مقالات ونصوص سينمائية

النحت في الزمن/ أندريه تاركوفسكي -نص الكتاب كاملا-

 

 

ترجمة : أمين صالح

مدخل

قبل خمسة عشر عاما (*)، وفيما كنت أدون على عجل ملاحظاتي بشأن المسودة الأولى من هذا الكتاب، وجدت نفسي أتساءل عن جدوى كتابته، ما هي ضرورته، ولماذا لا أكتفي بتحقيق فيلم تلو الآخر مكتشفا، عبر الممارسة، الحلول العملية لتلك المعضلات النظرية التي تنشأ أثناء صنع الفيلم ؟

لسنوات عديدة لم تكن سيرتي المهنية مثيرة للبهجة والغبطة، فالفترات الفاصلة بين الأفلام كانت طويلة وموجعة، ولهذا كان لدي الكثير من الوقت لأن أتأمل بدقة أهدافي الخاصة، وأدرس العوامل التي تميز السينما عن الفنون الأخرى، وأبحث في إمكانياتها الفريدة والفذة، وأكتشف إلى أي مدى يمكن مقارنة تجربتي مع تجارب وإنجازات زملائي الفنانين.

بقراءة، وإعادة قراءة، العديد من المؤلفات حول نظرية السينما، توصلت إلى نتيجة مؤسفة وهي أن هذه الكتب لم تقنعني ولم تشبع حاجتي، بل جعلتني أرغب في تقديم ومناقشة رؤيتي الخاصة لمعضلات صنع الفيلم وأهدافه. وبوجه عام، فقد توصلت إلى إدراك مبادئي الخاصة في العمل عبر استجواب النظرية السائدة، ومن خلال الرغبة في التعبير عن فهمي الخاص للقوانين الأساسية للشكل الفني الذي صار جزءا مني.

أيضا لقاءاتي المتكررة مع جمهور مختلف إلى حد كبير، جعلتني أشعر بضرورة تقديم بيان كامل ومفصل قدر الإمكان. الجمهور كان يرغب جديا في فهم كيفية وسبب تأثير السينما، وأفلامي بوجه خاص، وقدرتها على تحريك مشاعرهم. كانوا يبحثون عن أجوبة على أسئلة لا تحصى من أجل إيجاد نوع من المستوى أو القاسم المشترك لأفكارهم العشوائية والمضطربة بشان السينما والفن عموما.

ينبغي أن أعترف بأني أقرأ بعناية واهتمام فائقين كل الرسائل التي تصلني من أفراد شاهدوا أفلامي. بعضها كانت تثير في نفسي الأسى، وبعضها كانت مشجعة إلى حد كبير. وخلال سنوات عملي في روسيا تراكمت هذه الرسائل لتشكل حصيلة متنوعة ومؤثرة من الأمور التي كان الناس يرغبون في معرفتها، أو يشعرون بحيرة وارتباك إزاء فهمها.

أود هنا أن أستشهد بنماذج من تلك الرسائل لأوضح طبيعة الاتصال الذي تحقق بيني وبين جمهوري. . هذا الاتصال الذي يشوبه أحيانا عدم فهم كلي لما أفعله، خاصة بعد عرض فيلمي ” المرآة “.

مهندسة مدنية من لينينغراد كتبت إلي تقول: ” شاهدت فيلمك (المرآة). مكثت أمام الشاشة حتى نهايته، رغم أنني بعد نصف الساعة الأولى شعرت بصداع حاد نتيجة جهودي الصادقة لتحليله، أو لمجرد أن أمتلك فكرة عما يدور أمامي، عن علاقة ما بين الشخصيات والأحداث والذكريات (. . . ) نحن المتفرجون المساكين نشاهد أفلاما جيدة أو سيئة أو بالغة السوء أو عادية أو مبتكرة وأصيلة.. لكن يمكن للمرء أن يفهم هذه الأفلام، أن يستمتع بها أو يسأم منها. . أما فيلمك؟!” مهندس معدات من كالينين عبر أيضا في رسالته عن سخطه البالغ: ” بعد نصف ساعة من مشاهدة ( المرآة ) غادرت الصالة (. . . ) أيها الرفيق المخرج، هل شاهدته؟ أظن أنه يحتوي على شيء ضار وغير صحي . . أتمنى لك كل النجاح في عملك، لكننا لا نحتاج إلى فيلم كهذا. ”
مهندس آخر من سفردلوفسك كان غير قادر على كبح نفوره العميق: ” كم هو مبتذل فيلمك! كم هو مقزز ! أي هراء وتفاهة ! فيلمك مجرد صور فارغة وعقيمة. على أية حال، هو لم يصل إلى الجمهور بالتأكيد، وهذا هو المهم. ”

هنا الرجل يوبخ إدارة السينما ويشعر بضرورة إخضاعها للمساءلة: ” ليس بوسع المرء إلا أن يندهش من تصرف أولئك المسؤولين عن توزيع الأفلام هنا، في الإتحاد السوفييتي، الذين يجيزون عرض مثل هذه السخافات. ”

إنصافا لإدارة السينما يتعين علي أن أقول أن ” مثل هذه السخافات ” لا يسمح بعرضها إلا نادرا. . بمعدل مرة كل خمس سنوات.

عندما أتلقى رسائل كهذه أشعر بيأس شديد. فعلا، لمن أحقق أفلامي، ولماذا؟

لكن هناك نوعاً آخر من الرسائل تمنحني بصيصا من الأمل. ربما هي تعكس الحيرة والارتباك، غير أنها تعبر أيضا عن رغبة صادقة في فهم ما شاهده كاتب الرسالة. على سبيل المثال:

” أنا واثق من أنني لست أول ولا آخر من يتجه إليك في ارتباك وتشوش ليطلب منك أن تساعده في تفسير وتوضيح فيلمك ( المرآة ). حقا الأجزاء بحد ذاتها مصورة بشكل جيد، لكن كيف يمكن للمرء أن يجد ما يوحدها ويجعلها متماسكة؟ ”

امرأة من ليننغراد كتبت تقول: ” الفيلم لا يشبه أي فيلم آخر شاهدته من قبل إلى حد أنني لا أعرف كيف أتحدث عنه أو أحدد فهمي سواء للشكل أو المحتوى. هل تستطيع أن تفسر ذلك ؟ ليس بسبب افتقاري إلى فهم السينما بشكل عام، فقد شاهدت أفلامك الأولى. . طفولة إيفان، أندريه روبليوف. . كانا واضحين تماما. لكن هذا الفيلم صعب وغامض. قبل عرض الفيلم ينبغي تقديم تعريف به إلى الجمهور. بعد مشاهدته يشعر المرء بتضارب مع ذاته لإحساسه بالعجز والبلادة. ومع احترامي، يا أندريه، إذا كنت لا تقدر أن ترد على رسالتي على نحو مفصل، فهل يمكنك على الأقل أن ترشدني إلى حيث أستطيع أن أقرأ شيئا عن الفيلم ؟ ”

للأسف لم أستطع أن أدل صاحبة الرسالة على ما يشبع رغبتها، فلم تظهر مقالات عن فيلم ” المرآة ” باستثناء مقالة منشورة في مجلة ” فن السينما ” وكانت تؤيد الشجب العلني لفيلمي بوصفه ” نخبويا ” على نحو غير مقبول، وذلك في الملتقى الذي نظمه معهد السينما ونقابة السينمائيين.

إن ما جعلني اصمد أمام هذا الهجوم هو اقتناعي المتزايد بأن ثمة أفرادا يهتمون بأعمالي ويترقبون رؤيتها. لكن من الواضح أن أحدا لم يكن يرغب في تعزيز هذا الاتصال بجمهوري.

عضو في معهد الفيزياء بأكاديمية العلوم بعث إلي بتقرير موجز، منشور في جريدة الحائط بالمعهد، جاء فيه: ” لقد أثار عرض فيلم تاركوفسكي ( المرآة ) اهتماما واسعا في المعهد كما في كل أنحاء موسكو. لسوء الحظ، لم يستطع أحد أن يلتقي بالمخرج، حتى كاتب هذه السطور. لا أحد منا يستطيع أن يفهم كيف نجح تاركوفسكي، بواسطة السينما، في إنتاج عمل يحوي أبعادا فلسفية عميقة. الجمهور الذي اعتاد على مشاهدة أفلام ذات بناء قصصي وحركة وشخصيات ونهاية سعيدة مألوفة، سوف يبحث عن هذه الأشياء في أفلام تاركوفسكي غير أنه لن يجدها، لذا غالبا ما يغادر الصالة في خيبة. عم يتحدث هذا الفيلم ؟ إنه عن إنسان . لا، ليس الإنسان الخاص الذي نسمع صوته خارج الشاشة وهو يروي. إنه الفيلم الذي يتحدث عنك، عن أبيك، عن جدك، عن شخص سوف يعيش بعدك ومع ذلك هو أنت. عن إنسان يعيش على هذه الأرض، هو جزء من الأرض والأرض جزء منه. عن حقيقة أن الإنسان مسؤول عن حياته أمام الماضي والمستقبل معا. يتعين عليك، ببساطة، أن تشاهد هذا الفيلم، وتصغي إلى موسيقى باخ وإلى قصائد أرسيني تاركوفسكي (1). شاهده مثلما تشاهد النجوم أو البحر أو أي منظر طبيعي. . بإعجاب غامر. ليس ثمة منطق رمزي، ذلك لأن الفيلم لا يستطيع أن يفسر كينونة الإنسان أو معنى حياته. ”

أعترف أنه حين يطري النقاد المحترفون عملي، أشعر غالبا بعدم الرضا عن أفكارهم وملاحظاتهم النقدية. وغالبا ما يتكون لدي إحساس بأن هؤلاء النقاد لا يكترثون بعملي أو ليسوا مؤهلين للنقد. إنهم يستخدمون تعبيرات مستهلكة وشائعة، منتزعة من المجلات السينمائية الرائجة بدلا من التحدث عن تأثير الفيلم المباشر والحميمي على الجمهور. مع ذلك، فإنني ألتقي بأفراد مارس فيلمي تأثيرا عليهم، أو أتلقى منهم رسائل تبدو أشبه باعترافات خاصة وحميمة، عندئذ أفهم لماذا ولمن أحقق أفلامي، وأصبح مدركا لمهمتي: الإحساس بالواجب والمسؤولية تجاه الناس. (أبدا لا أستطيع أن أصدق بأن فنانا ما يمكن أن يعمل لنفسه فقط، إذا علم بأن أحدا لا يحتاج الى ما يفعله).

امرأة من جوركي كتبت الي تقول:”أشكرك على (المرآة). طفولتي كانت كذلك. تلك الريح والعاصفة الرعدية وجدتي تصيح:اخرجي القطة يا غالكا. . الغرفة كانت معتمة. . وأنا أنتظر عودة أمي. . إحساس مدهش كان يملأ روحي كلها. لكن كيف عرفت ذلك؟ كم هو جميل تصوير فيلمك ليقظة الوعي عند الطفل، لمشاعره وأفكاره. . يا إلهي، كم هو صادق. . نحن حقا ننسى وجوه أمهاتنا، لا نعود نميزها. وكم هو بسيط فيلمك. . أتعلم، في الصالة المظلمة، وأنا أنظر الى قطعة القماش (الشاشة) المضاءة بموهبتك، شعرت للمرة الأولى في حياتي بأنني لست وحيدة”.

لقد قيل لي، لسنوات عديدة، أن أحدا لا يريد أو لا يفهم أفلامي. استجابة تلك المرأة أدفأت روحي كثيرا. لقد وهبت المعنى لما أفعله، وعززت قناعتي بأنني كنت على حق، وان اختياري للطريق الذي أسلكه لم يكن مصادفة.

عامل في احد مصانع ليننغراد، يتلقى دروسا مسائية، كتب يقول: “سبب كتابتي إليك هو (المرآة). . الفيلم الذي لا أستطيع أن أتحدث عنه لأنني أعيشه…ميزة عظيمة أن تكون قادرا على الإصغاء والفهم. ذلك هو، برغم كل شيء، المبدأ الأول للعلاقات الإنسانية: القدرة على أن تفهم الناس وتغفر أخطاءهم غير المقصودة، أخطاءهم الطبيعية”.

الجمهور يدافع عني ويشجعني. . هذه رسالة أخرى:”أكتب بالنيابة عن، وبموافقة، مجموعة من المشاهدين ذوي المهن المختلفة، وجميعم أصدقاء أو معارف لي، لأقول لك بأننا نريد منك أن تعرف مباشرة أن المعجبين بموهبتك، والذين يتمنون لك الخير، والذين ينتظرون عرض كل فيلم تحققه، هم اكبر عددا مما تحاول أن تظهره إحصائيات جريدة “الشاشة السوفيتية”. إن جميع معارفي يرتادون السينما، ليس كثيرا، لكنهم دائما يرغبون في مشاهدة أفلام تاركوفسكي، ومن المؤسف ألا نرى أفلاما كثيرة لك” اعترف أنه مؤسف بالنسبة لي أيضاَ، لأن هناك الكثير مما أرغب في فعله وفي قوله، ومشاريع ارغب في إنجازها. . وواضح أن هذا الأمر لا يعنيني وحدي.

مدرس من نوفوسيبيرسك كتب يقول:” لم اكتب أبدا الى مبدع لأخبره عما أشعر به تجاه كتاب أو فيلم. لكن هذه حالة خاصة: الفيلم (المرآة) يساعد المرء على تحرير نفسه من حالات القلق والضغوطات التي تثقل كاهله. لقد حضرت إحدى المناقشات حول الفيلم، وكل من تكلم صرح قائلا: الفيلم يتحدث عني. ”

رسالة أخرى:” هذه من رجل عجوز، محال الى التقاعد، ومهتم بالسينما. . وإن كانت مهنتي (مهندس إذاعي) بعيدة عن مجال الفن. لقد أذهلني فيلمك (المرآة). كنت مأخوذاً بقدرتك على النفاذ الى العالم العاطفي للبالغ والطفل، على جعل المرء يشعر بجمال العالم من حوله، عارضاً القيم الحقيقية-لا الزائفة- لذلك العالم، جاعلاً كل شيء يلعب دورا، محولاً كل جزء من الصورة إلى رمز، مجملا كل كادر بالشعر والموسيقى. . كل هذه الخاصيات نموذجية في أسلوبك. . أسلوبك وحدك. أود كثيرا أن اقرأ ملاحظاتك حول فيلمك. انه شئ يدعو للأسف انك نادرا ما تظهر في الصحافة. أنا واثق من أن لديك الكثير لتقوله. ”

للأمانة، أنا أضع نفسي في فئة أولئك الذين، عبر الجدل والنقاش، يمنحون أفكارهم شكلا، وعبر الجدال يمكن الوصول الى الحقيقة. وفي تأمل المسألة وحدي فإني أميل إلى الاستغراق في حالة تأملية تتناسب مع النزوع الميتافيزيقي لشخصيتي دون أن يفضي ذلك الى عملية تفكير نشطة وخلاقة.

بطريقة أو أخرى، إنه الاتصال بالجمهور- الشخصي أو عن طريق الرسائل- الذي دفعني الى تأليف هذا الكتاب. وعلى أية حال، سوف لن ألوم أولئك الذين يرتابون في قراري بمباشرة العمل على معضلات تجريدية، كما لن أندهش لو وجدت استجابة حماسية من جانب قراء آخرين.

إمرأة عاملة من نوفوسيبيرسك كتبت:”شاهدت فيلمك (المرآة) أربع مرات في الأسبوع الماضي. لم أذهب لمجرد المشاهدة فقط، إنما لكي أعيش في ساعات قليلة حياةً حقيقية مع فنانين حقيقيين وأفراد حقيقيين. . إن كل ما يعذبني، كل ما لا املكه وأتوق اليه، كل ما يجعلني فقيرة أو مريضة، كل ما يخنقني، كل ما يمنحني إحساسا بالضياء و الدفء، كل ما يفتك بي. . كل ذلك موجود في فيلمك، أراه كما لو في مرآة. ولأول مرة في حياتي يصبح فيلم ما شيئا حقيقيا بالنسبة لي، ولهذا السبب ذهبت لمشاهدته: أردت أن أدخل فيه مباشرة لكي أشعر بأني حية فعلا. ”

يقينا لا يمكن للمرء أن يرجو اعترافا بما يفعله أعظم من هذا. أمنيتي الأكثر اتقادا كانت دائما أن أكون قادرا على التعبير عن رأيي بحرية في أفلامي، أن أقول كل شي بصدق تام ودون أن افرض وجهة نظري الخاصة على الآخرين. لكن إذا وجدت رؤية الفيلم للعالم قبولاًً عند الآخرين بوصفها جزءا من رؤيتهم، من ذواتهم، فأي دافع أفضل من هذا يمكن أن يجده المرء لعمله.

ذات مرة بعثت إلي امرأة رسالة كتبتها إليها ابنتها، واعتقد أن كلمات الابنة الشابة هي بيان ملفت واستثنائي عن الإبداع الفني كشكل من أشكال الاتصال متعدد الجوانب على نحو لا متناه.

“. . كم هي عدد الكلمات التي يعرفها الفرد؟كم كلمة يستخدمها في معجمه اليومي؟ مئة، مائتان، ثلاثمائة؟ إننا نغلف مشاعرنا بالكلمات، نحاول أن نعبر بالكلمات عن الحزن والفرح وتلك العواطف التي لا يمكن التعبير عنها. روميو كان يخاطب جولييت بكلمات جميلة، زاهية، معبرة، لكنها بالتأكيد لم تعبر حتى عن نصف ما كان يجعل قلبه يبدو كما لو سيثب خارج صدره، وما كان يحبس أنفاسه، وما كان يجعل جولييت تنسى كل شيء ما عدا حبها. هناك نوع أخر من اللغة، شكل أخر من الاتصال:بواسطة المشاعر والصور. ذلك هو الاتصال الذي يمنع الناس من الانفصال عن بعضهم البعض، الذي يحطم التخوم. الإرادة، الشعور، العاطفة. . هي التي تزيل الحواجز بين الأفراد الذين بدون هذا يقفون في اتجاهات معاكسة من المرآة، اتجاهات معاكسة من الباب. كادرات الشاشة تتحرك، والعالم الذي اعتاد أن يكون منقسما يأتي إلينا ويصبح شيئا حقيقيا. . وهذا لا يحدث من خلال أندريه الصغير، انه تاركو فسكي نفسه يخاطب الجمهور مباشرة فيما يجلسون في الجانب الأخر من الشاشة. ليس هناك موت، بل خلود. الزمن واحد وغير منقسم، وكما تقول إحدى القصائد. . حول المائدة يجلس الأسلاف والأحفاد. . بالفعل يا أمي، لقد أدركت الفيلم بأسره من زاوية عاطفية، لكنني واثقة من أن هناك طرقا مختلفة للنظر اليه. ماذا عنك أنت؟ أرجوك اكتبي إلي واخبريني. ”

ليس الغرض من هذا الكتاب تعليم الآخرين أو فرض وجهه نظري عليهم. غايته الرئيسية أن يساعدني في إيجاد طريقي عبر متاهة من الإمكانيات والاحتمالات المتضمنة في هذا الشكل الفني الشاب والجميل- الذي لم يسبر جوهريا إلا في حدود ضيقة- ولكي أكون قادرا على إيجاد نفسي ضمنه. . على نحو كامل ومستقل.

الإبداع الفني، برغم كل شيء، ليس خاضعاً لقوانين مطلقة، سارية المفعول من عصر الى عصر. بما أنه متصل بالهدف العام، أي فهم العالم فهما كاملا ، فإن له عدداً لا متناهياً من الأوجه، ومن الصلات التي تربط الإنسان بنشاطه الحيوي. وحتى لو كان الطريق نحو المعرفة بلا نهاية، فإن أية خطوة تقرب الإنسان من الفهم الكلي لمعنى وجوده، لا يمكن أن تكون محدودة بحيث لا تؤخذ بعين الاعتبار. إن جسم النظرية المتصلة بالسينما لا يزال هزيلاً و واهياً، لذا فإن توضيح حتى النقاط الثانوية يمكن أن يساعد في إلقاء الضوء على قوانينها الأساسية.

أخيرا، يتعين علي أن أضيف بأن هذا الكتاب قد تألف من فصول مكتوبة، ملاحظات على شكل يوميات، محاضرات، ومناقشات مع أولجا سوركوفا التي تابعت تصوير فيلم”أندريه روبليوف” حين كانت تدرس تاريخ السينما في معهد السينما بموسكو، ثم أصبحت ناقدة محترفة، وتعاونت معنا عن قرب في السنوات التالية. وأنا مدين لها للعون الذي قدمته لي طوال كتابة هذا الكتاب.

 

الفصل الأول:

البداية

 

الانتهاء من فيلم “طفولة إيفان” كان يشير الى نهاية مرحلة من حياتي، ونهاية عملية اعتبرتها نوعا من تقرير المصير. تلك المرحلة كانت تتألف من سنوات دراستي في معهد السينما، ثم تحقيق فيلم قصير لنيل شهادة دبلوم التخرج، ثم العمل لمدة ثمانية شهور في فيلمي الطويل الأول.

