سنان أنطون: العراق الذي «تكدّست على صدره الكوابيس»
حوار محمد ناصر الدين
«أقترب منها أكثر فأبصر رمّانتين على صدرها بدلاً من نهديها. تلاحظ هي بأني أنظر إلى الرمانتين فتبتسم وتحتضنهما براحتيها من تحت. أظافرها مصبوغة بلون أشجار الرمان وشفتاها أيضاً. أسرع نحوها، وحين أصل إليها أعانقها فتسقط الرمّانة اليمنى وتتدحرج على الأرض. أنحني لألتقطها، فأرى بقعاً حمراء صغيرة تتكاثر على ذراعي» بهذه اللغة الأقرب إلى قصيدة النثر في ومضتها وتوهّجها، يزخرف الروائي العراقي سنان أنطون (١٩٦٧) أعماله الروائية، وهو الذي ابتدأ مسيرته الأدبية بمجموعة شعرية حملت عنوان «موشور مبلل بالحروب» (دار ميريت ـ القاهرة)، بالتزامن مع روايته الأولى «إعجام» التي أوّل ما صدرت عن «دار الآداب» (٢٠٠٤)، ما لبثت «دار الجمل» أن أعادت طباعتها، قبل أن تصدر لاحقاً أعمال أنطون الروائية الأخرى مثل «وحدها شجرة الرمان» (٢٠١٠)، و«يا مريم» (٢٠١٢) و«فهرس» (٢٠١٦)، إضافة إلى مجموعة شعرية ثانية (ليل واحد في كل المدن/٢٠١٠) ومجموعة صدرت أخيراً تحمل عنوان «كما في السماء».
يمكن للرواية أن تكون حيزاً مهماً نقرأ فيه تواريخ البلاد غير الرسمية ونصغي فيه إلى الأصوات الضائعة والمسحوقة
الروائي الذي أرّخ للوجع العراقي في مآسي مختلف مكوناته، يستعير عنوان المجموعة الأخيرة من صلاة «أبانا الذي في السماوات» من أجل تفكيك النص المقدس، واستخدام لغته وأساطيره ورموزه في سياق دنيوي ووجودي يخلق فيه الشعر حيزاً وجودياً وجمالياً، ويمارس مهمته الأولى وشرطه الوجودي في التجوال بالأسئلة بين السماوات والأرض، بين المدنس والمقدس، والمطلق والعادي. سنان أنطون الذي يعتبر تنقله من الشعر الى الرواية وبالعكس ضلال مستمر بالاتجاهين، سيكتب في أشعاره ورواياته ما يشبه الانجيل الضائع للعراق، «العراق الذي تركته ولم يتركني» بأقلياته ونخيله الذي حوّله المد الطائفي الى نخيل شيعي ونخيل سني كما يقول في إحدى رواياته… وكذلك عراق الرؤية الأخرى التي لا تؤمن بأن الطائفية هي قدر البلاد الذي لا مناص منه، كما يصوغها يوسف، بطل رواية «يا مريم». أستاذ الأدب المقارن في «جامعة بغداد» و«جامعة هارفارد» و«جورجتاون» الذي ترجم ثلة من الشعراء العراقيين مثل سركون بولص، وبدر شاكر السياب، وسعدي يوسف إلى الانكليزية تفتنه الرواية في إمكانية استيعابها للأجناس الأخرى ومنها الشعر، وكذلك التاريخ، فالرواية يمكن «أن تكون حيزاً مهماً نقرأ فيه تواريخ البلاد غير الرسمية، المهمّشة، المختلفة، ونصغي فيه إلى الأصوات الضائعة والمسحوقة». حول مجموعته الأخيرة «كما في السماء»، وشؤون وشجون العراق والكتابة والثقافة، وفي جولة بانورامية على أعماله الشعرية والروائية، كان لملحق «كلمات» هذا اللقاء مع أحد أبرز روائيي العراق اليوم.
