عن الموقف في ادلب -مقالات مختارة-
ماذا ستكون حصيلة التقدّم العسكري الذي يُحرزه النظام السوري في محافظة إدلب؟/ مايكل يونغ
جمانة قدور | طالبة دكتوراه في مركز القانون في جامعة جورجتاون، شاركت في تأسيس منظمة “سوريا للإغاثة والتنمية”
منذ اتّساع نفوذ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً، وفرع تنظيم القاعدة في سورية) في إدلب في كانون الثاني/يناير 2019، ضعفت بشكل كبير قدرة المعارضة المسلّحة على تقديم قوة بديلة، مثل تعبئة المجتمع المدني ضدّ هذه المجموعة. أسفر القصف المتواصل الذي تتعرّض له إدلب منذ نيسان/أبريل الماضي على يد النظام السوري والقوات الروسية، على الرغم من أن اتفاق سوتشي نصّ على خفض التصعيد، عن تخبُّط المعارضة المسلّحة من أجل البقاء، ما عطّل بشكل إضافي قدرتها على تركيز جهودها لإضعاف هيئة تحرير الشام. مثل هذه الخطوة تبدو مستحيلةً راهناً، ولاسيما في ظل غياب أي مساعدة جديّة من تركيا. فالتصدّي عسكرياً واجتماعياً إلى هيئة تحرير الشام سيكون أشبه بمهمة مستعصية، ما لم يلتزم النظام السوري وروسيا فوراً بوقف إطلاق النار. بيد أن التجارب السابقة تُظهر أن النظام لا يلتزم بأي وقف لإطلاق النار. إضافةً إلى ذلك، لم يتمّ الإعلان عن نتيجة المحادثات المستمرة بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة، ومن غير الواضح إلى أي مدى سيواصل النظام، الذي ازداد الآن جرأةً، الضغط شمالاً قبل أن يُجبَر على الالتزام بوقف مؤقت لإطلاق النار.
كذلك، لا يُنذر هذا التصعيد الأخير بالخير لمستقبل المسار السياسي. فالسوريون المعارضون للنظام يشكّكون عن حقّ في أن تشكيل لجنة دستورية سيدفع النظام إلى تقديم أي نوع من التنازلات، فيما يعمد إلى قصف آخر معاقل المعارضة لإلحاق الهزيمة بها. علاوةً على ذلك، بلغ حجم الكارثة الإنسانية أبعاداً غير مسبوقة في سورية. فمنذ نيسان/أبريل، أصبح عدد النازحين داخلياً 600 ألف شخص. تجدر الإشارة هنا إلى أن ما من منظمة إنسانية، بما فيها الأمم المتحدة، قادرة مالياً أو لوجستياً على احتواء الكارثة وسط زحف المدنيين شمالاً. وفي غضون خمسة أشهر، ارتفعت أسعار المساكن النادرة بواقع أربعة أضعاف، لتصل تقريباً إلى 400 دولار أميركي شهرياً للشقة الواحدة. نتيجةً لذلك، يعيش العديد من النازحين تحت الأشجار في فصل الصيف الحار. إضافةً إلى ذلك، تمّ تدمير أكثر من 40 مركزاً صحياً، بما في ذلك المستشفى التابع لمنظمتي في حاس، و50 مدرسة، و29 شبكة مياه، وسُوِّيت 17 قرية بالأرض. أما مرافق المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي فشحيحة والأمراض متفشية في كل مكان.
صبحي حديدي | ناقد أدبي وكاتب ومترجم سوري
لم يفاجئني توغّل قوات النظام في خان شيخون، بل المفاجئ أن الوصول إلى المدينة استغرقها ثلاثة أشهر، وتطلّب الأمر انخراطاً مباشراً من مرتزقة روس وحزب الله وعدداً من الميليشيات الشيعية.
