عن الأكاديمية وبعض الطلاسم في درس «إخواننا» السوريين/ حمود حمود
مرة اشتكى المفكر المغربي عبد الله العروي في مخطوطه «مفهوم التاريخ» أننا نكتب عن التاريخ ونترجم كتباً تاريخية، لكن بدون نقد تاريخي، بدون وعي أو فكر تاريخي، وفي سياق غير تاريخي، للتحول هذه الكتابات بالتالي إلى: «طلاسم». يمكن سحب قدْرٍ من استحقاقات هذا الحكم على بعض الرؤى التي قدمها الكتاب الصادر حديثاً، والذي استعرضنا بعض رؤاه في المقال السابق (بروكار برس 2019/12/09) للكاتبة دارا كوندويت «D. Conduit, The Muslim Brotherhood in Syria, Cambridge University Press, 2019»؛ وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على كتابات أخرى هائلة تتناول الإسلام، لكن من غير وعي بالإسلام أو من غير وعي بالثقافات العريضة المتنوعة التي تختزن الإسلام، أو قل حتى تلك الدراسات الغربية (كما هو حال دراستنا هنا) التي تتناول الحركات الأصولية الإسلامية، لكن من غير وعي تاريخي كافٍ بها ولا باصطلاحاتها العربية والدينية ولا حتى بالتفاصيل الدقيقة لهذه الحركات ومنزلتها البنيوية ضمن فضاء الإسلام واجتماعه الأنثروبولوجي.
ليس هذا الكلام للقول أنّ كتاب كوندويت هو بكليته عبارة عن طلاسم (رغم وقوعه بها)؛ فالكتاب، كما قلنا في المقال السابق، قدم خارطة سياسية مهمة أعادت قراءة تاريخ الإخوان السياسي وصولاً إلى مسارات انخراط التنظيم في الانتفاضة السورية. ضمن هذا الأفق، وإلى هذا الحدّ، سيكون القارئ بالفعل أمام مادة جيدة نوعاً ما في قراءة تنظيم تعتبره المؤلفة أنه بالأساس تنظيم «سياسي» (سنعلق على هذه الحكم لاحقاً)، وسيعجب القارئ أكثر إذا ما نظر إلى جهد الكاتبة في الغوص في الأرشيف الإخواني وغير الإخواني والمصادر المتنوعة التي أغني بها هذا الدرس «الأكاديمي». لا يمكن أنْ نصادر على الكتاب هذه النواحي. لكن ما يهمنا هنا هو أعمق من هذا: أي الخلفيات غير المعلنة في توظيف هذه «الأكاديمية» والتي ستخرج في النهاية لتنظر إلى الإخوان السوريين على أنهم بالأساس ديمقراطيون (وهو الأمر يجسد طلسماً غربياً يصعب في كثير من الأحيان فهمه)، طبعاً فضلاً عن بعض الإشكالات النقدية الخطرة التي ابتلي بها الكتاب كما سيأتي.
ربما من المهم قول كلمة سريعة في «تسييق» الكتاب ضمن سياق وفضاء الدراسات الغربية التي أصيب بعضها منذ سنوات بعضالٍ وصل حدّ الاستسهال في تناول الإسلام وحركاته. الكاتبة تنتمي، على الأقل في مخطوطها هذا، إلى خط غربي بحثي عريض أخذ ينتشر بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتكثف بعد عمليات سبتمبر، وتدعمه إلى الآن كبرى المعاهد البحثية والجامعية الغربية. وأهم ما يميز هذا الخط هو المراجعة النقدية للذات البحثية الغربية في النظر لـ«الإسلام» و«ممثلي» الإسلام، وتحديداً الحركات الإسلامية، وتحديداً أكثر الإخوان المسلمين. وبصرف النظر عن تعقيدات هذا النقد الغربي الذاتي (الذي يصل في مستوى منه إلى جلد الذات)، فقد انقلبت رؤيته للإخوان المسلمين تماماً إلى النقيض: أي أنّ هؤلاء يمثلون احتمالات ديمقراطية تجسد بديلاً عن الأنظمة الديكتاتورية العربية المدعومة أصلاً من الحكومات الغربية.
طبعاً هناك سببان رئيسيان، من بين أخرى، لهذا الانقلاب في الرؤية (بصرف النظر الآن عن التأثيرات الفكرية التي تتركها الأجواء النقدية لـ«ما بعد الحداثة»): الأول، هو المدى الكبير لانتشار الفضاءات الإخوانية في الغرب وتأثيرها بشكل مباشر، وغير مباشر، على صناع القرار ومعاهد البحوث هناك؛ والثاني، هو بالضبط ما تريده الكثير من الحكومات الغربية من الإخوان مع انتشار حركات الإرهاب المسلح وتهديدها في العمق الغربي. الإخوان المسلمون، بحسب هذا النظر، هم أفضل حامل يمكن أنْ يُتكأ عليه أو سلاح يمكن أنْ تُجَابِه به الحكوماتُ الغربية تلك الحركات الإسلامية المسلحة (هذه السياسة دعمتها بشدة هيلاري كلينتون). من هنا يمكن أنْ نفهم الانتشار الهائل لكثير من الدراسات الغربية التي تنتقد النظر الغربي الكلاسيكي في نظره للإخوان، وتقديم رؤى جديدة تجد أنّ الإخوان المسلمين يمثلون بدائل ديمقراطية، طالما أنهم لا يلتزمون بالسلاح ويمكن من خلالهم محاربة الإرهاب (طبعاً النظر هذا ليس له علاقة أبداً بمصالح شعوب المنطقة المشرقية وتحديثها).
