومعاييره وتحالفاته السياسية، في وقت واحد.
هنا تحضر أزمة صفقة صواريخ أس 400 الروسية التي تعترض عليها واشنطن، وقد أدخلت أنقرة نفسها في ورطة حقيقية بعنادها على إتمام هذه الصفقة. فالأمر، من وجهة نظر واشنطن، لا يتعلق بإحدى نزوات ترامب الخطرة، بل بقانون صادر من الكونغرس الأمريكي يتضمن فرض عقوبات على تركيا في حال اشترت الصواريخ الروسية. ومن المحتمل أن تتضمن حزمة العقوبات هذه فرض حظر على بيع تركيا قطع غيار لطائرات أف 16 الأمريكية المقاتلة، ناهيكم عن إلغاء بيعها طائرات أف 35 المتطورة التي شاركت تركيا في انتاجها، وعقوبات اقتصادية أخرى. كذلك تركيا مهددة بفرض عقوبات اقتصادية عليها إذا خرقت الحصار النفطي التام المفروض مؤخراً على إيران، علماً أن تركيا تتزود بنصف حاجتها من النفط والغاز من إيران.
بوتين مستعجل لإتمام صفقة الصواريخ في أقرب وقت، وقد بدأ تدريب الكوادر العسكرية التركية على استخدامها هذا الأسبوع، ويتردد أن التسليم سيتم في شهر تموز المقبل، بعدما كان مقرراً تسليمها في الخريف. فبوتين يسابق الزمن خشية انهيار صمود أردوغان أمام الضغوط الأمريكية الكبيرة لإلغاء الصفقة، على رغم تصريحاته المتكررة حول عدم التراجع عنها.
وجاء تصعيد الهجوم الروسي ـ الأسدي على منطقة «خفض التصعيد» الرابعة في إدلب وجوارها ليشكل ضغطاً إضافياً على تركيا المنشغلة بخلافها الداخلي حول رئاسة بلدية إسطنبول، وقد حولها أردوغان إلى «أم المعارك» على السلطة السياسية. وثمة خلاف مستجد ومرشح للتصعيد بشأن عمليات التنقيب عن الغاز التي بدأتها تركيا في شرقي المتوسط مؤخراً، واعترضت عليها قبرص، فوجدت تركيا نفسها في مواجهة اليونان والدول الأوروبية والولايات المتحدة معاً. وإذا كانت روسيا صامتة، إلى الآن، حول هذا الخلاف، فمن المحتمل أن تنحاز فيه إلى قبرص ضد تركيا، إذا طرح موضوع الخلاف في الأطر الدولية المعنية. ما علاقة كل ذلك برسالة أوجالان؟
بدت رسالة أوجالان، في المشهد السياسي الداخلي، كحجرة رميت في ماء راكد. قبل كل شيء هي ورقة لعبها أردوغان لتغيير معادلات قائمة تضيّق عليه الخناق، بأبعادها الداخلية والخارجية الموصوفة أعلاه. فقد كان بإمكان السلطة الاستمرار في عزل أوجلان عن العالم الخارجي كما هي الحال منذ 8 سنوات. وكان بإمكانها منع خروج الرسالة التي مرت عبر حواجز إدارة السجن ووزارة العدل والحكومة والقصر جميعاً. بل إن مضمون الرسالة في جانبيها الداخلي والسوري هو مما أراد أردوغان إيصاله إلى الرأي العام للتأثير على وجهة الأحداث بالطريقة المرغوبة.
لقد عملت السلطة، طوال السنوات الماضية، على تأجيل الاستحقاقات الكبيرة وكسب الوقت على أمل تغير الظروف. الآن آن أوان تلك الاستحقاقات، ولم يعد هناك المزيد من الوقت. بكلام أوجالان حول «وجوب أخذ الهواجس الأمنية لتركيا بعين الاعتبار» أراد أردوغان أن يقول لواشنطن إنه مستعد للتفاهم مع «قوات سوريا الديمقراطية» حول إنشاء منطقة آمنة، بشرط اعتبار الهواجس المذكورة. وبإحالة الرسالة إلى «أسس عملية السلام» التي انقطعت في 2015، والدعوة إلى «تعميقها» أراد أردوغان القول إن المشكلة الكردية قابلة للتفاوض حولها، على جانبي الحدود بين تركيا وسوريا. صحيح أن أردوغان نفى، في اليوم التالي على إعلان رسالة أوجالان، أي نية للعودة إلى «عملية السلام» لكن الفكرة تفاعلت في الرأي العام. ومثلها حديثه، قبل أسبوعين، عن وجوب قيام ما أسماه بـ«تحالف تركيا» لخفض التوتر الداخلي الناشئ عن الخلاف على رئاسة بلدية إسطنبول.
