جنود وسجناء وعشاق… كتبوا على الثياب والقصاصات ليقاوموا اليأس/ كاتيا الطويل
“مخطوطات الحالات القصوى” معرض في المكتبة الوطنية الفرنسية
في معرض مميّز وفريد من نوعه يستمرّ حتّى السابع من يويليو (تمّوز) 2019، تقدّم مكتبة فرنسا الوطنيّة لزوّارها مجموعة من المخطوطات المصنّفة بعنوان “مخطوطات الحالات القصوى” (Manuscrits de l’extreme) وهي مخطوطات مكتوبة بأيدي رجال مجهولين وآخرين مشهورين بين القرنين السابع عشر والعشرين كانوا في مواقف خطرة عرّضتهم للوجع والوحدة والموت.
مئة وخمسون مخطوطة موزّعة على أربع مجموعات ترتبط كلّ منها بحالة خطر مختلفة. رجال من مختلف المجالات: كتّاب، مؤلّفون، جنود مجهولون، سجناء حرب، مقاتلون، رجال سياسة، رجال علم، منفيّون، معذّبون، جمعهم هذا المعرض وقدّم كلماتهم الأخيرة التي كتبوها على ملابسهم، على أحذيتهم، على الكراسي التي كانت أمامهم أو حتّى على قصاصات صغيرة من الورق خبّأوها ثمّ هرّبوها بوسائل لا يتصوّرها عقل. منهم حتّى من كتب بدمه على قميصه لغياب الورقة والقلم. كتبوا عندما لم يملكوا حلاًّ آخر، عندما لم يجدوا ملاذًا في هذا العالم القاسي والمجحف. كتبوا في حالات أربع: السجن، والوله، والخطر، والإدمان. مخطوطات تعود لأربع حالات قصوى من الخطر والألم والبرد والعزلة نزلت بأصحاب المخطوطات جمعها منظّمو هذا المعرض ضمن أربع مجموعات من المخطوطات مرتّبة بحسب الظرف الذي يتحكّم بصاحبها وتبدأ كلّها بحرف واحد: Prison, Passion, Péril, Possession.
إزاء الخطر المحدق وحالات الوجع المبرّح لا يستطيع الإنسان كبير شيء. إزاء السجن والبرد والوحدة، إزاء تهديدات الموت والحرب وقسوة جبهات القتال، إزاء ظروف العيش القاسية والمرض الفتّاك، لا يستطيع المرء ان يقوم بأمر كبير. أمر وحيد يمكن أن يداوي ويريح ويبلسم. عمل واحد يمكن أن يحطّم سلاسل هذا الألم أو على الأقلّ أن يجعلها أكثر إلفة: الكتابة. جميعهم يكتبون. جميعهم يلوذون بالكتابة ليهربوا، ليخفّفوا شيئًا من وجعهم، فيكتب أرثور أداموف الكاتب المسرحيّ الروسيّ بخطّ بالكاد يُقرأ: “العمل والكتابة. الكتابة فالكتابة. النور الوحيد في هذه العتمة.”
سجناء وأدباء عرب كثر كتبوا مذكّراتهم في السجون العربيّة ونشروها ضمن سير ذاتيّة أو روايات، كمثل الطاهر بن جلّون وصنع الله إبراهيم ومصطفى خليفة. تتجلّى الكتابة بطبيعة الحال المنفذ الوحيد أمام الإنسان المسجون. يتحوّل القلم إلى رفيق الدرب، إلى المؤنس، إلى بئر الأسرار والآلام والمآسي. يتحوّل القلم إلى حافظ وسند. وهذا ما يظهر جليًّا في القسم الأوّل من هذا المعرض، قسم المخطوطات العائدة لسجناء. وتعود المخطوطات تارةً إلى سجناء سياسيّين منعوا من الكتابة واضطرّوا إلى تهريب قلم ليتمكّنوا من النجاة، وطورًا إلى سجناء في معتقلات أوروبّيّة اعتقلوا لدينهم أو عرقهم أو انتمائهم. رسائل أخفوها في الجدران، حفروا لها مخابئ في الأرض، هرّبوها في ملابس متّسخة، كلمات أناس أثّروا في تاريخ الأدب والإنسانيّة كمثل: ألفريد دريفوس، والماركي دو ساد، وأندري شنييه، وغيرهم. فترد هذه الجملة في إحدى المخطوطات التي لم يُعرف صاحبها، لتُظهر تمامًا قيمة القلم وأهمّيّته وضرورته في حياة لم تعد تشبه الحياة في شيء: “سأحافظ على قلمي ودفتري الصغير وسأفديهما بحياتي. فهذا الدفتر الصغير هو الشاهد الوحيد على حياتي البائسة.” (كاتب مجهول.)
مخطوطات الشغف
يتعلّق القسم الثاني من مخطوطات حالات الخطر بالحبّ. فيتحوّل عمل الكتابة إلى اعتراف بالحبّ الحارق. نعم. فالحبّ أيضًا مصدر ألم ووجع واضطراب للروح. لتصبح الكتابة مرّة أخرى سبيلاً للتخفيف من آلام الفراق والحدّ من الوحدة القاتلة التي يعيشها الكتّاب. والحبّ في المخطوطات المعروضة على أنواع. هو إمّا الحبّ المعذّب الذي يعجز عن تحمّل غياب الحبيب، وإمّا الحبّ المحرّم والمجبر على التخفّي لرفض المجتمع له، وإمّا الحبّ المتألّم الحزين لفقد الحبيب على حين غرّة.
