إدلب المجزرة المفتوحة برعاية الأسد إردوغان وبوتين/ فراس حاج يحي
يهدف النظام السوري وحلفاؤه إلى استكمال السيطرة العسكرية على إدلب لإعلان نصرهم العسكري وسيطرتهم على معظم الأراضي السورية، ووأد الثورة السورية نهائياً.
تقع محافظة إدلب الحدودية مع تركيا شمال سوريا وتمتد على مساحة 6000 كلم مربع. قبل عام 2011 كان يقدر عدد سكانها بمليون ونصف المليون نسمة، غادر أكثر من نصفهم المحافظة إلى تركيا ودول أخرى، ليلجأ إليها بعد اتفاقيات التهجير القسري التي أجبر فيها نظام الأسد سكان المناطق الثائرة (درعا، دمشق وريفها، حمص، حماه) على الرحيل، مئات آلاف السوريين الرافضين البقاء تحت حكمه.
بحسب مكتب التنسيق والدعم التابع لحملة “منسقو الاستجابة”، يبلغ عدد السكان الأصليين والمهجرين في عموم محافظة إدلب 3 ملايين و695 ألف نسمة، والمحافظة تشهد الآن أكبر عملية تهجير قسري وتغيير ديموغرافي في التاريخ الإنساني الحديث.
إدلب ساحة معركة كبرى غير متكافئة
ملايين المدنيين في إدلب وعلى مدار سنوات واجهوا القصف الجوي والمدفعي والبراميل المتفجرة لقوات نظام الأسد والقوات الروسية. عرفت المنطقة ضربات صنوف الأسلحة كلها، بما فيها تلك المحرمة دولياً من ذخائر كيماوية وعنقودية وأسلحة روسية جديدة. كانت إدلب أرضاً وسكاناً حقل تجارب ميداني لمدى فاعلية تلك الأسلحة وامتداد دمارها.
يهدف النظام السوري وحلفاؤه إلى استكمال السيطرة العسكرية على إدلب لإعلان نصرهم العسكري وسيطرتهم على معظم الأراضي السورية، ووأد الثورة السورية نهائياً بالحسم العسكري، بذريعة جاهزة هي وجود فصيل إرهابي في إدلب هو “هيئة فتح الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، ومن ثم فرض الحل السياسي الذي تريده موسكو وأنقرة وطهران.
موجة نزوح غير مسبوقة
أطلق الحلف الروسي – السوري بتاريخ 15 كانون الأول/ ديسمبر عام 2019 حملة عسكرية كبرى على محافظة إدلب، ارتكب خلالها جرائم ومجازر ترقى إلى مصاف جرائم حرب. وبحسب تقرير صادر عن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، “طبقت القوات الروسية في هذه العملية القصف العنيف والكثيف على غرار نموذج غروزني عبر تدمير أكبر قدر ممكن من منازل المدنيين، وإرهابهم ودفعهم للاستسلام والرحيل، كما قامت بقصف النازحين أثناء نزوحهم”.
وسجل التقرير ذاته “مقتل 86 مدنياً، بينهم 21 طفلاً و18 سيدة (أنثى بالغة) في شمال غربي سوريا، وارتكاب ما لا يقل عن 6 مجازر، قوات النظام السوري قتلت 42 مدنياً، بينهم 10 أطفال و11 سيدة، وارتكبت 4 مجازر، فيما قتلت القوات الروسية 44 مدنياً، بينهم 11 طفلاً و7 سيدات، وارتكبت مجزرتين اثنتين”. وأشار التقرير إلى وقوع ما لا يقل عن 47 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية على يد قوات الحلف السوري الروسي في مناطق شمال غربي سوريا، في المدة التي يغطيها، كان من بينها 9 حوادث اعتداء على مدارس، و2 على منشآت طبية، و13 على أماكن عبادة، و6 على أسواق، وتوزعت إلى 38 حادثة اعتداء على يد قوات النظام السوري، و9 على يد القوات الروسي. وفقاً للتقرير، ألقى طيران النظام السوري المروحي منذ 15 حتى 26 كانون الأول 2019 ما لا يقل عن 248 برميلاً متفجراً على محافظة إدلب، كما استهدفت قوات الحلف الروسي السوري الطرق الرئيسة التي يسلكها النازحون ما لا يقل عن 9 مرات، إضافة إلى ما لا يقل عن 3 حوادث هاجمت فيها تجمعات خيام عشوائية تؤوي نازحين.
