ما منحبك»: عن السياسة والحب والثورة/ ياسين الحاج صالح
تستدرك هذه المقالة الثانية عن الحب والسياسة على القضية التي ساقتها مقالة سابقة، كانت تقول إن السياسة هي الوسط المتحرك بين الحب والحرب، وتبني على ذلك ضرورة فصل السياسة عن الحب لأن من شأن الوصل بينهما أن يصل السياسة بالحرب كذلك. زوال السياسة لمصلحة الحب والحرب هو قوام حالة استثناء عاشتها سورية منذ مطلع العهد البعثي. كان الحب كاذباً، قناعاً على وجه علاقات تبعية، قنّعَ كذلك مقادير هائلة من مشاعر الذل والكراهية، فيما كانت الحرب حقيقية، وإن تدرجت حربنا الأهلية المستمرة منذ نصف قرن بين برودة وفتور وسخونة حارقة.
في مواجهة حالة الاستثناء التي صارت قاعدة، ما نحتاجه فعلاً هو حالة استثناء حقيقية، بحسب ما زكّى وولتر بنيامين في أطروحاته حول فلسفة التاريخ، حالة تسجل اختلافاً وانقطاعاً عن الاستثناء المفروض الذي تَشكَّلَ في نظام خانق.
والحال أننا نعرف فعلاً حالة استثناء حقيقية، وضعت نفسها بالضبط في مواجهة حالة الاستثناء المطبِّعة، حالة عشناها لبعض الوقت، وما زلنا نستعيد ومضاتها اليوم: الثورة. ما هي الثورة؟ إنها ظهور الحب والحرب كأفعال سياسية نشطة. رأينا في الثورة السورية أشكال تضامن وصداقة وتطوع وافتداء لا يُشهد مثيلها في زمن حالة الطوارئ الزائفة. ورأينا كذلك أفعال حرب شجاعة، يحفزها غضب عادل، تكسر احتكار الدولة المخصخصة للسلاح، ترد على عدوانها وتدافع عن الجماعات المحلية المعتدى عليها. كان هذا قبل أن تفرض نفسها كاستثناء مُطبّع جديد تشكيلاتٌ تحتكر السلاح لنفسها، وتنكر على السكان الدفاع عن أنفسهم.
في لبنان خلال شهرين من الثورة رأينا الحب كقوة ثورية تشد أناساً لا يعرفون بعضهم إلى بعضهم، أفعال صداقة وتضامن وفرح مشترك تعبر أسوار الفصل الطائفية، ولا يرى المرء مثلها في غير الانتفاضات والثورات. نتكلم هنا على الحب كعاطفة أفقية تجمع بين أنداد، يحبون بعضهم وأنفسهم والحالة التي تجمعهم، الثورة ذاتها، وهذا في مواجهة هيكل حكم يتوافق مع بقائهم متفرقين، وتؤسس لعلاقة أكثر تعافياً مع «الوطن». الحب العمودي، من الصنف الذي يربط حسن نصر الله بأتباعه، هو علاقة تبعية تقتضي العداء لغير المندرجين في العلاقة. وهما معاً، التبعية والعداء، من أوجه أزمة المواطنة في لبنان.
كان محرك الثورة السورية في تقديري هو امتلاك السياسة، أي الكلام والاجتماع والاحتجاج. كانت الأنشطة التمثيلية المؤسسة للثورة هي المظاهرات: تجمعات لأنداد يحبون بعضهم ضد نظام إذلال، يكرههم ويقتلهم. تحوز المظاهرات صفة تطوعية متحدية للخطر، وهي تعود على المشاركين فيها بارتفاع في تقدير النفس وفي الكرامة، لما تنطوي عليه من شجاعة وتغلّب على الخوف. الحب هنا قوة اجتماعية، تقوم عليها نحنُ جديدة أو ذاتية جديدة، تنفصل عن هوية مفروضة سابقة، وإن بالحرب. يمكن التفكير بالحرب كجهد للانفصال عن هوية خانقة، ميتة ومميتة (زومبي). تَحلُّلُ الثورة يظهر ليس فقط من تحول محاربة النظام من الدفاع عن المجتمع ومواجهة المعتدي إلى نظام أو أنظمة جديدة تفرض من فوق هوية ميتة ومميتة، وإنما كذلك من تآكل ظهور الحب كقوة ثورية وانحصارها في نطاقات فئوية.
ولأن الثورات أحوال استثناء حقيقية، أزمنة مبادرة وإبداع وبدء، فإنها ليست أوضاعاً قابلة للدوام. في وجهٍ ما هي مثل الأعياد، خرقٌ فَرِحٌ للاستمرارية العادية قبل أن نعود بعدها إلى دوام يسوده الروتين. لكن الثورة خلافاً للعيد، تؤسس لما بعدها مختلفاً، بينما يزيل العيد نفسه بنفسه بعد اختلاف وجيز، وإن يكن تذكيراً بحدث مؤسس، بضرب من انبثاق ثوري قديم. وبينما الأعياد دورية، لا تكف عن العودة في ضرب من العادة السنوية، على ما تفيد كلمتا عيد وعادة في العربية، فإن الثورات ليس لها مواقيت، إنها خروج على العادة وكسر للدوام والبنية القائمة، تحرر عناصرها من ترابطاتها المعتادة، وتدخل عناصر جديدة تتضمن تجارب الثوريين وفكرهم ورؤاهم، وتشكل الكل في بنية جديدة. انفلات العناصر من البنية أو ثورانها على صلة بالدلالة الحرفية لكلمة ثورة العربية.