هناك «باب خلفي» للدبلوماسية بين واشنطن وأنقرة، فتح منذ فترة قصيرة، بعيداً عن القنوات الرسمية غير النشطة. من المحتمل أن أنقرة تسعى لترميم العلاقات المتوترة مع واشنطن، لتقوية موقفها إزاء موسكو. رسالة أوجالان، من هذا المنظور، هي إشارة لتحولات سياسية كبيرة قد تبدأها أنقرة بعد انتخابات الإعادة في إسطنبول في حزيران/يونيو القادم.
كاتب سوري
القدس العربي
أردوغان وورقة أوجلان في معركة إسطنبول/ خورشيد دلي
قالها الرئيس التركي أردوغان سابقاً، من يفز بإسطنبول يربح تركيا.. ولذلك لم يقبل بخسارتها، وقرّر إعادة الانتخابات البلدية فيها، بعد طعون قدّمها حزب العدالة والتنمية. وأمام إدراكه صعوبة المعركة في ظل تقارب النتائج بين مرشحه بن علي يلدريم ومرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، يبحث أردوغان عن سلاحٍ مضمون للفوز في جولة الإعادة. وبعد تفكير طويل، يبدو أنه أدرك أن الطريق المضمون لتحقيق هذا الفوز يمرّ عبر إيمرالي، حيث زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، المعتقل هناك منذ عقدين، إذ يعتقد أردوغان أن إشارة قوية من معتقل إيمرالي ستكون كفيلة بالحصول على أصوات كرد إسطنبول، التي تقدر بمليون ومئتي ألف صوت انتخابي، ونصفها كفيل بتحقيق أردوغان ما يطمح إليه. ولذلك أعلنت السلطات، قبل أيام، رفع العزلة المفروضة منذ ثماني سنوات عن أوجلان، والسماح لمحاميه باللقاء معه، لتبدأ بعد ذلك وسائل الإعلام التركية، ومعظمها يدور في فلك حكم حزب العدالة والتنمية (الحاكم) بتغيير لغتها تجاه أوجلان، فالرجل الذي كانت تصفه بقاتل الأمهات والأطفال وزعيم الإرهاب باتت تصفه زعيم حزب العمال الكردستاني، وتتحدّث عن أهمية المصالحة الداخلية، مع أن الطائرات التركية لم تتوقف عن قصف مواقع الحزب في جبال قنديل.
قد يدرك أوجلان جيداً نيات أردوغان الانتخابية، ولكنه يدرك في الوقت نفسه أن الطرف الآخر، أي المعارضة التركية، لم تطرح مبادرات لحل القضية الكردية في تركيا، بل وقفت في أحيان كثيرة إلى جانب أردوغان في إجراءاته بخصوص الكرد، كما حصل في قضية رفع الحصانة عن نوابٍ من حزب الشعوب. وعليه، ربما يرى الرجل أن أردوغان وحده القادر على دفع الأمور نحو التهدئة مع حزبه. في المقابل، يدرك أردوغان أهمية إعطاء دور لأوجلان في المعادلة التركية – الكردية الداخلية. ولمثل هذا الأمر أهمية بالغة في معركة إسطنبول المقبلة، بسبب الكتلة الكردية الوازنة في هذه الانتخابات.
أردوغان في أزمة كبيرة، فالأوضاع المعيشية والاقتصادية في البلاد أثّرت على التصويت
لصالح حزبه، والقادة السابقون الكبار في حزبه، مثل أحمد داود أوغلو وعبدالله غل وعلي بابا جان.. وغيرهم، باتوا يرفعون الصوت عالياً في وجهه. وفي الخارج، باتت علاقاته مأزومة مع دول كثيرة، ولا سيما حليفة تركيا التاريخية؛ الولايات المتحدة الأميركية. وعليه، لن يجد أردوغان حرجاً في بدء مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، بغية جذب كرد إسطنبول إلى صفه في الانتخابات. ومع أن هذا الأمر قد يؤثر على تحالفه مع حزب الحركة القومية المتطرّفة، إلا أن جذب الكرد بات هدفاً ذهبياً في معركة إسطنبول.
