بين ادعاءات «إخوان سوريا» وأفعالهم!/ أكرم البني
ب
لم يكن مستغرباً تأييد جماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا لتدخل حكومة أنقرة عسكرياً في ليبيا، ومجاهرة بعض قادتها بأنهم ليسوا محايدين تجاه ما يجري هناك، وإنما ينحازون لحكومة السراج الإسلاموية في طرابلس، ضد ما يعتبرونه مؤامرات تحاك ضدها. لكن ما بدا مستغرباً ومستهجناً، هو تغطيتهم لخطة إردوغان بنقل الآلاف من مسلحي المعارضة السورية، وزجهم في القتال الليبي، في الوقت الذي تتعرض فيه منطقة إدلب وأرياف حلب لأوسع عملية قصف واجتياح، حقق خلالها النظام وحلفاؤه تقدماً لافتاً نحو مدينتي معرة النعمان وسراقب.
وبعيداً عن الدوافع التي حدت بـ«إخوان سوريا» لدعم إردوغان، إن لأنهم يعتبرونه حامي حمى المشروع الإسلاموي في المنطقة، أو لأنهم يعيشون بين أحضانه ويستمدون من حكومته الدعم والمساندة، أو لكونهم جزءاً من التنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين» ويلتزمون بقراراته وإملاءاته، فإن المرء لا يحتاج إلى كبير عناء كي يكتشف تكرار السلوك المغرض والمتخاذل لـ«إخوان سوريا» في عدد من المحطات والمفاصل السياسية التي عصفت بالبلاد. وتحفل صفحات التاريخ البعيد والقريب، بكثير من المواقف والممارسات التي تنصلت فيها جماعة «الإخوان المسلمين» من التزاماتها الوطنية وادعاءاتها الديمقراطية، ومنحت الأولوية لمصلحتها الخاصة ولمشروعها الآيديولوجي الأممي، تحدوها أفعال تفيض بالمراوغة والاستئثار والتمييز والإقصاء، وأيضاً بالعنف والإرهاب، وتالياً بعداء صريح لشعارات السلمية والعدالة ودولة المواطنة، التي رفعتها كي تعيد بناء جسور الثقة مع المجتمع السوري ونخبه الثقافية والسياسية.
وبالفعل كان لإصدار «إخوان سوريا» عام 2001، ما سمي «ميثاق الشرف الوطني»، ثم عام 2004 ما عرف بـ«المشروع السياسي لمستقبل سوريا» دور في فتح الباب أمامهم للتواصل والتفاعل مع مختلف أطراف المعارضة؛ خصوصاً حين أشهروا التزامهم بقواعد الحياة الديمقراطية، وبهدف بناء دولة مدنية. وتُوِّج الأمر بتوقيعهم عام 2005 على «إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي»؛ لكن لم يطل الزمن كثيراً، حتى انقلبوا على ما أعلنوه، واندفعوا بأهوائهم عام 2006 لإشهار تحالف مصالح مع عبد الحليم خدام، ثم ليعلنوا بعد انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق واعتقال أهم قادته في أواخر عام 2007، تعليق نشاطهم المعارض للسلطة السورية، تقديراً لموقفها من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أواخر عام 2008. ووصل الأمر بمراقبهم العام إلى حد العتب على نظام دمشق؛ لأنه أضاع الفرصة ولم يلاقِ مرونتهم بإيجابية.
