مظاهرات السوريين/ خضر الآغا
تأريخيًا نقول في سوريا إن الثورة السلمية توقفت مع توقف المظاهرات التي عمت البلد، وبدأت مرحلة جديدة من الثورة هي الثورة المسلحة التي قادها في البدء الجيش الحر. لكن مع بدء التسلح واستمراره حتى تاريخه لم يترك السوريون فرصة إلا خرجوا فيها يتظاهرون لأسباب مختلفة تقع على رأسها المطالبة بإسقاط النظام. تظاهر السوريون لمدة ثمانية أشهر سلميًّا مواجهين رصاص النظام ودباباته وصواريخه بحناجرهم فقط. ثم تظاهروا عند أول زيارة قامت بها البعثة الدولية للأمم المتحدة حيث في هذه الأثناء يفترض أن يتوقف النظام عن قتل السوريين. وتظاهروا بعد ذلك في المناطق التي تسيطر عليها فصائل مسلحة معارضة ضد انتهاكات تقوم بها فصائل، وكذلك تظاهروا ضد قوى الأمر الواقع التي انتشرت في العديد من المدن والبلدات السورية، وتظاهروا ضد قوى التطرف مثل داعش والنصرة، وتظاهروا ضغطًا على المعارضة المشتتة كي تتوحد، وكذلك كي تتوحد الفصائل المقاتلة، وتظاهروا كنوع من مطالبة العالم بالتدخل لإنقاذهم من حملات إبادة متكررة ومستمرة يقوم بها النظام وحلفاؤه دولًا ومرتزقة وميليشيات… وتظاهروا للتنديد بصمت العالم إزاء المجازر التي تعرضوا ويتعرضون لها منذ آذار/مارس 2011. وتظاهروا دائمًا احتفالًا بانطلاق الثورة في آذار من كل عام، وتظاهروا لإحياء الثورة وتأكيد قيمها.
تلك المظاهرات لم تستطع، بعد التوقف الكبير بدايات العام 2012 للثورة السلمية وبدء التسلح، أن تكون قوة مؤثرة، ولم تستطع أن تجعل العالم، بما فيه سوريين، يسمع صوتها، فقد غاب الصوت تحت أزيز الرصاص، واختنق بالغبار الطالع من البيوت المهدمة خلال تفجيرها بالبراميل، وغصّ بأشلاء الأطفال والنساء والرجال والشيوخ المبعثرة جراء الصواريخ التي وجهت نحوهم… ولم ينتبه الآخرون إلا إلى حركة المعارك والأسلحة. حدث ذلك كله ضمن تجاهل مريب لحركة السوريين السلمية التي لم تتوقف، وإن كانت تحدث ضمن فترات متباعدة نتيجة الظروف التي باتت معروفة.
خلال الأيام الماضية، اعتبارًا من 30 آب/أغسطس، ولأيام متتالية تظاهر السوريون بشكل حاشد في إدلب وريف حلب احتجاجًا على القصف الروسي وقصف قوات النظام على إدلب ومناطق “خفض التصعيد”، وتوجهوا إلى المعابر الحدودية مع تركيا وتجمعوا في معبر “باب الهوى”، وكذلك في معبري “أطمة” و”خربة الجوز” للضغط على الحكومة التركية للتدخل لإيقاف المجازر الروسية وللمطالبة بفتح المعابر ليتمكنوا من الهرب من حملة الإبادة هذه. وتظاهر السوريون في مدينة عزاز تضامنًا مع محتجي إدلب.
المظاهرات الأخيرة خلال الأيام الماضية ظهرت، على خلاف المظاهرات التي سبقتها جميعها، خالية من أي اسم أو شعار مركزي ومن أي علم سوى علم الثورة، وذلك يدل على نحو يقطّع القلب على فقدان السوريين كل ثقة بأي أحد أو أية جهة أو أية دولة.. وذلك بعد تسع سنوات من الخذلان المستمر الذي تعرضوا له من “الجميع”!
وتظاهر السوريون في حارم وكفر تخاريم وسلقين وغيرها تنديدًا أيضًا بالمجازر الروسية في إدلب وبصمت العالم إزاءها. وتظاهر السوريون، ولم يزالو يتظاهرن حتى لحظة كتابة هذا المادة (4 -9 -2019) في العديد من مدن إدلب ضد هيئة تحرير الشام (النصرة) وقائدها الجولاني وطالبوه بالمغادرة واتهموه بالعمالة لإيران والنظام، وقد سبق لجبهة النصرة أن واجهت المتظاهرين ضدها بالقتل في أكثر من مناسبة ومرارًا. وكان السوريون، قبل ذلك، تظاهروا ضد داعش في أكثر من مكان في سوريا.
الذاكرة السورية حية بحيث لن تنسى أن السوريين تظاهروا أيضًا في أكثر أماكن تواجدهم بؤسًا وحرمانًا ضد نظام الهمج السوري وضد روسيا وإيران والميليشيات المتحالفة والمرتزقة: في مخيمي عرسال، والزعتري!
هذه المقالة لا تهدف إلى تأريخ مظاهرات السوريين في مرحلة السلاح، فهي قاصرة عن ذلك، وقد ذكرت بعضًا قليلًا منها، ولا تهدف إلى التحليل ولا بناء تصورات مستقبلية عن سوريا، بل تهدف إلى سؤال يبدو غير ذي معنى في مستعمرة الجنون التي نعيش فيها في هذا العالم، وهو تلك الإرادة التي تجعل السوريين يتظاهرون تحت كل الظروف ليعبروا عن رأيهم ومطالبهم وقهرهم وطموحهم وتطلعاتهم… كل ذلك الدمار، وكل ذلك القتل، وكل التهجير، والفقر، والجوع، والتشرد والخذلان… لم يستطع أن يوقفهم، ولم يستطع أن يكسر إرادتهم، ولم يستطع إن يعيدهم إلى “بيت الطاعة” التي يجهد النظام وروسيا وإيران وباقي ميليشياتهم أن يعيدوهم إليه.
لابد أن يكون صحيحًا أن ثمة مظاهرات وتعبيرات سورية خرجت تحت ضغط ما يسمى “عزيمة الروح”، تلك التي تحل بالموشك على الموت، إلا أنها تعبيرات حية تشير إلى عزيمة وإصرار لا متناهيين، وإلى وضوح الهدف.
هذه المقالة نوع من التذكير أن الروح الثورية، على الرغم من كل الظروف الطاحنة التي يعيشها السوريون، قابلة دومًا للانبعاث والتجدد.
لطالما قرأت عن أن الشعوب لا بد أن تصل إلى غاياتها، ولطالما صدّقت ذلك عن الشعب السوري.
الترا صوت