في التقليد الماركسي والشيوعي تحوز الثورة دلالة بالغة الإيجابية، وتبدو بمثابة حدث تأسيسي مشارك في تكوين كل لحظة لاحقة له. كحدث تبدو الثورة مرادفاً للعنف، يتماهى فيها عنف تكسر البنية وانفلات عناصرها بالعنف كفعل قصدي يمارسه الثوريون، موجه ضد شاغلي المواقع الأكثر انتفاعاً من البنية. هذا العنف الأخير محتمل لأن الثورة تخرج على هوية مفروضة قائمة مثلما تَقدَّم، وبقدر ما تكون هذه الهوية متصلبة وتقاوم خلعها بالعنف، فإن فُرَصَ الخروج منها تصير ممتنعة دون الخروج عليها. قد لا تكون للثائرين من هوية غير الثورة، الخروج من التبعية السياسية واستعادة احترام النفس وحبها، لكن ليس هناك ثورة بلا ثائرين. يمكن هنا اقتراح فارق بين الثائرين والثوريين يتمثل في أن الأولين يريدون تغيير الوضع القائم، أي «إسقاط النظام»، هذا فيما تندرج الثورة لدى الأخيرين في مشروع لما بعد. يثور الأولون، الثائرون، على تبعية قائمة تواتر التعبير عنها في الثورة السورية بالذل، بينما يثور الأخيرون، الثوريون، من أجل حرية مأمولة. ما افتقرت إليه الثورات العربية بدرجات متفاوتة ليس الثائرين بل الثوريين. من شأن طرح الأمر بهذه الصورة أن يفتح الباب على نقاش أفضل إحاطة بشروط ما قبل الثورات، فيفسر لماذا ظهر الثائر ولم يظهر الثوري، أو «ذي الأفكار الثورية»، بعبارة آصف بيات في ثورة بلا ثوار. في سورية، الثوري لم يغب فقط نتيجة الفقدان الواسع للذاتية والإرادة السياسية بفعل ما يتجاوز أربعة عقود من الإبادة السياسية، ولا فقط بفعل إفساد قطاع واسع من المشتغلين بالشؤون العامة بالمنافع والطائفية، وإنما كذلك أزمة النموذج الثوري الذي عرفناه من تجارب عالمية في القرن العشرين، النموذج الشيوعي، المتأثر بالثورة البلشفية وثورات سارت على نهجها. ولعل ذلك أصح بعد في بلدان لم تتعرض لما نالنا من إبادة سياسية، مثل مصر والسودان ولبنان والعراق.
فإن كان ذلك صحيحاً فقد لا تكون «ثورة بلا ثوار» هي المشكلة، بل مجرد عرض لمشكلات، ربما تتصل بتحولات على مستوى الدولة والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا على المستوى العالمي، مشكلات تقع عند تقاطع العولمة وثورات الاتصال والليبرالية الجديدة وما بعد الحداثة. وهي فيما يبدو تقتضي نموذجاً ثورياً مغايراً، لا ينحل في تصوري في نموذج ثورة بثوار.
يضيء التمييز بين الثائر والثوري مفارقة بوجهين تخصهما معاً. تتمثل مفارقة الثائر الذي يريد إسقاط النظام أنه إذا سقط النظام تصير الثورة وراءه فلا يجد أمامه غير الفراغ، وهو في الوقت نفسه يسقط ويفقد ذاتيته إن لم يسقط النظام، ما دام لا يُعرِّف نفسه بشيء آخر، أي ما دام لا هوية له غير الثورة. مفارقة الثائر، بعبارة أخرى، أنه يخسر إن انتصرت أو خسرت. وتتمثل مفارقة الثوري في أنه إن كانت الثورة لحظة في مشروع يتقدمها ويتجاوزها: بناء الاشتراكية، التحرر الوطني، الدولة الإسلامية…، فهل تبقى ثورة؟ ألا تجرد من الذاتية، فتكون انقلاباً؟ وتكون الذاتية والإبداع، والحب، لمشروع سابق لها في الوجود: الماركسية، الإسلام، الأمة، بل أساساً للحزب الثوري والقائد الثوري: لينين الذي يحل محله ستالين؟ تظهر مفارقة الثوري في أتم صورها في نموذج المناضل الشيوعي: يريد أن يغير بلده والعالم، لكنه يُعلي من الثبات على المبدأ الشيوعي الذي يكثف فيه ذاتيته وحبه، ويجعل من هذا الثبات فضيلةَ فضائله. يعني ذلك أن على العالم أن يتغير كي يتماثل مع أشخاص ومنظمات جعلوا من عدم تغيرهم، ومن تماثلهم مع نفسهم، مثالهم الأعلى. لكن أليس هذا تعريفاً صالحاً للسلفي؟ ألا يؤول الأمر إلى دفاع عمّا لا يتغير، أي عن الموت، مثلما يفعل السلفيون؟
ويبدو أن التشكل كطرف في حرب أيسرُ حين تكون الذات معطاة سلفاً، أي في حالة الثوري. بالمقابل يظهر أن الثائرين أقل تأهيلاً للحرب، وإن انخرطوا فيها. لم يحارب الثائرون السوريون لأن تعريفهم لأنفسهم ولعدوهم ولهدفهم، يقتضي الحرب اقتضاء ضرورة، ولكن لأنها كانت استمراراً لفعل الكرامة الذي دفع للخروج على النظام في المقام الأول. لقد كانت الثورة السورية ثورة فوضوية، ثورة ثائرين، وليس ثوريين. علاقة الثوري بالحرب ضرورية، فيما هي جائزة في حالة الثائر.
