سوريا: من آمال المَصرنة إلى خطر الكردنة/ حسام الدين درويش
“من المستحيل، أو من المستبعد، على الأقل، حصول ثورة في سورية”. هذ ما كان يعتقده و/ أو يتخوف منه كثيرٌ من السوريين المعارضين للاستبداد، وهذا ما كان يعتقده و/ أو يأمله النظام ومؤيدوه عمومًا، وشبيحته خصوصًا. لكن لأسبابٍ كثيرةٍ، حصلت هذه “الثورة المستحيلة”، واشتعلت في درعا وريفها، وسرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم في كثيرٍ من المناطق السورية. ومن المفيد التذكير بأن المتظاهرين السوريين لم يرفعوا شعار “إسقاط النظام”، في الأسابيع الأولى من الثورة، وبأن هذا الشعار لم يظهر بوضوحٍ إلا بعد مضي شهرٍ على الأقل من التظاهر، ولم يهيمن إلا بعد أسابيع عدّة من ذلك التاريخ. لقد اعتقد كثيرٌ من السوريين آنذاك أن ما يمكن و/ أو ينبغي السعي إلى تحقيقه هو “مصرنة” الوضع السوري. والمقصود بالمصرنة هو أن يصبح الوضع السياسي الداخلي في سوريا شبيهًا بالوضع المصري في عهد مبارك، من خلال إجبار النظام على إجراء بعض الإصلاحات والتغييرات المهمة التي تشمل، على سبيل المثال، الحد من تسلط الأجهزة الأمنية المختلفة وتغولها وتعسفها في ممارسة سلطاتها الواسعة وقوتها المفرطة، ومنح هامش معقول، جزئيًا ونسبيًّا، من الحريات السياسية والإعلامية، مع التوقف، الجزئي والنسبي، عن تبني نظام احتكار القلة من الحبايب والأقارب والمحاسيب لمعظم مقومات الاقتصاد السوري ومدخولاته ضمن رأسمالية نيو ليبرالية فاسدة لا تكترث (كثيرًا) بالفقراء، ولا بمعظم شرائح المجتمع السوري.
كما هو متوقع مسبقًا، ومعروف لاحقًا، أظهر النظام الأسدي ممانعةً ومقاومةً لأي تغييرٍ حقيقيٍّ في سلوكه وسماته. فكل عمليات التغيير/ الإصلاح التي بدا أنه قام بها، كانت شكلية ومحدودة التأثير عمومًا. فقد اقتصرت الإصلاحات المزعومة إما على وعودٍ خلبيةٍ، أو على تغييرٍ لبعض المحافظين ورؤساء الفروع الأمنية، وإحالة بعضهم إلى المحاكمة، وتشكيل لجان للتحقيق في “الأحداث”، وإلغاء قانون الطوارئ، وتعديل الدستور … إلخ. فهذه التغييرات الشكلية لم تفض إلى تغييراتٍ فعليةٍ مهمةٍ على الأرض: فكل المحافظين الجدد كانوا ضباطاً عسكريين أو أمنيين، وحلَّ قانون الضابطة العدلية الذي أعطى صلاحياتٍ واسعةً وإضافيةً للأجهزة الأمنية، وقوانين أخرى، محل قانون الطوارئ، أما إحالة بعض المسؤولين إلى المحاكم فقد كانت اسمية/ شكلية، ولم يُعاقب فعليًّا أي مسؤولٍ، ولم يكن هناك أي تأثير لتغيير الدستور لاحقًا، لأن المشكلة الأساسية لا تكمن في النصوص (الدستور والقوانين)، بقدر كمونها في (انعدام وسوء) تطبيق هذه النصوص. فحتى القانون الذي سُمي بقانون “تنظيم حق التظاهر السلمي”، كان ينبغي -وفقاً لتطبيقه عملياً- أن يُسمَّى بقانون “تنظيم منع التظاهر السلمي”. وقد خفُت السعي إلى إصلاح النظام، وتعزز اليأس من إمكانية حصول هذا الإصلاح، وتأكَّد لكثيرين تدريجيًّا أن هذا النظام لا يمكن أن يصلِح، أو يصلَح، أو يساهم مساهمة إيجابيّة في أي إصلاحٍ. وقد أفضى ذلك وغيره سريعًا إلى الحضور المتزايد إلى شعار “إسقاط النظام”.
بعد انهيار الآمال في مصرنة الوضع السوري، تحوَّل الوضع السوري لاحقًا إلى نموذجٍ لما ينبغي العمل على تجنبه، وإلى فزاعةٍ تستخدمها الأنظمة القمعية لتخويف شعوبها وتحذيرها من مغبة السير في طريق الثورة عليها. هذا ما حصل في أكثر من بلدٍ عربيٍّ، ومن بينها مصر تحديدًا. لكن الطريف والمأساوي، في هذا السياق، هو أن التخويف أو بالأحرى التفزيع من محاكاة الأنموذج السوري في مصر وغيرها من البلدان العربية، قد ترافقت مع عمليات سوْرَنة للأوضاع في هذه البلدان، بحيث أصبحت أوضاعها تتماثل أكثر فأكثر مع أوضاع “سورية قبل الثورة”. ففي عهد السيسي، وصل القمع الأمني وملاحقة الأصوات المعارضة إلى مستوىً غير مسبوقٍ، في عهد مبارك، على الأقل، وفي تاريخ مصر المعاصر، على الأكثر؛ فازداد عدد السجناء السياسيين، وانخفض سقف الحريات عمومًا، انخفاضًا ملحوظًا وهائلًا، وازداد تمركز السلطات في يد السيسي والمقربين منه والمؤسسة العسكرية، مع تغولٍ متزايدٍ للنظام وسيطرة أكبر على مؤسسات الدولة.
