سوريا الدولة والهوية
تقدم خلود الزغير في كتابها “سوريا الدولة والهوية” ـ الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2020 ـ قراءة لمفاهيم الأمة والقومية والدولة الوطنية داخل خطاب الأحزاب والحركات السياسية التي تصدرت المشهد السياسي بعد الاستقلال.
اعتمدت الكاتبة المنهج التحليلي المقارن، بتقاطع مع منهج تحليل الخطاب، وتحليل المضمون، بهدف تحليل النصوص داخل أدبيات التيارات السياسية وخطاباتها وفقا للسياقات التاريخية والاجتماعية التي ظهرت ضمنها، ثم مقارنة بعضها ببعض.
اختارت الزغير الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة في الحياة السياسية، أي تلك التي تمارس السلطة والسياسة اعتمادا على مفهوم ت. بوتومور للنخبة السياسية، أي تلك المجموعة التي تضم أفرادا يمارسون السلطة داخلاً، تمييزا عن الطبقة السياسية الأدنى التي تضم الفئات ذات الوظائف المتميزة، والأقلية المنبثقة من القاعدة أو النخبة الاجتماعية التي تشترك بالحياة السياسية دون أن تحوز على السلطة.
الهوية السياسية والإشكالية الجغرافية والاجتماعية
في هذا الفصل، تخترق الكاتبة جوهر الإشكالية السياسية المتمثلة في مسألة التناقض بين جغرافية الكيان السوري الناشئ والانتماء السياسي إليه، والإشكالية الاجتماعية المتعلقة ببنية المجتمع السوري من حيث طبقاته ونخبه السياسية، ودور المسألة الاجتماعية في تشكيل التوجهات السياسية لكل حزب.
كان الكيان السوري الجديد مرفوضا من الأغلبية، وهذا ما جعل الإشكالية الجغرافية حاضرة في معظم التعاريف السياسية التي قدمت حول الأمة.
وبعد تقسيم الدول الأوروبية للمشرق العربي، طرأ على خطاب النخبة نوع من الاستخدام الملتبس بين مصطلح الوطنية الذي يحيل إلى سوريا بحدودها الحالية، ومصطلح القومية بمعناه العروبي، ولذلك، حين وضعت الكتلة الوطنية مبادئها التأسيسية أول مرة عام 1932، دعت إلى الوحدة الكاملة لسوريا.
أدركت الكتلة الوطنية خلال عهد الانتداب الفرنسي أن ثمن الحصول على الاستقلال هو القبول بسوريا الحالية، لكن هذا الموقف لاقى رفضا من التيارات القومية التي بدأت التنظير للقومية العربية.
وهكذا، تحولت سوريا بعد الاستقلال إلى ساحة صراع بين تيارات متعددة، منها من تمسك بوحدة سوريا الحالية وتبنى الليبرالية السياسية والاقتصادية، ومنها من تبنى الأيديولوجيات القومية والشيوعية والإسلامية، فظهر البعث المنادي بوحدة الأمة العربية، وظهر القومي الاجتماعي المنادي بوحدة سوريا الكبرى.
هذا التباين بين التصورات الإقليمية للوطن ـ الأمة بين التيارات السياسية الناشطة، ساهم في التأسيس لوضع هش على مستوى الهوية، وذلك بسبب عدم التطابق بين الجغرافية التي يفرضها الواقع وبين الولاء السياسي لأمة مأمولة.
مع ضعف النخبة الحاكمة والأزمات الاقتصادية، لا سيما المشكلة الزراعية، والمسألة الوطنية، نشأت تيارات سياسية متعددة، كانت البداية بنشوء قوى معارضة من الخلفية ذاتها للنخبة الحاكمة، مثل تيار ناظم القدسي ورشدي الكيخيا، وتيار أكرم الحوراني.
وازداد الاستقطاب السياسي حدة مع نشوء أحزاب صاعدة (الشيوعي، البعث، القومي الاجتماعي، الإخوان المسلمين) الذين طرحوا مسألة هوية الدولة كل وفق أيديولوجيته.
المؤسسات السياسية والمؤسسات التقليدية
تحاول الزغير في هذا الفصل تسليط الضوء على دور العائلة والعشيرة والمنطقة في تحديد وتوجيه سلوك النخب السياسية.
عكس “الحزب الوطني” الذي قام على أنقاض “الكتلة الوطنية”، السياسة والثقافة والبيئة المحلية الدمشقية بأضيق صورها، فلم يمتلك أي منهاج أو قيادة ذات بنية تنظيمية واضحة، حيث كان المعيار الذي اعتمده في قوته الانتخابية قدرات أفراده وقادته وعلاقاتهم.
والأمر كذلك فيما يتعلق بـ “حزب الشعب” الذي كان رصيده الانتخابي ليس العقيدة أو جهاز الحزب، وإنما مواقف زعمائه الفردية ونفوذهم الاجتماعي والسياسي والثقافي.