ووفقاً لهذا التحليل يبدو الإسلاميون ثوريين لا ثائرين، لديهم ذاتية سابقة على الثورة، فلا تعدو الثورة أن تكون انقلاباً، ليس حدثاً مُغيّراً ومُعلِّماً. ولعله لهذا الاعتبار كانوا في وضع أنسب للحرب حين تحتمت. الحب هنا مسبق الصنع بدوره، مكون لذاتية معطاة سلفاً، ومحصور داخل الجماعة.
ربما يصدم الكلام على الحرب كجزء من الثورة ضرباً من إجماع ضحل ومَهوش أخذ يظهر في أوساط ثائرين سوريين، دافعاً نحو لا تمايز عن أشد المواقف ميوعة تجاه الثورة منذ البداية، وإلى إغراق انفعالي كئيب للبدايات المحبة والشجاعة في النهايات المُقبِّضة، كأنما هناك استمرارية طبيعية بينهما. لكن رفض التفكير في الحرب هو رفض للتفكير في السياسة ذاتها، وليس في الثورة وحدها. والتسليم باستمرارية طبيعية هو التجلي الزماني لمنطق الهويات الذي لا يفكر في الصراع السوري إلا كمواجهة بين هويات طبيعية هي ذاتها، أبدية ومعطاة سلفاً. هذا فهم غير تاريخي، لا يتيح التفكير في تاريخنا أو أي تاريخ. ليس التاريخ هوياتياً مثلما يفضل كثيرون لأسباب مختلفة وبطرق مختلفة، الهويات كلها تاريخية. تاريخنا ليس استثناءاً بحال.
نحتاج إلى مزيد من التفكير في الحرب والنظر في مستلزماتها وسبل تنظيمها. الحرب تفكر بنا طوال الوقت، وإن نسينا أنها قائمة اليوم، فهي قادمة من كل بد، لا تنسانا.
ثم إننا نفشل في التفكير في السياسة، وفي الثورة كذلك، ليس فقط حين لا نفكر بالحرب، بل كذلك حين لا نفكر في أفعال الحب التي تصنع نحنُ جديدةً متحررة، على غير أسس القرابة الحقيقية أو المتخيلة. أي بما يعاكس سير تطورنا السياسي في الحقبة الأسدية، وقد اتجه نحو تضييق دور المُتخيَّل في هويتنا وسياستنا لمصلحة القرابيّ والعضويّ. هذا من أمر الراهن ونحن نجد شتاتنا يعزز تشتتنا، ولا نجد سبل تقريبٍ توحد شيئاً من قوانا. الاعتراف بذاتية الثورة يعني البناء على استثنائها الحقيقي، أفعال الحب والقتال فيها، من أجل قواعد جديدة مغايرة للقواعد القائمة والاستثناء المبطن فيها. والتفكير فيهما، الحب والقتال، هو تفكير في الثورة كعملية تعلّم وتغيّر، لا نبقى بعدها مثلما كان قبلها، سواءَ خسرنا أم فزنا.
تُستأنَف الثورة بتعلّمنا وتغيّرنا حين نخسر. فماذا إن فزنا؟
وما قد يميز ما بعد ثورة ناجحة ليس القواعد الجديدة فقط، وإنما أساساً زوال الحرب، بإلحاق الهزيمة بالأعداء الأساسيين، ونقل غير الأساسيين إلى موقع الخصوم الذي يعالج بالسياسة. زوال الحب كقوة سياسية جمعية كذلك. بهذا المعنى يمكن القول إن ثمرة الثورة هي السياسة، حيث تنتهي الحرب أو تقصى إلى الخارج، ويعود الحب إلى النطاق الخاص.
هذه المادة جزء من «جريدة سميرة»، القسم الذي تحضر سميرة الخليل في نصوصه حافزاً أو موضوعاً ورمزاً.
موقع الجمهورية