ويبدو موقف حزب الشعوب الديمقراطية، الذي لم يقدم مرشحين له للمنافسة في هذه الانتخابات، حرجاً في معركة التجاذب بين أردوغان والمعارضة على الكرد، إذ كان وقوفه إلى جانب المعارضة، في انتخابات 31 مارس بهدف إلحاق الهزيمة بأردوغان، في حين يرسل اليوم إشاراتٍ متباينةً بعد رفع العزلة عن أوجلان، ودعوات الأخير التصالحية مع الحكومة التركية. وفي حقيقة الأمر، قد تكون التقاطعات الشخصية بين أردوغان وأوجلان كثيرة، لجهة الزعامة والحسابات، وإن كانت مختلفة، فأوجلان يطمح إلى أن يكون رجلاً للسلام والحل السياسي كما كان مانديلا، فيما أردوغان يطمح إلى الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة من بوابة الفوز في معركة إسطنبول، وقطع الطريق أمام أكرم إمام أوغلو لمنافسته في هذه الانتخابات. وعليه، فإن معركة التحالفات والصراع على الصوت الكردي يسبقان هوية الفائز في انتخابات الإعادة في إسطنبول.
العربي الجديد
إسطنبول وحزب العدالة والتنمية: قاعدة انطلاق، وواجهة، وكهف علي بابا/ جان فرنسوا بيروز
ترجمت المقال من الفرنسية ندى يافي
ولقد جاء الإعلان في السادس من مايو أيار 2019 عن إلغاء انتخابات البلدية التي أجريت مؤخراً في إسطنبول في 31 مارس آذار والتعيين الفوري لمحافظ المنطقة كرئيس بلدية مؤقت، ليضع حداً لأكثر من شهر من الانتظار القلق الذي خالطته آمال جامحة لدى المعارضين لرجب طيب أردوغان بعد انتصار المرشح الشاب المعارض لحزب العدالة والتنمية والذي فاز بفارق عدة آلاف من الأصوات من أصل العشرة ملايين صوتاً في المحافظة.
ولقد اتخذ المجلس الأعلى للانتخابات وهو الهيئة القضائية العليا المختصة القرار بسبعة أصوات فقط مقابل أربعة، وذلك بعد الطعن المقدم من مندوبية حزب العدالة والتنمية في المحافظة، بحجة أن بعض الموكلين بصناديق الاقتراع كان قد تم تسريحهم من الخدمة المدنية بمرسوم خلال فترة حالة الطوارئ التي تلت محاولة لانقلاب الفاشلة في 15 يوليو تموز 2016. ويجوز هنا طرح السؤال : لماذا لم يجر الطعن أيضاً بعمليات الانتخاب الثلاث الأخرى والمتعلقة برؤساء بلديات الأحياء ومجالس البلديات والداوئر في المدينة، في حين أنها جرت في الوقت نفسه وفي نفس الظروف؟
سابقة كردستان
ولقد جاء هذا الحدث المفاجئ الذي أثار الذهول والسخط والإحباط واليأس لدى شريحة من الرأي العام في تركيا وفي الخارج، في سياق تطور سياسي سابق لهذا الحدث، بدأ منذ فترة (وما قبل محاولة الانقلاب) على الأقل منذ مطلع عام 2014، ويهدف الى إلحاق الوهن بمؤسسات الدولة لصالح رئاسة الجمهورية وحدها (ولصالح الشخص الذي يشغل منصب الرئيس منذ أول اقتراع عام مباشر في الانتخابات الرئاسية في آب 2014) وتبعاً لذلك فلقد فقدت العدالة استقلالها وبالطريقة نفسها لم يعد هناك سلطات محلية بكل معنى الكلمة، بقدر ما اتسمت حالات التدخل السافر للسلطة المركزية بالتكرار والعسف غير القابل للرد.
