إنقاذ الربيع العربي أقل تكلفة بكثير من إجهاضه/ برهان غليون
(1)
إذا كانت السياسات المدمّرة التي شهدتها العقود الخمسة الماضية، وما رافقها من فساد وغياب الشعور بالمسؤولية ونهب المال العام، من قبل نخب انفصلت عن شعوبها وأحيانا تآمرت عليها، قد قادت إلى تفجير الثورات الشعبية على امتداد الأرض العربية، فإن الأسلوب الذي عالجت به هذه النخب انتفاضات شعوبها يهدّد أكثر من ذلك، كما تشير إليه حالات سورية والعراق واليمن وليبيا ولبنان وغيرها، بتدمير الدولة وانفراط عقد المجتمعات وانتشار الفوضى والعنف في عموم المنطقة المشرقية. فبدل التقاط الرسالة، والسعي إلى التخفيف من الضغوط الاقتصادية والسياسية والأمنية الواقعة على الشعوب، اختارت معظم النخب الحاكمة المواجهة. ومن أجل تبرير استخدام العنف، لم تجد أمامها سوى تجريم احتجاجات الجمهور الذي اتهم مرة بالجهل وانعدام الأهلية والوعي، وطوْرا بالعمل لصالح وحش أسطوري “إسلامي” جعلوا من ماهيته الغدر والتآمر، أو أكثر من ذلك لحساب دولٍ أجنبيةٍ في مقدمها الولايات المتحدة وإسرائيل.
موقف المواجهة هذا لاقى صدىً عميقا ومكبوتا أحيانا لدى كثير من الطبقات السياسية والمثقفة السائدة في العالم، خصوصا في البلدان الغربية التي احتفظت في مخيّلتها، منذ الحقبة الاستعمارية، بصورة لهذه المجتمعات لا تختلف كثيرا عما روّجته النخب المحلية العربية، أعني الجهل وانعدام الأهلية والذاتية الواعية والعقل، لذلك فقد وجدت أن من مصلحتها مسايرة النخب العربية الحاكمة إلى حد كبير. وراوح موقفها من ثورات الشعوب بين التدخل المباشر والعسكري إلى جانب النظم القائمة أو دعمها بالسلاح، وفي أحسن الأحوال الوقوف على الحياد أو الانخراط إلى جانب الثورات من أجل السيطرة على مسارها من الداخل والتحكّم في مآلاتها.
بعد عقد كامل من الصراع الدموي، تبدو النتيجة واضحة: إجهاض أقوى موجة تغييرٍ سياسيٍّ يبشّر بإعادة بناء الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية لبلدانٍ عربيةٍ خسرت جميعا تقريبا معركة التنمية والانخراط في العصر، وفيما وراء هذا الإجهاض دمار جميع القوى المتنازعة، من النخب الحاكمة والنخب المعارضة التي حاولت تأطير الاحتجاجات الشعبية أو ركوب موجتها لتغيير قواعد الممارسة السياسية. وها نحن نجد أنفسنا والعالم القريب منا أمام مرأى خرابٍ شاملٍ وفوضى عارمة في منطقةٍ من أكثر مناطقه حساسيةً اقتصاديةً وجيو استراتيجية. أما بالنسبة لشعوبها، فتكاد البلاد العربية تتحوّل إلى مقبرة فاغرة لدفن جميع المصالح والآمال والأحلام والتطلعات النبيلة راودت شبانها وشاباتها.
لا يغير كثيرا من هذا الأمر أن تونس قد خطت خطوة إلى الأمام، أو أن السودان نجح في أن يتجنّب الحرب الأهلية، وربما ربح فترة هدنةٍ في الحروب المفتوحة في أكثر من منطقة على أراضيه، ولا أن الثورتين العراقية واللبنانية لا تزالان تضربان أروع الأمثلة في شجاعة الجمهور الشعبي واستعداده للتضحية والإصرار على النصر مهما كانت الأحوال. وللأسف، لن يكون للتغييرات المحدودة التي تحققت هنا وهناك الأثر المنتظر لانتشال البلاد العربية من هوّة اليأس وانعدام الثقة ونفاد الصبر، وستبقى الإنجازات السياسية لبعض البلدان معرّضة دائما للتأزم والتراجع، ما دامت معزولةً في ميدانها، أو مفتقرةً لقاعدة قوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي هي مربط الفرس في جميع التغيرات الاجتماعية، وهذا ما يحتاج تحقيقه إلى بيئةٍ إقليمية تشجع على التفاعل والتواصل، ومناخ ثقافي ونفسي يدفع إلى التفاؤل، ويشجع على الإنتاج والإبداع، وتعاون إقليمي يعزّز الاستقرار، ويدفع إلى الاستثمار والتبادل في عموم المنطقة وبين أهم أقطارها.