بمقدوري الآن أن أقيّم تجربة “طفولة إيفان”، وأن ألبي الحاجة لإيجاد – ولو مؤقتا- وضعي الخاص في جماليات السينما، وأهيئ نفسي لمعضلات يمكن حلها أثناء تحقيق فيلمي التالي. في كل هذا رأيت ثمرة تقدمي نحو أرض جديدة.

يمكن إنجاز العمل كله في ذهني. لكن ثمة خطراً مؤكدأ في عدم القيام بمحاولة للوصول الى قرارات نهائية: سهل جدا أن تكون راضيا بومضات من الحدس، وأن تفضل ذلك على التفكير العميق المتماسك. إن الرغبة في تجنب استهلاك أفكاري بمثل هذه الطريقة يسرت لي اختيار القلم والورقة.

ما الذي جذبني الى قصة بوجومولوف القصيرة”إيفان”؟

في البدء يتعين علي القول بأن ليس كل عمل نثري قابل للتحويل الى الشاشة. بعض الأعمال الأدبية ذات وحدة كاملة، تحتوي على صور أدبية أصيلة ودقيقة، والشخصيات مرسومة بحيث تحمل أعماقا لا يسبر غورها، وللتكوين قدرة استثنائية على الإفتان. الكتاب – في النهاية – هو كل لا يتجزأ، وعبر الصفحات توجد الذاتية الفذة والمدهشة للمؤلف. إن كتبا كهذه تعد تحفا فنية، وفقط ذاك الذي لا يبدي اكتراثا بالنثر الرفيع وبالسينما معا يمكن أن يتصور إمكانية تحويلها الى الشاشة.

من المهم هنا توكيد هذه النقطة لأن الوقت قد حان لفصل الأدب عن السينما نهائيا وعلى نحو حاسم.

بعض الأعمال النثرية مبنية بواسطة الأفكار، ووضوح ومتانة البناء، وجدة الموضوع. كتابة كهذه لا تبدو معنية بالتطور الجمالي للفكر الذي تتضمنه. واعتقد أن قصة بوجومولوف “إيفان” تندرج ضمن هذه الفئة.

من زاوية فنية خالصة، لم اشعر ألا بقليل من المتعة إزاء السرد المحايد، الشديد العناية بالتفاصيل، المتمهل باستطراداته الغنائية لعرض شخصية البطل. . الملازم جالتسيف. كان بوجومولوف يعلق أهمية كبيرة على دقة تسجيله للحياة العسكرية وعلى حقيقة أنه كان، أو حاول أن يبدو، شاهدا على كل أحداث قصته. كل هذا يسر لي أن أرى العمل كقطعة نثرية قابلة بسهولة لأن تصور سينمائيا.

علاوة على ذلك، فإن هذا التصوير يمكن أن يمنح القصة تلك الكثافة الجمالية في الإحساس الذي قد يحول فكرة القصة الى حقيقة تقرها الحياة.

بعد أن قرأت القصة، ظلت عالقة في ذهني طويلا، وثمة أشياء معينة أثرت فيّ بعمق. أولا، هناك مصير البطل الذي نتابعه حتى مماته. بالطبع هناك قصص عديدة تبني حبكاتها بهذه الطريقة، لكن لا يحدث دائما أن يكون حل العقدة، كما في حالة إيفان، متضمنا في صلب الفكرة العامة، وبسبب ضرورته الداخلية. لموت البطل هنا دلالة خاصة. في هذا الموضع تنتهي القصة، لا شئ يلي ذلك، في حين يلجأ المؤلفون الآخرون الى تخطي هذا الموضع ببعث تفاصيل جديدة معزية ومريحة وعادة، في مثل هذه الحالات، يكافئ المؤلف بطله على مآثره البطولية العسكرية. كل ما هو موجع وجارح يرتد الى الماضي ويصبح مجرد مرحلة مؤلمة في حياته. أما في قصة بوجو مولوف، فان هذه المرحلة، التي يفصلها الموت، تصبح هي الأخيرة والوحيدة. ضمنها يتركز المحتوى الكلي لحياة إيفان وقوتها المحركة المأساوية. ليس هناك حيز لأي شيء آخر:تلك هي الحقيقة المروعة التي تجعل المرء، على نحو حاد وغير متوقع، يدرك بشاعة الحرب.

الشئ الثاني الذي استوقفني وسحرني هو واقع أن حكاية الحرب القاسية هذه لم تكن عن المعارك الحربية العنيفة، أو بواطن وظواهر الأضداد في خط النار. وصف المآثر البطولية كان غائبا. مادة السرد لم تكن ملاحم العمليات الاستطلاعية، إنما الفترات الفاصلة بين العمليات. لقد قام المؤلف بشحن هذه الفترات بكثافة مقلقة ومكظومة شبيهة بالتوتر المتشنج لزنبرك ملفوف شد بإحكام حتى الحد الأقصى.

هذه الطريقة في تصوير الحرب كانت مقنعة بسبب إمكانيتها السينمائية المتوارية. إنها تكشف عن احتمالات لإعادة خلق الجو الحقيقي للحرب، الذي هو غير منظور على سطح الأحداث لكن يجعل نفسه محسوسا مثل دمدمة تحت الأرض.

الشيء الثالث الذي حرك مشاعري بعمق: شخصية الفتى إيفان، هذا الذي سحرني في الحال. إنها الشخصية التي دمرتها الحرب وغيرت مسارها. أشياء لا تحصى، بالأحرى كل خاصيات الطفولة، قد غادرت حياته ولم يعد بالإمكان استرجاعها. الشئ الذي اكتسبه، مثل هبة شريرة من الحرب، عوضا عن ذلك الذي كان يمتلكه، أصبح متركزا داخل ذاته.

لقد حركتني شخصية الفتى بخاصيتها الدرامية الكثيفة والتي وجدتها أكثر إقناعا من تلك الشخصيات التي تتكشف في العملية التدريجية للتطور الإنساني عبر حالات الصراع والتضارب في المبدأ.

في حالة التوتر المتواصلة، غير المتنامية، تبلغ الأهواء والانفعالات أعلى ذروة ممكنة، وتظهر نفسها على نحو أكثر حيوية وإقناعا مما في العملية التدريجية للتغيير. هذا النزوع لدي هو الذي يجعلني مولعا الى أبعد حد بدوستويفسكي. بالنسبة لي، الشخصيات الأكثر إثارة للاهتمام هي تلك التي تكون سكونية خارجيا لكنها داخليا تكون مشبعة بطاقة هائلة ولدتها عاطفة طاغية. وإيفان ينتمي الى هذا النوع من الشخصيات.

حين قرأت قصة بوجومولوف، استحوذت هذه الأمور على مخيلتي. وهذا كان أقصى ما استطعت الانسجام فيه مع المؤلف، فالنسيج العاطفي للقصة كان غريبا علي، والأحداث كانت مروية بأسلوب مكبوح على نحو متعمد، متخذا طابع التقرير الصحفي تقريباً، وما كان بمقدوري تحويل أسلوب كهذا الى الشاشة، لأن ذلك سيكون ضد مبادئي.

عندما تكون لدى الكاتب والمخرج نقط انطلاق جمالية مختلفة، فإن التسوية والوصول الى حل وسط سيكون مستحيلا. ذلك سوف يدمر الفكرة الحقيقية للفيلم، ولن يعود ممكنا تحقيق الفيلم.

حين يحدث تضارب كهذا، فسوف لن يكون هناك غير منفذ واحد:أن يتحول السيناريو الأدبي الى بنية جديدة والتي، عند مرحلة معينة من صنع الفيلم، سوف تدعى سيناريو التصوير. وفي أثناء العمل على هذا السيناريو، سيكون مؤلف الفيلم (وليس مؤلف السيناريو)مخولا لأن يوجه السيناريو الأدبي هذه الوجهة أو تلك كما يشاء. كل ما يهم هو أن رؤيته ينبغي أن تكون كاملة دون أي مساس بها، وأن تكون كل كلمة في السيناريو معبرة عما يريده ، وتمر عبر تجربته الإبداعية الخاصة. . ذلك لأن وسط أكوام من الصفحات المكتوبة، والممثلين، والأماكن المختارة كمواقع للتصوير، والحوار الأكثر براعة، والرسوم التخطيطية، هناك ينتصب شخص واحد فقط: المخرج. هو وحده، بوصفه”الفلتر”الأخير في العملية الإبداعية لصنع الفيلم.

عندما لا يكون كاتب السيناريو والمخرج شخصا واحدا، فعندئذ سوف نشهد تعارضا غير قابل للحل والذوبان، خاصة إذا كان كل منهما يتوهم الكمال. لهذا السبب كنت أنظر الى محتوى القصة كأساس ممكن فحسب، كجوهر حيوي ينبغي إعادة تأويله وتقديم تفسير جديد له في ضوء رؤيتي الخاصة للفيلم المنجز.

هنا نصل الى مسألة يثار حولها الجدل:إلى أي مدى يكون المخرج مخولا لأن يصير كاتب سيناريو؟

البعض، على نحو مطلق، يرفض أن يمنحه الحق في المشاركة في كتابة السيناريو. والمخرج الذي يميل الى كتابة السيناريو يتعرض للنقد بشكل لاذع وجارح، مع أن بعض الكتاب يشعرون أنهم بعيدون عن السينما. إن موقفا كهذا يبدو غريبا وشاذا، ولا يمكن فهم هذا المنطق الذي يفترض أن كل كاتب مؤهل لكتابة السيناريو بينما لا يعتبر المخرج مؤهلا لذلك، إنما يتعين عليه أن يقبل في خنوع النص المقترح عليه لينظمه ويحوله الى سيناريو تصوير.

بالعودة الى موضوعنا الأساسي، أجد أن الروابط الشعرية – منطق الشعر في السينما – هي مرضية على نحو رائع، إنها تبدو لي ملائمة على نحو مثالي لإمكانية السينما بوصفها أكثر الأشكال الفنية صدقا وشعرية. يقينا أشعر بالتوافق والانسجام معها أكثر مما أشعره مع الكتابة التقليدية المتكلفة التي تربط الصور من خلال التنامي الطولي، المنطقي على نحو صارم، للحبكة. هذه الطريقة المتفقة على نحو ضاج مع العرف في ربط الأحداث هي عادة تقتضي ضمنا فرض الأحداث، على نحو استبدادي، امتثالا لمفهوم نظري تجريدي بشأن الترتيب والنظام. حتى عندما لا يكون الأمر كذلك، حتى عندما تكون الحبكة محكومة وموجهة من قبل الشخصيات فإن المرء يكتشف بأن الروابط، التي توحدها وتجعلها متماسكة، تتكئ على تأويل سطحي لتعقيدات الحياة.

لكن مادة الفيلم يمكن أن تتزاوج معا بطريقة أخرى والتي تعمل، قبل كل شئ، على كشف منطق التفكير عند شخص ما. هذا هو الأساس المنطقي الذي سوف يملي تعاقب الأحداث، والمونتاج الذي يصوغها في وحدة كاملة. إن ولادة وتطور الفكر خاضعان لقوانين خاصة بهما، وأحيانا يقتضي ذلك أشكال تعبير مختلفة تماماً عن أنماط التأمل المنطقي.

في رأيي، الاستنباط الشعري هو أقرب الى القوانين التي بواسطتها يتطور الفكر، وبالتالي أقرب الى الحياة نفسها، من منطق الدراما التقليدية. مع ذلك فإن طرائق الدراما الكلاسيكية هي التي كان ينظر إليها باعتبارها النماذج الوحيدة، والتي لسنوات طويلة قد حددت الشكل الذي فيه يتم التعبير عن الصراع الدرامي.

من خلال الصلات الشعرية يتم تصعيد وتعميق الشعور، ويصير المتفرج فعالا أكثر. أنه يصبح مشاركا في عملية اكتشاف الحياة، بلا عون أو دعم من قبل الاستنتاجات الجاهزة من الحبكة أو من تلميحات المؤلف المتعذر مقاومتها. تحت تصرفه فقط ما يساعد على اختراق المعنى الأعمق للظواهر المركبة المعروضة أمامه. إن تعقيدات الفكر والرؤى الشعرية للعالم لا ينبغي أن تكون مقحمة في بنية ما هو واضح وجلي. المنطق المعتاد، منطق التعاقبية الطولية، هو على نحو غير مريح مثل إثبات نظرية هندسية. كمنهج هو، على نحو غير صالح للمقارنة، أقل خصوبة فنيا من الإمكانيات المتاحة من قبل الربط المتصل بالتداعي، والذي يبيح التقييم العاطفي والعقلاني معا. وكم هي مخطئة هذه السينما التي لا تستفيد إلا قليلا جدا من الإمكانيات المتاحة، والتي لديها الكثير منها لتقديمه. إنها تملك سلطة داخلية تتركز داخل الصورة وتعبر الى الجمهور في شكل مشاعر، محدثة توترا في استجابة مباشرة الى المنطق السردي للمؤلف.

المنهج الذي بواسطته يرغم الفنان الجمهور على أن يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة كاملة، وان يفكر أبعد مما هو مقرر له، هذا المنهج هو الوحيد الذي يضع الجمهور في مستوى متكافئ مع الفنان في إدراكه للفيلم . وعبر الاحترام المتبادل فقط يكون ذلك النوع من التبادل جديرا بالممارسة الفنية.

حين أتحدث عن الشعر فإنني لا أنظر اليه كنوع أدبي. الشعر هو الوعي بالعالم، طريقة خاصة للاتصال بالواقع. هكذا يصبح الشعر فلسفة ترشد الإنسان طوال حياته.

تأمل شخصية ومصير فنان مثل ألكسندر جرين (2) الذي كان على وشك الموت جوعا عندما خرج الى الجبال بقوس، صنعه بنفسه، وسهم ليشارك في مباراة في الرماية. إربط ذلك الحدث بالزمن الذي عاش فيه الرجل وسوف يكشف الربط عن المظهر التراجيدي لحالم.

أو تأمل مصير فان جوغ.

تأمل الشاعر ميخائيل بريشفين (3) الذي تنبثق كينونته الحقيقية في معالم الطبيعة الروسية التي وصفها بحب بالغ.

تأمل ماندلستام، باسترناك، شابلن، دوفجنكو، ميزوجوشي. . وسوف تدرك أية طاقة عاطفية هائلة حملها هؤلاء الأشخاص البارزون، الذين يحلقون فوق الأرض، والذين لا يظهر فيهم الفنان كمستكشف للحياة فحسب، إنما أيضا كمبدع للكنوز الروحية العظيمة، وخالق للجمال الخاص الذي ينتسب للشعر فقط. فنان كهذا يستطيع أن يتبين خطوط التصميم الشعري للوجود. وهو قادر على تخطي قيود المنطق المتماسك، وكشف التعقيد العميق وحقيقة الروابط غير المحسوسة وظواهر الحياة المخفية.

بدون مثل هذا الإدراك ونفاذ البصيرة، حتى العمل الذي يزعم أنه معبر بصدق عن الحياة سوف يبدو تبسيطيًا ومنتظما بشكل اصطناعي. قد ينجز الفنان وهماً ظاهرياً، مظهراً شبيهاً بالحياة، لكن ذلك يختلف تماماً عن سبر واستنطاق الحياة أسفل السطح. أظن أنه ما لم يوجد رابط عضوي بين الانطباعات الذاتية للمبدع وتصويره الموضوعي للواقع، فسوف لن يحقق حتى المصداقية الظاهرية، دعك من الموثوقية والصدق الداخلي.

أنت تستطيع أن تنجز مشهدا بدقة وثائقية، وأن تكسو الشخصيات بالملابس على نحو صحيح وواقعي جدا، وأن ترسم كل التفاصيل تماما كما في الحياة الحقيقية، مع ذلك فإن الصورة التي تنشأ نتيجة ذلك سوف لن تكون أبدا قريبة من الواقع، بل ستبدو متكلفة واصطناعية تماما، أي ليست أمينة للحياة، حتى لو كانت الاصطناعية هي بالضبط ما كان المبدع يحاول تفاديها.

من الملفت أن صفة “الاصطناعية” تطلق في الفن على ما ينتمي، بلا ريب، الى إدراكنا الاعتيادي واليومي للواقع. تفسير ذلك هو أن نمط الحياة شعري أكثر مما هو ممثل أو مصور أحيانا من قبل المدافعين بعزم عن الطبيعية. الكثير، مع ذلك، يبقى في أفكارنا وقلوبنا كاقتراحات غير متحققة. عوضا عن محاولة الإمساك بالفوارق الدقيقة التي لا تكاد تدرك، فإن أغلب الأفلام “الواقعية”، البسيطة، لا تتجاهل هذه الفوارق فحسب إنما تصر على استخدام صور حادة وصارخة ومبالغ فيها، والتي في أفضل الأحوال يمكنها فقط أن تجعل الصورة تبدو بعيدة الاحتمال. أنا، من جانبي، مؤيد تماما للسينما التي تكون قريبة قدر الإمكان من الحياة، حتى لو كنا نخفق أحيانا في إدراك كم هي جميلة حقا الحياة.

قلت في بداية هذا الفصل أنني سعيد لرؤية علامات تشير الى تشكل خط فاصل بين السينما والأدب اللذين يمارسان تأثيرا قويا ونافعا جدا على بعضهما البعض. واعتقد أن السينما، فيما تتطور، سوف تتحرك بعيدا ليس عن الأدب فحسب لكن أيضا عن بقية الأشكال الفنية المتاخمة، ومن ثم تصبح مستقلة بذاتها أكثر فأكثر. العملية لا تمضي بالسرعة التي قد يتمناها المرء، إنها تستغرق وقتا طويلا، ودرجة السرعة ليست ثابتة ومستمرة. هذا ما يفسر سبب احتفاظ السينما حتى الآن ببعض المبادئ والقواعد الملائمة لأشكال فنية أخرى، والتي على أساسها غالبا ما يبني المخرجون أنفسهم حين يحققون فيلما.

شيئا فشيئا تأتي هذه المبادئ لتعمل ككابح للسينما وكعائق أمام تحقيقها لشخصيتها المميزة الخاصة. إحدى النتائج أن السينما عندئذ تفقد شيئا من قدرتها على تجسيد الواقع مباشرة وبوسائلها الخاصة، كمقابل لتحويل الحياة بمساعدة الأدب أو الرسم أو المسرح.

هذا يمكن أن يُرى على سبيل المثال في التأثير الذي مارسته الفنون البصرية على السينما حين تكون هناك محاولات لتحويل الإطار التشكيلي الى الشاشة. في اغلب الأحوال، يتم نقل أو ترجمة المبادئ المعزولة، وسواء أكانت تتصل بالتكوين أو باللون، فإن التحقق الفني سوف لن يتسم بالخلق الأصيل، المبتكر، المستقل، بل يكون مشتقا فحسب.

إن محاولة تكييف مقومات الأشكال الفنية الأخرى مع الشاشة سوف تؤدي دائما الى تجريد الفيلم مما هو سينمائي على نحو مميز، وتضاعف من صعوبة معالجة المادة بطريقة تستفيد من الموارد الفعالة للسينما بوصفها فنا قائما بذاته. وقبل كل شئ، فإن إجراء كهذا يقيم حاجزا بين مؤلف الفيلم والحياة. المناهج أو الطرائق التي رسختها الأشكال الفنية الأكثر قدما تقحم نفسها، إنها تحديدا تحول دون إعادة خلق الحياة في السينما كما يشعرها ويراها الفرد: أي على نحو صادق.

إننا نصل الى نهاية اليوم: لنقل أنه خلال هذا اليوم حدث شئ هام، شئ ذو دلالة والذي يمكن أن يكون عاملا ملهما لفيلم ما، وقد يكون نتاجا لتعارض في الأفكار والذي يمكن أن يصبح حالة سينمائية. لكن كيف يدمغ هذا اليوم نفسه على ذاكرتنا؟

كشئ غير متبلور، غامض، بلا هيكل أو تصميم. مثل غيمة. فقط الحدث المركزي لذلك اليوم يصبح مركزاً ومكثفا، أشبه بتقرير مفصل واضح في معناه، ومحدد بجلاء. قبالة خلفية اليوم بأسره، ينتأ ذلك الحدث مثل شجرة في السديم (التشبيه بالطبع ليس دقيقا تماماً، إذ لا يوجد تجانس بين ما أسميه السديم والغيمة). الانطباعات المنفصلة عن اليوم قد أطلقت بواعث في داخلنا، وأثارت تداعيات. الأشياء والحالات قد مكثت في ذاكرتنا، لكن بلا خطوط محددة على نحو قاطع. إنها ناقصة وتصادفية. هل يمكن توصيل انطباعات الحياة هذه من خلال الفيلم؟ ذلك ممكن بلا شك. في الواقع، إنها من المزايا الاستثنائية للسينما، باعتبارها أكثر الفنون واقعية، أن تكون وسيلة لاتصال كهذا.

