أمجد ناصر ومرافعة خراب "مملكة آدم"/ عارف حمزة
لطالما وقف الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر على الأطلال. منذ مجموعته الشعريّة الأولى “مديح لمقهى آخر” (1979) وهو يقف على الأطلال كغرض مسحوب من قصيدة الوزن إلى قصيدة النثر، وهذا لم يكن انحيازًا “رائدًا” منه، بل انحاز تقريبًا كلّ كتاب قصيدة النثر العربيّة إلى ذلك الغرض خلال انحيازهم للضعيف وللمُهمل وللمهزوم ولليوميّ ولكلّ ما يُفسَّرُ كسوء تفاهم مع المحيط ثمّ مع العالم. هو وقوف على أطلال النفس حتى، النفس التي ما عادت بين أصابعها سوى أطلال الأشياء والعلاقات والأماكن والأجساد.
كان أمجد ناصر (1955 – 2019) من أولئك الذين كتبوا عن الحياة الهشّة، حتى عن ملك مثل “عبد الله الصغير” ليس كمديح له، بل عن هوانه وهو يُغادر الأندلس إلى الأبد. ورغم أنّ عمله الشعريّ الأول ذاك، والذي قدّمه الشاعر العراقي سعدي يوسف، كان ينتسب لقصيدة التفعيلة، إلا أنّ ناصر كتب قصيدة النثر بدءًا من مجموعته الشعريّة الثانية “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” (1981)، وذلك ليس انتقاصًا من الأولى، بقدر أنّ ناصر كان لديه ذلك التدفّق السرديّ الذي جعله يشقّ طريقه الخاص أسلوبيًّا بعد مجموعته الشعريّة الثالثة “رعاة العزلة” (1986)، ذلك السرد الذي ربّما قاده حتى إلى كتابة الرواية.
“مملكة آدم” (المتوسّط، 2019) هو تلك الصرخة الطويلة والعالية من صاحب “سُرّ مَن رآك” (1994)، وكان يلزمها هذا السرد ليحملَ تلك الصرخة إلى مبتغاها. ورغم أنّ مملكة آدم هو كتابه الشعريّ الأخير، إلا أنّ بنيانه يبدو تراتبيًّا وكأنّه رواية؛ فمملكة آدم تبدأ بمفتتح ثم تجري تلك المرافعة من ناصر في سبعة فصول عن “الذين يأكلونَ بيد، ويعدّون الذبائحَ بأخرى”.
عربات الموتى
في بداية القسم الثاني يكتب ناصر: “لا أعرفُ كيف ومتى وصلتُ إلى حيث لا يصل الأنصارُ أو الشهودُ./ جاءت عرباتٌ تجرّها كائنات، نصفها بشريّ/ ونصفها حمار وحشيّ./ رموني مع الذين قضوا نحبَهم./ كنتُ مختنقًا./ ولم أكن ميّتًا تمامًا،/ كنتُ بلا نفسٍ تقريبًا/ لا أعرفُ ما الذي أصابني./ كان هناك هواء حامض/ ومرٌّ وحرّيف وثقيل./ تنفّستُهُ./ فلم يكن هناك هواء غيرُه.”. وهكذا وجد ناصر نفسه بالصدفة بين أولئك الموتى الذين يتدفقون إلى العربات التي ستحملهم إلى الطبقات التي ستخصّهم في الجنة أو الجحيم. ولكن ماذا يفعل هو بينهم؟ وكيف وصل إلى هناك؟ إذ “لا يصعدُ الأحياء إلى علّييّن”، ولكنّه كان يتمنى ذلك في أعماقه، لهذا أخذته الصدفة التي خلقها الله في حياته لكي يسمعه عن قرب هناك.
قاموس جديد
مع الاستمرار في التجوال في مملكة آدم، أو سماع مرافعة الشاعر عن أبريائها الذين يُعلّقون كالذبائح، نجد أنّ مفردات جديدة وغريبة عن مجموعات ناصر السابقة قد دخلت في قاموسه الشعري. وربّما هو سؤال يجب طرحه حول هذه المجموعة بالذات؛ كيف دخلت هذه المفردات الجديدة إلى قاموس أمجد ناصر؟ وهل أثّرت على شعريّة النص وأسلوبه في الكتابة؟
“قولوا له إنّي أريدُ أن أراه./ أريد أن أقول له أني قادم من مملكة آدم، حيث صارت الكلمة للزومبييّن،/ مصاصيّ الدماء،/ أكلة لحوم البشر،/ هاتكي الأعراض،/ مُغتصبي الصبية الصغار،/ رجال الخازوق والكراسي الكهربائيّة/(..) خزنة البراميل المعبّأة بـ التي إن تي والمسامير وأنصال السكاكين…” (الصفحة 32)، والكثير من قبيل هذه المفردات التي قد يراها البعض بأنّه لا يصلح استخدامها للشعر. ولكنّها دخلت إلى هذا الكتاب، وهذه المرافعة، بالذات، ببساطة لعدم قدرة ناصر على تحمّل ما جرى ويجري في الجحيم السوري، هذا الجحيم الذي أدار الكثيرون من المثقفين والكتّاب، السوريّون منهم على الخصوص، ظهورهم له، للمآسي الكبرى التي يؤلّفها نظام ديكتاتوريّ يُريد أن يبقى ويدوم حكمه حتى لو حكم الفراغ.
