مآزق المتحاربين في ربوعنا/ عمر قدور
أحداث عديدة وقعت في الأيام أو الأسابيع الأخيرة قد لا يحمل كل منها دلالة قوية بمفرده، إلا أن جمعها أو اجتماعها معاً في حيز جيوسياسي ضيق أمر ينبغي أن يلفت الانتباه، إذا لم نقل يجب أخذه في الحسبان لقراءة المشهد السياسي الحالي، وما قد يتمخض عنه لاحقاً.
آخر الأحداث كان يوم الأحد، عندما خسر مرشح حزب العدالة معركة بلدية استنبول بفارق مريح، بعد إعادة الانتخابات التي أعطت الفوز لمرشح المعارضة نفسه بفارق أقل. مهما كانت رسالة الناخب التركي فهي تضع حكم أردوغان في موقع صعب وضعيف، في وقت كان يحتاج فيه بشدة نصراً داخلياً يقوّي موقعه الخارجي. لا يخفى أن أردوغان واقع في ورطة حسابات استراتيجية معقدة، فهو لا يستطيع الانعطاف كلياً شرقاً نحو روسيا، ومشاكله مع الحلفاء الغربيين تهدد بتقويض موقع تركيا التقليدي ضمن حلف الناتو. الخيار الأوروبي لتركيا أصبح من الماضي، كذلك ما بُني عليه داخلياً من قبل حزب العدالة لجهة الإصلاحات الديموقراطية والقانونية، ولجهة العمل على حل ديموقراطي سلمي للقضية الكردية في تركيا.
الانخراط التركي في سوريا يزيد من تعقيدات حكم أردوغان، فهو لا يستطيع التسليم لروسيا بكافة مطامعها التي تعني شيئاً وحداً هو إخراجه صفر اليدين. أيضاً لا يستطيع أردوغان الدخول في مواجهة مباشرة أو واضحة مع المطامع الروسية، فهذا خيار غير مدعوم غربياً، بل لا يمكن استبعاد التفاهم الأمريكي-الروسي في أية لحظة على إنهاء الوجود التركي في سوريا. التركيز على “الخطر الكردي” القادم من سوريا لا يفيد أردوغان داخلياً سوى في التحالف مع اليمين القومي المتطرف، ويجعله عرضة للخسارة المعنوية مع عدم تغيير واشنطن سياستها إزاء التحالف مع الميليشيات الكردية في سوريا، وعدم التعاطي جدياً مع المحاولات التركية لإقامة ما تسميه أنقرة “منطقة آمنة” تحت نفوذها.
بدوره التعاطي مع اللاجئين السوريين بأعدادهم الضخمة صار مصدر تجاذب في السياسة الداخلية التركية، وقد ساهم حكم أردوغان في تصوير استقبالهم على أسس عاطفية وحزبية أكثر مما تخص الدولة التركية وقوانينها. وقد رأينا انقلاباً متهافتاً على ذلك الخطاب من مرشح حزب العدالة في انتخابات استنبول عندما وصف اللاجئين السوريين بنعوت عنصرية في انعكاس لضعف وتخبط حزبه، وافتقاره إلى خطاب يلاقي تخوفات الناخبين على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
الحدث الآخر الذي ينضح بمأزق أطرافه هو إسقاط إيران طائرة استطلاع أمريكية، الإخراج الأمريكي لعدم الرد على طهران عسكرياً يعكس تخبط الإدارة الأمريكية، وعلى نحو خاص مأزق ترامب المصرّ على أنه لا يريد حرباً، والأكثر إصراراً على استقدام الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات. بعد نجاته من آثار تحقيق مولر لم يتأخر ترامب في طرح نفسه مرشحاً لانتخابات الرئاسة المقبلة، وهو يسعى من أجل أي إنجاز يُسجّل لرئاسته ليستغله في الحملة الانتخابية المقبلة. لا ننسى هنا أن مغازلة ترامب ديكتاتور كوريا الشمالية لم تأتِ بالنتيجة المرجوة، والمفاوضات حول الملف النووي الكوري كأنما طويت بصمت. صفقة القرن التي يلوّح بها ترامب وصهره من المرجح أن تلقى الفشل الذريع، فالقيادة الفلسطينية تعلن رفضها الصريح، وحتى إسرائيل قد لا تتوقع من الصفقة سوى المزيد من التنازلات الأمريكية لصالحها كي تبقى هذه التنازلات في رصيدها أمام أية إدارة مقبلة.
