العراقي أزهر جرجيس: ما زالت رواية المنفى تصور مغامرات البطل الجنسية كنوع من الغزو الرمزي للغرب
حاوره: كه يلان مُحمَد
أدرك الكاتب العراقي أزهر جرجيس خصوصية العالم الروائي وانفتاحه على شتى المواضيع، لذا تمكن من تمرير أسئلة متشعبة من خلال نصه الروائي المعنون بـ «النوم في حقل الكرز» الذي وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر، حيثُ يضع المتلقي أمام واقع مثخن باحتمالات مرعبة، وما يضاعف من القيمة الأدبية لهذا النص هو عنصر اللغة المشحونة بإيحاءات بصرية، حول رؤيته لخصوصية كتابة الرواية وأدواته في الكتابة، كان الحوار التالي ..
■ التغرب والصراع الطائفي وتصاعد العنف، ثيمات تتكررُ في الرواية العراقية، ما هي الآليات التي يجبُ أن يعتمد عليها الكاتبُ لتأسيس هويته الإبداعية وتميزه في ظل التضخم الروائي؟
□ حين تكون الانعطافات التاريخية حادة والأحداث جسيمة، كما في الحالة العراقية، فإنها تلقي ظلالها على المشهد الحياتي بشكل عام، والأدبي بشكل خاص. وهو أمر طبيعي، فالصراعات والحروب وما يتبعها من خراب وجوع وهجرة تصنع في العادة مرويات لا يمكن القفز عليها وتركها بدون تدوين. ما من شعب خاض حربا إلا ودوّن مروياته، خذ الألمان مثلا؛ ظلوا يكتبون عن الحرب وعن النازية والدمار الروحي والمادي، الذي تسببت به، لعقود طويلة، ولم يقل لهم أحد: كفى لقد هرستم الموضوع. في الأدب اللاتيني تجد شخصية الديكتاتور حاضرة حتى عصرنا الحديث. الرواية التشيكية ما زال أبطالها يعانون من بطش الشيوعية رغم انكفائها البعيد، فما بالك ببلد لم يعش أهله السلام لثلاثة أيام متتاليات؟ ثم إن قصص الحرب لدينا لم تنته بعد، وما زال الكثير من حكايات الموت والجوع والتغرب لم يدوّن. فالمأساة بشكل عام تشكل مادة أولية للسرد، يبقى أن كل سارد ينظر لها من زاوية معينة، ويسلط الضوء على تفصيلة منسيّة منها، وكل سارد له أدواته التي يتسلح بها لحيازة التميز. بالنسبة لي أرى أن اللغة أهم تلك الأدوات، وأنها كلما كانت حية وحسية منحت النص ديمومته وتفرده، كذلك ينبغي ابتكار تقنيات سردية خاصة، ورسم الشخصيات بطريقة تضمن لها التنفس داخل النص الروائي وجعلها شخصيات من لحم ودم.
■ تتواردُ في روايتك «النوم في حقل الكرز» المصادفات التي تلعبُ دورا في مصير الشخصية الأسياسية. على ماذا يراهنُ الروائي لإقناع المتلقي بتلك الصدف؟
□ لا أظن ذلك، فعرض عمل في وظيفة «صبيّ مطعم» أو «جامع سكراب» لا يمكن عدّها تواردا للمصادفات، بل لا أعتقد بأنها تستحق الوصف بالمصادفات، إذ من الطبيعي جدا أن يتحصل المهاجر في بادئ حياته الجديدة على أعمال خدمية بسيطة كالتنظيف وغسل الصحون والعمل في ورش السكراب، وهذه ليست من المصادفة في شيء، ثم إن هذه الوظائف لم تشكل منعطفا في حياة سعيد بطل الرواية ولا تأثير لها يُذكر في سير الأحداث، ومع ذلك كان يعللها بما سماه «لفتات الحظ النادرة».
■ المفارقة هي عنصر آخر في عالم «النوم في حقل الكرز» تبدأُ باسم البطل ومن ثمَّ انتماؤه الحضاري وعمقه التاريخي، ولا يورثه كل ذلك إلا مزيدا من الخيبات، هل أردت بذلك تمرير أسئلة بشأن مفاهيم الأصالة والحضارة والهوية؟
□ المفارقة واحدة من التقنيات الفنية المهمة في الكتابة، يعمد لها الكاتب في العادة من أجل كسر أفق التوقعات، وخلق نهايات مباغتة. بالنسبة لي لم أقتصر على ذلك، بل استعملتها للتعبير عن موقفي من الحياة متجنّبا بذلك المباشرة، وتقديم القوالب الوعظية الجاهزة، فالكتابة السردية فعل جمالي إحدى وظائفه طرح الأسئلة، لاسيما ما يخص المفاهيم الكبرى كالهوية والحضارة والوجود. لم يشفع لـ«سعيد» ههنا اسمه ولا انتماؤه ولا عمقه الحضاري في جعله شخصا سعيدا، فالسعادة مفهوم مشكك لا علاقة له بالهوية والانتماء والعمق الحضاري، وكم من شعب لا يدين للحضارة بشيء يعيش السعادة في أقصى حدودها! هذا ما أردت قوله باختصار.