اضطرّت موسكو، لقلب موازين المعركة، إلى إشراك إيران في الهجوم، ما سيُدخل جزئياً الحرس الثوري الإيراني كلاعب جديد في معادلة إدلب، ويخالف ما تم الاتفاق بشأنه في الاجتماع الأمني الثلاثي الذي عُقد في القدس بين الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا في حزيران/يونيو الماضي. سيعزّز هذا الأمر أيضاً نفوذ ماهر الأسد المدعوم من إيران، والفرقة الرابعة التي يقودها، على حساب سهيل الحسن المدعوم من روسيا وقوات النمر التي يقودها، وهو أمر يزعج موسكو.
نظراً إلى أن معظم مكاسب النظام تحقّقت من خلال سلسلة انسحابات نفّذها الثوار، سيتّضح أن المعارك المُقبلة للسيطرة على مدن كبرى مثل جسر الشغور ومعرّة النعمان وسراقب وأريحا وكفرنبل أكثر تعقيداً بكثير. هذا يعني أن الكرملين سيحتاج إلى إبرام عدد أكبر من الصفقات مع أنقرة، وهذا ما جرى على الأرجح خلال الزيارة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موسكو هذا الأسبوع. أما أبو محمد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام، فقد يواصل خيانة المقاتلين الحقيقيين على الجبهات، أو يبقى متمسّكاً بخيار شمشون الذي يقضي بإلقاء أوراقه كافة لإعلان معركة الساحل الكبرى على القرداحة وحميميم وجبلة واللاذقية.
إبراهيم حميدي | محرّر دبلوماسي بارز يغطّي الشؤون السورية في صحيفة الشرق الأوسط في لندن
للعبة أكبر من إدلب. في “مثلث الشمال” الذي يضم إدلب وأرياف حلب واللاذقية وحماة، تتداخل عوامل عدة لم تكن موجودة في مناطق “خفض التصعيد” الأخرى. فثمة عمق وخطوط إمداد ترتبط بتركيا، على عكس ما كان عليه الحال في غوطة دمشق. يُضاف إلى ذلك أن تركيا لم تتخلّ في شكل كامل عن المعارضة، كما فعلت الدول الداعمة للجبهة الجنوبية في الجيش السوري الحر.
وثمة أيضاً روابط إيديولوجية بين فصائل إسلامية معارضة وبين حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم. ويختلف “مثلث الشمال” عن غيره في أنه قريبٌ جغرافياً من القاعدتين الروسيتين في اللاذقية وطرطوس، إضافةً إلى أنه قريبٌ جغرافياً من الحاضنة الطائفية للنظام. هذا “المثلث” يضم ثلاثة ملايين شخص، بينهم آلاف من المقاتلين الذين هُجِّروا من مناطق أخرى، ويتألفون من معتدلين وسلفيين ومتشددين، بينهم بضعة آلاف من المقاتلين الأجانب الذي ينتمون إلى تنظيم القاعدة، والمصنّفين بحسب قرارات مجلس الأمن على أنهم “إرهابيون”. وكان بعضهم قد هدّد بتنفيذ عمليات إرهابية ضد الولايات المتحدة والغرب.
هذه العوامل، وأخرى، جعلت مصير إدلب يهمّ تركيا وروسيا والولايات المتحدة وإيران. عملياً، يرتبط مصير إدلب بالتفاهمات والصراعات الإقليمية والدولية. ترتيبات شمال غرب سورية رهنٌ بمستقبل شمالها الشرقي. التفاهم بين الولايات المتحدة وتركيا إزاء مصير الأكراد شرق الفرات سينعكس على تفاهمات تركيا وروسيا حول إدلب.
مصير إدلب مرتبط أيضاً بتطور العلاقات بين موسكو وأنقرة، وصفقة شراء تركيا منظومة “إس 400” الدفاعية من روسيا، وتأثير ذلك على منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والعلاقة بين واشنطن وأنقرة. ولايمكن نسيان مصير الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة وتأثيره على مدى انخراط طهران في معركة تزعج أنقرة، لأن إيران لا تريد أن تعادي تركيا، التي تساعدها في الالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة عليها. اللعبة أكبر من إدلب.