يذكّر السعي لإفشال مشروع وحلم التحول الديمقراطي العربي، اليوم، بإفشال مشروع الوحدة التي وحّدت العرب، وملأت عليهم حياتهم عقودا طويلة، ثم لم تلبث أن قسّمت صفوفهم في الستينيات والسبعينيات، وكان ختامها حقبة طويلة من الفوضى الفكرية والسياسية عبّدت الطريق لولادة نظم الحكم الشخصية المطلقة، المعتمدة، بشكل رئيسي، على الأجهزة العسكرية والأمنية والتهميش الكامل للجمهور الشعبي وللنخب السياسية والثقافية معا. ولكن ما سيولده إجهاض الثورة السياسية العربية اليوم أكبر من ذلك بكثير: إنه الفراغ الأيديولوجي والسياسي الذي يُنذر بإحالة أمر السيطرة والسيادة والإدارة في هذه المناطق المدمرة ماديا أو سياسيا، على الأغلب، إلى القوى الأجنبية، ويعيد تشكيلها حسب مصالحها المتباينة التي يقرّرها ميزان القوى، والقدرات الاستراتيجية.
باختصار، ما ستخسره المجتمعات العربية بإجهاض ثورة التحول السياسي العربي ليس إمكانية تنظيم انتخابات نزيهة، إلى هذا الحد أو ذاك، في هذه البلدان أو بعضها، وإنما نقل المنطقة برمتها إلى مكانٍ ومناخٍ آخرين يفتحان أمامها أبوابا كانت ولا تزال موصدةً لمواجهة المسائل الصعبة والمعقدة التي تأخرت في حلها، في التنمية والتقدّم العلمي والتقني، بعد حل مسألة السلطة والإدارة السياسية. أي باختصار حرمانها ثانيةً من أمل تحويلها إلى فاعلٍ في تاريخها ومسؤولة عن مصيرها، بدل أن تبقى كما هي اليوم ساحة صراع بين فاعلين، وموضوعا لهذا الصراع في الوقت نفسه. وهذا هو الوضع الذي عمل، في الحقب الماضية، على تحييد الشعوب والقضاء على إرادتها الحرة، وحكم عليها بالبقاء في الهامشية والعزلة التاريخية، ودانها بالقزمية الحضارية والأخلاقية، ورسّخ في نفوس أبنائها ثقافة النقمة والضغينة والمظلومية.
(2)
حتى الآن، نجحت استراتيجيات النظم الاستبدادية وحلفائها العلنيين والموضوعيين في حرمان الشعوب من تحقيق أهدافها، واستعادة المبادرة أو على الأقل وضع قدمها على الطريق للمشاركة في تقرير مصيرها، لكن أيا من القوى التي تشارك في مذبحة الحرية هذه، منذ سنوات، لم تحقق ولن تحقق، في النهاية، أهدافها، وسوف تكون تكلفة هذه المذبحة أكبر مما يمكن أن يحتمله معظمها في المستقبل، فلن تمكّن الفوضى والنزاع الدائم والانهيار الاقتصادي واليأس من المستقبل النخب الاجتماعية المفترسة من الحفاظ على مواقعها التي اعتقدت أنها حجزتها لنفسها إلى الأبد، بينما يؤدي الاستهتار الطويل بمصالح الناس ومشاعرها وكرامتها إلى تحطيم آخر نوابض الثقة بين النخب الاجتماعية والشعب.
ومنذ الآن، بدأ الوضع ينقلب كليا، فينتقل الخوف من معسكر الشعوب إلى معسكر النخب والقادة. وربما أصبح الحكم السياسي، أي حكم، مستحيلا بعد الآن في أكثر من قُطر ودولة. ولن يقود التدهور المستمر في شروط حياة الناس وتفاقم قلقهم على وجودهم ومستقبل أبنائهم سوى إلى مزيد من التشكيك بنيات القادة وصلاحهم، ويسعّر مشاعر العداء لهم والانتقام منهم. ولن يرى الجمهور المذبوح من الألم وسيلةً أخرى لاستعادة كرامته سوى بتلويث شرف حاكميه وسادته المفترضين والتلذّذ ىإهانتهم والمساس بكرامتهم وسمعتهم، وربما في مرحلة أخرى التجرؤ على الانتقام منهم والاعتداء الجسدي عليهم.
