حكاية أربعين عاماً من الحروب البعثية العبثية/ منير الربيع
يروي المعارض السوري ميشيل كيلو، في إحدى إطلالاته الإعلامية، قصّة بسيطة لكنها على قدر كبير من الأهمية. حصلت وقائع هذه القصة في العام 1979، أي قبل أربعين سنة من اليوم، لكنّها كانت استشرافاً لواقع مؤلم سيعيشه العرب ويعانون منه. يروي كيلو: “في العام 1979، كان يتم الإعداد لبرنامج الحزب الشيوعي السوري للمؤتمر الخامس. ذهب معدّو البرنامج ومن بينهم كيلو ورياض الترك، إلى المفكر السوري إلياس مرقص لإطلاعه على البرنامج ومناقشته معه. استوقفت مرقص عبارة في البرنامج وهي أن ريح الحرية ستهب من الشرق. انتقد مرقص تلك العبارة، معتبراً أن ما يأتي من الشرق حممٌ نارية، لا يمكن لها أن تكون رياحاً للحرية”. وقدّم مرقص نصيحة لضيوفه، بأن العمل السياسي يقترب من الأفول، لأن الزمن سيكون للذبح، والحروب.
وقال مرقص: “بدأ زمن الذبح، وفي هذا الزمن، لا مجال للعمل السياسي، إنما للعمل العسكري. وفي هكذا حالات، يصبح العمل السياسي لا طائل منه، إنما الأفضل الذهاب نحو عمل ثقافي يؤسس لمرحلة لاحقة من النهضة السياسية، خصوصاً أنه في تلك الفترة، ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، والتي كانت تلقائياً ستنتج استقطاباً إسلامياً سنياً، لن يكون هناك أي مجال لصراع الأفكار السياسية، إنما المنطقة ستتجه نحو حروب مذهبية وطائفية. فكان لا بد من الحفاظ على قيمة ثقافية لدى المثقفين السياسيين، يستمرون من خلالها بطرح أفكارهم خارج ساحات الصراع “العسكرسياسي” إلى أن تحين لحظة الاستفاقة من هذا الكابوس.
ويكمل كيلو قصّته مع مرقص، بالحديث عن بناء حافظ الأسد لقصر كبير في منطقة الربوة
في دمشق، ليسأل المفكّر السوري حينها: “كيف يسمح الخميني لحافظ الأسد ببناء هذا القصر؟” توجّم الحاضرون عندها وسألوا عن علاقة الخميني بالأمر، فقال: “إذا لا تعلمون، أن الموضوع السوري بعد انتصار الثورة الإسلامية أصبح خاضعاً للإشراف والاهتمام الإيراني التفصيلي، فلديكم مشكلة بالقراءة السياسية.”
منذ انقلاب البعث في سوريا، وعندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع، كانت هناك ماكينة إعلامية تعمل لصالح إظهار حافظ الأسد بغيفارا العرب، وبأنه اليساري العلماني صاحب العلاقات الواسعة بالثورة الكوبية وغيرها من الثورات الاشتراكية، وعلى هذا الأساس، كان إلياس مرقص لديه تصوره الخاص والمبكر لما يجري في الشام، والذي اكتشفه السوريون والعرب بعد عقود، إذ قال في حينها: “إن ما جرى، إما يتعلق بنصب فخ لجمال عبد الناصر، أو أنهم ينصبون فخاً للعرب، أو أنهم يريدون إنهاء سوريا أو إيقاف تاريخي عند البعث وصناعة الإنسان البعثي. وفي الاحتمالات الثلاث، كان مرقص يتوقع أن تستمر المنظومة البعثية بحكم سوريا من 50 إلى 100 سنة، مع إنهاء الطبيعة الاجتماعية والسياسية السورية وإحداث تغيير جوهري في هويتها وتركيبتها.
كان مرقص أول من استشرف تلك المعادلة الإيرانية في سوريا، والتي برزت للعيان أكثر، بعد وفاة حافظ الأسد وتولي نجله بشار مقاليد الحكم فيها، وتجلّت أكثر بالتدخل الإيراني العسكري في سوريا ما بعد اندلاع الثورة السورية. كان حافظ الأسد، بدهائه السياسي، يقدّم نفسه تقدمياً عروبياً علمانياً، محتفظاً بعلاقات جيدة مع الأميركيين والغرب من جهة، ومع إيران من جهة أخرى، ومع الدول العربية أيضاً. وهذا ما سمح له أن يلعب أدواراً بارزة ومؤثر في العديد من الساحات، أولها لبنان وفلسطين، وبعدها بين العراق والكويت. واحتفظ الأسد بتوازن علاقته بين إيران من جهة ودول الخليج من جهة أخرى.