كيف تقدم مجموعتك الشعرية الجديدة «كما في السماء» لقرائك ومتابعيك؟
– يحتضن الديوان خمسين قصيدة اخترتُها من بين ما كتبته في فترات متقطعة في العقد الأخير. كنت قد نشرت معظمها، هنا وهناك، لكنّ عدداً منها ينشر للمرة الأولى. هي شجرة أخرى أغرسها في بستاني الصغير.
هل في العنوان إشارة ميتافيزيقية أو دينية ما؟ هناك مقولة بأن الشعر هو في وسط الرؤية المركزية الدينية لكل الديانات الكبيرة، ما رأيك؟
– استعرت العنوان من نصّ ديني، هو الصلاة الربّانية، التي مستهلها «أبانا الذي في السماوات». اخترت هذا العنوان لأنه يشير إلى محور أساسيّ في الديوان، وهو تفكيك النص المقدّس، واستخدام لغته ورموزه وأساطيره في سياق دنيوي ووجودي. تسمح هذه اللعبة، وهي ليست جديدة بالطبع، بخلق حيّز خصب جمالياً وفكرياً أيضاً، تحلق فيه التساؤلات بين السماء وبين الأرض، وتتحرك في الهوة التي تفصل بين ما تمثلانه. لكن التساؤلات تظل أقرب إلى الذات في محنتها على هذه الأرض، وهي تواجه العدم وتنبشه للعثور على شيء ما، يكون زاداً وضماداً. وجدلية الذات والطبيعة، هي المحور الآخر في الديوان. الطبيعة التي هي أنيسة الذات في عزلتها، وقاموسها الهائل في بحثها عن المعاني وعن مكانها في خضم الزوال. تفتتح الديوان قصيدة بعنوان «صلاة: من إنجيل العراق الضائع» ومستهلها: «عراقنا الذي في الهباءات، فليتقدس اسمك…». واحد من أجمل تعريفات الشعر التي وقعتُ عليها هو أنه «صلاة وجودية». وأضيف إليه «وجمالية». وهذا يقودني إلى الشق الثاني من السؤال. نعم، بكل تأكيد. ارتبط الشعر، بالمقدّس، وبحوار الذات الرائية مع الكون والطبيعة والآلهة، والأمثلة كثيرة ومعروفة. العلاقة بين الشعر والنبوّة وثيقة، لا في التراث العربي- الإسلامي فحسب («ويقولون إننا لتاركو آلهتنا لشاعر أو مجنون»)، ففي اللاتينية، مثلاً، تحيل مفردة «ڤيتيس» إلى «شاعر» و«نبي» و«مجنون». وحتى في العصر الحديث، ظلت علاقة الشاعر الاستثنائية، وصلته، بحيز لامرئي، سائدة. لكن اللاوعي هو الذي حلّ محل الآلهة والماوراء، وتسلّم مهام شيطان الشعر!
هل التراث الديني في منطقتنا هو قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في كل لحظة؟ أم يمكن توظيفه جمالياً وفنياً؟ وهل فعلت ذلك في «يا مريم» الكتاب الذي يعج بالتراتيل أو في «وحدها شجرة الرمان» المليء بتراث الشيعة العراقيين وأدعيتهم؟
– لقد انفجرت القنبلة مرات عديدة. لكنها، برأيي، ليست قنبلة «التراث الديني». كما أنها ليست مشكلة منطقتنا فقط، وإن كان ما نالها من العنف في السنين الأخيرة قد يجعلها تبدو كأنها استثناء، أو البؤرة الوحيدة. فلننظر إلى الهجمات الإرهابية التي تُشن ضد الجوامع في «الغرب» وضد معابد اليهود في الولايات المتحدة مؤخراً، وحتى ضد كنائس السود. لدينا أمثلة للعنف الذي يجيّشه الخطاب الديني (والقومي) في الهند وتفاقم العنصرية. وهناك أمثلة في أماكن أخرى. أرى أن المشكلة عالمية لها تمظهراتها في أماكن وسياقات عديدة. هناك من يفسّرها ثقافوياً ويعيدها إلى قرون مضت، وإلى النص أو النصوص. كأن النص هو الذي يصنع التاريخ. لست من هؤلاء. وهناك من يقرأ التاريخ، القريب منه، ويفسر الظواهر والأحداث من منطلق جغرافي – سياسي. وهذا هو الأقرب إلى الصواب. يكفي أن نعود إلى السبعينيات والثمانينيات لنفهم أسباب تفاقم هذه الظواهر وعولمتها ولكن لا يتسع المجال هنا لأكثر من هذا.
