أن تعرف المنفى… على الخريطة أولا/ حسن داوود
أحسب أن ليس من بلد واحد من بلدان العالم لم يؤتَ على ذكره في الشهادات التي يضمها هذا الكتاب. كنت قد بدأت بتسجيل ما يمرّ اسمه منها على ورقة بيضاء: كوبنهاغن، جورجيا، أدنبره، باريس، اليونان، أمريكا، عمان، القدس… خالطا العواصم بالدول تبعا لما وردت به في النصوص التي أقرأها. لم أستمر في ذلك على أي حال، إذ رأيت أن الذهاب في التعداد إلى آخره صار أقرب إلى تسلية رياضية منه إلى غاية تفيد في رسم خريطة منافي السوريين. لقد حلّوا في كل مكان، حتى في تلك البلدان التي قلما كان ذكرها يتردّد بينهم، نشأ لهم فيها ما يشبه الجاليات. هذا مخالف لما عرفه أحدنا من هجرات، حيث يكون المقصد واحدا في العادة: الهجرة إلى العالم الجديد مثلا بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أو ما سمّي، في فترة مقاربة لتلك، «هجرة الشوام إلى مصر»، إلخ.
ولنضف إلى ذلك أن المهاجرين هذه المرة هم قليلو المعرفة بالبلدان التي توجهوا إليها. ذاك أن أسبابا كثيرة أبقتهم حيث هم، في بلدهم، غير معتادين، أو غير قادرين، لأسباب كثيرة، على مغادرته. وأحد من هذه الأسباب هو هجس من يؤذنون بالسفر أن معرفة الخارج مدمّرة للداخل. هي هجرة مفاجئة إذن، اضطرارية وشاقة إلى حدّ أننا قد نقع في لعبة التعداد نفسها إن بدأنا بذكر طرق المغادرة والهروب. في أحيان، كما نعلم، كان الأمل ببلوغ شاطئ الأمان ضئيلا؛ في أحيان كانت الطرق البرية، طرق التهريب قاتلة . أما الوصول فلم يكن أرحم، إذ هنا، في لبنان وهو الملجأ الأقرب، ما زال الذين وصلوا من خمس سنوات، أو ست كأنهم حطّوا رحالهم الآن. الخيم التي نصبت على عجل لم تزل كما هي، وحيث هي. ورغم ذلك هناك من يحذّر الملتجئين من أنهم ينبغي ألا يكونوا هنا.
وفي كل مكان كان الوصول يجابَه بالمنع، فإن تحقّق رغم ذلك، ستكون الشبهة والمطاردة بين شروط البقاء. بين الصور التي تنقل لنا مشاهد من تلك الإقامة ذاك الفيلم اليوناني الذي عرض على إحدى الشاشات العربية أكثر من مرّة. إنها صورة جديدة للاجئ السوري، الذي ينبغي له أن يغادر على الفور، طوعا أو كرها، لأن البلد الذي نزل فيه، أو ظنّ أنه أقام فيه، ليس إلا منفى مؤقتا. ثم هناك الباسبورت، الأكثر حضورا والأكثر ذكرا بين باسبورات العالم كلها. سواء كان في يد حامله، أو لم يكن. في فيلم آخر، لبناني هذه المرّة، يُعترض الشبان السائرون في الليل وهم يتداولون بشأن هجرتهم التالية، على غرار الهجرة التالية من اليونان، ليُسألوا عن جوازات سفرهم، التي ستؤكّد لمعترضيهم أنهم سوريون. وأنهم، تاليا، لا يحقّ لهم التجوّل في الليل، بعد الساعة الثامنة. هذا لا يقوله المُعترض المتعقّب في خفاء ذلك الزقاق البيروتي الضيق فقط، بل هو مخطوط على يافطات رفعتها قرى كثيرة، علنا وجهارا.
الباسبورت الذي يضعه رجل الأمن فوق الباسبورات، هناك في أعلى الكومة. هي كومة الجوازات السورية، جوازات المكسورين والمذلولين، والحاقدين أيضا، كما في واحد من النصوص المنشورة هنا في الكتاب. وهم الخائفون كذلك من حكومات البلدان ومن أهلها أيضا، وكذلك «من شركات الطيران ومن السوريين الآخرين»، وإذ يبدو لهم أن بلدهم هو الرقعة الرخوة من الأرض، وأنهم، وهم من دونها، فاقدون لأي شعور بالاحتماء، سيكون عليهم أن يخافوا أيّ شيء ينذر بخطر قد يجري في أي مكان، بل من أيّ شيء قد يحمله حدث عادي، حيث يضاف إلى خوفهم مما جرى تعداده أعلاه «الخوف من الانتخابات التركية والأمريكية والفرنسية والنمساوية».