لقد وضعت الطبقات السياسية في البلاد العربية نفسها اليوم في قفص الاتهام، وسيكون الحساب للأسف قاسيا وشاملا، ينظر فيه الجمهور إلى أي صاحب سلطةٍ أو طامحٍ إليها أنه فاسد ولص ونصّاب حتى يثبت العكس. وبالتأكيد، لن يساعد هذا المناخ القادة القدماء أو الجدد على إدارة دفّة أي حكم، ومن باب أولى أن يستمرّوا، كما فعل كثيرون منهم، في نهب المال العام والاستهانة بمصالح المحكومين وحقوقهم. وسوف يتسبب على العكس في إجهاض جميع سياساتهم، بما في ذلك المحاولات الإصلاحية التي سيجتهد في تطبيقها بعضهم.
وبالمثل، لن ينتفع الحلفاء المحليون والإقليميون لهذه النظم من استثماراتهم فيها ودعمهم لها في إخماد ربيع الثورات التي ليست في التحليل الأخير، كما لاحظ ذلك بحق عزمي بشارة، سوى ثورات إصلاحية تتوخى إصلاح الأنظمة القائمة، لا الانقلاب عليها وانتزاع السلطة من “أصحابها”. بالعكس من ذلك، إن حلفاء الاستبداد، برفضهم دعم البرامج الإصلاحية، وتمسّكهم بقادة فاسدين وعاجزين معا، أعدّوا، في أحسن الحالات، من دون أن يدروا، عدة الثورات العنيفة والانقلابية القادمة، وربما دفعوا شعوب المنطقة إلى حقبةٍ من التمرّدات والانتفاضات الدموية غير المنظمة وغير السياسية، تهدّد ما تبقى من وهم سيادة الدولة ووجودها. أما طهران الخامنئية التي اعتقدت أنها تستطيع المراهنة على إشعال المنطقة بالحروب والثورات والانتفاضات المذهبية والاجتماعية ونشر الفوضى والخراب والاقتتال لانتزاع موقع القيادة والهيمنة فيها، على حساب النفوذ الغربي وأوهام أو طموحات بعض الدول الإقليمية العربية، فلن يمرّ وقت طويل حتى تجد نفسها تحترق في لهيب النزاعات التي فجّرتها. وهذا هو معنى ومغزى المصير البائس لقائد الثورة الإسلامية المسلحة ومهندس تصديرها إلى البلاد المجاورة.
أما الحكومات الغربية التي ربطت سلامها واستقرارها بحرمان محيطها جنوب المتوسط وشرقه من التقدّم والنهضة الاقتصادية والحضارية، سواء فعلت ذلك خوفا من انتقال التقنية العسكرية المتقدّمة، أو اعتقادا بخطر الانبعاث الإسلامي الإمبراطوري، وراهنت ولا تزال على نظم تسلطية واستبدادية مغرقة في الوحشية، فهي في سبيلها إلى أن تخلق لنفسها معضلةً تاريخيةً واستراتيجية لا حلّ لها. أعني خلق شروط البربرية التي تهدّد بتدميرها على أطرافها. هذا هو في نظري معنى ومضمون تحويل مجموعة ثقافية من 400 مليون إنسان إلى مجتمعاتٍ كسيحة، تنتظر الشفقة، وتعيش على أفضال المحسنين وأصحاب الريع وتحويلات العمالة المهاجرة، فلن يكون أمام هؤلاء الذين فرض عليهم الحياة في العجز الدائم، ودمرت مصالحهم، وأهرقت كرامتهم سوى أحد حلين: التسول على أعتاب الأغنياء والأقوياء لتأمين معاشهم أو الدفاع عن حياتهم البائسة والضيئلة، أو حمْل السلاح للمطالبة بحقوقهم واسترجاع هويتهم الإنسانية. وفي الحالتين، ستجد الدول الصناعية والأوروبية نفسها منخرطةً، على الرغم منها، في تحمل أعباء هذه الأوضاع المأساوية على حدودها، أو العمل على إيجاد الحلول الناجعة لها، إذا لم تشأ أن تجد نفسها في موقع الضحية. ولن ينفع في ذلك بناء الجدران العازلة، كما فعلت إسرائيل تجاه الفلسطينيين أو الولايات المتحدة الأميركية على الحدود الجنوبية للحد من هجرة المكسيكيين.