رسائل متعدّدة، منها ما هو مزيّن برسوم حوله، ومنها ما هو مجبول بدموع، تُظهر باختلافها الحالة النفسيّة المتدهورة لكتّاب يرزحون تحت أثقال الحبّ كمثل ماري كوري التي تكتب رسالة حبّ وألم لزوجها بيار بعيد وفاته، وجورج باتاي الذي يكتب لديان كوتشوباي، وناتالي سارّوت، وهنري ميشو وغيرهم. يتحوّل الحبّ إلى حالة قسوى من الحزن والوحدة والاختناق، حالة لا يهدهدها سوى القلم وعمل الكتابة.
يظهر هذا المعرض بمخطوطاته أهمّيّة الكتابة تحت الخطر. يُظهر أهمّيّة القلم الذي يتحوّل إلى حاجة حياتيّة تساعد على الخلاص في ظروف يكون التنفّس فيها بحدّ ذاته عمل بطولة. فيتعلّق الإنسان المعرّض للخطر بالقلم، ليصبح هذا الأخير أمله الوحيد، الحرّيّة الوحيدة المتاحة له، مساحة الراحة الوحيدة المتبقّية بين أربعة جدران. حالات خطر يكتب فيها كثر. منهم مَن هو مقدم على موته، منهم مَن هو على الجبهة، منهم من هو سجين حرب، منهم من هو محكوم بالإعدام. جميعهم يكتبون كلماتهم الأخيرة، يلفظون أنفاسهم الأخيرة فوق الورق. فتظهر أسماء بارزة في هذا القسم، لها مخطوطات تعبّر عن أفكارها في لحظاتها الأخيرة فتكتب مثلاً ماري أنطوانيت في كلمات مخطوطة بيدها قبل لحظات قليلة من إعدامها: “إلهي! أشفق عليّ! لم تعد هناك في عينيّ دموع لأذرفها على أولادي المساكين، وداعًا! وداعًا!” (ماري أنطوانيت، كلماتها الأخيرة.) وتتحوّل الكتابة إلى وسيلة للتحرّر من الخطر وسبيلاً لتحمّل أوجاعه. يتحوّل القلم إلى وسيلة للهرب من الواقع المرير نحو الأنا الدفينة لتهدئتها ومعانقتها. فتنبعث من الكلمات رائحة دافئة غير متوقّعة، رائحة الراحة، رائحة الملاذ.
كلمات مكتوبة على عجل، بخوف في معظم الأحيان، هي كلمات صادقة متألّمة تعكس حالة ذهنيّة ونفسيّة وجسديّة رديئة. تعكس حالة الوحدة والعذاب والعجز. كلمات كلّ من الجنرال روميل (1942، ليبيا)، نابوليون الأوّل (1814)، بول فاليري (الأسطر الأخيرة المكتوبة بيده قبل وفاته، 1945)، وغيرهم كثر. وفي هذا القسم من المعرض، يجد الزائر نفسه أمام مخطوطة رسالة تهديد مُرسلة إلى جان بول سارتر الفيلسوف والمفكّر والكاتب الفرنسيّ، رسالة مكتوبة ومحاطة برسوم ورموز من شأنها أن تثير الرعب في نفس سارتر. وكأنّ الرعب لا يكفي أن يأتي جرّاء حرب أو قتال أو موت وشيك، بل يأتي أيضًا بكلمات من شأنها زعزعة الروح وهدأتها.
الرفيق الوحيد
ليس اعتباطيًّا أن يختار الموجوعون والضعفاء أن يكتبوا. ليس اعتباطيًّا أن يكتب أنطونان أرتو أو باسكال أو جورج فوكوس أو جان كوكتو أو هنري ميشو أوجاعهم ووحدتهم ومعاناتهم الجسديّة. فالجسد نفسه يخون. الخطر يأتي من الداخل أيضًا. من الآلام المبرّحة، من المخدّرات، من الجهاز العصبيّ الذي يرفض أن ينصاع لرغبة صاحبه. كلمات مرتبكة متوتّرة مكتوبة بخطّ ضعيف ورقيق وملتوٍ. مخطوطات تشهد على الوجع الفتّاك الذي نزل بأصحاب المخطوطات لتتحوّل الكلمة إلى محاولة لكسر الصمت، لكسر دائرة الجنون التي تصيب المرء عندما يعجز عن النوم أو عن الأكل أو حتّى عن الشعور بجسده.
معرض المخطوطات المكتوبة في الحالات القصوى هو معرض رائع ينقل الألم والوحدة والوجع والحاجة الملحّة إلى القلم: الرفيق الوحيد. هو معرض محاولة محاربة الصمت القاتل. محاولة لمنازلة الخوف والوحدة والعذاب. محاولة تحدّي الامّحاء الذي يفرضه الزمن والظروف. كتب هؤلاء ليقاوموا، ليتمكّنوا من العيش والاستمرار في الظروف القاسية التي مرّوا بها. كتبوا لأنّ الكتابة تحوّلت إلى العمل الوحيد المتبقّي لهم ليشعروا بإنسانيّتهم، بوجودهم، بأهمّيّتهم. قد لا يتحرّر السجين عندما يكتب، وقد لا يتوقّف ألم الموجوع عندما يكتب، قد لا يزول الخطر على الجنديّ عندما يكتب، وقد لا يلقى الحبيب محبوبه عندما يكتب، إنّما الثقة بالكلمة نور. الثقة بالقلم أمان وأمل ومقاومة وحياة لمن لا حياة له. محاولة للنهوض وعدم الإنكفاء تحت عباءة الفناء والاضمحلال.