عن الحقّ بالصراخ والصوت العالي/ عمار المأمون
ظهر شكل مميز من التظاهر في سوريا بدايات الثورة، يجتمع فيه المحتجون في حلقة، يجلسون القرفصاء، يهمسون بداية “الشعب يريد إسقاط النظام”، يعلو صوتهم تدريجياً، ثم تتحول حلقة الهمس إلى هتافات بالصوت العالي لنفس العبارة، يرافقها القفز والأيدي المتشابكة، يتحرر الصوت العاليّ حين يتعالى التسارع والحماس، ويصبح الهمس صراخاً عالياً، احتجاجاً لنفي الصوت المنخفض النابع عن الخوف والرعب.
الأداء الاحتجاجي السابق يعيد تقديم العلاقة مع النظام القائم وأشكال الطاعة التي يرسخها موظفاً الصوت وتَغيّر مُستواه، خصوصاً أن السلطة تضبط النبرة وارتفاع الصوت في الحنجرة، لا بوصفها فقط عضواً جسدياً صوتياً لإنتاج الكلام، بل جهازاً معرفياً يضبط أشكال العلاقة مع السيادة وبين الأفراد، فالسنوات التي كان يتهامسُ فيها الناس خوفاً، ويختبرون الرعب وينتجونه خائفين من لفظ اسم حافظ الأسد، نُفيَت لحظة الاحتجاج، التي يقف فيها الصراخ الجماعي بصوت عال بوجه تاريخٍ من الهمس الفردي وتناقل الأخبار مشافهة دون لفت الانتباه.
نقيض مساحة الصوت العاليّ السابقة لا نراها بوضوح في الحياة اليوميّة، بل في سجن صيدنايا، فحسب شهادات أمنيستي، المعتقلون هناك مفروض عليهم الصمت، لا يتحدثون، رعب لا يمكن وصفه حين نقرأ الشهادات، لكن الأشد قسوة، هو أن الصراخ والصوت العالي هناك وسيلة للتعذيب، الحراس يتحكمون به لزعزعة وعي المساجين وتخويفهم، هم حرفياً ولو بعبارة شعريّة “سادة الصوت والصدى”.
تَظهر ثنائية الثورة – النظام في بعض الأحيان كصراع بين الهمس والصوت العاليّ الذي ينسف “آداب” الشكل العام، وأخلاقه المتوارثة المستكينة، وحدوده الواضحة التي تفصل بين “الزعران” و”المُطيعين”، هذا الصوت يهدد قدرة الكلمات على الانتقال عبر الوسائط التقليديّة كالنص والصورة، خصوصاً أن تبنى الصوت العاليّ لبعض الخصائص الكرنفاليّة، كالسباب، والشتائم، والأعضاء جسديّة، ينفي ما تدّعيه أصوات السلطة من مثاليّة وتماسك و”جمال” لإخفاء ما يوسم بـ”السفالة” و”الانحطاط”، أي وصف هتاف الشتيمة بـالـ”مُعيب” للتشكيك بشرعيّة من يتبنونه، في حين أن هذا الصوت المسموع كما في ثورة لبنان، والسباب الذي ردد علناً، يحيل إلى عالم عضوي، حركيّ، يحضر ضمنه الجسد وأجهزته في موضع قوة، وتختلط فيه مستويات التعبير لنفي الصورة “المنمّقة” التي يقدمها الشكل القائم عن ذاته، هو عالم متغير ومتحول لا مكان فيه للهمس، بلّ لكل ما هو مسموع وآني وعلني في الفضاء العام.
قوة الهتاف العاليّ السابق تظهر في تحدّيه لأدوات الشكل القائم التي تحاول احتواء الصوت وإعادة تعريفه، فالسباب الذي يرافق أغنية “هيلا هيلا هو” لم يظهر في الكثير من المحطات التي تحاول تغطية ما يحدث في الشارع، الصوت العاليّ اكتسب بتبنيه للفاحش والجسمانيّ والعصي على اللفظ علناً، قدرة على محاربة أدوات التقنين وجعل نفسه منيعاً على الانتقال إلا عبر الحناجر.
تتحكم الجمهوريات الوطنية القمعية في المنطقة العربيّة بالحناجر، ترى فيها أجهزة خطرة لا بد من ضبطها، وتقنين ما يخرج منها، هي السلاح الفردي العلني الذي يكفي (تفعيل) واحدة منها حتى تعمل الأخرى، الصوت هنا أشبه بعدوى تنتقل حرفياً بالهواء، تأخذ نغماً أو تتشكل عبرها الكلمات، أو تكتفي بأهزوجة ما.