إن إعادة إنتاج أحاسيس حقيقية هي بالطبع ليست غاية بذاتها، لكن يمكن أن تكون – جماليا- ذات معنى. وبالتالي تصبح وسطا للتفكير الجاد والعميق.

لكي يكون العمل أمينا للحياة، صادقا جوهريا، يتعين عليه – بالنسبة لي- أن يكون بيانا حقيقيا ودقيقا، واتصالا صادقا للمشاعر في آن.

إنك تسير في الشارع ونظراتك تلتقي فجأة بنظرات شخص يمر في محاذاتك. ثمة شئ مروع في نظرته يجعلك تجفل. النظرة تخلق لديك إحساسا بخوف من شئ مرتقب. وهذا الشخص يؤثر فيك سيكولوجيا، ويضعك في حالة نفسية معينة.

وإذا كان كل ما ستفعله هو أن تنسخ حالات ذلك اللقاء بدقة آلية، معتنيا بأزياء الممثلين ومنتقياً موضع التصوير بدقة وثائقية فإنك، مع ذلك، لن تحقق من سياق الفيلم الإحساس ذاته الذي انتابك بفعل ذلك اللقاء. ذلك لأنك حين صورت مشهد اللقاء فإنك تجاهلت العامل السيكولوجي والحالة الذهنية التي جعلت نظرة الغريب تؤثر فيك عبر انفعال خاص ومعين. ولكي تجفل نظرة الغريب الجمهور مثلما فعلت معك في تلك اللحظة، فإنه يتعين عليك أن تهيئ لها الظرف عن طريق بناء حالة مماثلة لحالتك في لحظة اللقاء الفعلي. هذا يعني بذل جهود إضافية من قبل المخرج وتعميق المادة السينمائية.

ثمة مقدار وافر من الكليشيهات والأفكار المستهلكة التي غذتها قرون من العمل المسرحي، قد وجدت- لسوء الحظ- مكانا في السينما تأوي اليه وتستريح فيه. لقد سبق أن طرحت ملاحظاتي بشأن الدراما ومنطق السرد السينمائي. ولكي أكون أكثر تحديدا وأوضح بدقة ما اقصده، فإنه يجدر النظر للحظة الى مفهوم “الميزانسين” (تنسيق محتويات المشهد) لأنني أعتقد أنه في معالجة الميزانسين يكون الاقتراب الشكلي، المجدب، من معضلة التعبير أكثر جلاء. وإذا هيأنا أنفسنا لمهمة عقد مقارنة بين الميزانسين في الفيلم وفي رؤية الكاتب، فإن بضع أمثلة ستكون وافية لإظهار الى أي مدى تؤثر الشكلانية في اتجاه الفيلم.

البعض يميل الى الاعتقاد بأن الميزانسين الفعال هو ببساطة ذلك الذي يعبر عن فكرة وغاية المشهد (ايزنشتاين نفسه كان مؤيداً لهذه النظرة). وهذا من المفترض أن يضمن بأن المشهد سوف يُمنح العمق الذي يقتضيه المعنى. موقف كهذا يبدو تبسيطياً، وقد أدى الى نشوء تقاليد عديدة لا علاقة لها بجوهر السينما، والتي تمارس تخريبا للنسيج الحي للصورة الفنية.

كما نعلم، الميزانسين هو مخطط أو تصميم مؤلف من تنظيم وتوزيع الممثلين في اتصالهم مع بعضهم البعض ومع المحيط أو المنظر. في الحياة الواقعية يمكن أن تسحرنا الطريقة التي بها يتخذ حدث ما “ميزانسين” يفضي الى درجة تعبيرية قصوى. لدى رؤيتنا للحدث ربما نهتف في ابتهاج “انه شيء يفوق التصوّر ” لكن ما الذي نجده ملفتا للنظر الى هذا الحد؟ انه تنافر “التكوين” في اتصاله مع ما يحدث. في الواقع إنها لا معقولية الميزانسين التي تأسر مخيلتنا، لكن هذه اللا معقولية هي ظاهرية فحسب، إذ أنها تستر شيئا ذا دلالة كبيرة تمنح الميزانسين تلك الخاصية من الإقناع الكلي الذي يجعلنا نؤمن بالحدث.

ليس مفيداً تجنب العقبات وإنزال كل شيء الى مستوى تبسيطي، لذلك ينبغي على الميزانسين، بدلا من توضيح فكرة ما، أن يتبع الحياة والذاتية المميزة للشخصيات وحالتها السيكولوجية. لا يجب اختزال غايته الى مجرد توسيع معنى محادثة ما أو فعل ما. وظيفته هي أن تجعلنا نجفل إزاء مصداقية الأفعال وجمال وعمق الصور الفنية، وليس بالتوضيح المقحم للمعنى.

كما هو الحال غالبا، التوكيد المفرط على الأفكار يمكن أن يكبح خيال المتفرج، مكونا نوعا من سقف التفكير والذي وراء نطاقه لا يوجد غير خواء فاغر. إنه لا يصون تخوم التفكير، بل ببساطة يضاعف من صعوبة النفاذ الى أعماقه.

ليس عسيرا إيجاد الأمثلة، على المرء فقط أن يمعن النظر في الاسيجة والحواجز والنوافذ اللانهائية التي تفصل العشاق. ليس للميزانسين الحق في أن يتكرر تماماً مثلما لا يتشابه شخصان أبدا. حالما يتحول الميزانسين الى سمة، كليشيه، مفهوم (أيا كان نموذجه الأصلي) فإن كل شيء- الشخصيات، الأوضاع، الحالات السيكولوجية- يصبح عندئذ وهميا وزائفا.

تأمل خاتمة رواية دوستويفسكي “الأبله”. أي صدق غامر يتصل بالشخصيات والحالات. فيما يجلس روجوزين وميشكين على كرسيين، متلاصقين، في تلك الغرفة الواسعة، يذهلنا تركيب الميزانسين المتنافر، والذي لا معنى له، ظاهريا مع الصدق التام لحالتهما الباطنية. إن رفض إرهاق المشهد بأفكار مقحمة هو ما يجعل المشهد يفرض نفسه بقوة، تماماً كما الحياة نفسها. مع ذلك يُنظر الى الميزانسين المركب دون أية فكرة واضحة باعتباره شكلانيا.

في أحوال كثيرة، يكون المخرج نفسه مثقلاً بالزهو الى حد انه يفقد أي إحساس بالاعتدال، ويتجاهل المعنى الحقيقي للفعل الإنساني، محولا إياه الى وعاء للفكرة التي يريد أن يؤكدها. لكن على المرء أن يرصد الحياة مباشرة لا أن يكتفي بما هو عادي وزائف إكراما للتمثيل ولتعبيرية الشاشة.

لو طلبنا من أصدقائنا إخبارنا، على سبيل المثال، عن حالات الموت التي شهدوها بأنفسهم، فأنا واثق بأننا سوف نشعر بالذهول إزاء تفاصيل تلك المشاهد، والاستجابات الفردية للمعنيين بالأمر، والتعارض بينها جميعا. إن رفضي الشخصي للميزانسين القائم على التعبير الزائف، يجعلني أفكر في حادثتين سمعت عنهما، ولا يمكن أن يكونا مختلقين لأنهما يمثلان الحقيقة نفسها، وهذا ما يميزهما بحدة عما يعرف بـ”التفكير بالصور”.

مجموعة من الجنود يحكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص بتهمة الخيانة. إنهم ينتظرون تنفيذ الحكم بين البرك الصغيرة الآسنة عند سور مستشفى. كان ذلك في فصل الخريف. تصدر الأوامر بأن يخلعوا ستراتهم وأحذيتهم. أحدهم يقضي وقتا طويلا ماشيا بين البرك، مرتديا جواربه المليئة بالثقوب، باحثا عن موضع جاف يضع فيه السترة والجزمة. . أشياء سوف لن يعود بحاجة إليها بعد دقيقة.

الحادثة الأخرى: رجل تصطدم به شاحنة فتقطع ساقه. يحمله البعض ويسنده الى جدار منزل قريب. وبينما يجلس هناك منتظراً وصول سيارة الإسعاف، يشعر بنظرات الحشد الثاقبة والوقحة تحاصره. فجأة لا يستطيع الاحتمال أكثر، يخرج من جيبه منديلا ويضعه على الجزء المبتور من ساقه.

إنها بالطبع ليست مسالة جمع حوادث حقيقية من ذلك النوع الذي يروى في يوم ممطر، بل إننا نتحدث عما يعبّر بصدق عن حقيقة الشخصيات والحالات بعيدا عن الاحتكام السطحي الى التأويل”بالصور”. وللأسف فإن ثمة عوائق تنشأ في أي بحث نظري في هذا المجال بسبب غزارة التعبيرات والنعوت التي تساهم في حجب معنى ما يقال وتضاعف التشوش في المجال النظري.

الصورة الفنية الصادقة هي دائما مبنية على الارتباط العضوي بين الفكرة والشكل. إن أي إختلال بينهما سوف يحول دون إبداع الصورة الفنية، ذلك لأن العمل سوف يبقى خارج حقل الفن.

عندما شرعت في تحقيق فيلمي”طفولة إيفان”، لم تكن مثل هذه الأفكار واردة في الذهن، إنها تتجلى كنتيجة للعمل في الفيلم. والكثير مما هو واضح لي الآن، كان خارج متناول إدراكي وقت شروعي في تصوير الفيلم.

وجهة نظري ذاتية بالطبع، ولا بد أن تكون كذلك في الفن. الفنان في عمله يفكك الواقع داخل منشور بصيرته وإدراكه، ويستخدم تقنية خاصة به، ليظهر جوانب مختلفة من الواقع.

التأكيد على الرؤية الذاتية للفنان وإدراكه الخاص للعالم، لا يعني تقديم ذريعة للتعامل الاعتباطي أو الفوضوي، فالمسألة تتصل بالنظرة إلى العالم، وبالمُثُل والغايات الأخلاقية.

الروائع الفنية تولد من نضال الفنان للتعبير عن مثله الأخلاقية. هذه المثل، في الواقع، هي التي تشكل مفاهيمه وحساسياته. إذا كان يحب الحياة، ويشعر بحاجة غامرة لأن يعرفها ويغيرها ويجعلها في صورة أفضل، أي إذا كان يسعى إلى المساهمة في تعزيز قيمة الحياة، عندئذ لن تكون هناك خطورة في مرور صورة الواقع عبر “فلتر” مفاهيمه الذاتية نظرا لأن عمله سوف يكون دائما محاولة روحية تتوق إلى جعل الإنسان أكثر كمالا:صورة للعالم تأسرنا بتناغمها في الشعور والتفكير.

إذا كنت تقف على أرضية أخلاقية صلبة فلن تكون هناك حاجة لأن تجفل من حريتك العظيمة في اختيار الوسيلة. علاوة على ذلك، فإن تلك الحرية لا تحتاج بالضرورة أن تكون مقصورة على خطة واضحة ترغمك على اختيار منهج معين. يتعين عليك أيضاً أن تثق بالحلول التي تعرض نفسها بتلقائية، لكن لا ينبغي لهذه الحلول أن تكون مفرطة في التعقيد بحيث تنفر الجمهور. مع ذلك فإن هذا ليس شيئا يتعين تقديره بالتشاور بشأن ما يمكن حظره أو السماح به من وسائل في فيلمك، إنما يتم هذا من خلال التجربة المكتسبة عن طريق فحص الزوائد التي تسللت الى نتاجاتك الأولى والتي يجب إزالتها بشكل طبيعي فيما تواصل عملية الإنتاج.

صراحة، في تحقيق فيلمي الأول كان يحركني هدف آخر: أن أثبت لنفسي ما إذا كنت قادرا أن أكون مخرجا، ومن أجل التوصل الى نتيجة محددة فقد أرخيت العنان. . إن جاز التعبير. حاولت ألا أكبح نفسي. فكرت، إذا ظهر الفيلم في صورة جيدة ومرضية، فسيكون لي الحق في العمل في السينما. فيلمي”طفولة إيفان، إذن، كان مهما بشكل خاص. . كان امتحان قبول، وعلي أن أثبت كفاءتي وأهليتي. لكن هذا لا يعني أنني حققت الفيلم كنوع من التمرين غير المنظم، وأنني حاولت فحسب ألا أكبح نفسي. لقد اكتشفت ضرورة الاعتماد على ذوقي الخاص، والإيمان بأهلية وجدارة اختياراتي الجمالية.

على أساس تحقيق هذا الفيلم كان علي أن أثبّت وأوطّد ما يمكن الاعتماد عليه في العمل المقبل، وأتفادى ما لا يمكن أن يصمد أمام الاختبار.

الآن، بالطبع، أحمل رؤى مختلفة بشأن أشياء عديدة. لقد أصبح جليا أن القليل مما اكتشفته كان ينبض بالحياة حقا، ومنذ ذلك الحين تخليت عن الكثير من الاستنتاجات التي توصلت إليها آنذاك.

أثناء صنع الفيلم كان مفيدا لنا، نحن المشاركين، استنباط النسيج الأسلوبي للمواقع والمناظر الطبيعية، محولين الأجزاء التي تخلو من الحوار في السيناريو الى موقع محدد للمشاهد والأحداث. الكاتب بوجومولوف كان يصف المحيط والأوضاع ببراعة يحسد عليها. . براعة شخص شهد تلك الأحداث التي تشكل الأساس للقصة . أحد المبادئ المرشدة للمؤلف كان إعادة بناء كل الأماكن، بالتفصيل، كما لو رآها بعينيه.

النتيجة كانت تبدو لي متشظية وبلا حياة:شجيرات على الضفة التي يحتلها العدو، مخبأ جالتسيف ذو الدعامات المصفوفة، موقع الإسعاف الأولي للكتيبة، خط النار الموحش في موازاة ضفة النهر، الخنادق. كل هذه الأماكن مرسومة بدقة شديدة لكنها لم تكن ملائمة لما أريده، كما أنها لم تثر فيّ أحاسيس جمالية. تلك البيئة لم توقظ انفعالات وعواطف تتلاءم مع قصة إيفان الكاملة كما تخيلتها. لقد شعرت طوال الوقت بأنه لكي يكون الفيلم ناجحا فإن نسيج المشهد والمناظر الطبيعية يجب أن يملأني بذكريات محددة وتداعيات شعرية.

الآن، بعد أكثر من عشرين عاما، أنا – على نحو راسخ – مقتنع بشيء واحد:إذا استطاع المنظر المختار أن يحرك مشاعر المبدع، ويستحضر ذكرياته، ويقترح تداعيات، حتى وإن كانت ذاتية، فإن هذا بدوره سوف يؤثر في الجمهور ويحرك مشاعره.

الأحلام الأربعة، في فيلم ” إيفان”، كلها مبنية على أساس تداعيات خاصة تماما. الحلم الأول، على سبيل المثال، من بدايته الى نهايته، حتى هذه الجملة. . ”أمي، هناك وقواق”، نابع من ذكريات طفولتي المبكرة. كنت في الرابعة، حين بدأت للتو في التعرف على العالم من حولي.

بوجه عام، ذكريات الناس هي أثيرة بالنسبة لهم. وليس مصادفة أنها ملونة بالشعر. إن أجمل الذكريات هي تلك التي تنتسب الى الطفولة. الذاكرة، بالطبع، ينبغي أن تستثار قبل أن تصبح أساساً لإعادة البناء الفني للماضي. هنا من المهم عدم فقدان الجو العاطفي الخاص الذي بدونه لا تسبب الذكرى المستحضرة بكل تفاصيلها سوى الإحساس المرير بخيبة الأمل. ثمة اختلاف كبير، برغم كل شئ، بين الطريقة التي تتذكر بها البيت الذي ولدت فيه ولم تره لسنوات طويلة، والنظرة الفعلية للبيت بعد غياب مديد. عادة، شعرية الذاكرة تتعرض للتدمير عندما تجابه جذرها.

خطر لي آنذاك أنه من خاصيات الذاكرة يمكن أن ينشأ ويتجلى مبدأ عمل جديد، والذي عليه قد يُبنى فيلم مثير للاهتمام على نحو استثنائي. خارجيا، قد يلحق الاضطراب والتشوش بنمط الأحداث، وأفعال وسلوك البطل، ويكون الفيلم تعبيرا عن أفكار البطل وذكرياته وأحلامه. عندئذ، وبدون ظهور البطل تماما – على الأقل بالمعنى المسلم به للفيلم المكتوب على نحو تقليدي -سيكون ممكنا إنجاز شيء هام وذي دلالة: التعبير عن الشخصية الفردية للبطل والكشف عن عالمه الداخلي. هنا نجد صدى لصورة البطل الغنائي المتجسد في الأدب، وفي الشعر بطبيعة الحال. إنه غائب عن المشهد لكن ما يفكر فيه، وكيف يفكر فيه، يبني صورة له نابضة بالحياة ومحددة بوضوح. وهذا ما أصبح، فيما بعد، نقطة الانطلاق لفيلمي “المرآة “.

لكن الاتجاه الى هذا المنطق الشعري محفوف بالعداوة. المعارضة تنتظرك عند كل منعطف، على الرغم من حقيقة أن المبدأ المشار إليه هو شرعي تماما كما هو منطق الأدب أو الدراما. ذلك يحدث ببساطة لأن مكوّناً مختلفاً يصبح العنصر الرئيسي في البناء . إننا نتذكر هنا ما قاله هيرمان هيسه في أسى: متاح لك أن تكون شاعرا، لكن ليس مسموحا لك أن تصبح شاعرا. ”

أثناء العمل في ” طفولة إيفان” واجهنا احتجاجات كثيرة من السلطات المشرفة على إنتاج الفيلم كلما حاولنا أن نستبدل السببية السردية بمفاصل شعرية. مع ذلك كنا نتحرك بتردد وهدوء متلمسين طريقنا فحسب. لم يكن هناك مجال لتنقيح مبادئ العمل الأساسية لصنع الفيلم. وكلما أظهر البناء الدرامي أدنى علامة تشير الى نهوض شيء جديد، والتعامل مع الأساس المنطقي للحياة اليومية بحرية نسبيا، تعالت صيحات الاحتجاج وعدم الفهم. هذه الأصوات، في الغالب، تشير الى الجمهور وتتحدث نيابة عنه، قائلة بأن الجمهور يحتاج الى حبكة مكشوفة، واضحة وظاهرة للعيان، بلا انقطاع أو تغير مفاجئ في الاتجاه. وأن الجمهور غير قادر على متابعة الشاشة إذا لم يكن هناك خط قصصي قوي في الفيلم.

التباينات في فيلمنا – الانتقال من الأحلام إلى الواقع أو، عكسيا، من المشهد الأخير في السرداب الى يوم النصر في برلين – بدت غير مقبولة للكثيرين. لكنني شعرت بالسعادة حقا عندما علمت بأن الجمهور كان يفكر بشكل مختلف عن أولئك المسئولين.

هناك بعض المظاهر من الحياة الإنسانية لا يمكن تمثلها بأمانة إلا من خلال الشعر، لكن المخرجين غالبا ما يلجأون الى استخدام وسائل تحايل تقليدية، خرقاء، عوضا عن المنطق الشعري. أتكلم هنا عن التلاعبات البصرية والمؤثرات غير العادية في تصوير الأحلام والذكريات والتخيلات. الأحلام السينمائية تصبح في أحوال كثيرة مركبة من مجموعة من الحيل السينمائية البالية، ويكف الحلم أن يكون أحد ظواهر الحياة.

إزاء ضرورة تصوير الأحلام، علينا أن نقرر كيفية الاقتراب من شعرية الحلم الخاصة، كيف نعبر عنها، وبأي وسيلة. هذا شئ لا يمكن حسمه نظرياً. ففي بحثنا عن الإجابة، جربنا عدة احتمالات عملية، مستخدمين تداعيات وتخمينات غامضة. على نحو غير متوقع تماماً، خطر لنا أن نضع صورا سالبة في الحلم الثالث. لقد تخيلنا ضوء شمس يومض من خلال أشجار مكسوة بالثلج، ومطرا ينهمر متلألئا. إلتماعات البرق تدخل لتساعد تقنيا على الانتقال من الصورة الموجبة الى السالبة. لكن كل هذا خلق فحسب جواً من اللا واقع. ماذا عن المحتوى؟ ماذا عن منطق الحلم ؟ لقد تشكل ذلك من الذكريات. فقد تذكرت رؤيتي للعشب الندي، للشاحنة المحملة بالتفاح، للجياد المبللة بالمطر تحت أشعة الشمس. . هذه المادة جاءت من الحياة مباشرة لتجد طريقها الى الفيلم، وليس عبر فنون بصرية مجاورة. في بحثنا عن حلول بسيطة لمعضلة نقل لا واقعية الحلم، اكتشفنا بالمصادفة منظر الأشجار المتحركة في الصورة السالبة، وقبالة تلك الخلفية، نرى وجه الفتاة الصغيرة التي تعبر أمام الكاميرا ثلاث مرات، ومع كل ظهور لها تتغير تعبيرات وجهها. لقد أردنا أن نأسر في ذلك المشهد تنبوء الصبية بالمأساة الوشيكة. أما المشهد الأخير للحلم فقد كان مصورا على نحو مقصود بالقرب من المياه، على الشاطئ، من اجل ربطه بحلم إيفان الأخير.

