أسئلة مفتوحة عن الحكاية السورية/ علاء رشيدي
حضرت الباصات الخضر كواحدة من الرموز الثقافية والفنية في الحكاية السورية، وقُدِّمَت في الفن التشكيلي (منيف عجاج/ رسم) و(عزة أبو ربيعة/ حفر) وغيرهما، وفي الرواية (جان دوست/ باص أخضر يغادر حلب)، ليضيف إليها راشد عيسى كتابه سوريو الباصات الخضر، الصادر مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر، والذي يتضمن اثنين وثلاثين مقالاً منشوراً في صحف ومواقع إلكترونية عدة منذ العام 2011 وحتى الآن.
ميزة قراءة مجموعة مقالات الكاتب مطبوعة في كتاب هي إمكانية المقارنة بين النصوص، واستنتاج تواتر الموضوعات، والتحليل والمقارنة في أسلوبية الكتابة النصية لكل منها. وبما أن مجال المقالات التي يتضمنها الكتاب هي مجال النقد الفني والصحافة الثقافية، فإن الكتاب فرصة لتحديد الموضوعات التي شغلت بال أحد النقاد الفاعلين في الكتابة الثقافية والفنية السورية المعاصرة.
العلاقة بين الفن والسلطة
إن الموضوعة الأميز في كتابات المؤلف هي موضوعة العلاقة بين الفن والسياسية، وبشكل أدق بين الفن والسلطة، فيطرح الكاتب تساؤلاته بعمق: ما هو دور الفن في الحدث السياسي والاجتماعي؟ وكيف يمكن قراءة مواقف الفنانين والمفكرين من الحدث السياسي الحاصل أمامهم؟ هي أسئلةٌ واجهها الحقل الثقافي السوري منذ العام 2011، باعتبار أن الالتزام السياسي للفنان، وحتى تناول موضوعات السياسة فنياً، لم يكن سؤالاً إشكالياً قبل ذاك التاريخ.
يتابع الكاتب مجموعة اللقاءات والتصريحات المبنية على توجهات طائفية عند دريد لحام، منها تصريحه بأن الطائفة تنتقل بيولوجياً بالولادة. ويصنّف الكاتب مسرح لحام ضمن مجال «مسرح التنفيس السياسي»، حيث يتم الانتقاد فيه بما يسمح باستمرارية النظام الحاكم، وذلك حسب وجهة نظر الكاتب. وفي مقال آخر، يقارن الكاتب بين دور الشاعر إيكارت في تأسيس النازية وحكم هتلر في ألمانيا، وهو الذي يُعَدُّ المنظِّرَ الإيديولوجي للحزب، ومواقف الشاعر نزيه أبو عفش من الحدث السوري. يتتبع الكاتب مواقف الأخير المؤيدة للنظام الحاكم في سورية، وذلك منذ حادثة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، مروراً بمواقفه من اندلاع الثورة السورية، إلى كتابة مديح بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى التهجم على منظمة الخوذ البيضاء، وحصوله على جائزة الدولة التقديرية 2018.
في روايته الأخيرة تفسير اللاشيء، يبتكر الروائي فواز حداد شخصية فنان تشكيلي أراد الهروب من الحدث السياسي والاجتماعي من حوله في سورية، فتحوَّلَ إلى رسم الأجساد العارية، واللوحات التجريدية التي راحت تبعده عن الواقع أكثر فأكثر ليقارب الجنون المثالي المنفصل عن الواقع. في مقاله بعنوان «يوسف عبدلكي ينتصر للوحات العارية في زمن القتل»، يتوقف راشد عيسى عند المعرض الأخير للفنان التشكيلي في دمشق، واقتصار موضوعات لوحاته على الأجساد العارية، الأمر الذي برَّرَه الفنان بالقول: «إن الجسد العاري سوية رفيعة من سويات الجمال في الحياة. لا يوجد أي شيء أرفع جمالاً منه، لذا وجدتني أنخرط في العمل عليه وكأني أبعد نفسي عن بشاعة الحرب وبشاعة القتل وبشاعة التدمير»؛ يعتبر عيسى في مقاله: «أن هذا من الترف الثقافي في الوقت الذي يعلن فيه المثقفون الحربَ على جدار المحرم والممنوع في زمن القتل والتهجير والاعتقال الوحشي، وفي وقت سنرى حول العالم مبدعين أجانب استلهموا المأساة السورية في غرافيتي وأعمال تركيبية، وصولاً حتى إلى عروض أزياء تستلهم المأساة».