مهنّد الحاج علي | مدير الاتصالات والإعلام وباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، ومؤلّف كتاب بعنوان Nationalism, Transnationalism, and Political Islam: Hizbullah’s Institutional Identity(القومية والرابطة العابرة للقومية والإسلام السياسي – هويّة حزب الله المؤسسية) (Palgrave Macmillan, 2017)
نظراً إلى أن التقدّم السوري-الروسي لم يتم بالتنسيق مع تركيا، ستعمد أنقرة على الأرجح إلى عرقلة هذا التقدّم، إما عبر إقحام قوى المعارضة السورية المنضوية تحت لواء الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا في المعركة، أو من خلال تزويد المعارضة السورية بأسلحة متطورة. بالنسبة إلى تركيا، أي تقدّم تحرزه قوات النظام السوري قد يؤدّي إلى حدوث موجة كارثية جديدة من اللاجئين السوريين المتدفّقين نحو الأراضي التركية، نظراً إلى أن محافظة إدلب تضم أكثر من ثلاثة ملايين شخص، معظمهم من النازحين داخلياً. انتقل عشرات آلاف النازحين داخلياً إلى إدلب بموجب صفقات الإجلاء التي أُبرمت بين النظام السوري وحلفائه من جهة، وبين قوى المعارضة السورية من جهة أخرى، في محافظتَي دمشق وحلب. إلى أين سيذهب هؤلاء اللاجئون؟ فالمنطقة الآمنة التركية التي أُقيمت في شمال سورية عقب عمليتَي درع الفرات وغصن الزيتون أصبحت مكتظة بالسكان. وواقع أن النظام السوري يتقدّم نحو المناطق الشمالية الخاصعة إلى سيطرة المعارضة يقوّض قدرة تركيا على توسيع المنطقة الآمنة. لذلك، قد يكون من الضروري أن تعزّز تركيا انخراطها لوقف تقدّم النظام.
مركز كارنيغي للشرق الأوسط
إدلب التي صارت وراءنا/ عمر قدور
بعد السيطرة على خان شيخون اتجه ثقل القصف الوحشي الروسي والأسدي إلى معرة النعمان. الأخبار الواردة من هناك تفيد بتعرض المنطقة لأعنف استهداف، بحيث أن النزوح منها أيضاً يتعذر في أغلب الأحيان. بعد المعرة من المرجح أن تكون سراقب هي الوجهة التالية، لأن هذه الجولة من الهجوم حققت هدفها الأول بالسيطرة على ريف حماة وبقي تحقيق الهدف الثاني بالسيطرة على الطريق الدولي الذي يربط دمشق بحلب.
القراءات المتفائلة تتفق على استبعاد الهجوم على إدلب لسببين، أولهما أن مثل هذا الهجوم ينذر بانهيار كلي لتفاهمات بوتين-أردوغان، وثانيهما الأزمة الإنسانية الخطيرة التي يُتوقع حدوثها جراء الهجوم، وتحديداً أزمة اللاجئين التي لا يريد الغرب تدفق مزيد منهم. بمعنى آخر، أقصى ما تصل إليه القراءة المتفائلة هو النظر إلى إدلب كمخيم ضخم للنازحين، على أمل أن يضغط هذا العامل الإنساني على الدول الفاعلة سورياً.
لكن فشل مراهنات متفائلة سابقة يجيز لنا عدم الوقوع في فخها من جديد، ففي مناسبات عديدة كانت مستبعدة المواقف الدولية والإقليمية التي ظهرت وأسفرت عن لامبالاة شديدة. أن ننتظر مرة أخرى من العالم سلوكاً يخالف ما كان عليه طوال ثماني سنوات ونصف أمر فيه الكثير من الانفصال عن الواقع، وفيه عدم فهم للمصالح الدولية التي لا تقيم وزناً لا للسوريين ولا للقيم الأخلاقية والإنسانية التي نفترض وجود تأثير عالمي لها.