ارتبطت الأحزاب المدينية الحاكمة بالإقطاع، ونتاجاً للمجتمع الزراعي وللعصبيات الشخصية والعائلية، وكان من نتاج ذلك، حلول السياسات الشخصية محل البرامج التي افتقرت للأهداف المحددة.
إن وجود نخبة مدينية حاكمة لم يؤسس لنمط علاقات مدينية، حيث ستحمل الأحزاب ـ التي تبنت رسميا الديمقراطية والحريات ـ معها إلى البرلمان عصبياتها العائلية ولكن بغطاء سياسي.
وفيما هيمن أبناء العوائل السنة على الأحزاب التقليدية، كان أغلب أبناء عوائل الأقليات، مندفعين للانتساب إلى الأحزاب “التقدمية” كالبعث والشيوعي والقومي الاجتماعي، في حين انتسب الأقل تعليما إلى الجيش.
أثر الفكر القومي الغربي في التنظير لمفهوم الأمة
استلهم القوميون العرب تصوراتهم النظرية حول القومية من النظرية الفرنسية القائمة على مبدأ الإرادة المشتركة، والنظرية الألمانية القائمة على وحدة اللغة، لكن من دون توافر الشروط السياسية والاقتصادية الموضوعية التي أفرزتها أوروبا.
استلهم الحزب “السوري القومي الاجتماعي” وحزب “البعث” من النظرية الألمانية فكرة توحيد الأمة المتعددة الثقافات، لكن فيما اكتفى القومي الاجتماعي بالنظرية الألمانية، عمد “البعث” إلى موازنة النظرية الألمانية بالنظرية الماركسية، ففي حين تؤكد الماركسية أن العلاقات الاقتصادية وحدها القادرة على تفسير مجرى التاريخ، تؤكد النظرية القومية الألمانية أن ثمة شيئاً أعمق من الأحداث الظاهرة أو العلاقات الاقتصادية.
جعل التقارب مع النظرية الألمانية للأمة، العديد من الباحثين يتناولون بالدراسة الجذور الشمولية في خطاب النخب القومية العربية عموما و “البعث” خصوصا الذي ابتعد عن النظرية القومية الفرنسية التي تعتبر الأمة نتاجا لعقد اختياري يتشكل من أفراد المجتمع لضمان حريتهم.
كان التكوين الاجتماعي لقاعدة حزب “البعث” يتشابه مع قاعدة تكوين الأحزاب القومية الأوروبية، المتمثل في دكتاتورية الحزب.
بين الوطنية السورية والقومية العربية
حكمت ثنائية الوطنية والقومية الخطاب السياسي للنخبة المدينية الحاكمة، وظهر ذلك بشكل واضح في استخدام مصطلح الأمة، الذي كان يشير تارة إلى الأمة العربية وتارة أخرى إلى الأمة السورية.
نتيجة ظروف الصراع الإقليمية والدولية لنيل الاستقلال، تراجعت أولوية الوحدة العربية لدى النخب الحاكمة، ففي عام 1936 تخلت النخب عن المطالبة السورية بالأقضية الأربعة في لبنان من أجل التوصل إلى اتفاقية باريس، وحصل الأمر كذلك فيما يتعلق بلواء إسكندرون لضمان حياد تركيا في الحرب.
بعد الاستقلال، استمر الاستخدام المزدوج لمصطلحي الوطنية والقومية، فالنخبة البرجوازية الحاكمة اعتمدت شعار الوحدة العربية بالتوازي مع دفاعها عن الوحدة السورية كدولة ـ أمة، إلا أن شعار الوحدة العربية كان يعني لها مزيدا من اتساع رقعة التجارة بين الدول العربية.
ومن وجهة نظر الزغير، لم يكن هذا التأرجح في استخدام المفهومين مجرد خيار لغوي أو أيديولوجي فحسب، بل ارتبط بمصالح هذه النخب، حيث إن استخدامها مفهوم الأمة بالمعنى الوطني، شرعن وجودها في السلطة بصفتها نخبة حاكمة لهذه المنطقة الجغرافية التي اعترف بها دوليا كدولة مستقلة.
مع نشوء الدولة السورية، ثم مرحلة الوحدة مع مصر، وقعت الأحزاب القومية في نوع من الالتباس بين عدم الاعتراف بشرعية الدولة القطرية، وعدم القدرة في الوقت ذاته على تحقيق الأنموذج القومي الاشتراكي على أرض الواقع.
كان التبدل والتنقل بين استخدام مصطلح الوطنية السورية ومصطلح القومية العربية ملحوظا في خطابات الأحزاب السياسية آنذاك، خصوصا في مواقف هذه الأحزاب من مسألة الوحدة وحدود الأمة، وقد تناولت الزغير خطابات الحزب “الشيوعي السوري ـ اللبناني” كنموذج لهذا التبدل والتنقل.