وليس التحرك الماكر الأخير في 6 من مايو أيار 2019 سوى تعميم لنهج الاستهتار بنتائج الاقتراع حين لا تروق للرئيس وأعوانه وهو نهج شاع في شرق البلاد فامتد ليشمل إسطنبول. وكان مرشحو حزب الشعوب الديمقراطي الذين فازوا بالانتخابات في شرق البلاد قد تخلوا عن مقاعدهم لمرشحي الائتلاف الرئاسي. ولقد ذهبت هذه الانقلابات الصغرى، في تجاهلها الأغلبية المطلقة أو النسبية من الأصوات، ما حصل في إسطنبول، حيث لم تكلف السلطة نفسها في منطقة كردستان التركية عناء إلغاء نتائج الانتخابات بل اكتفت بتعطيل فوز مرشحي حزب الشعوب الديمقراطي
1
بحجة استبعادهم من الوظيفة العمومية بمرسوم تشريعي قبل ذلك بسنوات، ووضعت مكانهم مرشحين حصلوا على المرتبة الثانية ولكن بتخلف كبير في الأصوات أحياناً. وقبل تاريخ مارس آذار 2019 بفترة طويلة، كان قد تم تنصيب بعض الدمى مكان رؤساء البلديات الذين فازوا بالانتخابات منذ عام 2014 في بلديات شرق البلاد، كما وحصل ذلك حتى في أنقرة وإسطنبول منذ عام 2017. وبالفعل فلقد أقيل عمدة مدينة إسطنبول الكبرى من منصبه في أيلول 2017. وهو الأمر المعبر عن مدى الاستهتار بالمؤسسات المحلية واستقلاليتها منذ سنوات عدة.
يضاف الى ذلك الميل الى الحد من صلاحيات السلطات المحلية هذه واستقلاليتها بشتى أوجه التدخل المستمر من قبل الرئاسة أو بعض الوزارات التطفلية وذلك عبر سياسات العمران الحضري ( التحديث ) ومشاريع كبرى توليها السلطة أهمية قصوى. وبالفعل فمشاريع المدن الكبرى كمسجد تشامليجا الشاسع والذي تم افتتاحه أخيراً في شهر مايو أيار 2019 أو مشروعات البنى التحتية للمواصلات، كمطار إسطنبول الذي افتتح نهاية أكتوبر تشرين الأول 2018، هي التي توفر التعبير الأوضح عن إرادة حزب العدالة والتنمية في بسط سلطته وفرض وجوده على الصعيد الدولي.
باسم الشعب
وبمعنى آخر، فإن إلغاء انتخابات 31 مارس آذار 2019 ما هي سوى حلقة إضافية قد تكون من بعض نواحيها مثيرة أكثر من غيرها، ولكنها في مسلسل تدهور ديمقراطي طويل بدأ منذ عدة سنوات. وأياً كان التسلسل الزمني والطريقة التي يمكن أن يوصف بها هذا التدهور فهو يتذرع بالظروف الاستثنائية التي تعيشها تركيا لتبرير انتهاكات المبادئ الجوهرية لجمهورية تزعم أنها ديمقراطية.
وتبدو سلطة حزب العدالة والتنمية كما لو أنها مضطرة لمواجهة “أعداء داخليين” يزداد عددهم باستمرار. تجدد هذا الخطاب القديم بزخم ملحوظ بعد محاولة الانقلاب في 2016. واعتبر الأعداء خليطاً يشمل أتباع غولن وأنصار الحركة الكردية، وحزب الشعب الجمهوري وكافة المعارضين من العمال وأنصار المرأة وأنصار البيئة والأقليات (غير السنية) أو أتباع الاشتراكية، فاستفحل لدى السلطة جنون الارتياب والهاجس الأمني والعسكرة.
ويمكن أن تلمس أعراض هذا المرض في الزيادة الكبيرة في النفقات العسكرية (أكثر من 25% عام 2018 مقارنة بعام 2017 حسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام) كما يدل على ذلك التعاظم المذهل للصادرات العسكرية التركية (زيادة 25% في عام 2018 بالنسبة لعام 2017).
وتكمن إحدى المفارقات الواضحة لهذه التطورات الأخيرة في كون هذه التدخلات المتسلطة تتم باسم الشعب وإرادته. كما أن الصحف التابعة للتيار السائد والصادرة بتاريخ 8 مايو /أيار 2019 قد وضعت عناوين رئيسية تتباهى بالفرصة التي يتيحها إلغاء نتائج الانتخابات لإعادة الكلمة للشعب مجدداً. وهي الكلمة التي تعتبر هذه الصحف أنها صودرت أو اختطفت من قبل أعداء ماكرين.