في المدلول السياسي والعسكري، في وسعنا القول أن معركة إدلب صارت وراءنا، وما تبقى هو تدبير إخراجها الذي لن يخلو من وحشية ودموية. يلزمنا وجود قوى سياسية وعسكرية تعلن ذلك صراحة، إلا أن القوى التي تتصدر تمثيل المعارضة أو قادة الفصائل العسكرية لن يفعل أحد منهم هذا. نتحدث الآن عن إدلب لأن الوضع بات يفقأ عين كل صاحب وهْم، ولأن ما كان واضحاً منذ التدخل العسكري الروسي “متبوعاً بتفاهمات أستانة” يصعب إنكاره اليوم. الاعتراف بالفشل الذريع للخيار العسكري على النحو الذي شهدناه صار ملحاً، فوق أنه صار من البديهيات التي لا يضيف إليها شيئاً شرح الفجوة الشاسعة في تسليح الطرفين.
في سياق التذكير بالبديهيات، من نافل القول أن الفصائل الموجودة في إدلب لن تتمكن من حماية المدنيين، بل إن المدنيين كالمعتاد أول من سيتضرر من وحشية القصف الروسي والأسدي بغرض إبادتهم وترويعهم. شراسة المعركة أو صعوبتها أمر منفصل تماماً، ويخضع لحسابات لا تتعلق فقط بمستوى التفاهمات الدولية وإنما أيضاً بقرار التخلص من بعض الفصائل، والذين لا يكترثون بمصير المدنيين ليسوا أكثر اكتراثاً بمصير المقاتلين. لقد جرى الانقضاض من قبل على مناطق عديدة بذريعة وجود مقاتلين لجبهة النصرة فيها، وستكون الخاتمة أسهل تبريراً في إدلب “لمن يبحث عن تبرير” حيث تتمتع النصرة بأقوى وجود لها.
ثمة حافز قوي جداً لدى موسكو للسيطرة على إدلب، فهي منذ تدخلها العسكري تتاجر بموضوع محاربة الإرهاب رغم استهدافها أولاً الفصائل التي كانت تصنّف معتدلة. القضاء على النصرة فيه إنجاز إعلامي يوازي القضاء على داعش، والتمهيد الروسي أتى بإعلان موسكو سيطرة النصرة على 90% من محافظة إدلب. هناك حافز آخر، فإدلب هي المنطقة الوحيدة الباقية خارج سيطرة موسكو، وخارج السيطرة والمظلة الأمريكيتين، واتفاقات أستانة وسوتشي انتهى دورها لجهة قضم المناطق على دفعات، أي أن الضامن التركي لم يعد له لزوم وفق الصيغة السابقة، والتفاهمات الجديدة معه ستُبنى على أساسات مختلفة تماماً.
بالضغط على إدلب لا نعدم وجود مساحة مشتركة بين أنقرة وموسكو، من بوابة اللاجئين تحديداً. بلا شك تفضّل أنقرة الاحتفاظ بنفوذها في إدلب مع اكتساب موقع نفوذ جديد شرق الفرات، إلا أن تغليب هاجسها الكردي يشجع على مقايضة تكسب فيها في شرق الفرات على حساب الميليشيات الكردية مقابل التخلي عن إدلب. بعبارة أخرى، سيكون الهجوم على إدلب، أو الاكتفاء بقصفها باستمرار لخلق مأساة إنسانية، نوعاً من الضغط على واشنطن لتقبل بالمنطقة الآمنة التي تطالب بها أنقرة. موسكو، التي لا تستطيع الاقتراب مباشرة من المناطق التي تسيطر عليها واشنطن، قد تفضّل الوجود التركي في قسم منها على الأقل.
من جهتها، ليس لواشنطن مطامع استراتيجية شرق الفرات، وبقاؤها ودعمها الميليشيات الكردية يقتصر بعد هزيمة داعش على إبقاء المنطقة حاجزاً أمام طهران التي تتوق إلى فتح مجالها الحيوي البري بين العراق وسوريا. التخلص من النصرة وحل مشكلة لاجئي إدلب وإرضاء الحليف التركي قد تكون مجتمعة رزمة مقبولة لإبعاد الميليشيات الكردية عن شريط يُتفق عليه في شرق الفرات، مع التنويه بأن واشنطن لا تملك تصوراً استراتيجياً للعلاقة مع الأكراد، وسبق لها في العديد من المناسبات أن خذلتهم إرضاء لأنقرة وسواها من حكومات المنطقة المعنية بالملف الكردي.