الأمم المتحدة قالت في بيان لها يوم الجمعة 27 كانون الأول، عبر متحدثها الرسمي ستيفان دوغريكفي، إن “أكثر من 100 ألف من الفارين الأسبوع الماضي يعيشون الآن في مخيمات ومبانٍ مدمرة جزئياً وتحت الأشجار، فيما يبيت بعضهم في العراء”. وتابع البيان: “الظروف الشتوية تزيد من تفاقم الوضع الإنساني، وتضطر العائلات إلى الفرار من الأمطار الغزيرة ودرجات الحرارة في الليل القريبة من التجمد”. وذكر أنه وفق التقديرات الحالية، نزح أكثر من 235 ألف شخص من ريف إدلب الجنوبي منذ 12 كانون أول الجاري، بما في ذلك 140 ألف طفل على الأقل”.
جرائم حرب
القوات السورية والروسية انتهكت قواعد عدة في القانون الدولي الإنساني، على رأسها عدم تمييزها بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأهداف المدنية والعسكرية. كما قصفت مستشفيات ومدارس ومراكز وأحياء مدنية، وترقى هذه الانتهاكات إلى جرائم حرب. كما أنَّ الهجوم المقصود على العاملين في المجال الطبي ضمن سياق نزاع مسلح غير دولي، جريمة حرب، تستوجب العقاب بموجب القانون الدولي الإنساني، والقانون الجنائي الدولي (الموادّ 8-2 ب، 24، و8-2 هـ 2 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية).
النزوح أو التشريد القسري جريمة حرب أيضاً في النِزاعات المسلحة غير الدولية، عندما يرتكب في إطار هجوم مدروس أو واسع النطاق وموجَّه ضدّ السكان المدنيين (المادتان 8-2-ب-7 و8-2-هـ-8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية)، ويمكن اعتبار ذلك أيضاً جرائم ضدّ الإنسانية (المادة 7-1- د من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية).
لم يتوقف الدعم الروسي لنظام الأسد على الجانب العسكري، وإنما تعداه إلى استخدام حق النقض أو الفيتو في مجلس الأمن في جلسة 20/12/2019 ضدَّ تجديد قرار مجلس الأمن رقم 2449، الذي يقتضي إعادة تفويض الأمم المتحدة بإدخال المساعدات إلى سوريا باستخدام المعابر الحدودية التي لا تسيطر عليها قوات النظام السوري، والذي ينتهي العمل به في 10 كانون الثاني/ يناير 2020. وهذا سيؤثر في إغاثة عشرات آلاف المدنيين الذين هجَّرهم سلاح الجو التابع للنظام الروسي والسوري، وسوف يمنع إغاثة الناس وتوزيع المساعدات لمستحقيها من المدنيين في المناطق الأشد تضرراً.
تواطؤ تركي على إدلب
تستهدف العملية العسكرية منطقة خفض التصعيد الرابعة المنصوص عليها في اتفاق آستانة، الذي يضم كل من تركيا وروسيا وإيران، وتم توقيعه في 4 أيار/ مايو عام 2017، وهو منح أي طرف من الثلاثي حق نقضه. وتضمنت مقدمة الاتفاق تأكيد الالتزام المتين للأطراف الثلاثة “بسيادة واستقلالية ووحدة وتكامل الأراضي السورية”، بما يعني عودة هذه المناطق إلى سلطة الأسد على اعتبارها السلطة التي تحظى بشرعية تمثيل سوريا في الأمم المتحدة.
ونص الاتفاق على “قتال تنظيم الدولة وفتح الشام وجماعات أخرى داخل هذه المناطق وخارجها”، وبما أن جبهة النصرة مستثناة بالاسم الصريح “فتح الشام” من الاتفاق، فهذا يعطي الحق للقوات الروسية وقوات الأسد باستهدافها حتى ضمن مناطق “خفض التصعيد”. كما تضمن الاتفاق فتح الطريق الدولي دمشق – حلب في جولة أستانة 6، عبر تأمين الطريق نارياً وقيام نقاط المراقبة التركية والروسية بالإشراف عليه، وإشراف الأسد على الأجزاء التي يسيطر عليها من هذا الطريق. هذا الاتفاق تم بموافقة الضامن التركي وتوقيع المعارضة السورية المدعومة منه، وعلى هذا الأساس تم نشر نقاط المراقبة التركية في مناطق المعارضة، وحتى اليوم ما زالت تفاهمات أستانة وخرائطها الفعلية شبه سرية ولم تنشر للعموم.