ولقد أضحت الشرعية المكتسبة عبر الانتخابات محصورة أكثر فأكثر ببعض المناسبات فقط كالانتخابات الرئاسية عام 2014 ثم 2018، والاستفتاء العام المباشر للآراء حول الطابع الرئاسي للنظام والانتخابات التشريعية في يونيو /حزيران 2015 ومجدداً في نوفمبر 2015. وقد تحمل على الظن أن العملية الانتخابية ما زالت حيوية ولكن شريطة أن تجري وفقاً لخطط أردوغان . ولهذا السبب عمد هذا الأخير الى النظر الى الانتخابات الأخيرة على الصعيد الوطني نافياً بذلك تماماً طابعها المحلي. فاعتبر أن الائتلاف الرئاسي يظل حاصلاً على الأغلبية بما أنه قد فاز ب52 % من مجموع الأصوات على الصعيد الوطني. ولكن هذه الطريقة الغريبة بالحساب انقلبت رأساً على عقب في حالة إسطنبول التي تضاءل بها الى حد بعيد الرصيد الشعبي لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الوطنية منذ عام 2011. وفي هذه الحال اعتبر حزب العدالة والتنمية أن لديه أكبر عدد من بلديات الدوائر في المدينة (25 من أصل 39) وبالتالي فالأغلبية هي لصالحه. مما يدل على أن مفهوم الأغلبية لدى الحزب الحاكم مطاط للغاية، يستخدمها حسب مصلحته.
مدينة مثقلة بالتاريخ وبالرموز
ولكن ماذا يعني هذا التشبث بمدينة إسطنبول؟ لقد قيل الكثير حول ما تمثله المدينة من رهانات ديمغرافية واقتصادية. فعدد السكان 16 مليون نسمة، وثمة غموض يلف المناقصات العامة وهناك ثلاثين شركة خاصة تعود ملكيتها بنسبة 51% لبلدية إسطنبول وتفوق ميزانيتها مجتمعة ميزانية البلدية نفسها (20 مليار ليرة تركية عام 2018.)
2
. أما التوصيف القانوني لهذه الشركات فمن الصعب للغاية تحديده. فهي شركات خاضعة للقانون الخاص وهي تحت رقابة البلدية و تستأثر بالمرافق العامة في المدينة. ومن المستحيل خصخصة هذه الشركات – ما عدى واحدة تختص بالنقل البحري البلدي (أنشأت عام 1987 ) وتمت خصخصتها في نيسان 2011 – وذلك لأنه يبدو من الصعب على هذه الشركات إبراز حسابات لها مصداقية أمام المشتري المحتمل. ثمة هيئتان للمياه والنقل تابعتان للبلدية ولهما أيضاً حسابات غامضة، كما أن هناك شبكة واسعة لإعادة توزيع الأموال ودورتها تم إحلالها إبتداءً من عام 1994، لمجموعة هلامية من الأطراف يدينون بوجودهم لعلاقاتهم المتميزة مع السلطة السياسية.
وتقوم مجموعة مستقلة تحمل اسم “شبكات نزع الملكية” بعمل استثنائي في هذا المجال منذ عدة سنوات، وذلك بوضع رسوم بيانية توضح الشبكة الكثيفة لعلاقات الأعمال التي تم نسجها منذ عقود والتي تتشارك بها بلدية المدينة الكبرى مع شركاتها الخاصة، وهيئاتها والمجموعات الخاصة العملاقة ولا سيما تلك التي تعمل في مجال البناء والأشغال العامة، وهي المستفيدة الأولى من الطلبيات الحكومية.
ولكن لا بد لنا، كي نستوعب فعلاً الأهمية التي تمثلها مدينة إسطنبول الكبرى، أن نغوص في عمق تاريخ الإسلام السياسي التركي. فلقد كانت إسطنبول هي المحفز على التحرك الإسلاموي مع حزب الرفاه الذي تم تأسيسه غداة انقلاب سبتمبر أيلول 1980 والذي كان فيه أردوغان المسؤول عن المحافظة منذ يونيو حزيران 1985 ومرشح لم يحالفه النصر في الانتخابات التشريعية في سبتمبر أيلول 1986 ثم في انتخابات البلدية في مارس آذار 1989.
انطلاقاً من إسطنبول تمرست هذه الحركة على أسرار لعبة السلطة في تركيا وذاقت طعم ممارستها أولاً على الصعيد المحلي ثم، منذ 1992، في بلديات الدوائر ثم انطلاقاً من مارس 1994 ومع أردوغان نفسه على رأس بلدية إسطنبول الكبرى. ولقد شكلت السيطرة على أكبر قطب حضري في تركيا لحظة تأسيسية في تثبيت أقدام هذه الحركة ومرحلة حاسمة في الحملة الهادفة للوصول الى السلطة على الصعيد الوطني هذه المرة. ولقد مثلت مدينة إسطنبول منطلقاً متميزاً لأردوغان: فلقد ظل عبر كل مراحل مسيرته السياسية ما بعد تاريخ 5 نوفمبر 1998 (وهو تاريخ تنحيته من منصبه بقرار من مجلس الدولة) يذكر ب“السنوات الذهبية” تلك
3،والتي أتاحت له مناسبة تشكيل شبكات متنفذة من العلاقات والظهور بحلة رجل الدولة على الصعيد الوطني. فالمكان الذي تتكثف فيه بشكل مبدئي كل أبعاد الإسلام السياسي التركي هو لا شك إسطنبول.