جدير بالذكر أن واشنطن لم تكن في أي وقت بعيدة عن توزيع مناطق النفوذ، ومع عدم حضورها في مسار أستانة فهي كانت مواكبة له، ومواكبة لتسليم العديد من المناطق لقوات الأسد، بما فيها الجبهة الجنوبية التي كانت تحت سيطرتها. إن عدم التدخل الأمريكي لعرقلة المسار الروسي يصعب فهمه إلا على محمل الموافقة، بل أبعد من ذلك يجوز فهمه على محمل التنسيق بين الجانبين، على الأقل التفاهم الضمني بينهما.
لقد استهلك مسلسل إعادة السيطرة إلى الأسد، فوق كلفته الباهظة من الدم والأرواح، وقتاً من أعصاب وعقول سوريين لم يتجرؤوا على مواجهة أنفسهم أو الآخرين بالمآل الكارثي الذي وصلنا إليه. القول أن إدلب صارت وراءنا يبدو اليوم واجباً لمنع جولة جديدة من الأوهام، ومن ثم الاستفاقة منها بدهشة أو ذهول متجددين. وهو قول بما يرمز إليه يصحّ إذا بقيت إدلب بمثابة مخيم ضخم للنازحين، أو في حال اعتماد مخيم بديل عنها. مع تثمين قيمتها كأي أرض سورية، ربما علينا الإقرار بأن أفضل ما يمكن تقديمه لإدلب هو البدء بالتفكير مما بعدها.
المدن
الثمن الباهظ للتناقض في سياسات أنقرة/ عروة خليفة
يكشف مسار العملية العسكرية التي ينفذها النظام بدعم روسي إيراني في إدلب، والأزمة الإنسانية الهائلة المرافقة لها، عن عدة وجوه للتناقضات التي تحكم مستقبل هذه المنطقة من سوريا، ومستقبل سوريا عموماً، فهذه الأوضاع التي يدفع أهالي إدلب ثمنها اليوم، جاءت نتيجة عوامل متعددة يقع في القلب منها ما يمكن تسميته بالتردد الاستراتيجي الذي سيطر على ردود الأفعال الدولية والإقليمية تجاه المسألة السورية.
وقد أظهر الموقف التركي طوال الفترة الماضية عجزاً عن الوقوف في وجه هذه الهجمة دون مساندة غربية، وهي المساندة التي كانت قد لعبت دوراً هاماً في الدفع باتجاه إيقاف العمليات العسكرية التي كانت موسكو عازمةً على البدء بها الخريف الماضي، وهو ما أدى إلى توقيع اتفاق سوتشي وقتها. إلا أن حصول أنقرة على دعم غربي حاسم لسياستها في سوريا اليوم يبدو أمراً بعيد المنال، لأن سياساتها طوال الفترة الماضية كانت صدامية مع الدول الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وذلك في عدة ملفات على رأسها ملف شرق الفرات وملف شراء منظومة الدفاع الجوي الروسي (S400)، لتكون النتيجة اليوم أن تقاربها مع موسكو في عدة ملفات يتناقض استراتيجياً مع المصالح الأميركية في المنطقة، ويؤدي إلى عدم اتخاذ واشنطن والدول الأوروبية موقفاً واضحاً، حتى بعد أن دفعت العمليات العسكرية التي تشنها موسكو أكثر من مليون نسمة إلى النزوح من بيوتهم نحو مناطق قريبة من الحدود التركية.
وكانت هذه التناقضات قد بدأت مع انخراط تركيا في مسار أستانا إلى جانب روسيا وإيران منذ 2017، في الوقت الذي لم تكن فيه تركيا جاهزة للتخلص عن حلفها الاستراتيجي مع واشنطن. وقد استخدمت تركيا نفوذها في سوريا للضغط على الجانبين، الروسي والأميركي، الأمر الذي حقق لها بالفعل عدداً من المكاسب السياسية، إلا أن الذهاب بعيداً في هذه السياسية لا يبدو أنه يمكن أن يحمل النتائج نفسها على المدى الطويل، بل يبدو اليوم أن أنقرة استنفذت رصيد هذه اللعبة الاستراتيجية، كما أن تركيز جهودها على مسألة القضاء على مشروع الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني قد أدى إلى إضعاف موقفها اليوم في إدلب، التي يبدو أنها لا تملك أي استراتيجية واضحة فيها، ما جعل استجابتها بالغة الضعف تجاه التحديات التي فرضتها العملية العسكرية الروسية الإيرانية الأسدية في المنطقة.