رجوعا إلى مسألة اختيار الموقع، ينبغي القول أن إخفاقاتنا تكمن بالضبط في تلك المواضع من الفيلم حيث التداعيات، التي اقترحها اختبار أماكن معينة، كانت بفعل جزء من الحكاية أو نتيجة إتباع السيناريو بخنوع. ذلك ما حدث لمشهد الرجل العجوز المجنون والمبنى المتهدم المحترق. لا أعنى هنا محتوى المشهد إنما تحققه التشكيلي. في البداية كان المشهد متخيلا بشكل مختلف. لقد تصورنا حقلا مهجورا، مغمورا بالأمطار، يشقه طريق موحل ومشبع بالمياه، وعلى جانبي الطريق تنتصب أشجار الصفصاف الخريفية الشاحبة. لم يكن هناك مبنى محترق. فقط بعيدا في الأفق تنتصب مدخنة منعزلة. كان لابد من وجود إحساس بالوحدة يغمر كل ذلك. بقرة ضامرة كانت مشدودة الى العربة التي تحمل إيفان والعجوز المجنون. الديك كان جاثما على أرضية العربة، وثمة أشياء ثقيلة مغطاة بحصيرة وسخة. عندما تأتي سيارة الكولونيل، يركض إيفان هاربا عبر الحقل، متجها نحو الأفق، ويضطر خولين الى أن يقضي وقتا طويلا في مطاردته، وهو بالكاد ينجح في جذب جزمته من الوحل العالق. العجوز يبقى وحده. الريح ترفع حاشية الحصيرة في العربة لتظهر محراثا صدئا. كان يتعين تصوير المشهد في لقطات عامة وبطيئة بحيث يمتلك المشهد إيقاعا مختلفا تماما.

أنا لم أستقر على الخيار الآخر بسبب قوته التأثيرية. كل ما حدث انه كان هناك خياران للمشهد، ولم أدرك إلا في وقت متأخر إنني قد اخترت أقلهما جودة.

هناك مشاهد أخرى في الفيلم غير موفقة من النوع الذي ينشأ عادة حين لا تتوفر لحظة الإدراك لخالق العمل وبالتالي يفتقدها الجمهور أيضا. لقد تحدثت عن هذا سابقا فيما يتصل بشعرية الذاكرة. المثال على ذلك هو اللقطة التي فيها يسير إيفان عبر أرتال من الجنود ومركبات الجيش، وذلك عندما يهرب لينضم الى الأنصار (المقاومة). المشهد لا يوقظ في أي مشاعر، والجمهور كذلك لا يستطيع أن يختبر أي استجابة. وللسبب ذاته نجد بأن المحادثة بين إيفان والكولونيل في محطة الاستطلاع هي موفقة الى حدٍ ما. إن الموقع الداخلي محايد على الرغم من ديناميكية الاستثارة لدى الصبي. فقط اللقطة المتوسطة للجنود وهم يعملون أسفل النافذة تحمل عنصر الحياة ، وتصبح مادة للتداعيات ، للفكر الذي يتخطى ما هو معلن.

مشاهد كهذه، والتي لا تتضمن معنى متأصلا، والتي اخفق المؤلف في إضاءتها، تتطفل كشيء غريب ومغاير. هذه المشاهد تنفصل عن الشكل التركيبي للفيلم.

كل هذا يبرهن من جديد أن السينما، مثل أي فن آخر، هي من خلق مبدع الفيلم. ما يمكن أن يحصل عليه المخرج من زملائه أثناء تصوير العمل معا هو ثمين للغاية، مع ذلك فإن تصور المخرج وحده هو الذي في النهاية يعطي الفيلم تلك الوحدة والانسجام. إن ما يبقى من رؤية المبدع الذاتية هو فقط الذي سوف يصبح مادة الفن، وسوف يشكل ذلك العالم المميز والمركب، الذي يعكس صورة صادقة للواقع. من الطبيعي أن وضع المبدع الفريد والاستثنائي لا يقلل من القيمة الهائلة لمساهمات كل أفراد الفريق الفني. لكن حتى في هذا الاعتماد المتبادل فإن أفكار الآخرين لا تعزز العمل حقا إلا عندما يعرف المخرج كيف يختار من بين تلك الأفكار، وإلا فإن الوحدة الكلية للعمل سوف تتعرض للهدم.

النصيب الأكبر من مسؤولية نجاح فيلمنا يعود الى الممثلين، خصوصا كوليا بيرليافيف، فاليا ماليافينا، زينيا زاريكوف، فالنتين زوبكوف. . والعديد منهم لم يسبق لهم الظهور على الشاشة، لكنهم أدوا أدوارهم بجدية تامة.

لقد لفت نظري كوليا، الذي أدى دور إيفان، عندما كنت أدرس في المعهد. ولا أبالغ حين أقول بأن تعرفي عليه هو الذي حملني على اتخاذ قرار حاسم بشأن تصوير الفيلم. إن تحديد موعد نهائي صارم للتصوير قد حال دون أي بحث جاد عن ممثل يؤدي دور إيفان، وقد كنت مقيدا بميزانية محددة لأن فريقاً مختلفا قد باشر العمل في الفيلم على نحو غير مرض، وكان علينا العمل من جديد وبطريقة مغايرة. من جهة أخرى، كان علي أن أضمن مشاركة عناصر إبداعية أخرى لتحقيق الفيلم مثل المصور فاديم يوسوف، مؤلف الموسيقى فياشيسلاف أوفشينيكوف، ومصمم المناظر إيفجيني شيرنا ياييف. . هؤلاء جعلوني أواصل تصوير الفيلم بعزم وعناد.

كل ما يتصل بالممثلة فاليا ماليافينا كان متعارضا مع وصف الكاتب بوجومولوف للممرضة. في القصة هي فتاة سمينة، شقراء، ذات صدر ناهد وعينين زرقاوين. فاليا كانت نقيض تلك الصورة: فهي ذات شعر أسود، وعينين بلون البندق، وجذع صبياني. مع ذلك، كانت تمتلك شيئا خاصا، أصيلا، غير متوقع، والذي لم يكن موجودا في القصة. وهذا كان مهما أكثر، مركبا أكثر، ويمكن أن يفسر الكثير بشأن الشخصية.

أن نواة شخصية فاليا هي حساسيتها العالية وافتقارها الى الحصانة. إنها تبدو ساذجة، نقية، تثق بالآخرين، الى حد أنه كان جليا على الفور بأن ماشا (الممرضة) هي بلا دفاع وبلا حماية إزاء هذه الحرب التي لا علاقة لها بها. الحساسية وعدم حصانتها هي الحقيقة الأساسية لطبيعتها ولعمرها. كل ما هو عملي وفعال بشأنها، كل ما ينبغي أن يقرر موقفها من الحياة، كان لا يزال في حالة جنينية. هذا أتاح للعلاقة بينها وبين الكابتن خولين أن تنشأ وتتعزّز على نحو طبيعي لأن الكابتن كان أعزل أمام افتقارها الى الحصانة. والممثل زوبكوف، الذي أدى دور خولين، وجد نفسه معتمدا كليا على شريكته، بينما كان يمكن لسلوكه أن يبدو متكلفا لو كانت شريكته ممثلة أخرى غير فاليا.

هذه الملاحظات لا ينبغي أن تؤخذ كمنطق للفيلم. إنها مجرد محاولة لأن أفسر لنفسي الأفكار التي خطرت لي أثناء تحقيق الفيلم، وكيف أن هذه شكلت نفسها في نظام معين. إن تجربة العمل في فيلم “إيفان” ساعدتني على صياغة رؤاي التي تعززت لاحقا بكتابة سيناريو عن حياة أندريه روبليوف، والذي أنهيته في العام 1967.

بعد كتابة هذا السيناريو، كنت مرتابا جدا بشأن إمكانية إنتاج الفيلم. على أية حال، كنت متيقنا أنه لن يكون عملا تاريخيا أو سيرة ذاتية لفنان. كنت معنياً بشيء آخر: أن أستقصي طبيعة النبوغ الشعري للرسام الروسي العظيم.

لقد أردت أن أستخدم روبليوف كنموذج لسبر واستكشاف مسالة سيكولوجية الإبداع الفني، وأحلل ذهنية ووعي فنان أبدع كنوزا روحية ذات أهمية خالدة.

كان على الفيلم أن يُظهر كيف أن التوق القومي الى الإخاء، في زمن القتال الوحشي المهلك والاستعباد التتاري، قد أنتج رائعة روبليوف “الثالوث الأقدس” والتي تلخص المثل الأعلى للإخاء والحب والطهارة. ذلك كان الأساس الفني والفلسفي للسيناريو.

العمل كان مكتوبا في أجزاء منفصلة، كحكايات قصيرة، لا يظهر فيها روبليوف دائما، لكن حتى عندما لا يكون حاضراً فإن من الضروري إدراك الحياة التي عاشتها روحه، لابد من تنفس الجو الذي شكل علاقاته بالعالم. هذه الحكايات ليست متصلة بخط كرونولوجي (مرتب زمنيا) تقليدي، بل بواسطة المنطق الشعري الذي تستدعيه حاجة روبليوف لأن يرسم عمله الشهير “الثالوث الأقدس”. الأجزاء، المستقلة كل منها بحبكتها وموضوعها الخاص، تستمد وحدتها من ذلك المنطق. إنها تتنامي في تفاعلها مع بعضها البعض، عبر التعارض الداخلي المتأصل في المنطق الشعري لتعاقب هذه الأجزاء في السيناريو: ضرب من التجلي البصري لتناقضات وتعقيدات الحياة والخلق الفني.

فيما يتعلق بالجانب التاريخي، أردنا أن نحقق الفيلم كما لو نتعامل مع الجانب المعاصر. بالتالي كان لابد من جعل الوقائع التاريخية، والناس، ونتاجات الإنسان، تبدو مرئية ليس كمواد تذكارية، إنما كأشياء حية، تتنفس، حتى في يومنا. لم نكن نرغب في النظر إلى الأثاث والأزياء والأدوات بعين مؤرخ أو عالم آثار أو عالم بالأعراق البشرية. على الكرسي أن يكون صالحا للاستعمال، شيئا يُجلس عليه، وليس تحفة نادرة. وكان على الممثلين أن يؤدوا الشخصيات بعد فهم عميق لها، وبإحساس من يتعامل مع شخصيات معاشة الآن. أردنا أن نتخلص نهائيا وعلى نحو حاسم من تقاليد التراجيديات التي عادة يتسلقها الممثل بمشقة في الفيلم التاريخي، والتي تتحول تدريجيا، وعلى نحو غير مدرك، الى ركائز. لقد شعرت بأن كل هذا كان أساسياً من أجل الوصول الى نتائج أفضل.

كنت مصمما على تحقيق هذا الفيلم مع الفريق ذاته الذي تعاون معي من قبل وكافح معي: المصور يوسوف، مهندس المناظر شيرناييف، والمؤلف الموسيقي أوفشينيكوف.

سوف أختتم هذا الفصل بإفشاء الغرض السري للكتاب: رجائي أن يصبح أولئك القراء الذين نجحت في إقناعهم، إن لم يكن كليا فعلى الأقل جزئيا، أرواحا شقيقة لروحي، حتى لو فقط في إدراك حقيقة أني لا أخفي أسرارا عنهم.

 

***

 

الفصل الثاني:

الفن. . التوق إلى المثال

 

قبل الذهاب الى المعضلات الخاصة بطبيعة الفن السينمائي، أشعر أن من المهم تحديد فهمي للهدف الجوهري للفن في حد ذاته. لماذا يوجد الفن ؟ من يحتاجه ؟ وهل يحتاجه أحد بالفعل ؟ هذه أسئلة لا يطرحها الشاعر فحسب ، بل أيضا أي فرد يقدّر الفن ويدرك قيمته. . وحتى “المستهلك”، وفق التعبير الشائع الدال على العلاقة المعاصرة بين الفن وجمهوره.

الكثيرون يطرحون على أنفسهم تلك الأسئلة، وكل فرد متصل بالفن يقدم إجابته المستقلة الخاصة. الشاعر ألكسندر بلوك قال ” الشاعر يخلق التناغم من حالة الفوضى”. وبوشكين آمن بأن الشاعر موهوب بالنبوءة.

كل فنان محكوم بقوانينه الخاصة، لكن هذه القوانين ليست إلزامية أبدا لأي شخص آخر.

على أية حال، من الواضح تماما أن غاية الفنون كافة (إلا إذا كانت بالطبع موجهة إلى المستهلك مثل أية سلعة صالحة للبيع) هي أن تفسر للفنان نفسه، ولأولئك المحيطين به، معنى وجوده وما يعيش الإنسان لأجله ودفاعا عنه. أن تفسر للناس سبب ظهورهم على هذا الكوكب، وإذا كان التفسير أمرا غير وارد، فعلى الأقل أن تطرح الأسئلة.

انطلاقا من الرأي الأكثر شيوعا، يجدر القول أن الوظيفة العملية للفن تكمن، بلا جدال، في فكرة “المعرفة”، حيث يتجسد التأثير كصدمة، كتطهير.

منذ اللحظة الأولى، عندما أكلت حواء التفاحة من شجرة المعرفة، والجنس البشري محكوم عليه بأن يناضل، على نحو لا نهائي، في سبيل امتلاك الحقيقة. في بادئ الأمر، كما نعلم، اكتشف آدم وحواء أنهما عاريان فشعرا بالخجل. الخجل كان نابعاً من الفهم. عندئذ شرعا في التوجه نحو طريق المعرفة، معرفة أحدهما للآخر، المعرفة المفعمة بالبهجة. تلك كانت بداية الرحلة التي لا نهاية لها. وبوسع المرء أن يدرك مدى درامية تلك اللحظة بالنسبة لكائنين انبثقا للتو من حالة الجهالة ليجدا نفسيهما منفيين في أرض شاسعة، عدائية، ومتعذر تفسيرها. “بعرق جبينك سوف تحصل على خبزك. ”
ذلك هو الإنسان، تاج الطبيعة، الذي جاء الى الأرض من أجل أن “يعرف” سبب مجيئه أو سبب إرساله. هذا الارتقاء سمي بالنشوء. وقد كان مصحوبا بوجع معرفة الذات.

بالمعنى الحقيقي، كل فرد يختبر لنفسه عملية معرفة الذات فيما هو يتوصل إلى معرفة الحياة ونفسه وأهدافه. بالطبع، كل شخص يستفيد من خلاصة المعرفة المتراكمة من قبل الجنس البشري، لكن مع ذلك فإن تجربة معرفة الذات الأخلاقية والمعنوية هي الغاية الوحيدة في الحياة لكل فرد. وذاتيا، هي مختبرة في كل مرة بوصفها شيئا جديدا . إن الإنسان يقيم، المرة تلو الأخرى، علاقة متبادلة بين نفسه والعالم، ويرهقه التوق الى إحراز، والتوحد مع، المثال الذي يكمن خارجه، والذي يفهمه كضرب من المبدأ الأول المدرك بالحدس. إن استحالة إحراز أو تحقيق ذلك التوحد، وعدم كفاية”أناه” الخاصة، هو المصدر الدائم لشعور الإنسان بالألم وعدم الإشباع.

هكذا فإن الفن، مثل العلم، وسيلة لاستيعاب العالم، واسطة لمعرفة العالم، أثناء رحلة الإنسان نحو ما يسمى “الحقيقة المطلقة”. من جهة أخرى، ذلك يشكل نهاية أي تماثل بين هذين التجسيدين (الفن والعلم) للروح الإنسانية الخلاقة، التي فيها الإنسان لا يكتشف فحسب، بل يخلق. ومن المهم هنا ملاحظة التباعد، والاختلاف في المبدأ، بين هذين الشكلين من أشكال المعرفة: العلمية والجمالية.

بواسطة الفن، يسيطر الإنسان على الواقع من خلال التجربة الذاتية. في العلم، معرفة الإنسان للعالم تتجه صاعدة سلّماً لا نهائيا، وهي تُستبدل، على نحو متوال، بمعرفة جديدة، حيث كل اكتشاف غالبا ما يدحضه اكتشاف آخر من اجل بلوغ حقيقة موضوعية خاصة.

الاكتشاف الفني يحدث في كل مرة باعتباره صورة جديدة وفريدة للعالم، وتصورا مبهما للحقيقة المطلقة. إنه يظهر ككشف، كأمنية خاطفة ومتقدة للسيطرة حدسيا على كل قوانين هذا العالم: جماله وقبحه، وداعته وقسوته، لا تناهيه ومحدوديته.

الفنان يعبّر عن هذه الأشياء بخلق الصورة الكاشفة عن الجوهري، عن المطلق. من خلال الصورة يتعزز الوعي باللا متناهي: السرمدي ضمن النهائي، الروحاني ضمن المادة، واللا محدود يكتسب شكلا.

يمكن القول أن الفن رمز للكون، نظرا لأنه متصل بتلك الحقيقة الروحية المطلقة، المتوارية عنا في أنشطتنا الوضعية والذرائعية.

من اجل أن يكون الفرد مشاركا في أي نظام علمي، يتعين عليه أن يستفيد من عمليات التفكير المنطقية، وان يحرز فهما. . هذا الفهم الذي يقتضي، كنقطة انطلاق، نوعا خاصا من التعليم. أما الفن فيخاطب كل فرد على أمل أن يخلق انطباعا، أن يكون محسوسا، أن يسبب صدمة عاطفية، أن يكون مقبولا، أن يستهوي الناس ليس عن طريق البرهان العقلاني الذي لا جدال فيه، أنما من خلال الطاقة الروحية التي بها يشحن الفنان عمله.

الفن يولد ويرسخ حيثما يكون هناك توق نهم وأزلي إلى ما هو روحي، إلى المثال: ذلك التوق الذي يجتذب الناس الى الفن. والفن الحديث قد اتخذ اتجاها خاطئا عندما تخلى عن البحث عن معنى الوجود في سبيل توكيد قيمة الفرد لمصلحته الخاصة. لكن الذاتية، في الإبداع الفني، لا تفرض نفسها، بل تخدم فكرة أخرى أكثر سموا ومشاعية. الفنان خادم دائما، وهو على الدوام يحاول أن يدفع ثمن الموهبة الممنوحة له كما لو بفعل معجزة ما. من جهة أخرى، الإنسان المعاصر لا يريد أن يقوم بأية تضحية، رغم أن التوكيد الحقيقي للذات لا يمكن التعبير عنه إلا في التضحية. نحن نتغاضى عن ذلك شيئا فشيئا، وفي الوقت نفسه، وعلى نحو محتوم، نفقد كل إحساس بحاجتنا الإنسانية.

حين أتكلم عن التوق الى ما هو جميل، عن المثال كغاية أساسية للفن، والذي ينمو من الاشتياق الى ذلك المثال، فإنني لا أوحي على الإطلاق بوجوب أن ينأى الفن بنفسه عن “قذارة” العالم. على العكس تماماً، فالصورة الفنية هي دائما كناية، حيث يستعاض عن الشيء بشيء آخر. للكشف عن ما هو حي، يستخدم الفنان شيئا ميتا، وللحديث عن اللا متناهي، يعرض المحدود والمتناهي. ليس ممكنا تحويل اللا متناهي الى مادة، لكن بالإمكان خلق الوهم باللا متناهي: الصورة.

البشاعة والجمال متضمنان داخل بعضهما البعض. هذا التناقض الظاهري، الاستثنائي والمدهش، بكل لا معقوليته، ينشط الحياة نفسها، وفي الفن يحقق تلك الوحدة الكلية التي فيها يتحد التناسق والتوتر. الصورة تجعل الوحدة محسوسة وفيها تتجاور عناصر مختلفة ومتنوعة، وتتصل بعضها ببعض. بإمكان المرء أن يتحدث عن فكرة الصورة، أن يصف بالكلمات جوهرها، لكن وصفا كهذا سوف لن يكون وافيا بالمراد أبدا. الصورة يمكن خلقها، يمكن أن تجعل نفسها محسوسة، أن تكون مقبولة أو مرفوضة، لكن لاشيء من هذا يمكن أن يكون مفهوما بأي حس عقلي. فكرة اللا تناهي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات أو حتى بالوصف، لكن يمكن أن تكون مدركة من خلال الفن الذي يجعل اللا متناهي ملموسا. المطلق لا يمكن إحرازه أو بلوغه إلا عبر الإيمان وفي الفعل الإبداعي.