ولكن كيف يمكن لفنان أن يكون مناضلاً لإحقاق العدل في مكان ما، وعنصرياً ومسانداً للإجرام والقتل والوحشية في مكان آخر؟ يعالج عيسى هذا السؤال في مقالة عن الكاتب الأردني الراحل ناهض حتّر، الذي يتباين موقفه السياسي في القضايا المتعلقة بالحق الفلسطيني أو الحق الأردني أو الحق السوري.
كذلك فيما يتعلق بالعلاقة بين الفن والسلطة، لا تتوقف أسئلة الكاتب عند الفنانين المعاصرين، بل تعود لتُسائلَ هذه العلاقة إلى تجربة المسرحي السوري سعد الله ونوس (1941-1997)، فتنطلق المقالة من التساؤل إن كان مسرح ونوس صنيعة النظام الحاكم، وذلك في الذكرى الحادية والعشرين على رحيل المبدع المسرحي، فيكتب: «ونوس صاحب محاولات أصيلة في استنبات مسرح عربي. يفهم المسرح على أنه تكريس للديمقراطية والحوار، على أنه طريق للتغيير، الأمر الذي لا يُلائم مزاج أي نظام مستبد».
كيف يمكن رواية الحدث السوري؟
يحضر هذا التساؤل في مقالات الكتاب، ليس فقط كيف يُروَى الماضي، بل ما هي إمكانيات الإنطلاق لرواية حكاية سورية المستقبل ؟ يبحث راشد عيسى عن حكايات واقعية، لكنها مفتاحية رمزية من وجهة نظره، لسرد الحدث السوري. يختار حكاية «نايف هو الذي رأى كل شيء»، هي حكاية طفل حلبي ظهر عبر فيديو يروي تجربة التعرض للقصف بالصواريخ طيلة الليلة التي عاشها حيّه، فرواها بخبرة العارف بالموت والحياة. وحكاية لمى أحمد اسكندر، الدبلوماسية السورية التي تركت مهنتها في السلك الدبلوماسي لتقف إلى جانب من اعتبرتهم السوريين الذين يُقتلون في الشوارع. وحكاية المغربية نوال، ملاك السوريين التي كرست حياتها لإنقاذ اللاجئين في بحر إيطاليا، والتي لا يسأل التائهون في عرض البحر عن النجوم والكواكب واتجاه الريح واليابسة، بل يسألون عن اسمها.
العلاقة بين الواقع والتخييل
في المقالات التي يتضمنها هذا الكتاب، تحضر باستمرار مقارناتٌ بين حكايات واقعية من الرواية السورية وبين حكايات الأفلام السينمائية، كما تُعالَج موضوعة العلاقة بين الواقع والفن: ما هي حدود الانفصال والتداخل بين الواقع والتخييل؟ ما الحدود الفاصلة في رؤيتنا لحدثٍ باعتباره فناً أو حدثاً حقيقياً واقعياً؟
تتداخل الفانتازيا والواقع حين يتخيل الكاتب في إحدى مقالاته ثورة الكومبارس السوريين في الصناعة التلفزيونية على السلطة. ويقارن الكاتب بين فيديو عن إخلاء مدنيين بعد قصف الطيران الحربي لمدينة دوما شرق دمشق، وبين مشهد من فيلم قائمة شندلر (ستيفن سبيلبيرغ/ 1993)، حيث فتاة ترتدي معطفاً أحمرَ وتعبر في المجزرة. ويصف من حادثة غرق الطفل إيلان الكردي الصورة الأيقونية التي انطبعت في ذهن المخيلة الجمعية، ويُحلّل مضمونها حيث الجندي التركي ينظر إلى جثة الطفل الغارق أمامه، وكأنه يمثل نظرة الإنسانية المتفرجة على المأساة السورية.