وعلى الرغم من الدعم العسكري الذي قدمته أنقرة لبعض فصائل المعارضة في بداية المعركة، وخاصة في شهري أيار وحزيران، إلا أن غياب الغطاء والدعم الدولي لجهودها تلك أدى إلى استمرار عمليات القصف الوحشية، التي أدت في النهاية إلى كسر خطوط الدفاع في المنطقة، ومن ثم سيطرة النظام على ريف حماة الشمالي وجزء مهم من ريف إدلب الجنوبي.
ويرجع ضعف الموقف التركي في مواجهة السياسات الروسية في سوريا إلى العام 2015، عندما ترددت واشنطن بدعم أنقرة في أزمة إسقاط الطائرة الروسية، وقبلها عندما سحب حلف شمال الأطلسي منظومة الباتريوت التي كان قد نشرها على الحدود الجنوبية لتركيا مع سوريا، وهو الأمر الذي أدى إلى تغيير أنقرة لموقفها من التدخل الروسي في سوريا، وإعادة بناء علاقاتها معها، وصولاً إلى ما يشبه التحالف في ملفات عديدة، وإلى شراء منظومة الصواريخ الروسية، وهو ما أدى بدوره إلى غضب واشنطن التي رأت في انقلاب حليفتها القديمة نحو إقامة علاقات عسكرية واستراتيجية مع موسكو إهانة غير مقبولة.
ورغم دخول أنقرة وواشنطن في عملية تفاوضية لإنشاء منطقة آمنة شمال شرق سوريا، فإن العلاقة بينهما لا تزال باردة على ما يؤكده التصاعد المستمر في التصريحات المضادة من الحكومة التركية. ويبدو أن وصول العلاقة بين واشنطن وتركيا إلى هذا المنعطف الحاسم سيؤدي في كل الأحوال إلى تراجع موسكو عن مراعاة المصالح التركية في ملف إدلب، لأن نجاح التقارب التركي الأميركي سيجعل موسكو غير مهتمة بالحفاظ على تفاهماتها مع تركيا في سوريا، والنتيجة نفسها ستحصل في حال انهيار التفاهمات التركية الأميركية أيضاً، لأن موسكو ستكون قد حققت أحد أهداف تفاهماتها مع تركيا في سوريا، الذي هو ضرب العلاقة الأميركية التركية على نحو لا رجعة عنه.
بغض النظر عن بدء مرحلة ثانية من المعارك في إدلب، أو الوصول إلى اتفاق ما بين أنقرة وموسكو، فإن ما بات واضحاً هو أن جميع التفاهمات بخصوص ملف إدلب ستكون مؤقتة، وستستخدمها موسكو فقط من أجل جرّ المعارضة السورية إلى المسار السياسي الذي تريديه، ومن أجل مزيد من تأزيم العلاقة بين تركيا والدول الغربية. وما لم تحدث معجزة تؤدي إلى عودة الدعم الأميركي والأوروبي سياسياً وعسكرياً لأنقرة وفصائل المعارضة في إدلب، فإن نتائج التطورات في هذه المنطقة أصبحت معروفةً للأسف؛ السوريون يدفعون الثمن لتناقضات الإقليم.
يبدو أن تأخر أنقرة في اختيار أحد الطرفين بشكل نهائي قد أفقدها القدرة على الاختيار أصلاً، وسيفقدها أكثر فأكثر إمكانية أن تكون حليفاً كاملاً لأي من الطرفين. وربما كانت الحكومة التركية تعتقد أنها قادرة على التصرف منفردة في الإقليم، لكن التطورات الأخيرة في إدلب، وعجزها عن الوصول إلى اتفاق مشابه لتفاهم سوتشي من دون دعم أوروبي وأميركي، يظهر بوضوح أنها ليست قادرة على هذا في الواقع، وربما ستضطر في النهاية إلى القبول بالشروط التي يمليها عليها أحد الطرفين، أو كلاهما.