كل ما كتبته في الروايتين مأخوذ من الثقافة المحلية في العراق، وهي شديدة الغنى والتنوّع. هذا هو المحيط الذي ولدت وعشت فيه، وموروثي الذي أنتمي إليه، بغض النظر عن الإيمان أو عدمه، وبغض النظر عمّا يكتب في هوية المرء من تصنيفات فرعيّة عند تسجيل ولادته رسمياً. إنه الطيف الذي أحب ألوانه المتداخلة كلها وأحتفل بها كلما استطعت. بالإضافة إلى أهميتها، وضرورتها للشخصيات ولموضوع النص الروائي، تختزن الشعائر الدينية والتراتيل والطقوس جماليات وشعرية، تحيل جذورها إلى تاريخ البلاد القديم، الذي يسبق الديانات التوحيدية.
هل أنت روائي اهتدى إلى الشعر أم شاعر اهتدى إلى الرواية؟
لعله ضلال مستمر بالاتجاهين! البدايات المبكرة كانت مع الشعر. كل واحد منهما، بالنسبة لي، رافد. وأنا أزرع بستاني في هذه الأرض الخصبة… بين الرافدين!
هل الشعر هو أبو الفنون، هو الذي كتب على كهوف الإنسان الأول في التاميرا وفي أساطير وادي الرافدين، أم أن الرواية اليوم هي الفن الأشمل والأصلب كما يقول كونديرا؟
– لست من الذين ينتصرون لجنس أدبي على آخر. ولا أجد فائدة في هذه التراتبيات، أو في تحديد «الفن الأشمل والأصلب». ليست مسابقة. لا يعني هذا، بالطبع، ألا فائدة من، أو ضرورة لرصد التغيرات والتحولات، وميول القراء، وأسباب رواج نوع ما أو تسيّد جنس أدبي للمشهد. لكن هذه كلّها تحكمها شبكة من العوامل المادية والظروف التاريخية وعلاقات السوق التي تؤثر بشكل كبير على الأنواء الثقافية. كل فن، أو جنس أدبي، يلبي، بالطبع، حاجات ورغبات لدى المتلقي. ليس الاستهلاك والرواج مؤشراً إلى تفوق جوهري، أو لأفضلية ما، بالضرورة. بنية الرواية مرنة ورحبة تستطيع استيعاب أشكال وأجناس أخرى، بضمنها الشعر. لكن ما دام هناك ذات تعيش في هذا العالم، فستكون هناك حاجة للشعر. يعطي الشعر جرعات جمالية وحسيّة هائلة. كما أنّه يبلور المعرفة البشرية. قرأت مؤخراً أن عالمة كندية اكتشفت، بعد بحوث ميدانية استمرت ثلاثة عقود، أن للأشجار لغة خاصة بها، وأنها تتحاور وتتبادل المعلومات وتدعم بعضها البعض. ألم يردد مئات الشعراء منذ مئات السنين وبكل اللغات أن الأشجار تتحدث، وأن لها لغتها؟
يقول أوكتافيو باث إنّ المعرفة الشعرية هي الشيء الوحيد الذي يبقى أمام الإبادة التدريجية للرؤية الدينية وتشتت المعرفة العلمية، هل توافقه الرأي؟
– ربما بدأت بالإجابة على سؤالك في نهاية الجواب السابق أعلاه. هناك مقولة لكولردج عن أن «الشعر هو خلاصة المعرفة البشرية». أتفق مع باث في بقاء المعرفة الشعرية، لكنني لا أرى أن هناك إبادة تدريجية للرؤية الدينية، ولا تشتتاً للمعرفة العلمية. من الأساطير التي ما زال الكثير من العلمانيين الأصوليين ومن الحداثويين يرددونها في كل مكان، هي أن التراكم المعرفي، وتقدّم العلم واكتشافاته، سيؤديان بالضرورة إلى التخلّي عن الدين وستنتفي الحاجة إليه وينحسر وجوده