الإسلام النبوي زمن مكة كان أشبه بالحركة العلمانية/ سوسن زكزك
أي علمانية تناسب سوريا! (2)
في المقال الثاني من ملف “آفاق العلمانية في سورية” تتحدث الكاتبة والناشطة، سوسن زكزك، عن زيف علمانية النظام السوري والمعارضة على السواء، خاصة فيما يتعلق بحقوق النساء وقانون الأحوال الشخصية٫ معتبرة “الخطاب العلماني في سوريا ليس خطاباً علمانياً عميقاً بل هو خطاب رد فعل سياسي”.
يُعد التساؤل عن إمكانية علمنة الدولة في سوريا من أهم الأسئلة وأكثرها تعقيداً في السياق السوري، خاصة بسبب التعددية الدينية والعرقية والثقافية السائدة في المجتمع السوري. إلا أنّ هذه التعددية، ذاتها، هي التي تمنح المطالبة بعلمنة الدولة شرعيتها من أجل ضمان المساواة بين مكونات هذه التعددية، وحتى لا يتمكن مكون واحد من الهيمنة على بقية المكونات. مع التأكيد على أنه لا يمكن استخدام مفاهيم الأكثرية والأقلية في هذا السجال، طالما أنه ليس مسموحاً للأقلية بأن تتحوّل إلى أكثرية، وطالما أنّ الأكثرية ليست مهدّدة بأن تتحول إلى أقلية.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: ما هي العلمانية التي تناسب سوريا بنسائها ورجالها وبأشكال تعدديتها المتنوعة؟!
آفاق العلمانية في سورية (مقدمة الملف)
تُعرّف الدولة بأنها إطار الحكم السياسي والاقتصادي والقانوني مع الشعب ومع الأرض أيضاً، وأعتقد أن فصل الدين عن مكونات الدولة الثلاثة هو أمر غير ممكن مع شعب مؤمن، (ونقصد هنا ثقافة الشعب التي تشكل الأديان رافدا أساسيا لها، ولا نقصد هنا حق الفرد بأن يكون مؤمنا وعلمانيا في الوقت ذاته)، مع اختلاف الديانات التي يؤمن بها، ومع أرض حفظت تاريخاً مسيحياً وتاريخاً إسلامياً موغلين في القدم.
وهذا يعني أن العلمانية التي يمكن أن تناسب سوريا هي الفصل بين الدين وإطار الحكم السياسي والاقتصادي والقانوني بجميع استطالاته بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية التي يجب اعتبارها جزءاً من إطار الحكم القانوني لأنها تنظم العلاقة بين أفراد الخلية المجتمعية الأساس، وهي الأسرة.
ولطالما وقع الكثيرون في خطأ اعتبار قوانين الأحوال الشخصية تقع في إطار الحيز الخاص، فالحيز الخاص هو الحيز المتصل بالفرد، رجلاً كان أم امرأة، وليس هو الحيز الخاص بالرجل كرب أسرة يدور في فلكه الزوجة، أو الزوجات، والأطفال. فالمطلوب من قوانين الأحوال الشخصية تنظيم حقوق المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، والذين يعيشون في إطار الأسرة باعتبارها إطاراً مجتمعياً من الأطر المجتمعية الموجودة في أي مجتمع.
( لا بد للعلمانية في سوريا من أن تنزع صفة القدسية عن هذه الأيقونات كافة، فكل إنتاج بشري، شخصاً كان أم أي شيء آخر، يجب أن يأخذ مكانه الطبيعي باعتباره بشراً أو منتوجاً بشرياً/ خاص حكاية ما انحكت)
لقد انسحب شكل الأسرة الأبوية (البطريركية) على الدولة السورية التي كانت، خلال تاريخها القريب، دولة أبوية بامتياز، فمكانة رأس الدولة تشبه “قدسية” مكانة رب الأسرة في العائلة، كما أن مكانة الدستور هي مكانة مقدسة تشبه مكانة القانون الذي يضعه الأب لتسير العائلة على هداه، وحزب رأس الدولة هو حزب مقدس لأنه يمثل مرجعية الأب “المقدس”. وهذا كله نلمسه بوضوح في دستور سوريا الذي أُقِر عام 1973، وكذلك في دستور 2012 الذي باتت صلاحيات رئيس الدولة فيه مكان الحزب فلا يجوز انتقادها أو المطالبة بالحد منها.