الشرط الوحيد للنضال من أجل حقك في الخلق هو الإيمان بمهمتك، الاستعداد لأن تخدم، ورفض التسوية. الإبداع الفني يقتضي من الفنان أن “يفنى” بكل ما تحمله هذه الكلمة من حس مأساوي. وبالتالي، إذا كان الفن يحمل في داخله تصورا مبهما عن الحقيقة المطلقة فإن هذا سوف يكون دائما صورة للعالم والتي تتجلى في العمل. وإذا كانت المعرفة العلمية الوضعية، الباردة، للعالم أشبه بصعود سلّم لانهائي، فإن المعرفة الفنية تقترح منظومة لا نهائية من العوالم التي قد يتمم أحدها الآخر أو يتناقض معه لكن لا يمكن، في أي ظرف، أن يلغي بعضه البعض، بل على العكس تماما، كل عالم يثري الآخر ويتجمع ليشكل كونا متعانقا ينمو في اللا تناهي.

الاتصال هو الوظيفة الرئيسية للفن نظرا لأن الفهم المشترك يمثل قوة قادرة على توحيد الناس، وروح المشاركة هي واحدة من أكثر المظاهر أهمية في الإبداع الفني.

الأعمال الفنية، بخلاف الأعمال العلمية، لا تملك أهدافا عملية بأي حس مادي. الفن لغة سامية تساعد الناس على تحقيق الاتصال فيما بينهم، وتفصح عن معلومات بشأن ذواتهم، كما تساعدهم على استيعاب أو تمثل تجارب الآخرين. مرة أخرى، ليس لهذا علاقة بالميزة العملية بل بادراك فكرة الحب، والذي معناه يوجد في التضحية: النقيض الفعلي للذرائعية.

شخصياً لا أستطيع أن أصدق بأن الفنان يعمل بقصد “التعبير عن الذات” فقط، فمثل هذا التعبير يصبح بلا معنى ما لم يلق استجابة من الآخرين. إن خلق رباط روحي مع الآخرين عملية موجعة ولا تحقق ربحا عمليا لأنها، جوهريا، فعل تضحية، لكنها يقينا لا يمكن أن تكون جديرة بالمحاولة إذا كان القصد فقط أن يستمع المرء الى صداه الخاص.

الحدس، بالطبع، يلعب دورا في العلم كما في الفن، وهذا ربما يكون عنصرا مشتركا في هذين الشكلين المتباينين من أشكال السيطرة على الواقع. مع ذلك، وبالرغم من أهميته الكبرى في كلتا الحالتين، فإن الحدس في الإبداع الشعري يختلف جوهريا عنه في البحث العلمي.

وبالمثل، فإن عبارة “الفهم” تعني أشياء مختلفة تماما في هذين الحقلين من حقول النشاط الخلاق. الفهم بالمعنى العلمي يعني الاتفاق على المستوى العقلي والمنطقي. إنه فعل عقلاني مماثل لعملية إثبات نظرية ما. أما فهم الصورة الفنية فيعني القبول الجمالي على المستوى العاطفي، أو حتى مستوى ما وراء العاطفة.

حدس العلماء، حتى وإن كان أشبه بإشراق أو إلهام، سوف يظل دائما شفرة تمثل استدلالا منطقيا. ومع أن الاكتشاف العلمي قد يبدو ثمرة إلهام، إلا أنه الإلهام الذي يختلف كليا عن إلهام الشاعر.

العملية التجريبية المتصلة بالإدراك العقلي لا تستطيع أن تفسر كيفية نشوء الصورة الفنية، التي هي فريدة، كلية ولا تتجزأ، متخلقة وموجودة على مستوى آخر غير مستوى الفكر. إنها مسألة اتفاق على المصطلحات الفنية.

في العلم، في لحظة الاكتشاف، يستعاض عن المنطق بالحدس. في الفن، كما في الدين، الحدس معادل للإقتناع، للإيمان. إنه حالة ذهنية وليس طريقة في التفكير. العلم تجريبي، في حين أن مفهوم الصور محكوم بفعالية الكشف أو الإلهام. إنها مسألة إلتماعات مفاجئة. . أشبه برقائق تنحدر من الأعين ، ليس في ما يتصل بالأجزاء بل بالكل ، باللا متناهي ، بما لا يتفق مع التفكير الواعي.

الفن لا يفكر على نحو منطقي، أو يصوغ منطقا للسلوك. إنه يعبّر عن تسليمه بالإيمان كمبدأ أساسي. إذا كان ممكنا، في العلم، أن تقيم الدليل على صحة قضية أو حجة شخص ما وتبرهنها منطقيا إلى خصومه، ففي الفن يستحيل إقناع أي شخص بأنك على حق إذا شعر بالفتور واللامبالاة إزاء الصور الفنية التي خلقتها، وإذا أخفقت هذه الصور في استمالته بحقيقة مكتشفة بطريقة جديدة عن العالم والإنسان، وإذا شعر هو، وجها لوجه مع العمل، بالضجر.

إذا أخذنا ليف تولستوي كمثال_خصوصا تلك الأعمال التي كان فيها عازما بوضوح على استقصاء تعبير دقيق ومنظم تماماً لأفكاره وايحاءاته الأخلاقية- فسوف نلاحظ بأن الصورة الفنية التي خلقها تعمل، في كل مرة، على تنحية تخومها الإيديولوجية جانبا، وترفض أن تنسجم مع البنية المفروض عليها من قبل مؤلفها. الصورة تتنازع مع هذه التخوم، حتى أنها أحيانا، وبحس شعري، تناقض نظامها المنطقي الخاص. والتحفة الفنية تستمر في العيش وفق قوانينها الخاصة، وتمارس تأثيرا عاطفيا وجماليا هائلا حتى عندما لا نتفق مع معتقدات المؤلف الجوهرية. ويحدث، في أحوال كثيرة، أن العمل الفني الرائع يولد من محاولات الفنان لقهر نقاط ضعفه، وهذا لا يعني التغلب على نقاط الضعف تلك وإقصاءها، ذلك لأن العمل الفني يوجد ويحيا على الرغم منها.

الفنان يفشي عالمه لنا، ويرغمنا على أن نؤمن بعالمه أو نرفضه لأنه غير مقنع ولا علاقة لنا به. في إبداعه للصورة، الفنان يقلل من أهمية تفكيره الخاص، والذي يصبح بلا شأن إزاء تلك الصورة للعالم، المدركة عاطفياً، والتي ظهرت أمامه مثل وحي. ذلك لأن التفكير وجيز بينما الصورة مطلقة. في حالة شخص متفتح روحيا، يكون ممكنا الحديث عن التشابه الجزئي بين التأثير الذي يحدثه العمل الفني وتأثير التجربة الدينية. الفن، قبل كل شيء، يمارس تأثيرا على النفس، ويشكل البنية الروحية.

للشاعر مخيلة ونفسية طفل، نظرا لأن انطباعاته عن العالم هي فورية ومباشرة، مهما كانت أفكاره بشأن العالم عميقة ومستعصية على الفهم. وبالطبع، يمكن القول بأن الطفل، أيضا، فيلسوف. . لكن فقط بالحس النسبي. والفن يتحدى المفاهيم الفلسفية. الشاعر لا يصف العالم، ذلك لأن له دور في خلقه.

لا يمكن للشخص أن يكون حساسا وسريع التأثر بالفن إلا حين يكون راغبا وقادرا على الثقة بالفنان وعلى تصديقه. لكن كم هو شاق وموجع أحيانا عبور عتبة اللا فهم الذي يفصلنا عن الصورة الشعرية. وبالطريقة ذاتها تماما، لأجل إيمان حقيقي بالله، أو حتى لأجل الشعور بالحاجة الى ذلك الإيمان، يتعين على المرء أن يمتلك إمكانية روحية خاصة.

بهذا الصدد، تنبثق من الذاكرة تلك المحادثة بين ستافروجين وشاتوف في رواية دوستويفسكي”الممسوسون”:

(سأله وهو ينظر اليه متجهما وصارما:”لقد أردت أن أعرف فحسب… هل أنت تؤمن بالله أم لا تؤمن؟”

وشاتوف يبدأ في الغمغمة بيأس:

“أنا أؤمن بروسيا والارثوذكسية الروسية.. أؤمن بجسد المسيح.. أؤمن أن المجئ الثاني للمسيح سيحدث في روسيا.. أؤمن…..”

“وبالله ؟ هل تؤمن بالله؟”

” أنا……. سوف أؤمن بالله؟”)

ما الذي يمكن أن نضيفه هنا ؟ إنه استبصار رائع في الحالة المضطربة والمشوشة للروح، ذبولها وعدم كفايتها. . أعراض ستصبح كائنة ودائمة في الإنسان المعاصر، والذي يمكن تشخيصه بوصفه عاجزا روحيا.

الجمال محجوب عن أعين أولئك الذين لا يبحثون عن الحقيقة. لكن الافتقار العميق الى القيم الروحية عند أولئك الذين يرون الفن فيشجبونه، وواقع إنهم غير راغبين ولا مستعدين لتأمل معنى وهدف وجودهم بأي حس جدي، غالبا ما يكون مستترا أو متقنعاً بتلك الصيحة التبسيطية على نحو مبتذل والتي يواجهون بها العمل الفني: ” أنا لا أحبه” أو ” إنه مضجر”.

وهذا ليس موضوعاً جديراً بالنقاش والجدل، إنما هو أشبه بكلام يلفظه رجل ولد كفيفا عندما يتحدثون إليه عن قوس قزح. إنه ببساطة يرفض الإصغاء إلى الألم الذي عاناه وتحمله الفنان في سبيل أن يشاطر الآخرين الحقيقة التي توصل إليها.

لكن ما هي الحقيقة؟

أعتقد أن احد المظاهر الأكثر إثارة للأسى في زمننا هو التدمير الشامل، في وعي الناس، لكل ما ينسجم مع الحس الواعي بالجمال. الثقافة الجماهيرية المعاصرة، الموجهة إلى “المستهلك”، حضارة الجراحة الترقيعية، تشل أرواح الناس وتقيم حواجز بين الإنسان والأسئلة الحاسمة بشأن وجوده ووعيه بذاته ككائن روحي. لكن الفنان لا يستطيع أن يسد أذنيه أمام نداء الحقيقة. هي وحدها تحدّد إرادته الخلاقة، تنظمها، وبالتالي تساعده على تمرير إيمانه إلى الآخرين. الفنان الذي يفتقر إلى الإيمان هو أشبه بالرسام الذي وُلد كفيفاً.

من الخطأ التحدث عن الفنان بوصفه “باحثاً عن” الموضوع. في الواقع، الموضوع ينمو بداخله مثل ثمرة، ويبدأ في المطالبة بالتعبير عنه أو صياغته. . ذلك أشبه بولادة طفل.

ليس لدى الشاعر ما يفتخر به: فهو ليس سيد الوضع، بل خادم. العمل الإبداعي هو الشكل الممكن الوحيد لوجوده، وكل عمل له أشبه بمأثرة لا سلطة له عليها فلا يستطيع إبطالها أو إلغاءها. ولكي يدرك بأن تعاقب مثل هذه المآثر مناسب وصائب، وبأن ذلك يكمن في طبيعة الأشياء، يتعين عليه أن يؤمن بالفكرة، ذلك لأن الإيمان وحده هو الذي يوشج نظام الصور (أو بالأحرى. . نظام الحياة).

وما هي لحظات الإشراق إن لم تكن الحقيقة المحسوسة كل لحظة ؟

إن معنى الحقيقة الدينية هو الأمل. الفلسفة تنشد الحقيقة، محددة معنى النشاط الإنساني، وحدود العقل البشري، ومعنى الوجود، حتى عندما يتوصل الفيلسوف الى استنتاج بأن الوجود بلا معنى وأن المسعى الإنساني عبث وغير ذي جدوى.

إن وظيفة الفن لا تكمن، كما يفترض غالبا، في ترجمة الأفكار بنجاح، أو نشر الفكر، أو تقديم العبرة والمثال، بل أن هدف الفن هو تهيئة الفرد للموت، حرث روحه وتمهيدها، وجعلها قادرة على التوجه إلى الخير.

الفرد، عندما تحرك مشاعره رائعة فنية، فإنه يسمع في داخله نداء الحقيقة ذاته الذي حث الفنان على تحقيق الفعل الخلاق. حين يتأسس الرابط بين العمل والمتلقى، فإن هذا الأخير يختبر صدمة كبيرة ومطهرة. ضمن تلك الهالة التي توحد الروائع الفنية والجمهور، نبدأ في التعرف على الجوانب الأفضل من أنفسنا، والتي نتمنى لها أن تتحرر.

في تلك اللحظات نحن نتعرف على أنفسنا ونكتشفها، نكتشف أعماق الكامن فينا والتي لا يُسبر غورها، وتلك المراكز الأبعد من أحاسيسنا.

باستثناء العبارات الأكثر شيوعا فيما يتصل بالإحساس، بالتناغم، فإننا نجد مشقة في التحدث عن عمل عظيم، كما لو أن هناك جهاز قياس ثابت لتعيين التحف الفنية وتمييزها أو فرزها من بين الظواهر المحيطة. علاوة على ذلك، فإن قيمة العمل الفني هي نسبية من وجهة نظر أولئك الذين يكنون له التقدير. التحفة الفنية هي محاكمة عقلية للواقع، منتهية ومكتملة، وبارتكاز على ذلك الواقع. إن قيمتها تكمن في إعطاء تعبير كلي للشخصية الإنسانية في تفاعل مع الروح. غالبا ما يُعتقد بأن دلالة العمل الفني سوف تكون جلية عن طريق إحداث اتصال مباشر بينه وبين المجتمع. قد يكون هذا صحيحا من الوجهة العامة لكن التناقض الظاهري يكمن في أن العمل الفني يصبح معتمدا كليا على أولئك الذين يتلقونه، أولئك القادرين على الإحساس به، بتلك الخيوط التي تربط بين العمل والعالم ككل أولاً، وبين العمل والذات الإنسانية في علاقتها بالواقع ثانيا. غوته كان محقا تماماً حين قال بأن “مشقة قراءة كتاب جيد تضاهي مشقة كتابته”. إنه ليس من المفيد تصور أن وجهة نظر المرء وتقييمه الخاص يتخذ صفة الموضوعية. من خلال تنوع التأويلات الشخصية فقط ينشأ نوع من التقييم الموضوعي نسبيا. إن الترتيب الهرمي للجدارة التي تتخذها الأعمال الفنية في نظر العامة، الأكثرية، يحدث في الأغلب كنتيجة لمصادفة محضة.

الأعمال النقدية تميل إلى التعامل مع الموضوع من أجل توضيح فكرة معينة. ولسوء الحظ، غالبا ما تنطلق من التأثير المباشر، العاطفي والانفعالي، الذي يمارسه العمل الفني. من أجل إدراك واضح، غير غائم، يتعين عليك أن تمتلك قدرة استثنائية على إصدار حكم مبتكر، مستقل، و”بريء”. بوجه عام، الناس يبحثون عن أمثلة مألوفة ونماذج أولية لتأكيد وتعزيز رأيهم، والعمل الفني تتحدّد أهميته وقيمته وفق، أو بالتماثل مع، طموحاتهم الخاصة أو مواقفهم الشخصية. من جهة أخرى، في تعددية الأحكام الصادرة عليه، العمل الفني بدوره يتبنى حياة خاصة به هي متحولة ومتعددة الأوجه، ووجوده يتعزز ويزداد رحابه.

يقول ثورو في كتابه الرائع والمدهش Walden:

” الجنس البشري لم يقرأ بعد أعمال الشعراء العظام، ذلك لأن الشعراء العظام وحدهم يستطيعون قراءتها. إنها مقروءة فحسب كما تقرأ العامة النجوم. . على نحو تنجيمي في الغالب وليس على نحو فلكي. معظم البشر تعلموا القراءة لخدمة أغراض معينة مثلما تعلموا استعمال الأرقام من أجل ضبط الحسابات ولكي لا يتعرضوا للغش والاحتيال في التجارة. لكن القراءة كممارسة فكرية، رفيعة ونبيلة، فإنهم لا يعرفون شيئا عنها أو يعرفون القليل. القراءة، بالمعنى السامي، ليست تلك التي تهدهدنا كوسيلة ترفيه، وتدع الملكات العقلية تهجع فترة، لكن تلك التي يتعين علينا أن نقف على رؤوس الأصابع لقراءتها، ونكرس لها ساعات من اليقظة والسهر”.

شيء واحد مؤكد: التحفة الفنية لا تولد إلا حين يكون الفنان صادقاً تماماً في معالجته لمادته. الأحجار الكريمة لا توجد في التربة السوداء، بل ينبغي البحث عنها قرب البراكين. الفنان لا يمكن أن يكون صادقا جزئيا كذلك الفن لا يمكن أن يكون تقديراً تقريبياً للجمال. الفن هو الشكل المطلق للجميل، للمثال. الجميل والمنجز في الفن – ما هو مناسب للتحفة الفنية- أراه حيثما يصبح من المستحيل تمييز أو تفضيل أي عنصر، سواء في المحتوى أو في الشكل، دون أن يسبب ذلك أذى أو ضررا للوحدة الكلية للعمل، ذلك لأن في التحفة الفنية لا يوجد عنصر متقدم على غيره في الأهمية. إنك لا تستطيع أن تلحق بالفنان في لعبته الخاصة، وأن تصوغ له أهدافه وغاياته الأساسية. فقد كتب أوفيد: “الفن يتألف مما هو غير ملحوظ أو غير مرئي”. وصرح إنجلز بأن: ” كلما كانت أراء المؤلف متوارية ومخفية، كان ذلك أفضل للعمل الفني”.

العمل الفني يعيش وينمو، مثل أي كائن حي آخر، عبر صراع المبادئ المتعارضة. الأضداد تتصل فيما بينها ضمن العمل الفني آخذة الفكرة نحو اللا متناهي. إن فكرة العمل، تلك التي تحدده، هي متوارية في توازن المبادئ المتعارضة التي تتضمنها. . بالتالي فإن “الانتصار” على عمل فني ( أي التأويل الأحادي الجانب لفكرته وغرضه ) يصبح مستحيلا. لهذا السبب لاحظ غوته بأن ” كلما كان العمل أقل انفتاحا على الفكر، صار أعظم”

التحفة الفنية هي فضاء منغلق على نفسه، والجمال يكمن في توازن الأجزاء. المفارقة أنه كلما كان العمل متكاملا شعر المرء، بوضوح أكثر، بغياب أي تداعيات يولدها العمل. أو ربما أن العمل قادر على توليد عدد لامتناه من التداعيات والذي، جوهريا، يعني الشيء نفسه.

فياشيسلاف إيفانوف (4) سجل بعض الملاحظات الذكية والثاقبة على نحو رائع حين كتب عن كلية الصورة الفنية ( التي يسميها الرمز ): ” الرمز لا يصير رمزا حقيقيا إلا حين يكون مطلقا ولا ينضب في معناه، حين يعبّر في لغته السرية ( الكهنوتية والسحرية )، ذات الإشارات الخفية والتلميحات، عن شيء لا يمكن توضيحه ولا ينسجم مع الكلمات. إن للمرء وجوها عديدة وأفكاراً عديدة، وفي أعماقه الأبعد يظل غامضا وملغزا (. . )

إنه يتشكل بواسطة عملية عضوية، مثل البلور (. . ) إنه وحدة عضوية بالتأكيد، لذلك يختلف الرمز بنيويا عن المجازات والحكايات الرمزية والتشبيهات المركبة والمختزلة (. . ) الرموز لا يمكن تعيينها أو تفسيرها. وفي مواجهة معناها السري بكل شموليتها، نكون بلا حول “.

كم هي اعتباطية واستبدادية أحكام نقاد الفن على أهمية أو تفوق عمل فني ما. وبدون الإيحاء للحظةٍ بأن حكمي موضوعي، فإنني أود أن أضرب بعض الأمثلة من تاريخ الفن التشكيلي، عصر النهضة الإيطالية تحديدا. كم هي عديدة التقييمات المسلم بها عموما، والتي تملؤني بالدهشة.

أي ناقد لم يكتب عن رافاييل ولوحته “SISTINE MADONNA” التي تصور مريم العذراء ؟. . . مثال الإنسان، الذي أحرز أخيرا وجوده الخاص لحما ودما، الذي اكتشف العالم والله في ذاته وحوله بعد قرون من عبادة إله العصور الوسطي، والذي عليه تركزت تحديقته بثبات الى حد أنه استنزف قوته المعنوية. . كل هذا – كما يقال- وجد تجسده المثالي، المتماسك، والنهائي في تلك اللوحة التي رسمها العبقري رافاييل.

قد يكون هذا صحيحا بطريقة ما، لأن مريم العذراء – في تصوير الفنان- هي مواطنة عادية، وحالتها النفسية، كما هي منعكسة في اللوحة، لها أساس في الحياة الواقعية: إنها خائفة على مصير إبنها الذي سوف يوهب للناس قربانا. ومع أن هذا يحدث باسم خلاصهم، هو نفسه يكون مستسلما في الصراع ضد الإغواء لحمايته منهم.