(3)
لا أعرف إذا كان اغتيال وزير الحرب والمستعمرات الإيراني، قاسم سليماني، سوف يسعّر المواجهة الأميركية الإيرانية، ويطلق يد مليشيات الحرس الثوري في دورة جديدة من الإرهاب المحلي والإقليمي، أم سيقنع طهران بالتراجع عن مشاريعها. ولو كنت أميل إلى الاعتقاد بأن نتائج العملية الأميركية، في الثالث من يناير/ كانون الثاني الجاري، ستكون أشبه بنتائج الحرب التي استدرج إليها حزب الله في جنوب لبنان، وانتهت بتحييد جبهة الجنوب اللبناني، ومعها حزب الله نفسه، إزاء إسرائيل حسب قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي اعتمد بالإجماع في 11 أغسطس/ آب 2006 . وفي هذه الحالة، يمكن أن تكون هذه العملية إيذانا بنهاية المشروع الذي أنشئ من أجله هذا الفصيل العسكري، أي أن تضع حدّا لكابوس النزعات الإمبراطورية والحروب التي لا غنى لها عنها، وتفتح طريق تكريس سيادة الدول وتوجيه شعوبها إلى تركيز جهودهم على بناء أوطانهم من الداخل، لتصبح مركزا لتنمية حياة اجتماعية إيجابية ومُرضية، وواحة للمدنية والأمن والحياة الكريمة.
ولكن مهما كان الحال، تبدو لي هذه السنة 2020 حاسمةً ومصيرية بالنسبة للمنطقة المشرقية برمتها، وهي سنةٌ حاسمةٌ، لأنه سيتقرّر خلالها ما إذا كانت الأمور ستستمر في التدهور وتفلت الكرة من أيدي الجميع، أم أن في وسعنا الرهان على الإرادة الطيبة والأمل بانبثاق وعي جديد، على مستوى المنطقة والعالم، يسعى إلى وضع حد لهدر الأرواح والموارد والزمن ووقف الانحدار نحو الجحيم، والإنصات لصوت العقل والضمير، في سبيل طي صفحة الحرب، وتدشين حقبةٍ جديدةٍ تعمل على طمأنة الشعوب، والتهدئة من روعها، وعلى دفعها نحو العمل الإيجابي والاستثمار في المستقبل، ما يساعد على نكء الجراح، وتجاوز المشاعر السلبية والمأساوية التي صبغت السنوات الماضية، فبلدانٌ كثيرة تكاد تصل إلى حالة الإفلاس، ويكاد الدمار والخراب يقضي على مستقبلها، وأخص بالذكر هنا بلدان الهلال الخصيب الذي تحوّل إلى ساحة حرب إقليمية ودولية، ولم يعد أحد يهتم بمصيره أو يسأل عن مستقبل شعوبه. وقريب من ذلك ما يحصل في اليمن وفي ليبيا، وينشر اليأس من مستقبل المنطقة، ويدفع إلى تراجع الاستثمار والنشاط الاقتصادي فيها، حتى أصبح النمو سالبا في كثير منها. وفي أكثر من قُطرٍ، تتجاوز نسبة البطالة بين الشباب 50%، بينما بلغت نسبة السكان الذين يعيشون في حالة فقر أرقاما غير مسبوقة تجاوزت في بلدانٍ كثيرة 60%، ويشكّل اللاجئون العرب ما يقارب 50% من جميع اللاجئين في العالم، كما يعيش الملايين من النازحين والمشرّدين في خيام لا تتوفر فيها متطلبات الحياة الأساسية. وفي سورية وحدها، تفيد المنظمات الدولية بأن عدد الذين يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية يتجاوز 18 مليون نسمة من أصل 24 مليونا عدد سكان البلاد. وفي العراق ولبنان لا يزال المحتجون يواجهون بالتجاهل الكامل من سلطاتٍ ترفض الاعتراف بإفلاسها، وتحلم بأن تستطيع بوسائل القمع والاغتيال والتحايل وتزوير الوقائع أن تستعيد المبادرة، وتقضي على أي أمل بالتغيير.
