الإخوان المسلمون: في استمرارية اﻟ(لا)أصالة/ حسام الدين درويش
عقد “الإخوان المسلمون” مؤخرًا (14-15 سبتمبر 2019) مؤتمرًا، تحت شعار “أصالة الفكرة واستمرارية المشروع”. ومن الضروري هنا توضيح المعنى الملتبس لمفهوم الأصالة، ومعرفة ماهية الأصالة التي يتحدث عنها و/ أو يتسم بها “الإخوان المسلمون”. يحيل مفهوم الأصالة على مفهومين أو معنيين يبدو، لأكثر من وهلةٍ، أنهما متناقضان. فمن جهةٍ أولى، ترتبط الأصالة ﺑ “الأصل”، والأصيل عندئذٍ هو من يكون نسخةً مكررةً عن هذا الأصل، ويعمل على استعادته وتكراره وتجسيده المستمر في الحاضر والمستقبل. يحيل الأصيل، من جهةٍ أخرى، على المختلف والجديد والحديث والمتمايز عن المغايرين له مكانًا و/ أو زمانًا. ويمكن التوفيق بين المعنيين بالقول كان لأصلٍ ما أصالته في زمنٍ ما، من خلال تميزه واختلافه (الإيجابي) عن سابقيه ومعاصريه، ويمكن الحديث عن وجود أصالةٍ ما، بقدر وجود هذا التمايز، وليس من خلال أي تماثلٍ مع مضمون أصالة أي طرفٍ آخر. فأن نكون أصيلين مثل الآخرين، فهذا يعني أن نكون مجددين ومتمايزين مثلهم، لكن مختلفين، حتى عنهم.
كثيرًا ما يستخدم المحافظون و”الرجعيون” مفهوم الأصالة، بمعناه الأول، ويجهلون أو يتجاهلون معناه الثاني. وفي مؤتمرهم المنعقد مؤخرًا، يبدو أن الإخوان المسلمين مصرون على أن يكونوا أصيلين، بالمعنى الأول، والمتمثل في استمرارية/ تكرار أصلٍ/ ماضٍ ما، حتى لو كان ذلك على حساب افتقادهم للأصالة المرتبطة بالاختلاف والتمايز عن هذا الأصل/ الماضي. وعلى هذا الأساس يمكن أو ينبغي لنا أن نفهم شعار مؤتمرهم المذكور. ولتوضيح هذه الفكرة، وإبراز بعض القرائن الدالة على موضوعيتها ومعقوليتها، سأناقش بعض ما جاء في ذلك البيان.
يشدِّد البيان في أكثر من بندٍ وموضعٍ، على تمسك الجماعة بمبادئها وأسسها وثوابتها ومنهجها. وأهم الأسس المذكورة هي “كناب الله وسنة نبيه” بالإضافة إلى فكر “الإمام الشهيد حسن البنا”. ليس هناك أي حديثٍ عن مراجعة نقديةٍ لهذه المبادئ والأسس، أو للتأويلات السابقة المتبناة في خصوصها. فما كان صالحًا في زمانٍ ما، يبدو أنه، صالحٌ لدى الإخوان، في كل زمانٍ ومكانٍ! ويبدو ذلك شديد الوضوح في مفهومهم عن “الدولة المنشودة”. فلفهم رؤيتهم ومفهومهم لهذه الدولة، يحيلنا البيان على “وثائق الجماعة المعتمدة في كتابات الإمام البنا عن نموذج الدولة الإسلامية العادلة ومبادئ الحكم الرشيد”. قد لا يكون المرء بحاجةٍ إلى العودة إلى نصوص البنا، التي مضى عليها أكثر 70-80 عامًا، ليعلم نوعية “أصالة” الإخوان، ومدى قوة هذه الأصالة التي تُختزل غالبًا في استمرارية ماضٍ ما. وسأقتبس من البيان الفقرة التي تتضمن تلك الفكرة، ليس للتوثيق ولإطلاع القارئ مباشرةً على مضمون البيان فحسب، بل أيضًا لأن هذه الفقرة تتضمن جملةً غير كاملة، فهي تبدأ ﺑ “أنَّ، واسم أنَّ” وتنتهي بدون وجود خبرلهذه اﻟ “أن”! وهذا نص الفقرة 12: “أن مفهوم ورؤية الجماعة لقضية الدولة الإسلامية المدنية المعاصرة والتي عبرت عن أركانها ومواصفاتها ومرجعيتها في العديد من وثائقها المعتمدة في كتابات الإمام البنا عن نموذج الدولة الإسلامية العادلة ومبادئ الحكم الر شيد”. لا تتضمن الجملة/ الفقرة خبرًا ﻟ (أنَّ) أو خبرًا عن مفهوم الجماعة ورؤيتها، وأتطلع إلى يومٍ يأتي فيه الخبر بأن الجماعة مدركةٌ بأن هذه الرؤية وذلك المفهوم يحتاجان إلى مراجعةٍ جذريةٍ وشاملةٍ، وتجاوزٍ، نظريٍّ وعمليٍّ، فعليٍّ، يأخذ في الحسبان مستجدات الراهن وقيمه وفكره ومتطلباته ومتغيراته.
