عن داعش ورحلة الصعود والهبوط في سوريا والعراق/ ماجد كيالي
جاء مصرع أبو بكر البغدادي، زعيم “داعش”، ومدّعي الخلافة، فجر أمس (27/10)، ليركز الأنظار مجددا على هذا التنظيم الذي برز بصفته قوة تهديد في سوريا والعراق (صيف 2014)، وذلك مع سيطرته على مدينة الرقة في سوريا، ثم على مدينة الموصل في العراق، علما أنه بدأ بالانحسار عام 2017، أي بعد ثلاثة أعوام، بإخراجه من الموصل، ما مهد لانحساره في العراق ثم في سوريا (2018 ـ 2019).
بداية ظهر “داعش” في العراق (نيسان/ أبريل 2013)، لكنه تكشّف عن قوة وتهديد خطيرين مع سيطرته على مدينة الرقة، شمال غرب سوريا، في كانون الثاني/يناير 2014، بعد انسحاب “جبهة النصرة”، وبعض الفصائل العسكرية “الإسلامية” منها التي كانت تسيطر على تلك المدينة في ذلك الحين، في إثر انسحاب النظام منها (أبريل 2013) أيضا، في مصادفة غريبة أو مثيرة للتساؤل، وهو ما عُدّ البداية لصعود هذه الظاهرة البشعة في المشهد السوري.
لكن ظاهرة “داعش” لم تتوطد إلا بالسيطرة على الموصل في العراق، في حزيران/ يونيو 2014، كما ذكرنا، حيث أعلن زعيمها أبو بكر البغدادي منها “الخلافة”، وإقامة الدولة الإسلامية، وقتها، وذلك في إثر انسحاب الجيش العراقي من تلك المدينة، بطريقة كيفية وغامضة (إبان حكم المالكي)، ما أدى إلى استحواذها على أسلحة أربعة فرق عسكرية، ومئات ملايين الدولارات كانت موجودة أو متروكة في المصرف المركزي.
هكذا أضحت داعش تسيطر على أراض شاسعة شرق سوريا، في الرقة ودير الزور والطبقة وتدمر، وفي العراق في الأنبار وصلاح الدين ونينوى، مع حرية حركة بقوافل سيارة بين باديتي العراق والشام، ومع تجارة في النفط مكنت ذلك التنظيم من الاستمرار في تمويل نشاطه.
في قراءة أولية لـ “داعش” يمكن ملاحظة الآتي:
أولاً، احتسابه على التنظيمات “الإسلامية” الجهادية المتطرفة عموماً، بحكم تغطيه بالإسلام، وهو تحديدا محسوب على تيار السلفية “الجهادية، لكنه بدا أكثر توحّشا من تنظيم “القاعدة.
ثانيا، “داعش” في نواته الصلبة، أو في أركانه، خليط من أشخاص إما ينتمون إلى تيار القاعدة، أو ينتمون إلى البعث العراقي ولا سيما من العسكريين.
ثالثا، من تتبع قادة هذا التنظيم، ومن القائمة التي نشرتها “بروكار برس” اليوم، في موقعها، يمكننا ببساطة ملاحظة أن السوريين كانوا أقلية في الطبقة القيادية فيه، إذ أغلب القادة من العراق وتونس والأردن والشيشان وبعض الدول الخليجية (وهذا ينطبق على جبهة النصرة أيضا).
رابعا، لا يمكن الحديث عن “داعش”، واحدة، إذ إنها مع نموها، وزيادة رقعة عملها بات لها مداخلات أو توظيفات متعددة، سواء مباشرة أم غير مباشرة، عن قصد أو بحكم التقاطع، ما يفسر أن داعش ظل مدّة طويلة يتحرك بقوافل سيارة بين باديتي العراق والشام من دون أن يعترضه أحد، وهو أمر يثير الريبة بالطبع.
خامساً، يصعب تذكر واقعة قتالية جدية بين النظام وحليفيه روسيا وإيران (وحزب الله) من جهة مع “داعش” (وحتى مع جبهة النصرة) من جهة أخرى، إذ كثيرا ما كان ثمة ملاحظات حول انسحابات متبادلة بين قوات تلك الأطراف وداعش، وكثيرا ما شهدنا أن تجنب المواجهات كان ينتج منه إخراج مقاتلي “داعش” إلى مناطق أخرى، كأنهم ينتقلون إلى مهمة أخرى.