كل هذا مكتوب حقا بحيوية داخل اللوحة. . بحيوية مفرطة من وجهة نظري، ذلك لأن فكر الفنان موجود هناك لقراءته: كل شيء واضح جدا، غير ملتبس، ومحدد جيدا. والمرء يشعر بالسخط بسبب النزوع المجازي عند الرسام، هذا النزوع البائس الذي يهدد الشكل ويحجب الخاصيات التشكيلية في اللوحة. لقد ركز الفنان إرادته ومشيئته على وضوح الفكر، على المفهوم الفكري لعمله، والنتيجة أن اللوحة تبدو مترهلة وبلا نكهة.

إنني أتحدث عن الإرادة والطاقة، وقانون الكثافة الذي يبدو لي أنه شرط من شروط اللوحة. إني أجد هذا القانون حاضرا في عمل احد معاصري رافاييل. . فنان من فينيسيا يدعى كارباشيو. في رسوماته يحل المعضلات الأخلاقية التي تكتنف أبناء عصر النهضة، المبهورين بواقع ملئ بالأشياء، بالناس، بالقضايا. إنه يحلها بوسائل تشكيلية، مختلفة تماما عن المعالجة شبه الأدبية التي تمنح لوحة رافاييل نبرتها الوعظية، القصصية. إن كارباشيو يعبّر عن العلاقة الجديدة بين الفرد والواقع الخارجي بشجاعة ونبالة، ولا يقع أبدا في النزعة العاطفية المفرطة، عارفا كيف يحجب نزعته أو انحيازه.

في رسالة كتبها جوجول الى الشاعر والمترجم زوكوفسكي في يناير 1848، قال:”ليست مهمتي أن أعظ. والفن، على أية حال، عظة دينية. مهمتي أن أعبّر بالصور الحية لا بالبراهين والجدل. يجب أن اظهر الوجه الكامل للحياة، لا أن أناقش الحياة”.

كم هو صحيح هذا. . وإلا فإن الفنان يفرض أفكاره على جمهوره. ومن يزعم أن الفنان أكثر ذكاء من الجمهور في صالة السينما، أو من القارئ الذي يحمل كتابا، أو من المتفرج في المسرح؟

الشاعر ببساطة يفكر بواسطة الصور، وهو بخلاف الجمهور، يستطيع أن يعبّر بالصور عن رؤيته للعالم. ومن الجليّ بأن الفن لا يستطيع أن يعلّم أحدا أي شئ، فمنذ أربعة آلاف سنة لم يتعلم البشر شيئا على الإطلاق.

كنا سنصبح ملائكة منذ زمن طويل لو كانت لدينا القابلية للإهتمام بتجربة الفن، والسماح لأنفسنا بأن نتغير وفقا للمثل العليا التي يعبر عنها. الفن يمتلك القدرة، عبر الصدمة والتطهير، على جعل النفس الإنسانية منفتحة على الخير. من السخف الاعتقاد بإمكانية تعليم الناس كيف يكونون أخيارا وصالحين. الفن يستطيع فقط أن يمنح الغذاء- الصدمة- للتجربة النفسية، العقلية.

لكن بالعودة إلى فينيسيا في عصر النهضة، نجد بأن تكوينات كارباشيو المكتظة ذات جمال مذهل وخارق، وقد أجازف بتسميته: جمال الفكرة. فيما تقف أمامها، ينتابك إحساس مقلق بأن المتعذر تفسيره هو على وشك أن يكون قابلا للتفسير. من المستحيل أن تفهم ما يخلق المجال السيكولوجي الذي تجد نفسك فيه، غير قادر على الإفلات من سحر اللوحة التي تشل كيانك الى درجة الخوف. ساعات عديدة قد تنقضي قبل أن تبدأ في الإحساس بمبدأ التناغم في لوحة كارباشيو. وما إن تفهمها حتى تظل إلى الأبد أسير سحر جمالها، وأسير نشوتك الأولى.

حين تحلل المبدأ، يكون بسيطا على نحو استثنائي، ويعبّر عن الأساس الإنساني لفن النهضة. . أكثر، في رأيي، مما تفعله لوحة رافاييل. إن كل شخصية في تكوين كارباشيو المكتظ هي محورية. لو ركزت في أي شكل أو شخصية فسوف ترى بوضوح أن كل شيء آخر هو مجرد محيط، خلفية، مبنية كنوع من الأساس أو القاعدة لهذه الشخصية الثانوية. الدائرة تنغلق. وفيما أنت تحدق في لوحة كارباشيو تكتشف بأن إرادتك تتبع، على نحو غير متعمد، المجرى المنطقي للإحساس الذي يقصده الفنان، بادئا أولا من شكل ما، تائه ظاهريا وسط الحشد، ثم تنتقل إلى الشكل التالي.

ليس في نيتي على الإطلاق أن اقنع القراء بأهمية آرائي الخاصة بشأن إثنين من الفنانين العظام، ولا أن أحابي كارباشيو على حساب رافاييل. كل ما أريد قوله هو أنه، على الرغم من أن كل فن هو في الأخير متحيز وذو نزعة أو هدف معين إلى حد أن حتى الأسلوب يكون ملتزما، فإن الغرض ذاته يمكن استيعابه في المكامن التي لا يسبر غورها للصور الفنية والتي تمنحها شكلا، أو يمكن للمغالاة في إظهار الغرض كما في الملصق، كما في لوحة رافاييل. حتى ماركس قال بأن الغرض في الفن لابد أن يكون متواريا بحيث لا ينتأ مثل زنبرك في الأريكة.

طبعا كل فكرة يتم التعبير عنها على نحو مستقل هي ثمينة بوصفها إحدى القطع الوافرة من الفسيفساء التي تتكون معا لتشكل نمطا عاما للطريقة التي بها ينظر الإنسان الخلاق إلى الواقع.

لو اتجهنا الآن، من أجل توضيح فكرتي، إلى أعمال واحد من المخرجين السينمائيين الذين أشعر أنهم الأقرب إليّ، لويس بونويل، فسوف نجد أن القوة المحركة لأفلامه تكمن دائما في مقاومة الامتثال والخضوع. . إنها ضد الإمتثالية. واحتجاجه- الغاضب، العنيد، والموجع- يجد تعبيره، قبل كل شيء في النسيج الحسي للفيلم، وهو معدٍ عاطفيا. هذا الاحتجاج ليس مدروسا، ليس عقليا، ليس معدا وفق صيغة فكرية. لدى بونويل الكثير من حاسة التمييز الفني التي تحول دون وقوعه في شرك الإيحاء السياسي، والذي هو في رأيي دائما زائف حين يتجسد على نحو صريح في العمل الفني. من جهة أخرى فإن الاحتجاج السياسي والاجتماعي المعبر عنه في أفلامه سيكون كافيا لعدة مخرجين من ذوي المكانة الأقل شأنا.

بونويل هو، قبل أي شيء آخر، حامل الوعي الشعري. إنه يعرف بأن البنية الجمالية لا تحتاج الى بيانات بالأهداف والدوافع، وأن قوة الفن لا تكمن هناك بل في القدرة على الإقناع العاطفي، في طاقة الحياة الفذة التي ذكرها جوجول في الرسالة الواردة أنفا.

أعمال بونويل متجذرة بعمق في الثقافة الكلاسيكية في أسبانيا، المرء لا يستطيع أن يتخيله بدون ارتباطه الملهم بسرفانتس وإل جريكو، لوركا وبيكاسو، سلفادور دالي وارابال. إن أعمالهم المشحونة بالعاطفة المتقدة، بالغضب والرقة، بالتوتر والتحدي، هي من جهة وليدة حب عميق للوطن، ومن جهة أخرى نتاج كراهية شديدة للبنى الميتة، وللاستنزاف الوحشي، الموجع، للأدمغة. إن مجال رؤيتهم، المتقلص بفعل الكراهية والازدراء، يستوعب فقط ما هو متقد وزاخر بالتعاطف الإنساني، والوميض السماوي، والمعاناة الإنسانية المألوفة. . وتلك الأشياء التي لقرون قد تسربت في الأرض الأسبانية الصخرية، الحارة.

إن القوة المتمردة، المتوترة، لمناظر إل جريكو الطبيعية، التقشف الورع لأشكاله البشرية، ديناميكية النسب والأحجام الممدودة، وألوانه الباردة بوحشية، التي هي غير مألوفة في زمنه بل مألوفة بالأحرى عند محبي الفن الحديث. . كل هذا قد ساهم في خلق الأسطورة التي تقول بأن إل جريكو كان مصابا باللا بؤرية (5)، وان هذا يفسر نزوعه الى تشويه نسب الأشياء والحيز. . وأظن أن هذا التفسير ساذج جدا.

دون كيشوت، الذي أبدعه سرفانتس، أصبح رمزا للنبل، السخاء، الإخلاص، إنكار الذات. وأصبح سانشو بانزا رمزا للفطرة السليمة الموثوقة. لكن سرفانتس نفسه لم يكن أكثر إخلاصا لبطله من إخلاص البطل لامرأته دولسينيا. في السجن، في نوبة غضب شديد بدافع الغيرة لأن محتالا قام على نحو غير مشروع بنشر جزء ثان من مغامرات دون كيشوت، والذي كان مهيناً للمودة الخالصة، الصادقة، التي يكنها المؤلف لإبنه، قام سرفانتس بكتابة الجزء الثاني للرواية الأصلية وقد أنهاها بموت البطل حتى لا يفكر شخص آخر في تشويه الذكرى المقدسة للفارس السوداوي.

وحده، من غير مساعدة ومن غير عون من أحد، تحدى جويا سلطة الملك الوحشية و العقيمة، ووقف في وجه محاكم التفتيش. إن لوحته “Caprichos” أصبحت مثالا لقوى الظلام التي تتقاذفه من الحقد الضاري الى الرعب الحيواني، من الازدراء الشديد الى معركة دون كيشوتيه ضد الجنون والظلامية.

إن قدر العبقري في منظومة المعرفة الإنسانية هو مذهل حقا. هؤلاء المعذبون الذين اصطفاهم الله، والذين قُدّر لهم أن يهدموا باسم الحركة وإعادة البناء، يجدون أنفسهم في حالة متناقضة ظاهريا من التوازن غير المستقر، المتقلب بين التوق الى السعادة والإيمان الراسخ بأن السعادة، بوصفها واقعا أو حالة محتملة، هي غير موجودة. فالسعادة مفهوم تجريدي، معنوي. السعادة الحقيقية، السعادة السعيدة، تكمن كما نعلم في التوق إلى تلك السعادة التي لا بد وأن تكون مطلقة: ذلك المطلق الذي نتعطش اليه.

لنتخيل للحظة بأن الناس قد أحرزوا السعادة: حالة من حرية الإرادة الإنسانية الكاملة بالمعنى الأشمل. في تلك اللحظة بالذات تتعرض الهوية الشخصية، أو الخصائص الذاتية للفرد، للتدمير. الإنسان يصبح وحيدا، منعزلا مثل الشيطان. الصلة بين الكائنات الاجتماعية تنقطع مثل الحبل السري لطفل وُلد حديثا. وبالنتيجة يتفكك المجتمع وينهار. ومع إزالة قوة الجاذبية تصبح الأشياء طافية في الفضاء. (ربما يقول البعض بأنه ينبغي تدمير المجتمع من أجل بناء شيء جديد وعادل على أنقاضه. . لا أدري، لست مدمرا )

المثل الأعلى، المكتسب والمقبول، بالكاد يمكن أن يسمى سعادة. ويتعين عليك فحسب أن تتمعن بدقة في الروائع الفنية، مخترقا قوتها المنعشة والغامضة لأجل أن تصبح معانيها، التي هي مزدوجة ومقدسة في آن، واضحة. إنها تقف في طريق الإنسان مثل إشارات تحذيرية عن كارثة ما: خطر، ممنوع الدخول.

إنها تصطف في مواقع الزلازل التاريخية، المحتملة أو الوشيكة، مثل لافتات تحذير على حافة الجرف أو المستنقعات. إنها تحدد وتحول الحالة الجنينية الجدلية للخطر الذي يهدد المجتمع، وتصبح دائما نذيرا للتصادم بين القديم والجديد. إنه دور نبيل لكن كئيب.

الشعراء ميزوا باكرا حاجز الخطر ذاك وعلى نحو أسرع من معاصريهم. وكلما أسرعوا في فعل ذلك صاروا أكثر قربا من العبقرية. وهكذا غالبا هم يظلون غامضين أو يصعب فهمهم طالما أن التعارض الهيجلي ( نسبة إلى فردريك هيجل ) ينضج داخل رحم التاريخ. عندما يحدث التعارض أخيرا، يقوم معاصروهم، المصدومين والمستثارة مشاعرهم، ببناء نصب تذكاري للإنسان الذي أعطى تعبيرا، حين كان هذا التعبير لا يزال جديدا وحيويا ومليئا بالأمل، لهذه القوة التي أحدثت التعارض والذي أصبح الآن الرمز الجلي، الذي لا لبس فيه، للحركة التقدمية المنتصرة.

عندئذ يصبح الفنان والمفكر هو المدافع عن زمنه، المحفز على التغيير المحتوم. إن عظمة وغموض الفن لا يكمن في الإثبات والتفسير والإجابة على الأسئلة حتى عندما يرفع عبارات تحذيرية مثل:”تحذير. . إشعاع. . خطر. ” إن تأثيره يتصل بالجيشان المعنوي والأخلاقي. وأولئك الذين يظلون غير مبالين إزاء براهينة العاطفية، ويخفقون في تصديقها، يجازفون بالتعرض للتلوث الإشعاعي، شيئا فشيئا، دون أن يعلموا بذلك، وبابتسامة بلهاء على وجه عريض ورابط الجأش لرجل مقتنع بأن العالم مسطح مثل فطيرة محلاة ويتكئ على ثلاثة حيتان.

الروائع الفنية، التي ليست دائما مميزة أو قابلة للتمييز بين كل الأعمال الطامحة إلى النبوغ، تتبعثر هنا وهناك في أرجاء العالم مثل إشارات تحذيرية في حقل ألغام، والحظ وحده هو الذي ينقذنا من الانفجار. لكن هذا الحظ يفضي إلى إنكار الخطر وعدم تصديقه، ويسمح بنمو التفاؤلية الزائفة الحمقاء. عندما يكون ذلك النوع من الرؤية التفاؤلية سائدا، يصبح الفن مثيرا للسخط مثل المشعوذ أو الخيميائي في القرون الوسطى. الفن يبدو خطيرا لأنه مقلق ومشوش.

يتذكر المرء كيف أن لويس بونويل، حين عرض فيلمه ” كلب أندلسي ” لأول مرة، أضطر الى الاختباء عن البورجوازيين المحافظين والحانقين، وكان يضع مسدسا في جيبه الخلفي كلما غادر منزله. تلك كانت البداية. الرجل في الشارع، والذي اعتاد لتوه على السينما بوصفها ترفيها وتسلية وهبتها له الحضارة، إرتعد في رعب عند رؤيته الصور والرموز التي تلفح الروح، والتي يصعب حقا تحملها أو إدراك معناها. لكن حتى هنا، ظل بونويل فنانا يخاطب جمهوره ليس بلغة ملصق الإعلانات، بل بلغة الفن المعدية عاطفيا. وكم هي ملائمة على نحو رائع ملاحظة تولستوي في يومياته بتاريخ 21 مارس 1858 حين قال:” السياسي ليس منسجما مع الفني، لأن السياسي، من أجل أن يبرهن، يتعين عليه أن يكون أحادي الجانب ومتحيزا”.

فعلا، الصورة الفنية لا يمكن أن تكون متحيزة وأحادية الجانب، فمن أجل أن تعتبر صادقة تماما، يتعين عليها أن توحد داخل نفسها ظواهر متناقضة على نحو جدلي.

إن من الطبيعي إذن ألا نجد حتى بين النقاد المتخصصين من لديه رهافة اللمسة الفنية المطلوبة للتشريح من أجل تحليل فكرة العمل الفني وصوره الشعرية. ذلك لأن الفكرة لا توجد إلا في الصور التي تعطيها شكلا، والصورة توجد كنوع من إدراك الواقع بواسطة الإرادة، التي يتعهدها الفنان وفقا لرغباته وميوله الخاصة وخاصيات رؤيته للعالم.

في طفولتي اقترحت أمي أن أقرأ ” الحرب والسلام” للمرة الأولى، ولسنوات طويلة بعد ذلك كانت أمي غالبا ما تستشهد بمقاطع من الرواية ملفتة نظري الى دقة وبراعة تولستوي في كتابة النص الأدبي، وبالتالي صارت رواية ” الحرب والسلام” بالنسبة لي مثل مدرسة للفن، ومعيارا للذوق والعمق الفني. . . بعدها لم يعد ممكنا أن أقرأ أي عمل تافه لأنه سوف يولّد لديّ إحساساً حاداً بالنفور.

ديمتري ميريزكوفسكي (شاعر، روائي، ناقد ) في كتابه عن تولستوي ودوستويفسكي انتقد تلك المقاطع التي فيها تنهمك شخصيات تولستوي في مناقشات فلسفية من خلالها تستنبط أفكارها النهائية عن الحياة. ومع أنني أتفق تماما بأن فكرة العمل الشعري لا ينبغي تركيبها على نحو فكري محض، إلا أنه يتعين علي أن أقول بأننا نتحدث عن أهمية الفرد في العمل الأدبي، حيث صدق تعبيره عن الذات هو الضمان الوحيد لقيمته. ورغم أنني أظن بأن نقد ميريزكوفسكي مبني على حجج متينة وسليمة تماما، فإن هذا لا يمنعني من أن أعشق ” الحرب والسلام” حتى مع وجود تلك المقاطع التي تعتبر نقطة ضعف. . ذلك لأن العبقري لا يتم الكشف عنه في الكمال المطلق للعمل الفني إنما في الإخلاص المطلق لذاته ، في الالتزام بعاطفته الخاصة . إن التوق المتقد للفنان الى الحقيقة، إلى معرفة العالم وذاته في العالم، يمنح معنى خاصا حتى للمقاطع الغامضة الى حد ما، أو كما يطلق عليها ” الأقل نجاحا ” في أعماله.

وقد يمضي المرء أبعد من ذلك، فأنا لا أعرف تحفة فنية واحدة تخلو من نقاط الضعف أو تكون متحررة تماما من الشوائب، ذلك لأن النزعة الفردانية التي تخلق العبقري، وفرادة الغاية التي تعزز عمله، هي ليست مصدر عظمة التحفة الفنية فحسب، بل أيضا مصدر هفواتها.

مرة أخرى، هل يمكن للهفوات أن تكون الصفة المناسبة لشيء هو عضويا جزء من الاستشراف الكامل للعالم؟ العبقري ليس حرا. وكما قال توماس مان:” اللامبالاة وحدها تكون حرة. ما هو مميز لا يكون حراً أبدا، إنه مدموغ بختمه الخاص، مشروط ومكبل”.

 

***

 

الفصل الثالث:

الزمن المطبوع

 

 

ستافروجين:

في سفر الرؤيا، يقسم الملاك بأنه لن يعود هناك زمن.

 

كيريلوف: أعرف ذلك. وهو صحيح تماما.

لقد قيل هذا بدقة وبوضوح تام.

عندما يحرز البشر السعادة،

فسوف لن يكون هناك أي زمن،

لان أحدا لن يحتاجه.. هذا صحيح تماما.

 

ستافروجين: إذن أين سوف يضعون الزمن ؟

 

كيريلوف: لن يضعوه في أي مكان.
الزمن ليس شيئا، إنه مجرد فكرة.
وسوف يتلاشى في الذهن.
(دوستويفسكي – الممسوسون)

 

 

الزمن شرط لوجود “الأنا” لدى كل إنسان. إنه أشبه بالوسيط الثقافي الذي يتعرض للتدمير حين لا تعود هناك حاجة إليه، وحالما تكون الروابط صارمة بين الهوية الفردية وشروط الوجود. لحظة الموت أيضا موت للزمن الخاص، الفردي: إن حياة الكائن البشري تصبح غير منفتحة على مشاعر أولئك الذين يظلون أحياء، وهو يصبح ميتا بالنسبة لأولئك المحيطين به.

الزمن ضروري للإنسان فمن خلاله قد يكون قادرا على إدراك نفسه كشخصية. لكنني لا أفكر في الزمن الطولي، أعني إمكانية إنجاز شيء ما، واجتراح فعل ما. الفعل هو نتيجة، لكن الذي آخذه بعين الاعتبار هو السبب الذي يجعل الإنسان يتجسد في حس أخلاقي.

التاريخ ليس هو الزمن ولا هو النشوء. . كلاهما نتائج. الزمن حالة: إنه اللهب الذي فيه يعيش سمندر النفس البشرية.