يحفل البيان بالمصطلحات الغامضة الفضفاضة، وهو ما يثير الشبهات لدى المرتابين “أصلًا”، أو يعطي تسويغًا للتشكيكات. فعلى سبيل المثال، ليس واضحًا معنى “الدولة الإسلامية”، وكيف يمكن لهذه الدولة أن تكون إسلاميةً من جهةٍ، وديمقراطيةً ومدنيةً من جهةٍ أخرى. ففي خصوص الديمقراطية، يؤكِّد البيان “أصالة” النظرة الإخوانية التقليدية التي تتضمن غالبًا تناقضًا كاشفًا بين اختزال معظم الإسلاميين/ الإخوان للديمقراطية في صناديق الاقتراع، من جهةٍ، ورفضهم الضمني أو الصريح لأي اقتراعٍ يختار فيه “الشعب” ما يرى الإسلاميون أنه يخالف رؤيتهم “للدولة الإسلامية المدنية المعاصرة”. ونلمس توجهًا “شعبويًّا”، مهيمنًا غالبًا، في فكر الإخوان المسلمين/ الإسلاميين”، فهم يكررون، في البيان وخارجه، أن “اختيار الشعوب الإسلامية لحكامها ينبغي أن يحصل عبر “آليات ديمقراطية ترتضيها وتتوافق عليها”، ويشددون على ضرورة الانطلاق من المقومات الأساسية لمجتمعاتنا”. قد يُقال، وما المشكلة في هذا الكلام؟ أليست الديمقراطية هي تجسيدًا لإرادة الشعب وطريقةً لتعبيره عن نفسه واختيار ممثليه وما يناسبه؟ في الإجابة عن هذا السؤال الذي قد يتبنى، صراحة أو ضمنًا، اختزالًا للديمقراطية في صناديق الاقتراع، ينبغي التشديد على أن “الديمقراطية المنشودة” (ينبغي أن تكون) مشروطةً بمبادئ أو مفاهيم المواطنة والعدالة والمساواة الأولية والأساسية في الحقوق والواجبات. ولا يمكن أن نقول بديمقراطية أي آليةٍ أو منظومةٍ سياسيةٍ إذا تضمنت تمييزًا على أساس الدين أو ما شابه. وهذا التمييز منافٍ للديمقراطية، بل ومضادٌّ لها، حتى لو صوتت لصالحه أغلبية أفراد المجتمع/ الدولة. ولهذا لا ينبغي الاكتفاء بالحديث عما ترتضيه الشعوب وتتوافق عليه، أو عن مقومات أساسيةٍ لمجتمعنا، بوصفها نقطة انطلاقٍ لبناء نظامٍ ديمقراطيٍ، بل ينبغي أيضًا إخضاع هذا التوافق، الفعلي أو المزعوم، وهذه المقومات، لرؤيةٍ نقديةٍ مؤسَّسةٍ على قيم الديمقراطية ومبادئها، ومؤسِّسةٍ لها، في الوقت نفسه. وليس واضحًا ماهية الديمقراطية التي يتبناها “الإخوان، ومدى تبنيهم الفعلي لمبادئ الديمقراطية ومفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان/ الفرد، وحرياته السياسية والدينية والاجتماعية.
ويصعب الاعتقاد بأن “الإخوان” يتبنون فعلًا تلك المبادئ والمفاهيم والحقوق والحريات، إذا أخذنا في الحسبان أن “دولتهم المنشودة” هي دولةٌ دينيةٌ/ إسلاميةٌ. فهذه الصبغة الدينية ستجعل الدولة منحازةً لطرفٍ أو أكثر، على حساب طرفٍ آخر أو أكثر، وممثلةً للطرف الأول، بالتوازي مع إقصاءٍ ما للأطراف المختلفة معه أو المخالفة له. ويتناقض مفهوم الدولة الدينية، بالضرورة، مع مفهوم المواطنة، الذي يفترض انتماء الدولة إلى جميع المواطنين، على قدم المساواة، وبدون أي تمييزٍ دينيٍّ أو طائفيٍّ أو ما شابه. ويبقى التوتر سائدًا بين مفهومي الأمة والدولة، لدى الإخوان عمومًا، وفي بيانهم المذكور خصوصًا. فعلى الرغم من السمة الدينية لمفهومهم عن الأمة وعن “الدولة المدنية المعاصرة”، يؤكد “الإخوان” أن الواجب يقتضي من القوى السياسية والنخب الفكرية والثقافية وكافة المهتمين بالشأن العام الالتقاء … سعيًا للتعاون … من أجل الصالح العام للأمة”. لكن ما المقصود بالأمة هنا؟ للوهلة الأولى، يبدو أن المقصود هو “الأمة الإسلامية”، فصفة الإسلامية حاضرةٌ باستمرارٍ مع “الأمة” في البيان. لكن كيف يمكن للإخوان أن يطلبوا من “كل النخب والمهتمين بالشأن العام”، ومن ضمنهم المنتمين لأديانٍ أخرى، أو غير المتدينين أصلًا، الالتقاء والتعاون، من أجل الصالح العام ﻟ “أمتهم الإسلامية”. ألا يقتضي هذا التعاون والصالح العام للجميع، ما قلنا إن الديمقراطية تقتضيه، وهو أن تكون الأمة هنا أمة/ وطن أفراد مواطنين، وليس أمة جماعةٍ أو جماعاتٍ دينيةٍ؟