الأمة واللغة
في بدايات القرن العشرين، بدأت اللغة العربية تكتسب بعدا هوياتيا ووحدويا باعتبارها الأساس في تصور الأمة، خصوصا في مرحلة الجمعيات العربية المناهضة لحركة التتريك.
ثم أصبحت اللغة في فترة الثلاثينيات عاملا مركزيا لتوحيد الدول العربية التي قسمها الاستعمار.
تعرض الزغير في هذا القسم لأثر اللغة في تصور الأمة عند بعض الشخصيات السياسية القومية، فتبدأ بساطع الحصري الذي يعتبر اللغة ووحدة التاريخ هما أس الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية.
اعتماد الحصري نظرية الأمة ـ اللغة لم تأت في إطار عنصري، إذ استبدل مفهوم وحدة الأصل بمفهوم وحدة التاريخ، الذي يضطلع لديه بوظيفة توليد القرابة المعنوية.
الحصري الذي كان مسكونا بالوحدة العربية، دمج الانتماءات الفرعية ضمن بوتقة واحدة، الأمر الذي جعله يعتبر وحدة الأصل وحدة وهمية، لأن كل الأمم عبارة عن خليط بين أقوام مختلفة.
على غرار الحصري، ركز زكي الأرسوزي على دور اللغة في بناء الأمة، وكانت الإشكالية المركزية عنده، هي بعث الأمة العربية، ولذلك تأثر بالنظرية القومية الألمانية التي تقوم على مبدأ وحدة النسب.
يرى الأرسوزي أن الأمة العربية ليست محصلة لأوضاع وعوامل طبيعية تاريخية، بل إن الأمة آية أو عبقرية مبدعة، والأمة مثل اللغة البدائية غير مشتقة من غيرها، ولذلك تعود بأصولها إلى السماء.
نتيجة لهذا التصور للأمة، ميز الأرسوزي متأثرا بـ فيخته، بين السامية والآرية، فأنتج منطقا معكوسا للمماهاة بين اللغة والعنصر في نظرية الأمة ـ اللغة، مفادها أن الأمة العربية ينبوع الشعوب السامية كافة.
مع أيديولوجيا البعث، سننتقل إلى التصور السياسي اللغوي للأمة، حيث مقولة الوحدة تعني الوجود السياسي (الدولة)، والعمل السياسي للأمة التي تقوم على رابطة اللغة الواحدة.
تابع مفكرو البعث وفي مقدمهم ميشيل عفلق خطى الأرسوزي، لكنهم أضافوا بعدا آخر، هو الوحدة القومية السياسية، فما كان شاغلهم ليس تعريفات الأمة، وإنما التأكيد على الأهمية التكوينية للدولة الواحدة بالنسبة إلى وجود الأمة العربية نفسها.
ولهذا، ربط المبدأ الأول في دستور البعث الأمة بالدولة: العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة، وتبعا لذلك، لا أمة من دون دولة.
الأمة، الاقتصاد، الطبقة
من بين الأحزاب الأيديولوجية الفاعلة، لم يطرح دور العامل الاقتصادي في تكوين الأمة إلا عند الحزب “الشيوعي” والحزب “السوري القومي الاجتماعي”.
بالنسبة للشيوعي، جاء هذا الفهم متأثرا برؤية ستالين للأمة التي يجب أن تتكون من أربعة عناصر: جماعة مستقرة، الحياة الاقتصادية، وحدة اللغة والأرض، وحدة التكوين النفسي.
لكن تجسيد الحزب “الشيوعي” لمعنى الأمة في ممارسته كما تنبهت الزغير، متقلبا حسب كل مرحلة وظروفها، فأحيانا كان يستخدم مصطلح الأمة العربية السائد، وأحيانا أخرى يستخدم مصطلح الأمة السورية.
بالنسبة للحزب “السوري القومي الاجتماعي”، فإن العامل الاقتصادي يكتسي بعدا أكثر عمقا في نظرية آنطوان سعادة، الذي يستعمل مصطلح “المتحد الاجتماعي” لتعريف الأمة، حيث إن التفاعل مع إقليم معين هو شرط ضروري لتكوين الأمة، ولهذا السبب ينفي سعادة أولوية الروابط العنصرية أو اللغوية أو الدينية أو الثقافية في تحديد نطاق الكيان القومي، لأن الأمة هي متحد اجتماعي طبيعي.
يتساءل سعادة ما هو الشرط الحاسم في المتحد الاجتماعي لتكون الأمة؟ يجيب إن شرط المجتمع ليكون مجتمعا طبيعيا، يجب أن يكون خاضعا للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية ـ اقتصادية واحدة تشمل المجموع.
الرابط الاقتصادية، هي أول رابط اجتماعي في حياة الإنسان أو هي الأساس المادي للاجتماع البشري، فالنظام الاجتماعي برمته هو حاصل التطور في الإنتاج كما ونوعا وطرائق وأنماط الإنتاج.