وفي مقالة أخرى يقارن الكاتب أيضاً بين فيديو انتشر عن عازف بيانو في مخيم اليرموك، وبين فيلم عازف البيانو (رومان بولنسكي/ 2002)؛ يظهر عازف البيانو في مخيم اليرموك مع فرقة موسيقية يؤدون الموسيقى والأغاني في ساحة خالية بين المباني المهدمة، في مشهد يعبر بالنسبة للكاتب عن إرادة الحياة، خصوصاً بعد صور الجوع، والضحايا الذين قضوا في مجاعة سبّبها الحصار الرهيب للمخيم. تدور الكاميرا في الفيديو لتلتقط صور المباني المدمرة، الآليات المحترقة والمعطلة الموزعة في المكان، إنه أداء موسيقى يخرج من رحم الحرب والدمار، ما يقارب تماماً عوالم فيلم عازف البيانو عن زمن الحرب العالمية الثانية.
كذلك يقارب الكاتب بين حكاية الفيلم الإيراني شجرة الصفصاف (مجيد مجيدي/ 2005) حيث تربك صدمة الإبصار المفاجئة كفيفاً سابقاً، وبين واقع حال السوريين الذين استيقظوا من عماء ماضيهم.
أسئلة الهجرة القسرية والمنفى
من المَحاور الأساسية أيضاً في مقالات الكاتب ما يتعلق بموضوعة الهجرة، النزوح القسري واللجوء وتجربة المنفى. في مقاله الذي يحمل الكتاب عنوانه؛ سوريو الباصات الخضر، يروي عن الآلاف من مناطق متفرقة من سورية الذين عايشوا تجربة الحصار، ومن ثم أُجبِروا على ترك منازلهم، فدُفِعوا إلى الباصات الخضر، ليبدأ من الباص الأخضر طريق طويل من الترحال، ويذهب الطريق بهم بعيداً عن البيت. في الكتاب أيضاً هناك مقالات مكتوبة بأسلوب المتابعة الصحفية لرحلة الهجرة السورية، كما نقرأ في مقالة «لاجئو كاليه: الخروج من عنق الزجاجة»، ومقالة أخرى يتابع فيها الكاتب رحلة هجرة السوريين وغيرهم من الجنسيات عبر مدينة كاليه الفرنسية للوصول إلى البر البريطاني.
في مقالة «أحزان غير لائقة»، يُطلِعُنا الكاتب على رحلة هجرته الذاتية، وما يرافقها من أسئلة على صعيد العلاقة مع المكان المتروك، أي دمشق، والعلاقة مع المكان الوافد إليه الذي لا يتقن لغته فيشعر وكأنه يُدخِلُهُ في متاهة جديدة كلياً. لكن الأهم في المقالة هو التطرق إلى موضوعة الشعور بالامتنان للنجاة من كل المأساة السورية، وهو شعور تناولته الدراسات المتعلقة بالتحليل النفسي للمهجر والمنفى. عن هذا الامتنان للنجاة يكتب راشد عيسى وهو يخاطب نفسه: «عليك أن تكون ممتناً لهذا الاقتلاع لأن تلك اليد الضخمة لم تلق بك إلى مخيم الزعتري، أو مخيم في البقاع اللبناني، أو على حدود الثلج التركية. أنا ممتن بالفعل، لأني لم أمت جوعاً في حصار الطاغية لمخيم اليرموك، لأني لم أكن فوق أنقاض بناية هدمها برميل متفجر أنتظر أن يخرج من تحتها عزيزٌ حي، لأني لم أقف أمام براد الموتى كي أتعرف بصعوبة بالغة على جثة كنت أعرفها حق المعرفة من قبل. ممتن لأن وجهي لم يلطخ بدم عزيز أحضنه. عليَّ أن أخجل وأخبئ أحزاني التافهة».
موقع الجمهورية