"متعة" التفرج على مهانة جبران باسيل/ يوسف بزي
تمتع شطر كبير من اللبنانيين بحفلة المهانة التي تعرض لها جبران باسيل على شاشة “سي. أن. بي. سي” الأميركية. الشماتة به تحولت إلى رياضة وطنية. وكان واضحاً أن الإعلامية هادلي غامبل نفسها كانت تتلذذ وهي تهشمه وتمزقه إرباً. الجمهور الحاضر في استديو المقابلة، لم يتوان عن الابتسامات الساخرة والهازئة. بل إن وزيرة التجارة الخارجية الهولندية سيغريد كاغ، والتي كانت تشغل منصب المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، الجالسة قبالة باسيل، لم تخف نظرة الاحتقار لهذا الرجل الوقح، وأجوبته الملتوية، وتذاكيه القائم على الظن أن الآخرين حمقى.
كانت رحلة جبران باسيل إلى مؤتمر “دافوس” أشبه بجنازة سياسية. درس مريع في مساوئ التهور والثقة المفرطة بالنفس. فهادلي غامبل كانت قد توعدته بأنها ستواجهه بشراسة، وأنها تتحضر للإجهاز عليه. ثم أن حملة واسعة النطاق جمعت عشرات آلاف التواقيع على عريضة أُرسلت إلى إدارة المؤتمر تطلب طرد باسيل من “دافوس” وعدم استقباله. كذلك، منذ ما قبل سفره وحتى لحظة وصوله إلى جبال الألب السويسرية، كانت وسائل الإعلام العالمية تنقل وقائع المواجهات في شوارع بيروت، وكلها تتناقل أخبار النقمة الشعبية العارمة على الطبقة السياسية الفاسدة، التي يشكل باسيل أبرز رموزها. بمعنى آخر، وحتى من دون تلك المقابلة التلفزيونية “الخالدة”، كان باسيل في دافوس يشبه رجلاً مطلياً بمادة دبقة مغطى بالذباب.
والحال أن رئيس التيار العوني، المعروف بطائفيته وعنصريته، معروف أيضاً بنرجسيته المتضخمة. حبه لذاته إلى حد الظن أنه “هبة” للبنان ولمسيحيي الشرق وربما لخير البشرية جمعاء، يجعله دائم الاعتقاد أنه “محبوب” وعلى صواب ولا يُخطئ وأنه الأذكى والأشطر. وهذا ما دفعه إلى الاستخفاف بكل الصيت السيء الذي يتمتع به. لديه موهبة فذة في الإنكار على مثال “.. لا، إنها تمطر”.
من هذا الظن بالتحديد، هيأ نفسه باستخفاف فادح للمشاركة في “دافوس” وندواته المتلفزة. والحق يقال إنه خدع نفسه حين اعتقد أن “التمرين” الذي أجراه، عبر ترتيبه مقابلة تلفزيونية محلية ماراتونية دامت لأكثر من أربع ساعات، هو تمرين وافٍ للنجاح
في امتحان المقابلة مع الـ”سي. أن بي. سي”. تجاهل أن المسرحية المحلية مع إعلاميين جبناء ومدجنين، هو كاتبها ومؤديها وموزع أدوارها ومهندس ديكورها ومخرجها وراقصها الوحيد، لا تشبه إطلاقاً قاعة المحكمة التي وجد نفسه فيها هناك بسويسرا.
مع ذلك، تهوره لا يفسره الاستخفاف وحده. أغلب الظن أن شخصية باسيل تتسم ببعد درامي مؤرق. فإيمانه بذاته مجبول بطموح هوسي يقارب جنون العظمة. ودافوس هو منتدى “عظماء” العالم، كبار الناجحين سياسة ومالاً وسلطة واقتصادات جبارة. دافوس نادي صفوة الأمم. إذاً، من المستحيل أن يتخيل باسيل نفسه خارج هذا النادي. سيستميت من أجل هذه العضوية ولو بمرتبة “مكروه”.
طموحه الحارق يكاد يأخذه إلى حتفه. جموحه إلى السلطة يشبه الحمى المرضية. تلهفه للوصول يمنعه من حذر السقوط المفاجئ. جبران باسيل يتحول سريعاً إلى مثال ما يجب على السياسي تجنبه.
أبعد من طموحه، هناك جانب آخر في “ظاهرة” باسيل: أخلاقه. فلو أن رجلاً آخر وُجهت إليه من قبل مئات ألوف اللبنانيين أقذع الشتائم علناً على امتداد مئة يوم، لكان توارى عن الحياة العامة إلى الأبد. لكن ليس باسيل. فهو “ابتلع” بحر الإهانات، وخطط للثأر طوال شهرين. إذ نجح عملياً في تركيب حكومة جديدة وفق شروطه وبالأسماء والحقائب الوزارية التي يريدها.
أخلاق باسيل وصفاته هذه تشبه إلى حد كبير أخلاق بشار الأسد. فالأخير، يتصف بعوارض الميثومانيا (المصدق لكذبه). يخلق واقعاً موازياً ويحله تماماً بدل الواقع والحقيقة. يؤمن بنفسه كـ”هبة” إلهية. تعظيم للأنا إلى حد الاعتقاد أنه يواجه مؤامرة كونية. الإنكار العميق لكل الحقائق، رفض تحمل المسؤولية ولوم الآخرين على كل ما يقترفه. هذه سمات أصيلة في باسيل وبشار وأشباههما، ونجدها في نموذج متطرف عند معمر القذافي. باسيل بات مقتنعاً أيضاً بنظرية المؤامرة الكونية ضده. ولا شيء حتى الآن يردعه عن هدفه وحلمه المضني: رئاسة الجمهورية. يريدها ولو عبر كارثة، تماماً كما تمسك بها بشار الأسد عبر نكبة سوريا كلها.
الفارق بين الرجلين، أن باسيل (حتى الآن) لا يمتلك آلة عنف وصلاحية كافية لاستعمالها. وأغلب الظن أنه يتحسر على ذلك.
خطأ باسيل في مقابلته مع محطة “سي. أن. بي. سي”، نادراً ما يقترفه السياسيون والقادة العرب. فهم عندما فعلوها كانت النتيجة مشابهة لما أصاب باسيل. لذلك، هم حريصون أن تجري المقابلة وفق شروطهم وبعد الاتفاق على الأسئلة
وتتم في قصورهم ومقراتهم، وغالباً بوجود حراس يعرفون كيف يرمقون الصحافي الضيف بنظرات زاجرة، ثم أن “مونتاج” المقابلة يتم بإشراف طاقم القائد أو الرئيس.
على أي حال، تقودنا فضيحة جبران باسيل إلى فضيحة أخرى، هي حال الإعلام العربي والعاملين فيه. فما قدمته هادلي غامبل من أداء أشبه بحفلة ملاكمة من الوزن الثقيل، أظهر ما لا يفعله إعلاميونا ويتورعون عنه. إنهم يحجمون عن دورهم الأصلي، مكتفين بأن يكونوا “مذيعين” لا صحافيين. فالفرق شاسع بين هاتين الصفتين تماما كالفرق بين أن تكون الظرف أو تكون الرسالة ونصها.
أما المعضلة الكبرى، فهي أن تمتعنا بالمهانة التي تصيب باسيل أو الأسد أو أي “زعيم” سياسي عربي، سرعان ما تتبدد حين نكتشف أننا مع هؤلاء شعوب مهانة. وهذا ما يجعل ثوراتنا كلها تطلب “الكرامة” أولاً.
تلفزيون سوريا