■ تعتمدُ الرواية على بنية التقابل فمن جهة تتوالي الحروب والصراعات المذهبية والسياسية المُتشابكة كما يوجدُ تواصل تصح تسميته بالحضاري بين سعيد وتونا، فإعجابها بالسياب يوحي بأن ما يعولُ عليه هو الثقافة، هل يعبر هذا الموقف لشخصياتك الروائية عن رأيك؟
□ لعنصر التقابل دور في توهج النص السردي ومنح الكتابة حالة جمالية فريدة. وهو قبل ذلك عنصر حياتي قائم، فالحق يقابله الباطل، والنور يقابله الظلام، والصدق يقابله الكذب، كذلك فإن القطيعة التي سببتها الصراعات والحروب وسمّنها الإعلام العالمي، لا بد أن تُقابل بالتواصل. نعم، رأيي متوافق مع رأي بطل روايتي، سعيد ينسين بأن «التواصل الحضاري» بديل ضروري للصراع الحضاري الذي خلّف شرخا هويّاتيا كبيرا. على أن التواصل فرع الفهم، والفهم يقوم على لغة مشتركة، وهنا يأتي دور الترجمة، فلولا أن بطل الرواية كان قد نقل لحبيبته ما تعنيه «أنشودة المطر» لما عرفت السيّاب وأحبّته. كذلك الأمر في ما يخص مأساتنا التي لم يسمع بها الآخر، والتي يجب نقلها، بدون حذف وشطب.
■ الرغبة الإيروسية هي دافع أساسي لحركة الشخصيات، فالتواصل الجسدي بين سعيد وتونا هو وجه آخر من اللقاء الحضاري. هل حاولت طرح رؤية مغايرة لما شاع في الرواية العربية، التي تمثل فيها المغامرة الجنسية للرجل نوعا من الغزو الرمزي للغرب؟
□ نعم تماما، فمازال أدب المنفى ذاته، لم يتغير فيه شيء، وما زالت رواية المنفى، بشكل عام، تصور المغامرات الجنسية، التي يمارسها البطل مع «الشقراوات» في العادة، على أنها نوع من الغزو الرمزي للغرب. لقد جعلوا الأمر يبدو وكأن البطل يثأر بفحولته من الغرب، وأنه لا يملك ميزة غير هذه الفحولة المفرطة. أنا لست ضد الأيروسية في الكتابة السردية إطلاقا، فهي حقيقة قائمة في تراثنا الأدبي، لكن يمكن لتلك المغامرات العاطفية أن توضع في نصابها الصحيح، وتعيد للتواصل الجسدي وصفه الإنساني، بدلا من الانغماس المفرط في الحيوانية. لقد شوّهت هذه الروايات صورة العربي المهاجر بالمجمل وسوّقته على أنه كائن أيروسي يعاني من الكبت الجنسي ولا يريد من الحياة سوى ممارسة فحولته بإفراط.
■ وهل ينبغي أن يتوافق الحدث الروائي مع الحقيقة التاريخية؟
□ عندما يكون الأمر في نطاق المتخيّل فإن للكاتب الحق في تلفيق الأحداث، لاسيما تلك الأحداث المختلف فيها والتي لم تبلغ درجة القطع التاريخي. لا يمكن للرواية أن تحل محل كتب التاريخ، كما أنها ليست استنساخا للعالم المرجعي كي تحاكم وفقا للمطابقة التاريخية من عدمها. نعم، لا يمكن القفز على الحقائق التاريخية الثابتة، فأنت لا تستطيع القول مثلا بأن البطل قد بترت ساقه في الحرب العراقية الإيرانية عام 1974 إذ لم تكن الحرب قد بدأت آنذاك، كذلك لا يمكن أن ترد عبارة من قبيل «تم إعدام الملك فيصل الثاني في مبنى الإذاعة والتلفزيون» فمكان إعدامه معلوم للجميع. هذه حقائق تاريخية قطعية لا يمكن التلاعب بها، لكن في ما عدا ذلك لست ملزما بـ «الصدق»، فأنا كاتب نص روائي ولست منشغلا بسردنة التاريخ.
القدس العربي