سادساً، في المقابل فإن أكثر من قاتلهم واستهدفهم “داعش” هم “الجيش الحر” وفصائل المعارضة والشعب السوري بكل مكوناته، وأكثر من قاتل “داعش” هم فصائل من “الجيش الحر”، وقوات “قسد”، ولا سيما قوات التحالف الدولي.
سابعاً، لا بد من ملاحظة أساسية هنا، بأن نشوء “داعش” ولا سيما صعوده، وتطور إمكاناته، واحتلاله المشهدين السوري والعراقي، لم يأت نتيجة تطور طبيعي في الحركات الإسلامية، سواء الدعوية والمعتدلة أم المقاتلة والتكفيرية، بقدر ما إنه يعود إلى الشروط المساعدة، أو إلى التسهيلات التي مكنته في حيازة الموارد المالية والعسكرية (بخاصة بعد سيطرته على الموصل)، كما إلى تباين إرادات الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين أتاحوا له الاستمرار والتمدد، بل ووظفوه كل لأغراضه السياسية. ويستنتج من كل ما تقدم أن “داعش” هي بمنزلة تنظيم من نوع خاص، أي ليس حركة سياسية طبيعية، وليس نتاج حراكات سياسية في التيارات الإسلامية في مجتمعي العراق وسوريا، إذ المصطنع فيها أكثر من العادي، والخارجي أكثر من الداخلي. أيضاً، هو ظاهرة جرى تصنيعها وتضخيمها وتوظيفها لإدارة الصراعات المحليّة أو للتحكّم بها، أو كأداة للصراع بالوكالة، إذ لكل فاعل إقليمي ودولي “داعش” خاصّته.
ثامنا، لم تقم تيارات الإسلام السياسي، المدنية والدعوية والمعتدلة، بتقديم أي نقد فقهي لداعش، لنزع الشرعية عنه، وكشف تغطيه بالدين الإسلامي، المتمثل في نقد أفكار الخلافة والجهادية ووضع الحدود وعدّ نفسه وصيا على الدين والبشر ووكيلا عن الذات الإلهية وحالة تكفيرية عنفية (والشي ذاته حصل بخصوص جبهة النصرة التي لا تعترف بالثورة السورية التي قاتلت الجيش الحر وناهضت المقاصد النبيلة للثورة السورية)، إذ اكتفت تلك التيارات بنقد ممارساته الوحشية فقط، ما أضر بها وبصدقيتها وبسلامة موقفها، كما أضر ذلك بمشروعية التيار الإسلامي كله وبصدقيته.
في أي حال فإن خلطة “داعش”، القاعدية والبعثية، تشي بأن لإيران والنظامين السوري والعراقي الدور الكبير في نشوئه، فإيران هي التي ورثت تنظيم القاعدة وقادته، بعد مصرع بن لادن، وهزيمة “القاعدة” في أفغانستان، والنظام السوري هو الذي اشتغل على بعض قادة الجيش العراقي الذين لجؤوا إلى سوريا بعد غزو العراق (2003)، ونظام المالكي هو الذي هاجم الاعتصام الشعبي السلمي وفضه في الأنبار 2014، وهو الذي سهل هرب أنصار القاعدة وداعش من السجون، كما سهل لهم الاستيلاء على الموصل بما فيها من أسلحة وأموال، في فضيحة أضحت مشهورة، لم يحاسب أحد أحداً عليها، وكل تلك الأطراف استثمرت في الصراع الدولي ضد الإرهاب وإظهار الثورات عملا إرهابيا؛ مع تأكيد أن ثمة دول أو أطراف أخرى استثمرت في توظيف داعش هنا وهناك، إلى هذه الدرجة أو تلك.
أخيرا، هل انتهت “داعش”؟ أو هل انتهت التوظيفات التي أنشأتها أو سهلتها؟ وماذا بخصوص “جبهة النصرة”، وهل ثمة صفقة ما؟ أو ماهي المعادلات الجديدة للصراع السوري، كلها أسئلة برسم الأسابيع أو الأشهر المقبلة ربما.
بروكار برس