موقع الجمهورية
إنهم يتفاوضون بدمائنا/ قاسم البصري
لم تتورّع قوات الاحتلال الروسي في قتالها ضدّ فصائل المعارضة السورية في أرياف حماة وإدلب عن استخدام أشدّ ما تحتويه ترسانتها العسكرية قدرةً على السحق والتدمير، ويبدو واضحاً أنّ هذا الاستخدام المنفلت للعنف يتخطى بأقدار هائلة ما تستلزمه المعارك الجارية هناك، وأنه لا يتناسب مع طبيعة ونوعية سلاح الأطراف المقابلة، ولذا يجدر القول هنا، رغم أننا إزاء حقيقةً بديهية، إننا أمام عدو متجبّر يعتبر إفراطه في سحقنا وتحطيمنا مناسبةً لاستعراض القوة؛ جيش بهيمي عملاق يستعرض عضلاته ومهاراته على حطام السوريين. مؤلمٌ جداً ما يفعله بأهلنا جيش روسيا، وأكثر إيلاماً منه أنّ لهذا الجيش البهيمي أذنابٌ منّا نحن السوريين، لا يقلّون بهيميّةً عنه، وهؤلاء هم جيش السارين الأسدي.
هذا العنف الروسي الدنيء لم يتوقف عند السحق والقتل وتهجير الناس بالأدوات العسكرية، بل امتدّ أيضاً إلى الجانب السياسي، بتصريحات فلاديمير بوتين في معرض زيارته إلى فرنسا، والتي أعاد فيها استخدام وجود «هيئة تحرير الشام» كذريعةٍ لأعمال التدمير والقتل والتهجير الروسية في إدلب وحماة، حيث ادّعى أنّها لم تعد تتحكم فقط بنصف إدلب، وإنما باتت اليوم تسيطر على 90 بالمئة منها، وأنّ مقاتليها سينتقلون إلى مناطق أخرى من العالم. يقول بوتين ذلك رغم علم الجميع بأنّ الهيئة ليست هدفاً له بحدّ ذاتها، وإنّما الوسيلة التي يستخدمها على الدوام لتدمير المناطق الثائرة وإبادة قاطنيها.
بوتين لا يحارب الإرهاب، ولا يعنيه لو التهمَ الإرهابُ العالم كله. معادلة بوتين هي أنّ سوريا ساحته التي يقرر فيها كل شيء على الرغم من إرادة العالم كله، وبتواطؤ من القوى النافذة في العالم كله، فهؤلاء الذين يقتلهم ويحتل أرضهم في إدلب وحماة يستحقون الموت لأنّهم إرهابيون، وعلاوةً على ذلك فإنّ على العالم أن يكون ممتناً لجيش بوتين لأنه يخلّصه منهم. هو كلامٌ لا يقلّ وقاحةً عن سلوك الآلة العسكرية التي يُعملها فوق رؤوس أهلنا في إدلب وحماة.
ويبدو مستغرباً أن يُتعب بوتين نفسه بتقديم ذرائع تبرّر قتله السوريين، فقد وصل التعامل الدولي مع مأساتهم حداً لا يمكن توصيفه بعدم الاكتراث، بل صار السوري وحياته ودمه ووجوده أمراً محتقراً لا يرقى للنقاش والأخذ والرد. العالم يتعامل مع السوري على أنّه دنسٌ يتوجب التطهر منه، وإلا كيف يمكننا، بغض النظر عن جدوى انعقاد مجلس الأمن من عدمه، تفسير إلغاء الجلسة المتعلقة بتطورات إدلب وريف حماة لكون السيد غير بيدرسن يشتكي من وجعٍ في عينه بينما تُقتلع ألوف العيون السورية! هل من الممكن أن يصل العالمُ حضيضاً أكثر قذارةً من هذا!