ما دام في الكون وجود
وفيما عدى ذلك فاسطنبول تعتبر من المكونات الجوهرية للإسلام السياسي بصفتها مدينة طالما قدسها وحلم بها المؤمنون، مدينة وصلها الفتح عام 1453; وعاصمة غابرة للإمبراطورية العثمانية (بين 1454 و 1922) تحولت منارةً للإسلام السني. وبالنسبة للمفكرين الأيديولوجيين والكتاب المحافظين في الحقبة ما بين 1940و1960 والذين مثلوا الغذاء الفكري لأردوغان (وكذلك الأمر بالنسبة للشاعر يحيا كمال (1882-1958) وهو مؤلف “إسطنبول التُرْكِيّة” وهو النص الذي نشر بعد وفاته بسنوات)، فإن فتح بيزنطة في مايو/ أيار 1453، والذي يعتبر لحظة فاصلة، انقلاباً حضارياً حاسماً، هو الذي أتاح للتفوق التركي أن يفرض نفسه كما أتاح التوليف بين الإسلام و“الروح التركية” ((والمؤلف يعتبر من الشخصيات المرجعية الثابتة في الأوساط التركية المحافظة، على الأقل من جيل أردوغان، وهو من وضع القصيدة الشهيرة “اسطنبول المقدسة”، والتي ترمز الى علاقة الشغف بالمدينة في هذه الأوساط]].
ومن المقولات الشهيرة في نص “اسطنبول التُرْكِيّة” الذي كتب في الأربعينات :“من الآن فصاعداً ستظل هذه الأرض (اسطنبول) تركية ما دام في الكون وجود”. ولهذا السبب تم تقديم انتصار حزب رفاه في مارس 1994 على أنه إعادة فتح للمدينة وبالتالي فإن أي احتمال “خسارة” المدينة من قبل حزب العدالة والتنمية يهز الوجدان وكأنه خطر على هوية الأمة نفسها.
ويندرج تماماً في هذا الخيال الفكري الحزب الحكومي الذي تم تأسيسه في أغسطس/آب 2001 من قبل سياسيين متمرسين لهم تجربة سنوات في تسيير شؤون المدينة الى جانب أردوغان. بحيث أضحت المدينة جزءاً لا يتجزأ من هوية الحزب ولقد تجلى هذا التعلق المتأجج بالمدينة بشكل واضح خلال الحملة الانتخابية في مارس 2019، مذكّراً بهذا التاريخ المديد، على نحو يتجاوز المصالح المتعلقة بالسيطرة على المداخيل وحدها. فلئن كانت المدينة تثير شهية المسؤولين في الحزب بما لها من بريق ساطع وما تمثله من فرص الإثراء التي تبدو لا متناهية، فالمدينة ما زالت تثير المخيلة وتسحر الأتباع بصفتها ترمز الى انضمام الأتراك الى التاريخ العالمي للبشرية. وكما أشار مؤخراً أردوغان، فإن اسطنبول ملازمة بشكل عضوي ل“ديمومة الدولة التركية”، وهو المفهوم الذي استولى على خطابه في الفترة الأخيرة كالهاجس، ليجعل من الرهان الذي يمثله الاقتراع المحلي رهاناً خطيرا وشاملاً، ويجعل من شخصه هو بالذات الضامن الوحيد الممكن لهذه الديمومة.
وكما قال دولت بهجلي، زعيم حزب العمل القومي والحليف الرئيسي لأردوغان خلال التجمع السياسي الكبير للائتلاف الرئاسي الذي احتشد مؤخراً في اسطنبول قبل انتخابات 31 مارس/آذار “إن سقطت اسطنبول، فتركيا بأسرها ستسقط”. يشاركه في هذه النظرة الى الأمور الرئيس أردوغان، فالتنازل عن اسطنبول هو اعتراف بإمكانية التنازل عن تركيا. وهو الاحتمال الذي مل زال في الوقت الراهن احتمال لا طاقة له عليه. وبالتالي فكل الضربات جائزة في عملية استبعاد شبح الاحتمال الذي لا يطاق.
جان فرنسوا بيروز
محاضر وباحث في جامعة تولوز جان جوريس