تفعيل الصوت ضد السلطة ينفي عنها لياقتها المصطنعة وطقوسها الرسميّة، صراخ الجماهير تهديد لنصوص السلطة الرسميّة، تلك التي تُقنن الصوت ومستواه، نافية كل ما يمس بوجودها ومعاني كلماتها، الصراخ والصوت العاليّ يختزن داخله الاحتجاج، النحيب، الغضب، السباب، الألم، هو الأسلوب الذي يحرر اللغة من صيغتها التواصلية ويفعل قيمتها المجازيّة، فالنبرة والارتفاع كلها أدوات يراهن عليها الصوت العاليّ بوصفه ضد المعنى المنطقي، بل وضد الشعر، كون الفرد يتحول عبر الصوت العالي إلى مولد للفعل وموضوعة له، فالصراخ وليد اللحظة وحسها العاطفي، لا يمكن نقله أو تدوينه، يمكن فقط الحديث عنه ووصفه، هو إنتاج للذات خارج حدودها الجسديّة وتحد لما يعيق اللحم عن الانتقال، هو أيضاً نفيّ للحدود السياسيّة، والأداء الرسمي المضبوط المفرط في جديّته الذي يتم (تبنيه) في الفضاء العام.
حرر الربيع العربي الحناجر وأعاد تفعيلها كأدوات سياسيّة، تخلق نوعاً من الأخوة بين الهاتفين، صوتهم العالي خلق مُدناً ومساحات حرّة يتحرك أفرادها ضمن حدود الصوت العالي، وكأن المكان مضبوط بمدى انتشار الصوت، الذي يعمل كدعوة لانضمام السامعين في سعي لتأسيس شكل علاقات جديد ضمن المكان الجغرافي، أي أن الصوت العالي أعاد تكوين أعراف التدفق والتجمع التي تضبطها السلطة، وأعاد تملّك المكان وغيّر تعريفات الموجودين ضمنه، كحالة “سبيكرات الحريّة” التي كانت تنشر في العاصمة السورية دمشق، الصوت العالي والهتاف الناتج عنها خلخل حركة الناس، وسخر من قوى حفظ النظام، صحيح أن المكبرات حررت الصوت من أداة توليده العضويّة /الحنجرة، لكن حضوره العالي هدّد المكونات الماديّة للمكان، تلك التي تضبط حركة الأجساد، لكنها تعجز عن ضبط الصوت في حال انتشر، بالتالي لا بد من القضاء على مصدره، إذ لا يمكن تجاهله أو تركه كلياً، لا بد من تقنينه أو إخفاءه، وعبر الصوت ذاته والموقف منه يتحدد موقف كل فرد مما يقال عالياً، هناك من يركض لإخفائه، ومن يغنّي أو يصرخ معه، وهناك من يتجاهله رعباً، خيارات شخصية يظهر فيها مدى شجاعة الفرد، أو مدى انصياعه للنظام العام، الصوت يكشف عن تعريف الفرد لذاته في حال هُديد النظام العام.
يتحول الصوت العالي إلى مولد للخطر، الذي قد يقع على الفرد أو الجماعة إن أنتجوه، وقد يصبحوا أهدافاً مُحتملة للجهاز البشري المخصص لإنتاج السلطة وترسيخها، ما يجعل مُنتِجَ الصوت العال فريسةً محتملةً عليه الهرب وتفادي “العقبات” و”الأخطار” التي تتولد فقط بسبب ما يصدر عنه، هو موضع شبهة، يُجرّم في بعض القوانين، وأحياناً قد يقتل في حال هتف بما لا يجب التصريح به.
الصوت العالي عدو السلطات الوطنيّة، هو فردي، مُختلف، يهدد تماسك الجموع المطيعة، كالطاعون يحول منتجيه إلى منفيين وأعداء للـ”صحة الوطنيّة”، هو علامة على الرغبة الفردية والجمعية لنفي النظام العام، لا يقدم بديلاً، ولا يدّعي امتلاكه لبديل، فلحظة الصراخ ذاتها هي لحظة تحول، ولحظة إنتاج الصوت العالي لا يمكن التراجع عنها أو غفرانها، بصورة شعريّة يمكن القول أن الصوت لا يتلاشى، بل يبق حاضراً في “مانا- Mana” المجتمع، يُسمع صداه دوماً، وكلما أشتدّ ارتفاع الصوت الأصلي، أشتد رَجعه وأثره على الذاكرة التي يخاطبها كلما تردد وعاد.
مجلة رمان