الكتاب الذي بين أيدينا يعكس تماماً هذه الفضاءات البحثية. من هنا ليس مستغرباً أنْ ينظر الكتاب إلى الإخوان بكونهم لا يمثلون احتمالات ديمقراطية فحسب، بل يجسدونها منذ لحظة تأسسهم (هكذا!)؛ وحينما قامت الانتفاضة السورية عكست الجماعة «الوعود الديمقراطية للمعارضة الناشئة» (ص222). لكن بالفعل لو سأل القارئ الكاتبة عن السند الحقيقي لهذا الحكم سيكون جواب الكاتبة التالي: «لأنها (جماعة الإخوان) تَحدّثت منذ زمن طويل عن الديمقراطية نفسها». هذا بالفعل ما تقوله الكاتبة بالحرف الواحد! كيف خرجت الكاتبة بهذا الحكم القيمي والسياسي؟ لأنّ الجماعة نفسها تقول هذا!؟ طبعاً نظام البعث نفسه يقول هذا أيضاً وأكثر من هذا! وللأسف لا تخبرنا الكاتبة ما هو بالضبط هذا «التاريخ» الذي علّمها وأخبرها أنّ الجماعة تدعو للديمقراطية: «يخبرنا التاريخ أن الجماعة لديها سجل حافل في الدعوة إلى الديمقراطية»، تقول كوندويت (ص225).
ثم وحينما لا تكلّ الكاتبة وهي تشير إلى تجربة الإخوان في الدخول إلى البرلمان بكون هذا يعكس فكراً ديمقراطياً «تجذر» في وجود الجماعة في الأربعينيات وأنّ هذا يشير إلى استعدادهم في الانخراط في «الدولة العلمانية» (ص222)، لا يعكس على الإطلاق استعداداً إخوانياً للديمقراطية (وتحديداً حينما تكون هذه الدولة مُطعّمةً بـ«لوثة العلمنة»)، بمقدار ما يعكس أجواء سياسية فرضت على الإخوان في الانصياع لها، بعد فشلهم في تحقيق طموح عميق لهم يمكن لأي قارئ بسيط قراءته (لنطلع مثلاً على مؤتمرهم الأخير في تركيا وندرك ماذا تعنيه موضوعة: «الإخوان والديمقراطية»)، هذا إذا ما استبعدنا الآن مسألة البراغماتية (التي تجدها الكاتبة نفسها سمة من سمة الإخوان) والانتهازية في تعامل الإخوان مع القضايا الآنية بدون أنْ يعكس هذا التعامل النظائم الأيديولوجية والفكرية.
لقد وعد الكتاب منذ البداية بتقديم قراءة جديدة تخرج من الأحكام الغربية وثنائيات سيء/جيد، أو أنّ الإخوان عنيفين أو غير عنيفين…الخ؛ بيد أنّ الكتاب نفسه وقع غير مرة في هذا المطب «اللاأكاديمي» بالانحياز تماماً لما يريده الإخوان أنفسهم من «زملائنا الغربيين»، حينما يشير مثلاً (ص226) أنّ «إخوان 2019» ليسوا غير ديمقراطيين وليسوا عنيفين. والطامة النقدية الكبرى هنا، وهي نقطة لا أستطيع التوسع بها بسبب ضيق المجال، أنّ الكاتبة لا تنظر إلى عنف الإخوان إلا على أنه مسألة «تكتيكية» ولا علاقة له على الإطلاق ببعد أيديولوجي (مثلاً ص129). وهنا تعامى الكتاب تماماً على المنشورات والكتب الإخوانية نفسها المحملة بالعنف والدعوة إليه، وفي حالات أخرى لوت الكاتبة حتى عنق هذه النصوص، وتحديداً تلك المنشورات التي رافقت أحداث السبعينات والثمانينات، وهذه كتابات لا تعكس لحظة تكتيكية، بمقدار ما تستند على حامل نظيمي أيديولوجي غاب عن كتابنا.
أما أنْ تدرس الكاتبة العلاقة الإشكالية داخل المقدس الأصولي والإمكانية الداخلية فيه لإنتاج العنف وفق نظائمها الدينية والسوسيولوجية، لهو درس يبدو فعلاً بعيداً عن الكاتبة. طبعاً هذا البعد لا يرتبط فحسب بالقصور النقدي والمنهاجي الذي ابتلي به كتابنا، بل أيضاً لأن الكاتبة نفسها لا تريد أصلاً تناول الإخوان على أنهم جماعة «إسلامية» أصولية، بل مجرد تنظيم سياسي (هكذا!)، مثله مثل أي تنظيم علماني سياسي آخر. نقطة على السطر! (هل سيرضى الإخوان المسلمون أنفسهم إزالة الاستحقاقات الإسلامية التي يبررون أصلاً وجودهم على أسسها وبغية تحقيقها؟ أنا لا أعتقد ذلك، وإلا لن يبقوا «إخواناً»، من جهة، و«مسلمين» من جهة أخرى). لفظة «الأصولية» لم ترد ولا في أي موقع في الكتاب، لا في وصف الإخوان ولا حتى في نفيها عنهم. إنها خارج هذه الحسابات «الأكاديمية» الغربية تماماً! أي تلك الأكاديمية التي تريد من الإخوان تماماً ما يطلبه الإخوان أنفسهم من سادة هذه الأكاديمية.
بروكار برس