قد يقال إن بيان الإخوان لا يتحدث عن دولةٍ إسلاميةٍ فحسب، بل وعن دولة “مدنية معاصرة” أيضًا. في مناقشة هذا القول، ينبغي أن نفهم ما المقصود بالسمة “المدنية هنا. فمن ناحية أولى، يتحدث بعض الإخوان/ الإسلاميين عن سمة “المدنية”، لتجنب مفهوم “العلمانية” ورفضه، وبوصفها نقيضًا للسمة العسكرية، ومرادفًا للمعاصرة والتقدم والحداثة، بالمعنى القيمي لهذه الكلمات … إلخ. وانطلاقًا من ذلك، يخشى ويرتاب كثيرون من هذا “الجمع الإخواني”، بين مدنية الدولة ودينيتها، ويرون فيه تناقضًا ذاتيًّا؛ وتزداد شدة هذه الخشية، وتتحول إلى تشكيكٍ في معنى هذه “المدنية”، بل وإلى يقينٍ بمعناها السلبي أو بافتقارها إلى معنىً إيجابيٍّ، حين تعبر شخصيةٌ إخوانيةٌ بارزةٌ عن أصالتها الشديدة، من خلال قولها بأن “مدنية الدولة” تعني أن تكون مماثلةً ﻟ “دولة النبي في المدينة”!
من الجيد أو الإيجابي وجود ثوابت، لكن من الضروري ألا تكون هذه الثوابت جوامد، لا يمسها تعديلٌ أو نقدٌ جذريٌّ ما، على الرغم من اختلاف السياقات الزمكانية، وتغيرها المستمر. الانطلاق من مبادئ معينة أمرٌ إيجابيٌّ ومحمودٌ، من حيث المبدأ، لكن الانطلاق يعني الذهاب إلى ما هو مغايرٌ، وعدم الاقتصار على ما هو مماثل لتلك المبادئ. فكل “انطلاقٍ من” يقتضي “الانطلاق إلى”. و”الانطلاق من”، يعني أن نترك أو نغادر، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، ما “ننطلق منه”. كما ينبغي ﻟ “ما ننطلق إليه أو نحوه” أن يؤثر فيما ننطلق منه، بدلًا من الاقتصار على التأثر به، وفقًا للمنطق أو التوجه “السلفيٍّ/ الرجعي”، بالمعنى الواسع للعبارة. ومن الجيد تأكيد البيان أن “جماعة الإخوان” مجرد “جماعة من المسلمين وليست جماعة المسلمين”، لكن ينبغي التشديد، في المقابل، على أن الدولة والمجتمع لا يتكونان من جماعةٍ أو أكثر من المسلمين فحسب، بل هناك، من جهةٍ أولى، جماعاتٌ أخرى غير مسلمةٍ أو غير دينيةٍ، وهناك، من جهةٍ ثانيةٍ، أفرادٌ يرفضون التعامل معهم، انطلاقًا من نسبها أو انتمائهم بالولادة إلى هذه الجماعة أو تلك، ويصرون على أن يتم التعامل معهم، وفقًا لفرديتهم وانتماءاتهم القائمة على الانتساب الإرادي فقط.
قد تحتاج جماعة الإخوان وقتًا وجهدًا كبيرين، للتخلص من “(لا-) أصالتها”، في التعامل مع مسائل الديمقراطية والدولة الوطنية، ولتبني مفاهيم المواطنة ومنظومة حقوق الإنسان/ الفرد، المستقلة، جزئيًّا ونسبيًّا، عن الانتماءات الدينية أو الطائفية أو المذهبية الضيقة. لكن من الواضح أن الروح الإقصائية التي يتضمنها “الفكر الإخواني الأصيل” لن تفضي، في كثيرٍ من الأحيان، إلا إلى قيام إقصائيةٍ مقابلةٍ، تقول باستحالة ولا مرغوبية الفكر الإخواني وفكر الإسلام السياسي عمومًا، أو استيعابهما، بدعوى أن هذا الفكر لا يمكن إلا أن يكون معادّيًا للديمقراطية، صراحةً أو ضمنًا. وانطلاقًا من ذلك، يتحدث بعض النافرين من “الفكر الإخواني” عن معقولية أو ضرورة “سحق هذا الفكر”. بين هذين الطرفين “الإقصائيين”، لا بد من وجود وسط ذهبيٍّ يتقبل فيه كل طرفٍ الطرف الآخر، في إطار قبول، بل وتقبُّل، مبادئ الديمقراطية والمواطنة ومنظومات الحريات والحقوق الأساسية للإنسان/ الفرد.
بروكار سوريا