وتأثيره. لم يحدث هذا ولا أعتقد أنه سيحدث. لأن مسألة الإيمان والحاجة إلى سرديات كبرى ذات طبيعة دينية، لا ترتبط بالعقلانية والمنطق، بل هي حاجة نفسية. كان هناك استطلاع قبل سنوات في الولايات المتحدة كشفت نتائجه أن المؤمنين، على اختلاف أديانهم، أسعد بكثير من غير المؤمنين. أما المعرفة العلمية، فالمعضلة هي أن المنظومة الاقتصادية التي تحكم العالم، والمؤسسات الكبرى التي تسيّره، تُسَخَّر رحيق المعرفة، ودماء البشر، لمراكمة الأرباح ورؤوس الأموال ولمصلحة النخب و«الخواص». وكل هذا على حساب بقية البشرية والكائنات الحية التي تنقرض بوتيرة غير مسبوقة جرّاء هذه الوحشية الحداثيّة التي تسرع بنا إلى الهاوية. في الفصل الأخير من المأساة، سيكون هناك شاعر أو شاعرة ت/يتأمل المشهد من أجل قصيدة أخيرة ترثينا جميعاً… بينما يهرب الأغنياء إلى كوكب آخر ليدمروه، ومعهم نخبة من العلماء، والحرّاس الشخصيون، والمستشارون الروحيون!
الكوابيس التي يراها جواد الذي ورث مهنة غسل الموتى عن أبيه في «وحدها شجرة الرمان» أشبه في روحها وحجمها بنصوص نثرية بحيث لو جمعناها معاً يمكن أن تؤلف كتاباً شعرياً لوحدها. هل هو تطعيم للرواية بالروح الشعرية؟
– ما يفتنني في الرواية كجنس، كما ذكرت، هو إمكانية استيعاب أجناس وخطابات أخرى. الكوابيس والأحلام شعرية بتركيبها وطبيعتها. وهي في حالة جواد محصلة ما يشاهده وما يعتمل في ذهنه في ساعات عمله في المغسل يومياً، بعد أن يعيد اللاوعي تركيب المشاهد وتشفيرها ليلاً، بلا رقابة. وتتأثر كوابيسه، بالطبع، بذائقته وذاكرته البصرية ودراسته وممارسته للفن. أي أن هناك ضرورة بنيوية وعضوية للكوابيس، التي جاءت شعرية وغنية بصرياً. أشار أحد النقاد مؤخراً إلى أن الكثير من المقاطع في روايتي الأخيرة «فهرس» يمكن أن تقف بمفردها كنصوص شعرية. وفي هذه الحال، جاءت المقاطع طبيعية في سياق النص بسبب محتوى وفكرة المخطوطة التي كان ودود يعمل عليها وبسبب شخصيته. ما أقصده هو أن وجود هذه الروح الشعرية نابع من طبيعة النص، وليس إضافة مبرمجة مسبقاً.
ساهمت في ترجمة سعدي يوسف ومحمود درويش وسركون بولص إلى الإنكليزية، هل هو مشروع ترجمة ممنهج لشعراء الحداثة العرب؟ وما الذي يحكم اختياراتك في الترجمة؟
– ترجماتي لهؤلاء صدرت في كتب. هناك أيضاً مئات الترجمات لقصائد للسياب والماغوط ومؤيد الراوي وأنسي الحاج وآخرين. ولولا المشاريع الروائية ومشاغل التدريس، ولو كان لدي وقت أكثر، لعملت على مشروع ضخم لترجمة الشعر العربي الحديث (والقديم أيضاً). ما يحدد اختياراتي في الترجمات التي أنجزها هو الافتتان بالنص أولاً وأخيراً، ومن ثم ضرورة نقله إلى الإنكليزية. وآخر عمل ترجمته كان رواية «سفر الاختفاء» للكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم التي صدرت قبل شهر عن سلسلة الأدب العربي الحديث في دار نشر «جامعة سيراكيوز».