الزمن والذاكرة يندمجان في بعضهما البعض. إنهما أشبه بوجهي العملة. وواضح تماما أنه بدون الزمن، الذاكرة أيضا لا يمكن أن توجد. لكن الذاكرة شيء معقد جدا الى حد أن أي بيان بخاصياتها وصفاتها المميزة لا يمكن أن يحدد مجموع الانطباعات التي من خلالها تؤثر فينا الذاكرة. الذاكرة مفهوم روحي. على سبيل المثال، لو أخبرنا شخص ما عن انطباعاته بشأن الطفولة، فإننا نستطيع أن نقول بثقة أنه ستكون لدينا مادة وافية لتكوين صورة كاملة عن ذلك الشخص. أما المحروم من الذاكرة فيصبح سجين وجود وهمي أو خادع. وبوقوعه خارج الزمن يكون عاجزا عن فهم صلته الخاصة بالعالم الخارجي. . وبتعبير آخر، يكون محكوما عليه بالجنون.

بوصفه كائنا أخلاقيا، الإنسان موهوب بذاكرة تثير فيه الإحساس بالاستياء وعدم الرضا، إنها تجعلنا سريعي التأثر، وعرضة للألم.

عندما يدرس الباحثون والنقاد الزمن، كما يبدو في الأدب أو الموسيقى أو الرسم، فإنهم يتحدثون عن “طرائق” تسجيله. في دراسة جويس أو بروست، على سبيل المثال، سوف يستنطقون التقنيات الجمالية للوجود في استعادةٍ للأعمال الفنية، والطريقة التي يدوّن بها الفرد الذي يتذكر تجربته، سوف يدرسون الأشكال المستخدمة في الفن لإعطاء الزمن شكلا ثابتا، في حين أنني مهتم هنا بالخاصيات الباطنية، المعنوية، المتأصلة جوهريا في الزمن نفسه.

الزمن الذي يعيش فيه المرء يمنحه الفرصة لمعرفة نفسه ككائن أخلاقي، مشغول بالبحث عن الحقيقة. مع ذك فإن هذه المنحة الموضوعة بين يديه هي مبهجة ومريرة في آن. والحياة ليست أكثر من المدة المخصصة له، والتي فيها هو لابد أن يكيف روحه وفقا لفهمه الخاص لهدف الوجود الإنساني. والضمير الإنساني يعتمد على الزمن في وجوده.

يقال أن الزمن غير قابل للإلغاء، وهذا صحيح تماماً إذا كان يتصل بالماضي، بمعنى أنك ” لا تستطيع أن تعيد الماضي ” كما يقولون. لكن ما هو هذا “الماضي” بالضبط ؟ هل هو ما قد مضى ؟ وما الذي يعنيه “مضى” للشخص حين يكون الماضي، بالنسبة لكل واحد منا، هو الحامل لكل ما هو مستمر في واقع الحاضر، لكل لحظة جارية ؟ بمعنى ما، الماضي أكثر حقيقية، أكثر رسوخا واستقرارا، أكثر مرونة من الحاضر. الحاضر ينزلق ويتلاشى كالرمل بين الأصابع، محرزا ثقلا ماديا فقط في تذكره. إن خواتم الملك سليمان كانت تحمل هذا الكلام المنقوش ” الكل سوف يمضي”. بالتباين مع هذا، أريد أن أوجه الانتباه الى كيفية ارتداد الزمن وعودته الى الوراء. لا يمكن للزمن أن يزول بلا أثر، نظرا لأنه مفهوم ذاتي، روحي. الزمن الذي عشناه يستقر في روحنا كتجربة موضوعة داخل الزمن.

السبب والنتيجة يعتمدان على بعضهما، وكل منهما يتبع الآخر. أحدهما يولّد الآخر بضرورة مقدرة على نحو عنيد، والتي ستكون حاسمة لنا لو كنا قادرين على اكتشاف كل الصلات في وقت واحد. الرابط بين السبب والنتيجة، أو الانتقال من حالة الى أخرى، هو أيضا الشكل الذي فيه يوجد الزمن، الوسيلة التي بها يتجسد الزمن، في ممارسة يومية. لكن السبب، وقد حقق نتيجته، لا يكون منبوذاً آنئذ مثل منصة صاروخ مستعمله. عند حصولنا على أي نتيجة، نحن باستمرار نعود الى مصدرها، أسبابها. بتعبير آخر، نكون كما لو نعيد الزمن إلى الوراء. السبب والنتيجة يمكن، بالمعنى الأخلاقي، ربطهما على نحو ارتجاعي، وعندئذ يعود الفرد الى ماضيه.

في تقريره عن اليابان، كتب الصحفي أوفشينيكوف:

” هنا يُعتقد بأن الزمن، بذاته، يساعد في إدراك جوهر الأشياء. اليابانيون بالتالي يرون سحرا خاصا في أي أمارة للشيخوخة. إنهم ينجذبون إلى درجة اللون القاتم لشجرة هرمة، أو تخدد حجر، أو حتى المظهر البائس لصورة فوتوغرافية لمس حوافها عدد كبير من الناس. لكل علامات القِدم هذه يطلق اليابانيون تسمية SABA عليها، والتي تعني حرفيا (صدأ). SABA، إذن، هي حالة الصدأ الطبيعي، فتنة الأيام الغابرة، ختم الزمن. SABA ، كعنصر جمال ، تجسد الرابط بين الفن والطبيعة. ”

هنا يتذكر المرء، على نحو محتوم، ما قاله بروست عن جدته:

” حتى عندما كان يتعين عليها أن تهيئ لشخص ما هدية عملية، عندما يتعين عليها أن تهب كرسيا أو عكازاً فإنها سوف تختار بعد الغربلة والموازنة أشياء قديمة كما لو أن هذه الأشياء، المهجورة والمهملة لفترة طويلة، قادرة على أن تخبرنا كيف عاش الناس في الأزمنة الماضية أكثر مما تفي بحاجاتنا العصرية “.

بروست أيضا تحدث عن تشييد “صرح ضخم للذكريات”، وذلك كما يبدو لي هو ما ينبغي على السينماأن تفعله. السينما يمكن أن تكون التجلي المثالي للمفهوم الياباني عن ” الصدأ” (SABA)، ذلك لأن السينما، إذ تسيطر على هذه المادة الجديدة تماما- أي الزمن- فإنها تصبح، بالمعنى الأكمل، مصدرا جديدا للتأمل.

أنا لا أرغب في فرض آرائي في السينما على أي شخص. كل ما ارجوه هو أن كل شخص أخاطبه ( وتحديدا كل من يعرف ويحب السينما) لديه أفكاره الخاصة ونظرته المستقلة بشأن المبادئ الفنية لصنع الفيلم والنقد السينمائي.

إن عدداً كبيراً من الأفكار المتصورة سلفاً توجد حول المهنة. تلك الطرق المبتذلة في التفكير، الكليشيهات، التي تنمو حول التقاليد وتدريجيا تستحوذ عليها. وأنت لا تستطيع أن تنجز شيئا في الفن ما لم تكن حرا من الأفكار المسلم بها. عليك أن تحقق وضعك الخاص، وجهة نظرك المستقلة – التي هي دوماً رهن بالفطرة السليمة- وتحتفظ بهذا أمامك، مثل بؤبؤ عينك، وأنت تعمل.

الإخراج لا يبدأ بعد مناقشة السيناريو مع الكاتب، أو أثناء العمل مع الممثل أو مع المؤلف الموسيقي، بل في الوقت الذي ( أمام التحديقة الباطنية للشخص الذي يحقق الفيلم ويسمى المخرج) تنبثق فكرة الفيلم أو صورة الفيلم: قد يكون هذا عبارة عن سلسلة من الأجزاء المرسومة بالتفصيل، أو ربما الوعي بالنسيج الجمالي والمناخ العاطفي، والذي ينبغي أن يتجسد على الشاشة. يجب على المخرج أن يمتلك فكرة واضحة عن غاياته، وأن يعمل من البداية إلى النهاية مع فريقه لتحقيق هدفهم الكامل والمحدد. لكن كل هذا ليس أكثر من خبرة تقنية. ومع أن ذلك يتضمن العديد من الشروط الضرورية للفن، إلا أن الخبرة بذاتها، وبمعزل عن الأشياء الأخرى، ليست كافية لأن تجعل المخرج يستحق لقب الفنان. فالمخرج لا يكون فنانا إلا في اللحظة التي يبدأ نظامه المميز الخاص بالصور في التشكل، ويكون الجمهور مدعوا ليحكم عليه وليشارك في أحلامه الأكثر خصوصية وسرية. فقط حين يدلي بوجهة نظره الخاصة، وحين يصبح فيلسوفا، فإنه يظهر كفنان، ويُنظر إلى السينما بوصفها فنا. (بالطبع هو فيلسوف بالمعنى النسبي فحسب. وكما لاحظ بول فاليري فإن:الشعراء فلاسفة. ويمكن بالمثل أن تشبّه رسام المناظر البحرية بربان سفينة).

كل شكل فني يولد ويعيش وفقا لقوانينه الخاصة، المستقلة. عندما يتحدث البعض عن معايير أو قواعد محددة للسينما، فإنهم عادة يضعونها في تجاور مع الأدب. وفي رأيي من المهم سبر التفاعل بين السينما والأدب وكشفه كليا قدر المستطاع، بحيث يمكن أخيرا فصلهما عن بعضهما البعض وعدم الخلط بينهما مرة أخرى. . بأي النواحي يتماثل الأدب والسينما ويتصلان ؟ ما الذي يربط بينهما ؟

قبل كل شيء هناك تلك الحرية الاستثنائية، الفريدة، التي يتمتع بها أصحاب المهنة، في كلا الحقلين، في اختيار ما يريدونه مما يقدمه لهم العالم الحقيقي، وتنظيمه في تعاقب وتسلسل. هذا التعريف قد يبدو واسعا وعاما أكثر مما ينبغي لكن يبدو لي أنه يستوعب كل ما هو مشترك بين السينما والأدب. وراء ذلك تكمن الاختلافات المتضاربة الناجمة عن التباين الجوهري بين الكلمة والصورة المعروضة على الشاشة، ذلك لأن الاختلاف الأساسي هو أن الأدب يستخدم الكلمات لوصف العالم، بينما لا يتعين على الفيلم أن يستخدم الكلمات. . فالعالم يُظهر نفسه لنا بشكل مباشر.

في كل هذه السنوات لم يُعثر على تحديد واحد ملزم للسمة الخاصة بالسينما. العديد من الآراء توجد إما في تعارض مع بعضها البعض أو – وهذا أسوأ – تتشابك في نوع من التشوش الانتقائي. كل فنان في عالم السينما سوف يرى ويطرح ويحل المعضلة بطريقته الخاصة.

على أية حال، لابد أن يكون هناك تحديد واضح إذا تعين على المرء أن يعمل بوعي كامل لما يفعله، ذلك لأنه ليس ممكنا العمل بدون إدراك أو تمييز قوانين الشكل الفني الذي يمارسه المرء.

ما هي العوامل الحاسمة في السينما، وماذا ينبثق منها ؟ ما الكامن فيها، وما هي معانيها وصورها. . ليس شكليا فقط، بل حتى روحيا ؟ وبأي مادة يعمل المخرج؟

حتى الآن لا أستطيع أن أنسى ذلك العمل الذي هو نتاج عبقري، والذي عرض في أواخر القرن 19، الفيلم الذي به بدأت السينما. . “وصول القطار الى المحطة”.

هذا الفيلم الذي صوره أوجست لوميير كان ببساطة ثمرة اختراع الكاميرا والفيلم وجهاز العرض. المشهد، الذي يدوم نصف دقيقة فقط، يظهر جانبا من رصيف في محطة للسكة الحديدية، مغمور بضوء الشمس، وعدد من الرجال والنساء يتمشون هنا وهناك، والقطار يأتي منطلقا من أعماق الكادر، متوجها مباشرة نحو الكاميرا. وفيما القطار يدنو، يدب الذعر في صالة السينما: المتفرجون يجفلون ويغادرون مقاعدهم هاربين.

تلك كانت اللحظة التي ولدت فيها السينما. إنها لم تكن ببساطة مسألة تقنية أو مجرد طريقة جديدة لإعادة إنتاج العالم. ما تخلق كان مبدأ جماليا جديدا.

للمرة الأولى في تاريخ الفنون، في تاريخ الثقافة، وجد الإنسان وسيلة للإمساك بالزمن وطبعه. وعلى نحو متزامن، إمكانية نسخ ذلك الزمن على الشاشة قدر ما يشاء المرء. . أن يكرره ويعود إليه مرة أخرى. لقد اكتسب الإنسان منبتا للزمن الفعلي. بعد رؤية الزمن وتسجيله، صار بالإمكان الاحتفاظ به في علب معدنية لفترة طويلة ( إلى الأبد. . نظريا ).

بذلك الحس، كانت أفلام الأخوين لوميير الأولى التي تضمنت بذرة مبدأ جمالي جديد. لكن سرعان ما انحرفت السينما عن الفن وانعطفت شاقة طريقها في المسار الذي كان أكثر أمانا من وجهة نظر المصلحة والربح الماديين. في غضون العقدين التاليين، تم نقل عالم الأدب كله تقريبا إلى الشاشة، إضافة الى العدد الهائل من الحبكات المسرحية. لقد استغلت السينما لأجل غاية صريحة ومغرية، وهي تدوين الأداء المسرحي. لقد اتخذ الفيلم اتجاها خاطئا، وعلينا أن نقبل بواقع أن النتائج المشؤومة لتلك الخطوة لا تزال حاضرة. والأسوأ من هذا ليس، في رأيي، اختزال السينما الى مجرد صورة إيضاحية، بل الأسوأ بكثير كان الإخفاق فنياً في استثمار إحدى الإمكانيات الثمينة للسينما: إمكانية طبع فعلية الزمن على الشريط السينمائي.

في أي شكل تطبع السينما الزمن ؟ دعونا نحدد الزمن بوصفه “واقعيا”. الواقعة يمكن أن تتألف من حدث ما، أو شخص يتحرك، أو أي شيء مادي. وعلاوة على ذلك، فإن الشئ يمكن عرضه بوصفه ساكنا وغير متحول، بقدر ما يوجد ذلك الثبات والجمود ضمن المجرى الفعلي للزمن.

في ذلك الموضع ينبغي البحث عن جذور الصفة المميزة للسينما. طبعا في الموسيقى أيضا معضلة الزمن هي رئيسية. هنا، في الموسيقى، الحل مختلف تماما: طاقة الموسيقى متجسدة على حافة التلاشي التام للموسيقى. بينما فعالية السينما تكمن في أنها تستولي على الزمن، كاملا مع ذلك الواقع المادي الذي إليه الزمن مقيد على نحو سرمدي، لا فكاك منه، والذي يطوقنا يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة.

الزمن، المطبوع في أشكاله وتجلياته الواقعية: تلك هي الفكرة الأسمى للسينما بوصفها فنا، والتي تقودنا إلى التفكير في ثراء الموارد في الفيلم.
لم يذهب الناس إلى السينما ؟ ما الذي يأخذهم إلى مكان مظلم حيث، لمدة ساعتين، يشاهدون تلاعب الظلال على القماش ؟ هل هو بحث عن التسلية والترفيه ؟ الحاجة إلى نوع من المخدر؟

في العالم كله هناك، بالفعل، هيئات ومنظمات للترفيه تستثمر السينما والتلفزيون وغيرهما من أشكال العرض. لكن نقطة انطلاقتنا لا ينبغي أن تكون هناك بل في المبادئ الأساسية للسينما، والتي لها علاقة بالحاجة الإنسانية لمعرفة وفهم العالم. أظن أن الشئ الذي لأجله يذهب الفرد عادة إلى السينما هو الزمن: الزمن الضائع أو المبدد. الفرد يرتاد السينما ليرى تجربه حية، ذلك لأن السينما، بخلاف أي فن آخر، توسع وتعزز وتكثف تجربة الفرد. . لا تعززها فحسب بل تمددها أيضا. في هذا تكمن قوة السينما. . لا النجوم ولا الحبكات القصصية ولا عنصر الترفيه له علاقة بهذه القوة.

ما هو أساس عمل المخرج؟ نستطيع أن نحدد هذا العمل باعتباره نحتاً في الزمن. مثلما يأخذ النحات كتلة من الرخام ويزيل كل ما هو ليس جزءا منه، واعيا لأشكال عمله المنجز، كذلك يفعل صانع الفيلم. . من “كتلة الزمن” المتشكلة من مجموعة صلبة، متينة، وضخمة من الوقائع الحية، هو يقطع ويرمي كل ما لا يحتاجه، محتفظا فقط بما ينبغي أن يكون عنصرا للفيلم المنجز، وبما سوف يثبت أنه متمم للصورة السينمائية.

قيل بأن السينما فن مركب، مبني على تشابك عدد من الأشكال الفنية المتجاورة: الدراما، النثر، التمثيل، الرسم، الموسيقى. في الواقع، إن تشابك أو اتصال هذه الأشكال الفنية يمكن، كما ثبت في النهاية، أن يسئ على نحو خطير إلى السينما بحيث يحيلها إلى أشياء مختلطة ببعضها أو – في أفضل الأحوال – إلى مجرد مظهر خارجي فيه تتناسق الأجزاء لكن لا يمكن العثور فيه على لب السينما، لأن في تلك الحالات بالذات يكف ذلك اللب عن الوجود. ولا بد من التوضيح هنا، نهائيا وعلى نحو حاسم، بأن السينما – إذا كانت فناً- لا يمكن ببساطة أن تكون مزيجا من مبادئ أو عناصر أشكال فنية مجاورة أخرى. بفعل ذلك فقط نستطيع أن نتجه إلى قضية طبيعة الفيلم المركبة. إن التشكيلة المتجانسة من الفكرة الأدبية والصيغة التشكيلية سوف لن تشكل صورة سينمائية. يمكن فقط أن تنتج هجينا عقيما أو مدعيا.

كذلك لا يجب استبدال قوانين الحركة ونظام الزمن في الفيلم بقوانين الزمن في المسرح. الزمن في صيغة الواقعة: مرة أخرى أعود الى هذا الموضوع. إني أرى في عرض الأحداث وفقا للتسلسل الزمني هو الذي يشكل السينما. . ليس في طريقة تصوير الفيلم بل في إعادة بناء الحياة ، إعادة خلقها.

ذات مرة سجلت على شريط حوارا عرضيا. . بضعة أشخاص كانوا يتحدثون دون أن يعلموا بأن أصواتهم مسجلة. بعدئذ استمعت الى الشريط واكتشفت مدى تألق هذا الحوار الذي بدا كما لو أنه “مكتوب” و”مؤدى” على نحو رائع. وكم كان حقيقيا وملموسا منطق حركات الشخصيات والمشاعر والطاقة. وكم كانت الأصوات رخيمة وعذبة، ولحظات الصمت القصيرة جميلة. . حتى ستانيسلافسكي لا يستطيع أن يجد تبريرا للحظات الصمت تلك، وأسلوبية همنجواي تبدو طنانة وساذجة بالمقارنة مع الأسلوب الذي بُني به ذلك الحوار المسجل عرضاً ومن غير قصد.

هكذا أفهم الجزء المثالي من تصوير الفيلم: المبدع يلتقط ملايين الأمتار من الفيلم، والذي عليه يمكن متابعة وتسجيل حياة إنسان، على سبيل المثال، منذ ولادته وحتى وفاته، وذلك على نحو نظامي، يوما بعد يوم، عاما بعد عام. ومن كل ذلك يمكن الحصول على 2500 متر، أو تسعين دقيقة من الزمن السينمائي.. (من المثير للفضول أن نتخيل تلك الملايين من الأمتار وهي تمر بين أيدي عدد من المخرجين ليحقق كل منهم فيلمه الخاص. . كم سيكون مختلفا كل عمل عن الآخر).

وحتى لو لم يكن ممكنا حيازة تلك الملايين من الأمتار، فإن شروط العمل”المثالية” لن تكون غير حقيقية بل ينبغي أن تكون ما نطمح اليه. بأي معنى؟ الغاية هي أن تختار وتربط معا أجزاء من الواقعة المتعاقبة، وأن تعرف وترى وتسمع بدقة ما يقع بينها وأي نوع من القيود توحدها وتجعلها متماسكة. هذه هي السينما. . وإلا فإننا نستطيع بسهولة أن ننزلق نحو الطريق المألوف في الكتابة المسرحية، حيث نشيد بناء للحبكة منطلقا من شخصيات معينة. على السينما أن تكون حرة في اختيار وربط وقائع مأخوذة من “كتلة الزمن” من أي عرض أو طول. ولا أظن أن من الضروري تعقب فرد معين. على الشاشة يمكن لمنطق سلوك الفرد أن ينتقل إلى أساس منطقي لوقائع وظواهر مختلفة تماما، غير متصلة بالموضوع ظاهريا، والفرد الذي بدأت معه يمكن أن يغيب من الشاشة، مستبدلاً بشئ مختلف تماماً، إذا كان ذلك ما يقتضيه المبدأ الموجه للمؤلف. على سبيل المثال، من الممكن تحقيق فيلم لا توجد فيه شخصية بطل واحد يظهر طوال الفيلم، لكن كل شيء يتحدد بالتأثير الخاص لرؤية شخص واحد للحياة.