عندما تسلّم بشار الأسد الحكم في سوريا، ذهب إلى إيران أكثر إلى حدّ الالتحام العضوي والسياسي، ومعها بدأت سوريا تخسر أي دور مؤثر في المعادلة. خاصم بشار الأسد العرب لصالح الإيرانيين، وخاصم الغرب لصالح الإيرانيين، وخاصم شعبه أيضاً لصالح الإيرانيين. وكان لبنان أو من خبر التداخل السوري الإيراني ودور الطرفين على أرضه، الذي انعكس تحالفاً في حين، وخصاماً وقتالاً في حين آخر، على غرار المعارك التي خيضت بين حزب الله وحركة أمل، وكانت في إطار الصراع على النفوذ السوري الإيراني في لبنان.
هذا التنافس الذي كان يعززه الأسد بعلاقاته العربية والغربية، انتهى مع ترؤس بشار للنظام السوري فأصبحت سوريا ولبنان وفلسطين بكليتهم من المستلحقين بإيران
التقى حافظ الأسد مع الإيرانيين في لبنان، ومع أنظمة ودول عربية وغربية أخرى، على مبدأ سحق منظمة التحرير الفلسطينية، وضرب القرار الوطني الفلسطيني المستقل، فالتقى مع الإسرائيلي على ضرب منظمة التحرير، التي خرجت من بيروت في اجتياح العام 1982، بينما تولى الأسد محاصرتها وخنقها في طرابلس وصولاً إلى إخراج أبو عمار من لبنان. واستمر الالتقاء فيما بعد، بعد سيطرة
حزب الله أي إيران على الجنوب اللبناني، بينما سيطر الجيش السوري على البقاع وبيروت، في مقابل استمرار زرع الشروخ بين الفلسطينيين وإرساء الانقسام فيما بينهم.
التقاء المصالح هذا، لم يكن بعيداً عن المصالح الغربية، التي تجسّدت باجتياح العراق، وإسقاط نظام صدام حسين، مقابل سيطرة الإيرانيين عليه، وبعدها السيطرة الإيرانية الكاملة على لبنان بانسحاب الجيش السوري منه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وسيطرة إيران شبه الكاملة على سوريا بعد ثورة العام 2011، فتشرذمت المنطقة بكليتها وغرقت في حروب مذهبية وطائفية، هي التي تمهّد حالياً إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم على غرار تهجير السوريين، لإنجاز صفقة القرن.
القصة التي رواها ميشيل كيلو ربما تتصل من حيث لا يشاء بما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب (الإثنين) وعلى طريقته الترامبية بأنه حان الوقت للخروج من منطقة تتحكم بها الصراعات القبلية والعبثية، قالها ترمب وهو ينسحب من بعض مناطق شمال شرق سوريا، وفي معزل عن النوايا والدور الأميركي في الكارثة التي حلت في المنطقة، إلا أن في ما قاله هذا الرئيس يشير إلى حقيقة من الحقائق المهملة في أديباتنا السياسية، هو أن الأحزاب الدينية والمذهبية لم تُعلِ من شأن الكائن الانساني، بل هي نتاج ديكتاتوريات طالما كان مصدرها الزعيم الملهم، بالعنوان القبلي والقومي والديني فضلا عن المذهبي والطائفي.
الإنسان هو المعيار، لا قيمة لفكر ولا لدين إن لم يكن احترام الانسان وحماية حقوقه في الاختلاف وفي الاعتقاد أساس أي دين أو غير ديني، والدولة هي الوعاء والنموذج الذي يمكن من خلاله وحده ترسيخ قواعد احترام الانسان وحقوقه. الدولة التي يشكل الدستور والقانون والمساواة بين مواطنيها رأسها ولا رأس آخر سواء كان الحزب أو الزعيم الملهم أو العمامة الطاهرة أو القاهرة.
تلفزيون سوريا