لذلك كله لا بد للعلمانية في سوريا من أن تنزع صفة القدسية عن هذه الأيقونات كافة، فكل إنتاج بشري، شخصاً كان أم أي شيء آخر، يجب أن يأخذ مكانه الطبيعي باعتباره بشراً أو منتوجاً بشرياً. ونعني هنا أن تُنزع القدسية عن إنتاج بشري مثل الأيديولوجيات الحزبية أو الأشخاص، خاصة القادة، أي فصل الديني عن الدنيوي.
حول علمانية النظام السوري
من الخطأ بمكان اعتبار أن النظام السوري هو نظام علماني، فليس كل نظام غير ديني هو نظام علماني، كما أن حزب البعث، الذي حكم (نظرياً) سوريا لعقود، ليس حزباً علمانياً لأنه يعتبر أن الرسالة الخالدة للأمة العربية هي الإسلام.
فعوضاً عن تشجيع العمل المدني المستقل، بنى النظام بنية شمولية تمثلت بعدد من الاتحادات والمنظمات الجماهيرية التي لا يجوز لأحد أن يعمل مستقلاً عنها أو يعمل لتحقيق أهداف تتشابه مع أهدافها. وفي مناخ من التضييق على العمل المدني المستقل، أنشأ النظام الآلاف من “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن”. واشتدت سياسات مغازلة التيار الديني الأصولي بعد عام 2006، العام الذي سُمح فيه للقبيسيات بالعمل شبه العلني، فجرى حل جمعية المبادرة الاجتماعية (2007) لأنها أجرت استبياناً ميدانياً حول قانون الأحوال الشخصية العام، كما صدر تعميم القيادة القطرية لحزب البعث الخاص بموقف الحزب من جماعة الشيخ عبد الهادي الباني (2009)، والذي اعتبر عمل جماعة الشيخ الباني في إطار العمل الدعوي، على الرغم من أنه يدعو إلى إنشاء أمة إسلامية ويدعو إلى منع النساء من التعلم! ويضاف إلى ما سبق الكثير من الأمثلة التي لا مجال لسردها في هذا السياق.
(استخدم النظام شعارات العلمانية من أجل استقطاب الأقليات الدينية لدعمه في معركته ضد معارضيه ومن أجل إلباس هذه المعركة لبوساً ضد “الإرهاب الديني المتطرف”/ خاص حكاية ما انحكت)
لقد استخدم النظام شعارات العلمانية من أجل استقطاب الأقليات الدينية لدعمه في معركته ضد معارضيه ومن أجل إلباس هذه المعركة لبوساً ضد “الإرهاب الديني المتطرف” في محاولة لتحييد عدد من الدول الأجنبية وعدد من القوى اليسارية في العالم، خاصة في العالم العربي.
ولا يمكن للنظام أن يكون نظاماً علمانياً طالما أن دستوره (دستوري 1973-2012) يتضمن تمييزاً دينياً، سواء لمرجعية الفقه الإسلامي أم لاشتراط الإسلام ديناً لرئيس الدولة، إضافة إلى ضمان الأحوال الشخصية للطوائف كافة (دستور 2012).
إن ضمان الدستور للأحوال الشخصية لكل طائفة يعني تخلي السلطة الحاكمة عن واجبها بتنظيم العلاقة بين المواطنين، نساء ورجالا، ضمن نطاق العائلة. كما ويعني أن السلطة تترك هذه الوظيفة لمرجعيات دينية يختلط فيها البشري مع الإلهي، وهذا يجعل الاحتجاج على التمييز الموجود في هذه الأحكام يصطدم بما يسمى بـ “المقدس”، ويصبح تعديلها أمرا محفوفا بالمخاطر، خاصة في ظلّ وجود التفسيرات التقليدية للمرجعيات الدينية الخاصة بقوانين الأسرة في سورية.
