مقسوما لا تأكل وصحيحا لا تقسم/ وائل السواح
لا ندري إن كان الشريط المسجّل لمكالمةٍ بين رجل الأعمال السوري، فراس طلاس، وشخص ما غير معروف، صحيحا سواء أفي نسبته إلى طلاس أم في صحّة مضمونه. في التسجيل، يقول نجل وزير الدفاع الأسبق الراحل، مصطفى طلاس، إن لديه معلومات من الروس تقول إن الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، اتفقا على فتح كل الطرق والمعابر والحدود التركية السورية أمام التجارة وتنقلات الأفراد، وعلى تعديل حكومي يتمّ بموجبه تعيين رئيس “جديد للحكومة ونصف الوزراء من المعارضين والرماديين”، في إشارة إلى المحايدين أو معارضة الداخل.
لا نعرف صحّة ذلك كلّه، ولكننا نعرف أن وحشية النظام السوري في قصف إدلب وأجزاء من ريف حلب قد ارتفعت في الأسابيع الأخيرة. وأخيرا، قتل عشرات المدنيين في قصف جوي لطيران الأسد، استهدف الأحياء السكنية في مدينة إدلب. ويدا بيد، كما ينبغي للحلفاء، كثّف الطيران الروسي وطيران الأسد من قصف قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي، على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار، المتفق عليه بين تركيا وروسيا.
ونعرف أيضا أن اشتداد القصف على إدلب أخيرا جاء إثر لقاء رئيس مكتب الأمن الوطني السوري، علي مملوك، وهو أعلى سلطة استخباراتية في البلاد، مع رئيس جهاز المخابرات التركي، حقان فيدان. ونعرف أن بوتين زار دمشق، ومن ثمّ أنقرة، قبل ذلك الاجتماع بقليل.
ونعلم أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يعاني من انتكاسةٍ تلو أخرى في بلاده، ويأخذ مواقف ارتجالية غير منتظمة، لا يريد الانغماس في أي شأن دولي، إذا كان ذلك يمكن أن يكلّفه أي ثمن مادي، ولو كان زهيدا، وأنه كان قد أمر بسحب قوّاته من الحدود السورية التركية، متخلّيا بذلك عن حلفائه الكرد والعرب، على حدّ سواء. ونعرف أن الدول الأوروبية غير قادرة على التحرّك، حتى ولو رغبت، في ظل تذبذب الإدارة الأميركية، وعدم وجود أي سياسة متجانسة تجاه سورية.
وفق الشريط المسرّب، قال طلاس أيضا إن الطرفين اتفقا على إعادة كل الضباط المنشقين إلى القوات المسلحة، وإعطائهم الرتب التي كانوا يستحقونها في الجيش السوري، إضافة إلى رواتبهم كاملة، على أن تكون تبعيتهم إلى قيادة القوات الروسية في حميميم، وليس إلى دمشق. وأهم مما سبق، اتفق الزعيمان، إذا ما قُدِّر لنا أن نصدّق الشريط وصاحبه، على أن يكمل بشار الأسد فترته الرئاسية، ثم يحق له الترشح لفترة جديدة واحدة، مدتها أربع سنوات، وفق الدستور الجديد لسورية، مضيفا، ويا للمفارقة، أن واشنطن ليست على درايةٍ بهذا الاتفاق، ولكنّه لا يستبعد أن تكون الولايات المتحدة على الخطّ في هذه اللعبة. وفي حال موافقة واشنطن، ستكون بروكسل والعواصم الغربية الأخرى مضمونة.