في الاتجاه الآخر، تترجم قصائد من الإنكليزية للعربية، هل ترفد هذه الترجمات نتاجك الشعري؟
– بكل تأكيد، فالترجمة هي تمرين آخر على الكتابة. هناك تحدّيات اختيار المفردة الأنسب، وإيجاد الإيقاع الملائم وإيصال النص بسلام آمناً إلى عالمه الجديد. لكن الترجمة أكثر وأعقد من عملية نقل. إنها إعادة صياغة وإعادة كتابة بلغة أخرى. وهي تتطلب تعمقاً في لغة النص المُتَرْجَم وأسلوب كاتبه/ته. وكل هذا يترك أثره في الذات المُتَرْجِمَة ويؤثر على أسلوبها الكتابي مستقبلاً.
ماذا عن ترجمة نصوصك، وأنت الأستاذ في الأدب. حين تقف أمام نص شعري لك في لغتين، ما هي عوامل المقارنة؟ وكيف تعرف أن الترجمة نجحت؟
– مع أن الكاتب، والمترجم، يتحول، هو الآخر، إلى قارئ، بعد إنجاز الكتابة أو الترجمة، وبعد مرور وقت عليهما، إلا أنني لا أستطيع أن أحكم بحيادية، أو بما يكفي من البعد النقدي على ترجماتي لأشعاري. الشاعر والمترجم يعيشان في ذات واحدة في حالتي. ولهذا مزايا بالطبع، إذ أعطي لنفسي حرية أكبر مما أسمح به حين أترجم نصاً لشاعر آخر.
يقول ڤالتر بنيامين إن الترجمة تعطي النص حياة أخرى ما بعد حياته الأولى. النجاح هو «حيوية» النص ومدى استقراره في اللغة الجديدة… لكنني متحيز، بالطبع، لنصي ولترجمتي. رد فعل القارئ المتمكن والعارف هو أحد المعايير. لكن التقييم متروك للآخرين وللمتخصصين وللزمن.
في أعمالك كما في أعمال الكثير من الروائيين العراقيين إشارات إلى لحظة التحول في تاريخ العراق. بعضكم يرجعها إلى إعدام قاسم، والآخر إلى إعدام الأسرة الملكية الحاكمة أو إلى وصول صدام أو الحروب الأميركية والاجتياحات. هل الرواية العراقية هي كتاب التاريخ البديل لبلد بمنازل كثيرة كما يقول كمال الصليبي؟
– يمكن للرواية أن تكون حيزاً مهماً نقرأ فيه تواريخ البلاد غير الرسمية، المهمّشة، المختلفة، ونصغي فيه إلى الأصوات الضائعة والمسحوقة. الوضع في العراق كارثي ومعقد. تحضرني كلمات سركون بولص عن «انفجارات التاريخ» و«البلاد التي تكدّست على صدرها الكوابيس». فمن تبعيث الثقافة ومشروع إعادة كتابة التاريخ من منظار بعثي في زمن الاستبداد، إلى الخراب الذي أحاقه الحصار بكل شيء، إلى تدمير الدولة ومؤسساتها، وضياع ونهب عدد من أراشيفها عام ٢٠٠٣، إلى مأسسة الطائفية وموجة كتابة تاريخ العراق طائفياً، وانحطاط النظام التعليمي والمؤسسات الأكاديمية. آخذين كل هذا بنظر الاعتبار، فإن التاريخ يشوّه بشكل ممنهج، مع انعدام إمكانيات إنتاج دراسات ومعرفة تاريخية رصينة أو حتى مقبولة. وهنا يمكن للكتابة الروائية أن تساهم في كتابة التاريخ البديل. هذا لا يعني أن لها الأفضلية أو الأولوية. لكنها يمكن، أيضاً، للأسف، أن تعيد إنتاج التاريخ الطائفي، أو البعثي، أو غيره، وهذا يعتمد على مقاربة الكاتب/ة. لا بد من أن أشدد على أن قراءة الرواية كتاريخ بديل أمر لا يقتصر على العراق أو لبنان. ولا على الدول التي تعاني من ويلات الحروب وانهيار المؤسسات. توفيت قبل فترة الروائية الأميركيّة العظيمة توني موريسون وأنا أعشق أعمالها وأدرّسها في إحدى حلقاتي في «جامعة نيويورك». ولطالما قيل إن رواياتها تضيء تجربة وتبعات العبودية في الولايات المتحدة وتكتب تاريخ السود بعمق قلّما نجده. يقول زميلي المختص بالعلوم السياسية وبتاريخ أميركا إن رواية «المحبوبة» كشفت له وعلّمته ما لم يجده في عشرات الكتب الأكاديمية.