أما بعد الانتفاضة/ الأزمة فقد روج النظام لـ “فقه الأزمة” الذي أصدرته وزارة الأوقاف، ودعم الفريق الديني الشبابي الذي شكلته وزارة الأوقاف أيضاً، والتي وقعت اتفاقية مع “جامعة البعث” الحكومية من أجل “تعريف جيل الشباب بالقيم الدينية الصحيحة ودعوتهم إلى المحبة والتآخي والتسامح، الأمر الذي سيساهم في بناء مجتمع بعيد عن كل أشكال التطرف الديني”!.
في علمانية بعض قوى المعارضة
لقد استخدمت المعارضة العلمانية شعارات العلمانية لتحقيق أهداف سياسية، فتحدث ائتلاف القوى العلمانية في بيانه الأول عن “انتصار الثورة، والتحول إلى بناء دولة مدنية حديثة على أسس من المواطنة الكاملة وغير المنقوصة لأي مكون من مكونات الشعب السوري.” ولم يذكر مساواة النساء بالرجال، وهي شرط رئيسي لتحقق العلمانية، ولم تتصد هذه التيارات المعارضة لمحاولات أسلمة “الثورة” ولا للأسماء الطائفية التي أطلقتها كتائب “الجيش الحر” على فصائلها.
العلمانية وحقوق النساء
كانت حقوق النساء ضحية الصفقة التي أبرمتها السلطة الحاكمة في سوريا مع التيار الديني الاجتماعي، فقد كانت كل القوانين التي تعمل وفقها الدولة مدنية باستثناء القوانين التي تخص مكانة المرأة في الأسرة، حيث كانت، وما تزال، ذات مرجعيات دينية في جميع المواد التي تتحدث فيها عن أدوار النساء في الأسرة وعن حقوقهن. وعلى سبيل المثال “تمنح جميع قوانين الأحوال الشخصية حق الولاية “مطلقاً” لذكور الأسرة “الأب، الزوج، الابن، الجد ..” ولا تمنحها للنساء، حتى أن قانون الأحوال الشخصية للكاثوليك الذي سمح، بعد تعديله 2006، بنقل الولاية إلى الأم قد اشترط سقوط حق الأب في الولاية، ومن ثم تكون الولاية للأم وفق شروط حددتها المادة 91 منه. وكذلك أعطى قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس الحق لعائلة الأم بالدرجة الثانية، في الخطبة فقط.” ويستند حق ولاية الرجال على النساء في العائلة إلى مبدأ قوامة الرجل على المرأة المعترف به في جميع الأديان والطوائف المعترف بها في سوريا.
(يستند حق ولاية الرجال على النساء في العائلة إلى مبدأ قوامة الرجل على المرأة المعترف به في جميع الأديان والطوائف المعترف بها في سوريا/ خاص حكاية ما انحكت)
أما على الصعيد غير الحكومي، فلم تتصد القوى العلمانية مثل الأحزاب الشيوعية والحزب القومي الاجتماعي للدفاع عن حقوق النساء الإنسانية في سوريا إلى أن حصل الصدام بين القوى الأصولية والقوى العلمانية جراء النقاشات المحتدمة التي رافقت مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية في سورية عام 2009، فانبرى الكثير من القوى السياسية والمدنية والمجتمعية للتصدي للمشروع الأصولي الذي يستهدف النهوض بأوضاع النساء، وقد نجح الحراك النسوي وقتها في استنهاض مجموعة كبيرة من هذه القوى للتصدي لهذا المشروع. وكان الرد على هذا المشروع سيلاً من المقالاتوالبيانات التي أكدت على الموقف المناهض لهذا المشروع، بالإضافة إلى جرأة كبيرة في طرح مقترحات لتشريع الزواج المدني، وتشديد العقوبات على “جرائم الشرف”. إلا أن دفاع القوى العلمانية عن حقوق النساء لم يستمر بهذا الزخم، خاصة بعد اندلاع النزاع المسلح في سوريا، حيث تركز الخطاب العلماني على مناهضة ما سُميّ بالتيار “الإسلامي الوهابي” و”المؤامرة” و”الفاشية الدينية”… حتى أن ردود أفعال القوى العلمانية الداعمة للنظام على قانون وزارة الأوقاف الجديد كانت أعلى وأقوى بكثير من ردود أفعالها على التعديلات المحدودة لقانون الأحوال الشخصية العام وعلى استمرار التمييز ضد النساء في الكثير من القوانين السورية؛ كما أن الكثير من العلمانيين تعامل مع قضية “الأطفال مجهولي النسب” باعتبارها قضية تخص أبناء “الدواعش” وليست قضية تخص أبناء لنساء سوريات متزوجات من غير سوريين.