كل المؤشرات تدل على مراهنة ترامب على حرب اقتصادية تأتي بنتائج سياسية، هذا ما يدركه حكم الملالي جيداً، وإسقاط الطائرة الأمريكية كأنما كرس قواعد اشتباك مرضية لطهران. الحوثيون بإمداد من طهران كرروا قصفهم الأراضي السعودية كي يثبت الملالي أن إسقاط الطائرة هو في سياق من التصعيد، مع الالتزام بأن يمسّ التصعيد منطقة الخليج وحلفاء أمريكا فيها، بما أن واشنطن لن تتدخل عسكرياً للدفاع عنهم. هذا أيضاً يعدّل الكفة أمام الرأي العام الإيراني الذي يشاهد صمت حكامه على القصف الإسرائيلي المتكرر للمواقع الإيرانية في سوريا.
التصعيد العسكري الإيراني، بخلاف تصريحات المسؤولين، لا ينطلق من مركز قوة. الاقتصاد الإيراني تضرر على نحو حاد من العقوبات الأمريكية المتصاعدة، وحكام طهران يدركون جيداً أن ما يسمونه سياسة “الصبر الاستراتيجي” مثمرة فقط لناحية قدرتهم على البقاء في السلطة، ويدركون أيضاً أن رحيل إدارة ترامب لن يحيي الاتفاق الذي أبرمه معهم أوباما لأن مزاج الجمهوريين والديموقراطيين في أمريكا يميل إلى تحجيم قدرات طهران ونفوذها المتضخم إقليمياً. لن يكون ممكناً لإيران، المتورطة في اليمن وسوريا، حصد ثمار تدخلها أو تسجيل انتصارات جديدة وهي تحت العقوبات، وليس في وسع حكامها الإقرار بالخسارة في أي من الملفين بعد كلفتهما الاقتصادية والبشرية الباهظة. بعيداً عن استعراضات القوة الموجهة للاستهلاك المحلي أو الإقليمي، إيران غير جاهزة لمواجهة شاملة، مثلما هي غير جاهزة لتسوية شاملة، وبقاؤها هكذا وصفة مثالية لاستنزافها.
رغم أن كل الظروف تجري بما يوافق إسرائيل إلا أن نتنياهو أيضاً ليس في حال جيدة، فهو ينتظر انتخابات جديدة مبكرة، وهذه المرة سيدخلها بعد إدانة قضائية بالفساد وجهت لزوجته لتضاف إلى سجله المماثل. المجتمع الإسرائيلي، كما المجتمع الأمريكي، لا يبدو راغباً في خوض حرب، بخاصة إذا أتت هروباً من استحقاقات داخلية وبدون تهديد واضح للأمن القومي. نتنياهو بحاجة إلى إنجاز خارجي ينقذه إنما من دون حرب يخوضها، وحرية طيرانه في قصف المواقع الإيرانية غير كافية وليست بالإنجاز الذي يُحسب لشخصه. الهدف الذي وضعه، وهو إبعاد الإيرانيين في سوريا عن الحدود الإسرائيلية، لا يتحقق بدلالة المواقع القريبة التي يقصفها الطيران الإسرائيلي، ولن يتحقق من دون معونة روسية تتطلب من موسكو حزماً لا تريده أو لا تقدر عليه، فضلاً عن ارتباط تحقيق هذا المطلب بالعديد من الملفات الأخرى المتعلقة بطهران وموسكو.
العلاقة بين موسكو وطهران ليست معروضة في المزاد على النحو الذي يتمناه كثر، وهي مصدر قوة لبوتين من بعض الجوانب، لكن ثقلها في سوريا يزداد وطأة عليه. بوتين أيضاً يبدو كأنه وصل إلى آخر ما تتيحه له مغامراته العسكرية، وهي مغامرات ذات ثمن لا يُستهان به حتى الآن، ومؤشرات الاقتصاد الروسي تتردى من دون وجود أفق لإنهاء العقوبات الغربية المتجددة دورياً. سعى بوتين من خلال التدخل العسكري في سوريا إلى تحسين موقعه وعقد صفقة متكاملة مع الغرب، في حين لا يظهر الأخير اكتراثاً بتلك الصفقة إلا ضمن شروطه، وفي مقدمها الاشتراطات الأمريكية المتعلقة بتحجيم النفوذ الإيراني. لقد حقق بوتين أقصى ما تتيحه له الظروف في سوريا، ومن دون مساعدة أمريكية لن يكون ما حققه مستداماً، أو مدخلاً للتطبيع من جديد مع الغرب.
عندما تكون القوى المنخرطة في الصراع في مأزق فالحرب هي الوصفة النموذجية للهروب إلى الأمام، القوى المتحاربة في منطقتنا إما غير قادرة أو لا تريد حرباً كبرى، وهي غير قادرة أو لا تريد صنع السلام. ربما يعني ذلك الانتظار حتى تستنزف تلك القوى سبل تصريف مآزقها بالحروب الصغيرة وحروب الوكالة المستمرة منذ سنوات.
المدن