وبعد انطلاق ثورة السوريين، أصدرت الجماعة في مارس (آذار) 2012 وثيقة «عهد وميثاق» حددت فيها الأطر العريضة للمستقبل السوري بعد سقوط النظام، داعية من جديد إلى بناء دولة مدنية حديثة ديمقراطية تعددية، تقوم على مبدأ المواطنة، ويتساوى فيها الجميع على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم. ولكن الجماعة ذاتها، وبعد شهور قليلة، شنت حرباً شعواء على وثيقتي «العهد الوطني»، و«الرؤية السياسية المشتركة لملامح المرحلة الانتقالية»، اللتين أقرهما اجتماع القاهرة الموسع للمعارضة السورية في يونيو (حزيران) 2012، ولم يثنها عن خوض هذه الحرب تشابه مضمون وثيقتها «عهد وميثاق» مع وثيقة «العهد الوطني»؛ لأن غرضها كان إعاقة مسار توحيد المعارضة الديمقراطية، وتسعير الخلافات والشروخ بين أطرافها، كي تضمن نفوذاً وثقلاً وازناً في المجلس الوطني، ثم في مؤسسات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، مستقوية بالدعمين التركي والقطري، وأيضاً بالمهادنة وأحياناً التنسيق مع جماعات متشددة، مثل «جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، ما أدى ليس فقط إلى خيانة المبادئ المعلنة في وثيقة «عهد وميثاق»، وإنما أيضاً إلى تشويه ثورة السوريين وإضعافها، وتقوية حضور الجماعات المتطرفة والإرهابية، التي بدت قادرة أكثر من غيرها على النمو في صراع دموي اتخذ وجهاً مذهبياً بغيضاً، الأمر الذي أفضى إلى تحجيم الهوية الوطنية السورية، وتكريس سطوة الآيديولوجيا الدينية على تعدد اجتهاداتها، وإشاعة المزايدات الإسلاموية حول مفاهيم «الإمارة» و«البيعة» و«والمحاكم والهيئات الشرعية»، وتشجيع خلق فصائل عسكرية بأسماء وشعارات دينية.
وعلى النقيض من الموقف الذي أصدرته جماعة «الإخوان» في يونيو 2017، تحت اسم «الميثاق الوطني لمواجهة تقسيم سوريا» وأيضاً على الضد من تبني مجلس شوراها مهمة تحرير البلاد من الاحتلال، سارعت لدعم إردوغان في حربه على عفرين، مدعية أن مصلحة الثورة السورية تتقاطع مع مصالح الأشقاء الأتراك، تلاه ترحيب صريح باحتلال حكومة أنقرة لأجزاء أخرى من البلاد، على أنه ليس توغلاً في المحاصصة وتقاسماً للبلاد؛ بل هو «توجه حميد» و«منعطف تاريخي ومفصلي» في سير الثورة السورية على طريق إسقاط النظام، ودحر مشروعات التطرف والانفصال، كذا!
مثل هذه المواقف الخانعة والخاضعة لحسابات إردوغان، تجلت في أسوأ صورها الإنسانية في موقف جماعة «الإخوان المسلمين» من معاناة اللاجئين السوريين في تركيا، حين بررت – أو على الأقل أبدت تفهمها – للتضييقات التي بدأت تمارسها حكومة أنقرة ضدهم، إنْ في محاصرة تحركاتهم وشروط إقاماتهم، وإنْ في إجبار بعضهم على العودة، وإنْ بمنع الفارين من أتون القصف من الدخول إلى الأراضي التركية، وإطلاق النار عليهم وقتل بعضهم.
ربما هي إحدى مآثر ثورة السوريين، أنها كشفت وفضحت هذا النهج المذل والأناني لـ«إخوان سوريا»، وحجم الزيف في مواقفهم وادعاءاتهم، وسرعة انقلابهم على ما يعلنونه شكلاً من مبادئ وطنية، والأهم عجزهم المزمن عن التجدد السياسي والخروج من عالم الوصاية والاستئثار والإقصاء، بما في ذلك قدراتهم الفريدة على اقتناص الفرص والمراوغة، وتسويغ أي أمر لقاء جني المكاسب ودعم مشروعهم الإسلاموي الخاص، حتى وإن كان على حساب أبسط القيم والحقوق الإنسانية.
لا يمكن لعاقل أن ينكر تطور ظواهر يمكن أن تفرزها خصوصية مجتمعنا، لا تزال تجد خلاصها في الربط بين الدين والسياسة؛ لكن لا بد من أن نسأل، بعد تجربة السوريين المريرة مع «الإخوان المسلمين» وأشباههم: هل لا يزال الرهان صائباً على انحياز هذه الظواهر بصورة جدية ونهائية نحو القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مثل نماذج الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا؟ أم يصح القول في حالتنا: داء فالج لا تعالج؟
الشرق الأوسط