ويدل هذا على أن الخطاب العلماني في سوريا ليس خطاباً علمانياً عميقاً بل هو خطاب رد فعل سياسي، خاصة أن القوى السياسية العلمانية، مثلا القوى الشيوعية والقوى القومية الاجتماعية، لا تذكر العلمانية إلا ما ندر ولا تروج لها أبداً.
إن علمانية القرن الواحد والعشرين يجب أن تكون علمانية حديثة وعميقة، ولا يمكن فصلها عن ضمان حقوق النساء كافة وعن ضمان الديمقراطية بكل استطالاتها، وكأننا أمام مثلث يقود كل ضلع فيه إلى الضلعين الأخريين في ترابط لا يمكن فصل عراه.
في علمنة الخطاب الديني الإسلامي
لقد عاش الإسلام في عصره النبوي ثلاث عشرة سنة في مكة دون أن يكون له نظام حكم، بينما فرض الانتقال إلى المدينة (دام الحكم النبوي فيها عشر سنوات) احتياجات كبيرة لتنظيم الحياة الجديدة للمسلمين، ويمكن أن يستنتج الباحث أن الإسلام النبوي زمن مكة كان أشبه بالحركة العلمانية. حتى أن السور المكية تختلف اختلافاً كبيراً عن السور المدنية، فالسور المكية تبدأ بـ “يا أيها الناس” وتدعو آياتها إلى توحيد الله وعبادته وإلى الإيمان بوجود الجنة والنار والبعث والحساب. بينما السور المدنية يكثر في آياتها أسلوب خطاب “يا أيها الذين آمنوا” وتفصل آياتها بعضاً من أحكام الدين الإسلامي كالميراث وفريضة الحج وحد السرقة وغيرها، وتدعو آياتها إلى الجهاد وتتحدث عن تشريعات متعددة كالزواج والطلاق.
كما أن الإسلام شهد عدداً من المحاولات لفصل الديني عن السياسي، لعل أبرزها كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ الأزهري، علي عبد الرازق، الذي صدر في 1925م، والذي رفض فيه عبد الرازق فكرة الخلافة وتبنى الدعوة إلى مدنية الدولة، وأعمال الباحث د. محمد شحرور ونصر حامد أبو زيد.
وإضافة إلى ما سبق، هناك خمس عشرة دولة معظم سكانها من المسلمين وتنص دساتيرها على علمانية الدولة، هي تركيا، السنغال، ألبانيا، بوركينا فاسو، كوسوفو، مالي، أوزبكستان، تشاد، قرغيستان، غينيا، تركمانستان، بنغلاديش، أذربيجان، كازاخستان، طاجيكستان. كما أن إندونيسيا، وعدد سكانها: حوالي 258 مليوناً، وحوالي 85% من سكانها مسلمون، لا يعترف دستورها بأي دين رسمي للدولة، ولكنه أيضاً لا يقول صراحة بأن الدولة علمانية ولا يذكر كلمة “العلمانية”.
وبالمحصلة فأن يكون الإنسان علمانياً في سوريا يعني أن يكون ديمقراطياً ومع المساواة الكاملة بين الجميع بغض النظر عن الدين أو الجنس أو النوع الاجتماعي أو الإثنية أو العرق. وختاماً أود تقديم الشكر الجزيل للجهات الداعية إلى فتح هذا الملف الهام جدا في السياق السوري وفي التحضير لبناء سوريا المستقبل.
باحثة سورية في وناشطة في قضايا النساء.
(تنشر هذه المادة ضمن ملف “أفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون بين “حكاية ما انحكت” و”صالون سورية” و”جدلية”)
حكاية ما انحكت