خلاصة حديث طلاس إذن أن الروس والأسد قد انتصروا، والأخير باق خمس سنوات على الأقل، وأن ثمّة تعديلا دستوريا بسيطا يقلّص فترة الرئاسة من سبع سنوات إلى خمس، مع تطعيم الحكومة السورية بوزراء محسوبين على المعارضة.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، أورد هذه الحادثة. “في 30 يونيو/ حزيران 2012، وقف وزراء خارجية دول غربية وروسيا في بهو ما في قصر الأمم في جنيف، يشربون المرطّبات وهم يتسامرون ما بين جلستين من جلسات اجتماعات جنيف 1 التي ستفضي إلى بيان جنيف المشهور. في هذه الاستراحة، كان الوزراء يتباحثون نصف جادّين ونصف هازلين عن مصير بشّار الأسد. ويروي وزير خارجية فرنسا الأسبق (ورئيس وزرائها الأسبق أيضا) رولان فابيوس، للصحافي الأميركي من أصل لبناني، سام داغر، أن أحد المسؤولين عرَض فكرة استضافة الأسد وعائلته في موسكو، فبادر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مازحا: لا يمكن استضافته في روسيا، فلدينا كثيرون منهم للتو”. وقال أحد الوزراء الأوروبيين بجدّية: “أعتقد أن أوروبا ستكون صعبة، ولكننا لن نعدم بلدا في أميركا الجنوبية أو أفريقيا يأخذه”. كان الجميع يتحدّث بشكل جادّ، وهم مقتنعون أن أيام الأسد باتت معدودة. حتى لافروف كان يبدو أنه موجود لتحقيق أكثر ما يستطيع من مكاسب لبلده. وما عدا الهزل بشأن إمكانية استقبال الأسد في روسيا، بدا لافروف وكأنه يهضم فكرة أن التغيير في سورية قادم، وأن على الأسد على الأرجح أن يتخلّى عن كرسيه، ويبحث عن مكان يؤويه. وفي اجتماعات جنيف تلك، بدا الرجل كأنه يحاول ألا تكون بلاده خارج اللعبة. ولهذا السبب، وافقت روسيا على بيان جنيف المشهور، ولو أنها قدّمت له بعد ذلك تفسيراتٍ مختلفة.
مساء ذلك اليوم، 30 يونيو/ حزيران 2012، عقدت الجلسة الرسمية، وأعطى مبعوث الأمم المتحدة لتحقيق السلام في سورية تفاصيل الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه في قمة وزراء الخارجية في جنيف، وقال إن المجتمعين اتفقوا على مجموعة من “المبادئ والخطوط الإرشادية بشأن انتقال بقيادة سورية والتي يجب أن توفرها أي تسوية سياسية للشعب السوري”، مبرزا بشكل رئيسي أن الحلّ سيكون بإنشاء هيئة حكم انتقالي، على جميع المؤسسات الحكومية، بما في ذلك أجهزة الاستخبارات، أن تعمل تحت قيادتها، ووفق مبادئ حقوق الإنسان والمعايير المهنية، في سبيل “سورية – دولة ديمقراطية تعددية حقيقية، مع انتخابات حرّة ونزيهة، واحترام كامل لحقوق الإنسان وسيادة القانون، وتكافؤ فرص الوصول إلى الفرص للجميع، وضمانات سيتم احترام حقوق المجتمعات الأصغر”.
تلك كانت اللحظة المناسبة التي فشل الغرب، وفشلت المعارضة السورية، في اقتناصها. لم يكن السلاح قد تسيّد الموقف، ولم تكن جبهة النُصرة سوى فصيلٍ صغيرٍ يحاول التمدّد بخجل. أماتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فلم يكن له أي وجود في سورية. والأهم أن المعارضة السورية، على هشاشتها، كانت لها كلمة مسموعة إلى حدّ ما. ولكن بدلا من البناء على تلك اللحظة، وإنشاء تحالفٍ واسعٍ للتأسيس لسورية الديمقراطية تلك، وقذْف الأسد إلى أي بلد يمكن أن يستقبله، بدأ تسابق الدول الإقليمية على شراء ولاء المقاتلين، ورفض الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، الذي كان يهتمّ بالحفاظ على صورته رجل سلام أكثر من حرصه على مصالح بلاده والمبادئ التي تأسست عليها، إنشاء منطقة حظر طيران، كما اقترحت وزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، كما رفض تقديم سلاح متطوّر للمعارضة، وسحب قوّاته من العراق تاركا المنطقة تحت هيمنة إيران ووكلائها في المنطقة.
نقول في سورية “صحيحا لا تقسم؛ ومقسوما لا تأكل، وكل حتى تشبع”، تلك كانت سياسة أوباما السورية. كان يريد أن تكون المعارضة السورية مسلّحة وقوية، فقط إلى الحدّ الذي يجعل بشار الأسد يركض تجاه المفاوضات. لم يحدُث ذلك. كبر دور حزب الله وإيران على الأرض، وفي الأجهزة الحكومية والميدانية، ثمّ جاء التدخل الروسي في عام 2015، ليحيل سورية إلى مستعمرة روسية كاملة. والسوريون الذين تقصفهم طائرات الأسد في كلّ يوم، أو تقصفهم الليرة السورية التي تسقط سقوطا حرّا، يشبهون، في كلّ يوم، الأيتام على موائد اللئام… لك الله يا وطني.
العربي الجديد