إحدى أهم المعضلات التي واجهتها الثورة السورية تكمن في أن النظام ملتحم بالدولة لدرجةٍ قد تجعل سقوطه يترافق، بالضرورة، أو على الأرجح، مع سقوطٍ لهذه الدولة وتحولها إلى دولةٍ فاشلةٍ. وهذه هي المعضلة الكبرى على الأرجح التي قد تواجهها الثورات في عالمنا العربي المعاصر. فإذا لم يتنازل النظام طوعًا أو كرهًا، أو إذا لم يحدث تصدع في بنيته أو في نخبته الحاكمة، بما يجعله يستجيب لمطالب التغيير المتصاعدة والملحة، فإن استمرار الثورة عليه، وتصديه العنيف لها، سيفضي، على الأرجح، إلى خيارين، لا ثالث لهما، إما إلى إخماد الثورة، وتحولها إلى جمرٍ ونارٍ كامنة تحت رماد القمع المستمر، أو إلى تصاعد العنف الثوري وتوجيهه ضرباتٍ عنيفةٍ للنظام، قد تفضي إلى زعزعته وإضعافه جزئيًّا أو إلى إسقاطه، “في النهاية”، بالتوازي مع إضعاف الدولة أو إسقاطها، أو تحويلها إلى دولةٍ فاشلةٍ. وعلى الرغم من أن الدولة الأسدية القائمة ليست مصنفة “دولةً فاشلةً”، من الناحية القانونية الرسمية، فإن الحديث عنها في الأبحاث والمؤتمرات الأكاديمية، يشدد غالبًا على الفشل الحالي الذريع لهذه الدولة.
على الرغم من أن أغلب أصوات المصريين ما زالت تفصِل بين معارضتها للنظام وثقتها بالدولة المصرية ومؤسساتها عمومًا، ومؤسسة الجيش خصوصًا، إلا أن أصواتًا كثيرةً بدأت تعلو لتتساءل عن مدى واقعية هذا الفصل، وعما إذا كان فساد النظام ومؤسساته ناتجًا من فساد أفرادٍ، كما يظن كثيرون، أم أن بعضًا، على الأقل، من تلك المؤسسات قد أصبح فاسدًا، فسادًا جوهريًّا وبنيويًّا، بحيث يستحيل التصدي لذلك الفساد، من دون تقويض جزءٍ، على الأقل، من البنية المؤسسة له. وقد تصاعدت قوة هذه الأصوات مع تبني الرئيس السيسي المتزايد، فعليًّا ولفظيًّا، عمليًّا ونظريًّا، للقول المنسوب إلى لويس الرابع عشر: “الدولة هي أنا L’État, c’est moi”. ألم يقل السيسي حرفيًّا: “ما تسمعوش كلام حد غيري”؟
قد لا تكون السورنة أكثر ما يُخشى حصوله في مصر أو في أي بلدٍ عربيٍّ، يثور الشعب فيه على الاستبداد؛ فثمة خطرٌ قد يفوقه سوءًا، ألا هو “الكردنة”، أي انقسام القضية/ الدولة الواحدة إلى قضايا وأجزاءٍ، ليست منفصلة ومختلفةٍ عن بعضها فحسب، بل متناقضة ومتصارعة، في ما بينها، أيضًا. فتفتت البلدان/ القضايا وتحول الانتباه من المشكلات السياسية والاقتصادية المتعلقة بالديمقراطية والحريات وكرامات المواطنين والعدالة الاجتماعية … إلخ، إلى المشكلات الثقافية المتعلقة بالهويات والانتماءات القائمة على النسب الإثني أو الديني أو الطائفي أو المناطقي مثلًا، وليس على الانتساب الإرادي، هو من أخطر الأمور التي يمكن للشعوب والمجتمعات مواجهتها، في حال تجاهل الأنظمة القمعية لمطالب الشعوب بالإصلاح، وإصرار هذه الأنظمة على استباحة المجتمع، وابتلاع الدولة، وتقيؤها قمعًا وقهرًا وإفقارًا. وفي مقابل هذا القطب السلبي، نجد أن التوْنسة”، أو السير على خطى النموذج التونسي، تمثل القطب الإيجابي لكونها أفضل ما يؤمل تحقيقه سياسيًّا في عالمنا العربي المعاصر. وما بين الديمقراطية التونسية الوليدة وسورنة القضايا والدول أو كردنتها، وتفتتها وانحرافها أو انزلاقها إلى المسائل المتصلة بالعصبيات الدينية والإثنية والطائفية والمناطقية وما شابه، تندرج الأوضاع الحالية، وآفاق المستقبل المنظور، في “البلاد العربية” كلها تقريبًا.
بروكار برس