في الجانب المقابل، يحتار المتابع في وصف دور ووظيفة وتصرفات الضامن التركي، فهو إنْ أحسنّا به الظن واعتبرناه غير متواطئٍ مع الروس في صفقةٍ جرى التخلي بموجبها عن مناطق من ريفي حماة وإدلب مقابل مكاسب معيّنة للأتراك في سوريا نفسها، فإنّه ضامنٌ كرتوني بلا حولٍ ولا قوة، يلعب دور موظف مؤقت في سوريا. يبدو الجانب التركي متعهّداً يمارس أعمال وصاية بتفويض روسي أميركي، وتحفّزه على ذلك هواجس قومية وصراعات تاريخية لا دخل لسوريا أو السوريين بها.
علاوةً على ذلك، عندما توجّه رتلٌ من الجيش التركي نحو مدينة خان شيخون، التي دخلها صباح أمس الجيش نفسه الذي قصفها بغاز السارين قبل عامين، كانت مجموعة من المقاتلين السوريين من فصيل فيلق الشام يرافقون ذلك الرتل، وقد قُتل عددٌ منهم في إطار ما أسماه إعلام نظام الأسد «رسالةً تحذيرية» للجيش التركي. شبابٌ سوريون من لحم ودم يموتون من أجل إرسال تحذير للجيش التركي، الذي يكتفي بما هو أقل من بيان صحفي عن الحادثة. هل يعقل أن يستخدم الضامن التركي السوريين الذين يتبجّح بحمايتهم كدروع بشرية في مواجهة شريكه الروسي في مهزلة أستانا!
وإذا كان الجيش التركي بحاجة لحماية فصيل مثل فيلق الشام في تحركه، فكيف يمكن له أن يكون ضامناً لمنطقة يقطنها قرابة خمسة ملايين سوري، من أهلها ومن أولئك الذين احتموا بها بعد أن طُردوا من بيوتهم؟ ربما يكون الأتراك قد وصلوا مع الروس إلى تفاهماتٍ جديدة لا تقيم وزناً لنا كسوريين، وهذا غير بعيدٍ ولا مُستغرب لأننا سبق أن شهدنا مثيلاً له أكثر من مرة، وربما لا يكون الأمر هكذا هذه المرة، إذ قد يكون الأمر برمته رقصة نار تركية روسية يحاول فيها الطرفان تسجيل نقاط ضد بعضهما بعضاً؛ ولكن أليست حيوات السوريين جديرةً بإعلان ذلك لهم حتى يقرّروا بأنفسهم إذا ما كانوا سيقاتلون أم لا، وبذلك يكون قتالهم خياراً لا يُمنعون عنه ويتحملون عواقبه؟ لماذا يُقتل أهلنا في معارك محسومة النتائج من وراء ظهورهم؟ وحده حسّ الناس الذين يعيشون اليوم تحت وابل النيران يمكنه الإجابة عن هكذا أسئلة، وهو ما تجلى في اللافتة التي رفعها أول من أمس متظاهرون في جرجناز، وقد كتبوا عليها «اسمع أردوغان… كفاك عبثاً بدمائنا».
ليس بيننا من لا يدينُ قادة الفصائل العسكرية على ارتهانهم وتبعيتهم وصراعاتهم وفشلهم، ولكن تحت إمرة هؤلاء القادة شبابٌ صغار شبّوا وهم يرون محرقةً هائلة تلتهم أهلهم وأحبابهم، فلم يتعلّموا ولم يُراهقوا كما ينبغي لهم، ولكنهم دافعوا عن أنفسهم وعن بيوتهم وعن الناس الذين يحبونهم، ودافعوا عن حقهم في الحياة والكرامة. هؤلاء ليسوا جهاديين، ولا يقاتلون من أجل تركيا وقاعدة أبي محمد الجولاني ومشاريعه الساقطة، ولا من أجل أن تصبح سوريا مستعمرةً روسية أو أميركية، هؤلاء يقاتلون من أجل كرامة العالم وجدوى استمرار الحياة فيه.
موقع الجمهورية