يوماً بعد يوم تتكشف تفاصيل هذه الاتفاقات والتفاهمات الثلاثية التي تضمن لهذا المحور مصالحه الذاتية الضيقة فقط، وشرعنة احتلاله الأرض السورية عل حساب الشعب السوري ودمائه. ولا تمكن قراءة هذا الصمت التركي عن العملية العسكرية الأخيرة، إلا بكونه موافقة ضمنية عليها في مقابل ضمان الأمن القومي التركي الذي لم يعد يرى في سوريا إلا الحد من نفوذ الأكراد ومنع إقامة حكم ذاتي لهم في سوريا، وإعادة اللاجئين السوريين من تركيا. وهذا واضح بمقايضة روسية في كل من منطقة درع الفرات وفي عفرين ثم في “منطقتها الآمنة” بين رأس العين وتل أبيض، مقابل سيطرة روسيا على ما تبقى من إدلب والطريقين الدوليين M5 وM4. وهذا ما تضمنه الاتفاق الروسي – التركي بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، الذي ضمن لتركيا إبعاد الوحدات الكردية عن حدودها مسافة 30 كلم، وتنظيم دوريات مشتركة روسية – تركية بحدود 10 كلم على الحدود السورية – التركية المشتركة.
تحدث هذه المجزرة المفتوحة في إدلب بحق المدنيين، من دون أن نشهد تحركاً حقيقياً لقوى المعارضة السياسية السورية على الصعيد الديبلوماسي، فلا تحركات ديبلوماسية تذكر، ولا لقاءات مع وزارات خارجية دول الاتحاد الأوروبي والدول الكبرى لمحاولة وقف هذه العملية، وحتى فصائل المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا تدخلت لصد هذه الحملة، وبدلاً من التوجه من مناطق النفوذ التركي إلى إدلب، انتشرت أنباء عن انتقال عناصر من هذه الفصائل بتنسيق تركي للقتال إلى جانب قوات حكومة السراج في ليبيا حليف تركيا.
وحدهم السوريون في أوروبا والداخل السوري تحركوا عبر تظاهرات في دول أوروبية عدة، ونظموا حملات جمع تبرعات لإيواء النازحين من جراء هذه العملية، إضافة إلى حملات إلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي دعت إلى إنقاذ المدنيين في إدلب.
المسؤولية الدولية والإنسانية
المجزرة المفتوحة بحق المدنيين في إدلب، جريمة بحق الإنسانية جمعاء، وهو ما يستلزم على شعوب العالم التحرك والتضامن مع المدنيين، عبر الضغط على حكوماتهم، فهذا الصمت الرسمي الدولي عن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا، يساهم في تبرير هذه الانتهاكات المرتكبة بحق السوريين واستمرارها.
كما يترتب على المجتمع الدولي تحمل مسؤولياته تجاه الشعب السوري وبخاصة الأمم المتحدة، عبر تطبيق مبدأ حماية المدنيين ووقف الهجمات العشوائية ضدهم، إعمالاً لمبدأ حماية المدنيين وتفعيله كما هو مقرر في القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة. فقد وافقت بالإجماع جميع الدول المنضوية تحت هيئة الأمم المتحدة في قمة عام 2005، ومنها سوريا على مسؤولية كل دولة عن حماية سكانها من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. هذه المسؤولية تستلزم منع هذه الجرائم، ومنع التحريض على ارتكابها بالوسائل الممكنة كافة. وعندما تخفق الدولة بشكل واضح في حماية سكانها من الجرائم الفظيعة، أو تقوم هي بارتكاب هذه الجرائم كما في حالة النظام السوري، فإن من مسؤولية المجتمع الدولي التدخل باتخاذ إجراءات حماية بطريقة جماعية وحاسمة وفي الوقت المناسب، وهذا واقع الحال في سوريا. يضاف إلى ذلك، تفعيل قرارات مجلس الأمن الخاصة بسوريا وتطبيقها وبخاصة القرارات رقم القرار رقم 2042 لعام 2012 والقرار رقم 2043 لعام 2012 والقرار رقم 2118 لعام 2013 والقرار رقم 2139 لعام 2014 والقرار رقم 2254 لعام 2015، وصولاً إلى فرض تطبيق لإطلاق النار للمضي بالعملية السياسية في سوريا كما تضمنتها هذه القرارات.
حتى ذلك الوقت ينتظر السوريون العدالة وإنصاف ضحاياهم من المدنيين، عبر إحالة ملف جرائم الحرب المرتكبة في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية بما يضمن محاكمة مرتكبي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين، لينالوا جزاءهم العادل.
درج