كيف يمكن لشاعر وشخص رقيق، رغم بداوته، كأمجد ناصر أن لا يتّخذ موقفًا أخلاقيًّا واضحًا ومباشرًا بالانحياز إلى الضحيّة، إلى نزلاء “مستنشقي السارين والخردل”. وهو ذاهب مباشرة إلى إلهه لأنّ “لا الملائكة ولا الشياطين/ بقادرين على وقف نواعير الدمِ/ التي تُديرُها أرواح شريرة من مكان مجهول”.
الجحيم السوريّ
يكتب ناصر هذه الأنفاس القصيرة والطويلة بشكلين مختلفين؛ فعندما يصف مآسي الأطفال الأبرياء والناس المقطوعي الأوصال يكتب ذلك في جمل قصيرة، وكأنّها أنفاسُ أولئك الناس البريئين تحت البطش. إذ لا يملكون سوى الأنفاس القصيرة، ولا يستطيعون دفع الأذى عن أنفسهم وعن أطفالهم. ففي المقطع الذي يُهديه ناصر إلى الأب “باولو دالوليو” (وهو كاهن يسوعي إيطالي وناشط سلام تم نفيه من سوريا عام 2012 من قِبل حكومة الأسد بسبب لقائه مع أعضاء من المعارضة السورية، وانتقاد أفعال النظام أثناء الثورة السورية، وفي 29 تموز/يوليو 2013 تم اختطافه من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في مدينة الرقة السوريّة) نقرأ مثل هذه الأنفاس: “قد تُفكّر أنّك في الآخرة،/ وهذا خطأ/ فأنتَ لا تزالُ في الحياة الدنيا/ ولكن، تشابهت عليكَ الصور،/ سترى سماء خفيضة/ تتساقطُ منها البراميلُ بدلَ الأمطار/ فلا ماء لهذه الأرض المشقّقة من العطش./ انظرْ،/ الأحصنةُ الحديديّة تعبُّ الدمَ، وتنفثُه من مناخيرها./ عطشٌ/ هناك أنهارٌ من الدم/ بيد أنّها لا تروي./ دم وملح./ دم وبلازما” (الصفحة 50).
أما عندما يتحدّث عن نفسه، وعن أمّه لكي تنوح، وعن الصحراء التي جاء منها لكي يغرق في رمل القسوة، فإنّه يتحدّث بتلك الأنفاس الطويلة، والجمل الطويلة، ولكنّها، رويدًا رويدًا، وصفحة بعد أخرى، تتضائلُ وتقصر؛ لكي تتشابه أنفاسُه مع أنفاس أولئك القتلى والمُعذَبين في هذا الجحيم السوريّ.
الجحيم الأرضيّ
لا يفقد أمجد ناصر، على الرغم من المفردات الغريبة هذه، والتي تُحاولُ جاهدة جرّ الشعر إلى المباشرة السرديّة التي قد تفقده شعريّته، ولكن ناصر يعرف كيف يُدلّي تلك الصنّارات ويعرف وقت اصطياد كلماته، ورميها نيّئة بين جمل هذه المجموعة التي يطفو عليها الدم.
يبدو الأمرُ وكأنّ ناصر يُعاكس رحلة دانتي في الجحيم، ويُماثل ما رآه الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعريّ رغم العتمة السميكة التي كانت في عينيه. ففي الوقت الذي هبط دانتي إلى طبقات الجحيم التسع، صعد أمجد ناصر إلى علييّن.
لا يفقد أمجد ناصر رقّته في وصف هذا الجحيم الأرضيّ، حيث يتحوّل سكان “مملكة آدم” إلى قتلة يُبرمجون الحياة كألعاب الفيديو، وهو ما يُذكّرنا بالأشهر الأخيرة قبل الطوفان الذي أباد سكان عصر النبيّ نوح. يحوّل ناصر عذاب الآخرين إلى عذاب شخصيّ وهو يقف على أطلال هذا العالم المتهالك. “لعلّه رأى في عمق فمي الذئبيّ أسنانَ الحليب التي ربّتها أمي بالنذور والصلوات”. (الصفحة 77). مملكة آدم هي تلك المرافعة الشعريّة التي لا تفقد ضراوتها ولا بريقها في هذا الخطاب الشعريّ النبيل والطويل، وصار بإمكان ناصر الآن أن يأخذ وقتهُ في الشرح الطويل والطويل والعتاب في عليّين.
الترا صوت