في «يا مريم» تتصارع رؤيتان حول العراق، يوسف الذي يغض الطرف عن مآسي الحاضر ويعيش في ماضيه كما تتهمه مها، وهي التي تقول: «سنترك لهم البلد ليحرقوه ويمثلوا بجثته». أي الرؤيتين انتصرت اليوم بعد سنين سبع من كتابتك للرواية؟
– صحيح أن يوسف يعيش في الماضي، لكنه يختلف عن مها بأنه لا يقارب التاريخ والصراعات الدامية من منظور ديني أو طائفي. ولا يؤمن أن الطائفية هي قدر البلاد الذي لا خلاص منه. كنت قد كتبت «يا مريم» ونشرتها قبل ظهور «داعش» واحتلالها الموصل ومدناً أخرى وفتكها بالأقليّات وكل من يقف ضدها من «الأكثريات». لكن الجذور والبوادر كانت موجودة. لقد وقع ما كانت مها تخشاه وهُجِّر مئات الآلاف الذين ما زالوا يرزحون في المخيمات إلى اليوم. زرت الموصل في بداية السنة وشاهدت الدمار. وما سمعته عن الفساد وعن سرقة أملاك المهجرين في الموصل وغيرها ينذر بكوارث جديدة. يجني المنتصرون ثمار النصر، سياسياً ومادياً، والمدينة مهملة وأهلها لوحدهم. أما الصراع بين الرؤيتين فما زال مستمراً، وسيطول. أحاول أن أتفاءل بحماسة وتصميم مئات الآلاف من الشباب الذين تظاهروا ضد الطائفية وضد سدنتها في مدن العراق، لاستعادة العراق وتخليصه من براثن الطبقة السياسية الحاكمة. لكنه صراع طويل وعنيف، تزيده تعقيداً وصعوبة المعادلات والصراعات الإقليمية، وتغلغل الفساد في نخاع البلاد، وتحولها إلى ساحة مفتوحة لشبكة أخطبوطية من كبار اللصوص. وهؤلاء لهم نفوذهم وصلاتهم وأسلحتهم.
لماذا يحمل بطل «وحدها شجرة الرمان» كتاب أساطير الرافدين وحده حين يهجر البلد في نهايتها؟ لو احترقت مكتبات العالم كلها وكان عليك إنقاذ كتاب واحد، هل تنقذ الكتاب ذاته؟
– جواد شغوف بالفن ومهتم بتاريخه. وهو يتذكر، في أحد فصول الرواية، الأستاذ رائد، الذي درّسه الفن، وشجعه مبكراً. كان يحدّث طلابه بحماسة عن علاقة الفن بالخلود، وأنه سلاح أمام الموت والزوال، وعن الأسئلة المهمة التي طرحها الرافدينيون القدماء في أساطيرهم. اضطر جواد لأن يعود إلى المغيسل ليواجه الموت يومياً. مما وضعه أمام الأسئلة الصعبة والشكوك التي تطرحها حقيقة الموت على أي إنسان. وبما أنه لم يكن مسلحاً ومدججاً بالإيمان، أو بسردية دينية تفسّر ما لا يُفسّر وتهدئ من روعه، فإنه عاد إلى «أساطير الخلق الرافدينية» التي يجد فيها عزاء. ويجد في عالمها السفلي، مرآة للعالم الذي يعيش فيه كل يوم. كل ذلك في إطار جمالي أخّاذ. سأنقذ أساطير الخلق الرافدينية، بكل تأكيد. وأضيف إليه ديوان شعر، أو أكثر.
ملحق كلمات