«تركتَ زرّ الجرس فارغا من اسمك، محترسا كي لا يتعرّف إليك أحد من الجيران». بصيغة الأنتَ يكتب الكاتب واصفا أناه. وهو يستمر في وصفه لعيشه، باقيا على إصراره بجعل نفسه في مكان شخص آخر، أو رائيا نفسه من مسافة، أو إنه شخصان، فردان اثنان، واحد كان يعرف نفسه، وآخر يديم النظر إلى ما دُفع إليه ذاك الذي بات قرينه.
«ينقبض قلبك مرتقبا السؤال عن المكان الذي أتيت منه في سوريا». كأن هذه «التهمة» قد صارت معمّمة، هوية لوافدين ينبغي ردّهم إلى المكان الذي قدموا منه، أو احتجازهم حتى يتطوّع آخرون ويقرّوا بالحاجة إلى استقبالهم. النصوص التي يضمها هذا الكتاب هي محن وتجارب عيش شخصية في المنافي، أو ربما في البحث عن المنافي، أو في الهروب من المنفى الأول إلى المنفى الثاني، أو الثالث أيضا. تجارب شخصية عن زمن هجرة لم تستقر بعد. أيام أولى للهجرة، أو سنوات أولى لا فرق، طالما أن ما تقوله النصوص مليء بالضياع والغضب، وبالاحتجاج القويّ على ما يرتفع في وجوه المتخبّطين على حدود البلدان، منذهلين مما يلقونه وما لم يسبق لهم أن اختبروه من قبل. هي المحنة التي ما زالت تحفل بالغضب الذي يسم البداية، رغم انقضاء سنوات ستّ على هجرة أوائل الفارين من الحرب. كأنها بداية متصّلة، حيث لم يتوقّف قدوم القادمين ولم ينقطع أبداً. لا أعرف مدى شوط التكيّف الذي بلغه الصديق الذي هاجر من ثلاث سنوات أو أربع سنوات، وفي أي نقطة هو الآن من المسافة بين سوريا وفرنسا. هل بات أقرب إلى هناك وأبعد عن هنا. هل قطع شوطا في دراسة اللغة؟ زوجته، هل تكيّفت هي أيضا وهل صار لها صديقات من تلك المدينة الفرنسية؟ أم أنها تنتظر مجيء عائلات سورية لتكون لها حياة اجتماعية كما يقال؟
بل ماذا يفعل هذا الصديق، وهو هناك، بما سبق أن تحصّل له من عمره؟ مع مَن سيشترك في تذكّر ذلك؟ الماضي الشخصي الذي سيظل هناك في الذكريات «تلك التي لا تفيد هنا، ولا تستعمل» كما في أحد النصوص.
وهل تخلّص أولئك الأوّلون من غضب البداية ولعناتها؟ هل بات المهم، أولا، «أن ننجح في الامتحان الثاني للغة الدنماركية» كما في إحدى الشهادات؟ أم سيظل جاثما ذلك الشعور بأن ما نكتسبه هنا نخسر ما يماثله، هناك في سوريا. ثم هذا التوازن المقلق بين ما ينبغي التمسك به من الحياة السابقة وما يجب اكتسابه من الحياة الجديدة، أو أن ما سيقيم ذلك التوازن هو الخسران في الحالين حيث، كما يقول المتكلم عن نفسه بصيغة الأنت: «خسرتَ كل شيء من دون أن تكون قد ملكت شيئا في ما مضى»، أو كما يقول نصّ آخر لمنفيّ أو منفيّة أخرى: «جميع الأمكنة استعارة عن المدينة التي ولدت فيها، والتي لم تكن يوما ملكك أصلا».
*كتاب «البحث عن مدننا في مدن ومناف أخرى» يضم شهادات أدبية، عن المدن وأحوالها، لكتاب سوريين هم جمال شحيّد وجمانة الياسري وجولان حاجي ورشا عمران وعدي زعبي وعروة مقداد أصدرته «اتجاهات- ثقافة مستقلة». السطور أعلاه تعليق على نصوص المشاركين.
٭ روائي لبناني
القدس العربي