ولعل هذا الأفق المأساوي الذي تشير إليه الأرقام الاقتصادية والاجتماعية والتربوية هو الذي يشجع على التفاؤل بأن العام الحالي سوف يكون، لا محالة، عام التحولات الإيجابية، بمقدار ما ستدرك جميع الأطراف أن هامش مناورتها يضيق أكثر فأكثر، وأننا نسير بالتأكيد نحو كارثة إنسانية محققة، إن لم يطرأ تغير سريع وعميق على خياراتنا وسلوكنا الجماعي، الوطني والإقليمي.
لذلك، أعتقد أن أخطر ما يمكن أن يواجهنا اليوم ليست هذه الأوضاع الكارثية نفسها، وإنما فقدان الأمل بإمكانية التغيير الإيجابي أو بالقدرة على السير إلى الأمام، ومن ثم إضاعة البوصلة والنكوص من جديد إلى الحلول المطروقة والخائبة، أو الركون إلى الاعتقاد بأن الحل يكمن في إدارة الظهر بشكل أكبر للعالم، بدل التجرّؤ على الانخراط فيه، وانتزاع الموقع الذي يليق بشعوب المنطقة وإرثها الثقافي والحضاري.
وبالمثل، أسوأ ما يمكن أن يخرج به المجتمع الدولي من استنتاجاتٍ في مواجهة كوارثنا هو العودة إلى الاعتقاد القديم الجديد في أن شعوبنا ليست مستعدّة للتقدّم، ولا تملك الأهلية لخوض معركة الحرية والكرامة والتنمية العلمية والتقنية والإنسانية، وأن العلاج الوحيد لاحتجاجات شبابها وتمرّداتهم هو الحصار والعزل، إن لم يكن العنف والردع والترويع. وفي هذه الحالة، لن يبقى بعد الاستبداد دواء أنجع إلا الإبادة الجماعية التي لم يتجرّأ عليها من قبل غير بشار الأسد، ومن ثم تبنّي أسلوبه في الحكم وتعميمه والمراهنة المتجدّدة على بقاء النظم الوحشية وتعزيز قدراتها.
ليس هناك حل فعلي يخفّف من الخسائر لدى الجميع، ويضمن استعادة المبادرة ودمج العوالم المهمّشة والمتمرّدة وكسب تعاونها سوى الاعتراف بخطأ السياسات الماضية التي تبنّتها نخب عديمة المسؤولية، ودعمتها حكوماتٌ عالميةٌ، أعمتها مصالحها القومية الآنية والأنانية معا، واستسملت لمخاوفها وأوهامها العنصرية أو شبه العنصرية، إلا العزم على الاستجابة لتطلعات الشعوب وكسب ثقتها وتهدئة مخاوفها وتحويل المنطقة إلى منطقة تفاهم وتعاون إقليمي ودولي، لمصلحة الجميع: روسيا والغرب والصين وكذلك شعوبها من العرب والإيرانيين والترك والكرد، ومن الأقليات والأكثريات، والمحافظين المتدينين والعلمانيين الحداثيين.
هذا هو الطريق الوحيد لتحويل المنطقة إلى منطقة تعايش وتعاون وتضامن يستفيد منه الجميع، ويساعد على تعزيز السلام والأمن العالميين. وغير ذلك يعني القبول بتحويل العالم العربي إلى ساحة حرب باردة جديدة، يدعم فيها كل محور نظمه المستبدّة، وتمتنع فيها وسائل التنمية والتقدم المادي والأخلاقي، ويحكم على الدولة والنظام المدني بالانهيار لصالح حكم العصابات والمليشيات والفصائل الخاصة.
هل هذا من باب التفاؤل المفرط الذي لا يأخذ بالاعتبار منطق العلاقات الاجتماعية والدولية، القائم على الصراع والتنافس والتدمير المتبادل إذا أمكن؟ ربما. لكن لا يخرج الوعي الجديد إلا من المعاناة الشديدة، ولم تظهر أوروبا الموحدة والديمقراطية إلا من فظائع الحربين العالميتين، الأولى والثانية، فصحوة الوعي والضمير هي الرد الوحيد على الكارثة المحقّقة، والسبيل الوحيد أيضا للتغلب على منطق الصراع العدمي على المصالح، وعلى تضارب الأهواء والمطامح. وإنقاذ الربيع العربي أقل تكلفةً بكثير من إجهاضه.
العربي الجديد