السينما قادرة على الاشتغال على أي واقعة منتشرة في الزمن، وبإمكانها أن تتناول أي شيء على الإطلاق من الحياة. ما يمكن أن يكون للأدب احتمالا عرضيا وحالة معزولة (كمثال، توليد مادة وثائقية من مجموعة همنجواي القصصية “في زمننا”) هو بالنسبة للسينما تشغيل لقوانينها الفنية الأساسية.

وضع فرد ما في محيط غير محدود ولا نهائي، مقارنته مع عدد لا يحصى من الأفراد المارين على مقربة منه أو بعيدا عنه، وربط هذا الفرد بالعالم كله: ذاك هو معنى السينما.

ثمة تعبير أصبح الآن مألوفا وشائعا: السينما الشعرية. وهذا التعبير يعني السينما التي تبتعد بجسارة، في صورها، عما هو واقعي ومادي متماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية، وفي الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة. لكن ثمة خطراُ متوارياً يواجه السينما في ابتعادها عن نفسها. “السينما الشعرية” عادة تلد رموزا، مجازات، ومظاهر أخرى. . أي أشياء لا علاقة لها باللغة الطبيعية الملائمة للسينما.

هنا أشعر بأن ثمة نقطة أخرى تحتاج الى توضيح. إذا الزمن يبدو في السينما في هيئة واقعة، فإن الواقعة هي محددة في شكل ملاحظة بسيطة ومباشرة. إن العنصر الأساسي للسينما هو الملاحظة.

نحن جميعا نعرف النوع التقليدي للشعر الياباني القديم. . الهايكو. إيزنشتاين أورد بعض الأمثلة أو النماذج:

 

قمر يضئ في وهن،
قرب الدير القديم
ذئب يعوي.
صمت في الحقل
فراشة كانت تطير
ثم استغرقت في النوم.

 

لقد رأى ايزنشتاين في هذه المقاطع الشعرية، ذات الأبيات الثلاثة، المثال الذي يوضح كيف أن تركيب ثلاثة عناصر منفصلة يخلق شيئا مختلفا في النوع أو الطبيعة عن أي عنصر منها. وبما أن هذا المبدأ كان موجودا سابقا في الهايكو ، فإنه ليس مقتصرا على السينما.

ما يجذبني في الهايكو هو رصدها للحياة. . هذا الرصد الذي هو خالص، صاف، دقيق، ومتحد مع موضوعه. .

 

فيما هو يمر
البدر بالكاد يمس
الشصوص في المياه.
الندى قد تساقط،
وعلى كل عناقيد البرقوق
تتدلى قطرات صغيرة.

 

هذا رصد صرف، خالص. دقته وإتقانه سوف تجعل أي شخص، مهما كان فجاً في التلقي، يشعر بقوة الشعر ويدرك الصورة الحية التي أقتنصها الشاعر.

ومع إنني حذر جدا في عقد مقارنات مع أشكال فنية أخرى، فإن هذا النموذج الخاص من الشعر يبدو لي أقرب إلى حقيقة السينما، مع فارق أن النثر والشعر يستخدمان الكلمات تحديدا، بينما الفيلم يولد من رصد مباشر للحياة. ذلك، في رأيي ، هو المبدأ الرئيسي للشعر في السينما . . . إذ أن الصورة السينمائية هي جوهرياً رصد لظاهرة تمر عبر الزمن.

ثمة فيلم لا يمكن أن يكون بعيدا جدا عن مبدأ الرصد المباشر، وهو فيلم ايزنشتاين “إيفان الرهيب”. ليس فقط أن الفيلم بأسره هو من النوع الهيروغليفي، إنه يتألف من سلسلة متتالية من الهيروغليفية. . الرئيسية، الثانوية، والدقيقة جدا. ليس ثمة جزء أو تفصيلة واحدة لا يتخللها قصد المخرج. (سمعت أن ايزنشتاين نفسه قد تحدث ذات مرة في محاضرة له عن هذه الهيروغليفية والمعاني الملغزة: على درع إيفان صورة للشمس، وعلى درع كوربسكي صورة للقمر، بما أن جوهر كوربسكي هو أنه ” يتألق بضوء منعكس” ) مع ذلك فإن الفيلم قوي على نحو مدهش ببنيته الموسيقية والإيقاعية. كل ما يتصل به- المونتاج وانتقالات اللقطة والتزامن- يتنامى ببراعة ودقة وانضباط. لهذا السبب يفرض الفيلم نفسه بالقوة. بالنسبة لي، فإن إيقاع فيلم”إيفان الرهيب” كان في الحقيقة ساحرا. لكن تصوير الشخصيات، والتكوين المتناسق للصور، والجو. . كل هذا يأخذ الفيلم قريبا جدا من المسرح (المسرح الموسيقي)، إلى حد انه يكف تقريبا- في رأيي ومن الوجهة النظرية المحضة – أن يكون عملا سينمائيا. . (أوبرا نهارية. . كما وصف ايزنشتاين ذات مرة فيلما لزميل له). الأفلام التي حققها ايزنشتاين في العشرينات، وفي مقدمتها “المدرعة بوتمكين”، كانت مختلفة جدا، كانت حافلة بالحياة والشعر.

الصورة السينمائية، إذن، هي أساسا رصد لوقائع الحياة داخل الزمن، وهي منظمة وفقا لنمط الحياة نفسها، وراصدة لقوانين الزمن فيها. الرصد هو انتقائي: نحن نترك على الفيلم فقط ما هو مبرر بوصفه مكملا للصورة. وهذا لا يعني أن الصورة السينمائية يمكن أن تكون منقسمة ومجزأة ضد طبيعتها الزمنية، فالزمن الجاري لا يمكن أن يكون منزوعا عنها. والصورة تصبح سينمائية على نحو حقيقي ليس فقط عندما تعيش ضمن الزمن، لكن أيضا عندما يعيش الزمن داخلها. . بل حتى ضمن كل كادر منفصل.

لا شيء”جامد”- طاولة، كرسي، كأس- مصور في الكادر في عزلة عن كل الأشياء الأخرى، يمكن عرضه خارج الزمن العابر، كما لو من وجهة نظر غياب الزمن.

يتعين عليك فحسب أن تتجنب هذا الوضع لتجعل استعارة أي عدد من خاصيات إحدى الفنون المجاورة أمرا ممكنا. وبمساعدتها تستطيع بالفعل أن تحقق أفلاما مؤثرة جدا. فقط من وجهة نظر الشكل السينمائي، ستكون هذه الأفلام متعارضة مع التطور الحقيقي لطبيعة وجوهر وإمكانية السينما.

لا يوجد فن آخر قادر أن يضاهي السينما في القوة والدقة والوضوح والصرامة التي بها توصل السينما الوعي بالوقائع والبني الجمالية الكائنة والمتغيرة ضمن الزمن. بالتالي أجدها مثيرة للسخط إدعاءات “السينما الشعرية”الحديثة، والتي تشمل تعطيل الاتصال مع الواقعة ومع واقعية الزمن، وتندفع إلى الإفراط في التكلف والتصنع.

السينما المعاصرة تحتوي على خطوط أساسية عديدة من التطور الشكلي، لكن ليس مصادفة أن الخط أو الاتجاه الذي يبرز ويصمد ويحرز اهتماما هو النزوع الى عرض الأحداث وفق التسلسل الزمني أو على أساس زمني، وهذا مهم جدا وغني جدا، وعرضة لمحاولات عديدة من المحاكاة. لكن التسجيل الأمين، التأريخ الحقيقي، لا يمكن أن يتحقق عن طريق التصوير بكاميرا محمولة باليد، بكاميرا متمايلة، وحتى بجعل اللقطات ضبابية، كما لو أن المصور لم يستطع أن يركز البؤرة بدقة. إنها ليست كيفية التصوير التي سوف توصل الشكل المحدد والفريد للواقعة المتجلية. في أحوال كثيرة نجد أن اللقطات التي يفهم منها ظاهرياً أنها عرضية واتفاقية هي في الحقيقة مرسومة ومدعية تماماً مثل كادرات ” السينما الشعرية” المرسومة بدقة برمزيتها الجوفاء العقيمة. في كلا الحالتين، المحتوى المادي، الحي، العاطفي للشئ المصور هو معزول.

ينبغي أيضا أن نحلل التقاليد الفنية، ذلك لأن ليس كل هذه التقاليد شرعية. بعضها لا تتصل بأي علاقة، ويمكن أن تكون مجرد أفكار متصورة سلفاً. من جهة، هناك تقاليد لها علاقة بطبيعة الشكل الفني.. كمثال، اهتمام الرسام الدائم باللون والعلاقات اللونية على سطح القماش. من جهة أخرى، هناك التقاليد الخادعة، الموهمة، التي نشأت خارج شئ عابر، ربما من فهم ناقص لجوهر السينما، أو تقييد طارئ على وسيلة تعبير، أو بحكم العادة والقبول بالتنميط والقولبة، أو من الاتصال النظري بالفن. أنظر إلى الأعراف السطحية التي تساوي بين كادرات لقطة وكادرات كانفاس: هكذا تنشأ الأفكار المتصورة سلفاً.

أحد الشروط الملزمة والثابتة للسينما هو أن الأفعال على الشاشة ينبغي أن تتجلى وتتنامى على نحو متعاقب بصرف النظر عن واقع كونها تحدث على نحو متزامن أو ارتجاعي عند استعادة الأحداث الماضية. من أجل أن تعرض حدثين أو أكثر بوصفها متزامنة أو متوازية، يتعين عليك بالضرورة أن تظهرها حدثاً بعد الآخر، وينبغي أن تكون في مونتاج متتابع. ليس ثمة طريقة أخرى. في الفيلم الصامت “الأرض” الذي أخرجه دوفجنكو، يلقي البطل مصرعه على يد الكولاك (مالكي الأرض)، وفي سبيل توصيل حادثة إطلاق النار، نرى البطل يخر صريعاً، ثم لقطة لحقل ما حيث الخيول المجفلة ترفع رؤوسها، ثم تعود الكاميرا إلى مسرح الجريمة ثانية. بالنسبة للجمهور فإن رؤوس الخيول المرفوعة تعبّر عن دويّ الطلقة التي تسمع في الأرجاء. لكن مع مجيء الفيلم الناطق وإدخال الصوت، لم تعد هناك أية حاجة لذلك النوع من المونتاج. ولم يعد مفيداً أو مقنعاً الرجوع إلى لقطات دوفجنكو الرائعة من أجل تسويغ الخفة التي بها يتم التوظيف المجاني للقطع المتبادل في السينما الحديثة، كأن تجعل شخصاً ما يسقط في المياه ثم في اللقطة التالية تجعل شخصية أخرى تراقب. ليس هناك حاجة إلى هذا على الإطلاق، فمثل هذه اللقطات تبدو ذا أثر متخلف من شعرية الفيلم الصامت. التقليد الذي أملته أو فرضته الضرورة قد تحول إلى فكرة متصورة سلفاً، تحول إلى كليشيه.

في السنوات الأخيرة رأينا أن التطورات في تقنية الفيلم قد نتج عنها (أو تفسخت إلى) انحراف معين: الشاشة العريضة صارت تنقسم إلى جزئين أو أكثر، والتي فيها يمكن عرض حدثين أو أكثر وهي تقع في تواز في الوقت نفسه. في رأيي، هذا الابتكار متصور على نحو سيء. هكذا يتم اختراع أو تلفيق تقاليد زائفة والتي هي، عضويا، ليست جزءاً من السينما، وبالتالي هي عقيمة.

بعض النقاد يتلهفون بشدة لرؤية مشهد من فيلم وهو يُعرض في وقت واحد على عدة – حتى لو بلغت ست- شاشات. لكن حركة كادر الفيلم ذات طبيعة خاصة لا تشبه طبيعة النوتة الموسيقية. سينما “الشاشة المتعددة” لا ينبغي أن تقارن مع النغمات المتآلفة أو الهارموني أو تعدد الأصوات، بل بالأحرى مع الأصوات التي تحدثها عدة أور كسترات تعزف مقطوعات موسيقية مختلفة في الوقت نفسه.

النتيجة الوحيدة ستكون اختلاطا أو تشوشا كاملا، وقوانين الإدراك الحسي سوف تتعرض للانتهاك، ومؤلف الفيلم المتعدد الشاشات سوف يتواجه حتما مع مهمة إخضاع التزامن، بطريقة أو بأخرى، الى تعاقب. . سيكون هذا أشبه بالالتفاف حول نقطة معينة بدلا من الذهاب إليها مباشرة وفي خط مستقيم. أليس من الأفضل التسليم، نهائيا وعلى نحو حاسم، بالشرط البسيط والملزم للسينما بوصفها سلسلة متعاقبة من المرئيات، والعمل من نقطة الانطلاق تلك؟ الفرد، ببساطة تامة، غير مؤهل وغير قادر على مشاهدة عدة أفعال وأحداث في وقت واحد. . إن ذلك وراء متناول بنيته الفسيولوجية والنفسية.

لابد من القيام بتمييز بين تلك الشروط الطبيعية التي هي متأصلة في جوهر الشكل الفني –والذي يحدد الاختلاف بين الحياة الواقعية والقيود الخاصة بذلك الشكل الفني –والشروط الوهمية، الاصطناعية، التي لا تتصل بالمبادئ الأساسية بل بالتسليم الصاغر للأفكار القادمة من الخارج، أو تبني معتقدات أشكال فنية أخرى.

إن أحد مظاهر العجز للسينما هو واقع أن الصورة لا يمكن تحققها إلا في أشكال واقعية، طبيعية، من الحياة المرئية والمسموعة. على الصورة أن تكون طبيعية، وأنا لا أستخدم التعبير هنا في دلالته الأدبية المسلم بها، كما هي مرتبطة –على سبيل المثال-بالكاتب إميل زولا. . فما أعنيه هو أننا ندرك شكل الصورة السينمائية عن طريق الحواس.

قد يتساءل المرء، ماذا عن تخيلات مبدع الفيلم، ماذا عن العالم الداخلي للخيال الفردي، كيف يكون ممكنا إعادة إنتاج ما يراه الفرد داخل نفسه، وكل أحلامه. . أحلام النوم واليقظة معا؟

هذا ممكن شريطة أن تكون الأحلام على الشاشة مؤلفة تماما من أشكال الحياة الطبيعية، الأشكال المرئية ذاتها. أحيانا يصور المخرجون في درجة عالية من حساسية الفيلم للضوء، أو عبر حجاب سديمي، أو يستخدمون حيلة قديمة بالية أو يلجأون الى مؤثرات موسيقية.

والجمهور المدرب جيدا سوف يتفاعل فورا:آه، إنه يتذكر”. . أو “هي تحلم”. لكن ذلك التضبيب الملغز ليس هو السبيل لإنجاز انطباع سينمائي حقيقي عن الأحلام أو الذكريات. السينما ليست ولا يجب أن تكون معنية باستعارة مؤثرات من المسرح. إذن ما الذي نحتاجه؟ قبل كل شيء نحن نحتاج أن نعرف أي نوع من الحلم يراه بطلنا. نحتاج أن نعرف وقائع الحلم الفعلية و المادية: أن نرى كل عناصر الواقع التي هي منعكسة في تلك الطبقة من الوعي التي بقيت يقظة طوال الليل (أو التي بها يعمل المرء حين يرى صورة ما في مخيلته). ونحن نحتاج أن نوصل كل ذلك على الشاشة بدقة، لا أن نجعله معتما أو غير واضح، ولا أن نستخدم حيلا مدروسة و معقدة.

ومرة أخرى، إذا سئلت، ماذا عن غموض و لا شفافية و غرابة الحلم؟ فسوف أجيب بأن في السينما، اللاشفافية ومالا يوصف، لا يعني صورة غامضة، بل الانطباع الخاص الذي يخلقه منطق الحلم: تركيبات غير عادية وغير متوقعه من (و تعارضات بين) عناصر واقعية تماما.

هذه يجب أن تعرض بدقة أكبر. السينما، بطبيعتها الفعلية، يجب أن تكشف الواقع لا أن تجعله غائما أو ضبابيا. . في الواقع، أكثر الأحلام إثارة للاهتمام أو التشويق أو الإرعاب هي تلك التي تتذكر فيها كل شيء. . حتى أدق التفاصيل.

أريد أن أشير مرة أخرى الى أن في الفيلم، في كل مرة، العنصر الأساسي الأول في أي تكوين تشكيلي، معياره الضروري والنهائي، هو ما إذا كان صادقا، محددا وحقيقيا. . إذ أن ذلك ما يجعل الفيلم فذا أو استثنائيا. بالتعارض مع ذلك، الرموز تولد وبسرعة تنتقل إلى الاستخدام العام لتصبح كليشيهات، عندما يكتشف المخرج بالمصادفة تكوينا تشكيليا معينا، ويربطه باتجاه ما غامض وخاص به، ويشحنه بمعنى غريب وغير جوهري.

أن نقاء السينما، قوتها المتأصلة، لا يظهر في الميل الرمزي للصور (مهما كانت جريئة) بل في قدرة تلك الصور على التعبير عن واقعة فعلية، فريدة، محددة.

في فيلم بونويل nazarin هناك سلسلة من الأحداث تدور في قرية موبوءة بالطاعون. إنها جافة، صخرية، مبنية من حجر الجير. ما الذي يفعله المخرج لخلق انطباع بمكان مجرد من الورثة ؟ نحن نرى الطريق المغبر، مصور في مجال البؤرة العميق، وصفين من البيوت تمتد في البعد. الشارع يمضي صعدا بحيث لا تكون السماء مرئية. الجانب الأيمن من الشارع يكون في الظل، والأيسر مضاء بأشعة الشمس. الشارع خال تماما، في منتصف الطريق، من أعماق الكادر، نرى طفلا يسير مباشرة نحو الكاميرا، ساحبا خلفه ملاءة بيضاء. . ناصعة البياض. الكاميرا تتحرك pan على مهل، وفي اللحظة الأخيرة، مباشرة قبل الانتقال إلى اللقطة التالية، يتغطى فجأة مجال الكادر. . مرة أخرى بقماش ابيض و الذي يومض في ضوء الشمس. قد يتساءل المرء، من أين يمكن أن يأتي هذا. . هل يمكن أن يكون قماشاً جافاً على حبل غسيل ؟ بعدئذ، وبكثافة مدهشة، أنت تشعر ب(نفحة الطاعون) مأسورة بهذه الطريقة الرائعة، الاستثنائية، مثل حقيقة طبية.

وهناك مشهد من فيلم كيروساوا (الساموراي السبعة). قرية يابانية تعود إلى القرون الوسطى. ثمة معركة دائرة بين بعض الفرسان والساموراي المترجلين. المطر يهطل بغزارة. الوحل في كل مكان. الساموراي يرتدون ثيابا يابانية قديمة والتي تترك الجزء الأكبر من الساق عاريا، فنرى سيقانهم ملطخة بالوحل. وحين يخر أحد الساموراي ميتا، نرى المطر يغسل الوحل وساقه تصبح بيضاء، بيضاء كالرخام. رجل ميت.. تلك هي الصورة التي تبدو حقيقية. إنها بريئة من الرمزية. . مجرد صورة. لكن ربما حدث ذلك مصادفة. . الممثل كان يركض ثم سقط أرضا، والمطر غسل الوحل. وهنا نحن نقبل بهذا ككشف من قبل صانع الفيلم.

كلمة أخرى عن الميزانسين. ميزانسين الفيلم، كما نعرف، يعني تنسيق وحركة الأشياء المنتقاة في علاقتها بمجال الكادر. أي غرض يؤديه الميزانسين؟ في اغلب الأحوال، يخبرونك بأنه يفيد في التعبير عن معنى ما يحدث. . وهذا كل شيء. لكن أن تعين ذلك بوصفه الحد الأقصى للميزانسين يعني أن تنطلق في طريق والذي يفضى إلى اتجاه واحد فقط: نحو التجريد.

في المشهد الختامي من فيلم (زوج لأنا جياسيا) يضع المخرج دي سانتيس بطله وبطلته على جانبي بوابة معدنية. . متقابلين لكن يفصلهما هذا الحاجز. البوابة تقرر في وضوح: الاثنان الآن منفصلان وسوف لن يكونا سعيدين أبدا، والاتصال مستحيل. هكذا يتحول الحدث الشخصي، الاستثنائي، إلى شيء مبتذل تماما، لأنه اجبر على تبني شكل عادي ومستهلك. والمتفرج مباشرة يخبط برأسه على سقف ما يسمى تفكير المخرج. الخلل يكمن في أن عددا كبيرا من الجمهور يستمتعون بمثل هذه الخبطات. . إنها تجعلهم يشعرون بالأمان: ليس لأنها مثيرة ومهيجة فحسب، لكن لأن الفكرة تكون جلية وليس ثمة حاجة لإجهاد الدماغ أو العين، ولا حاجة لرؤية أي شيء محدد في ما يحدث. . وعلى ذلك النوع من الحمية، يبدأ الجمهور في الانحلال. مع ذلك فإن البوابات والأسيجة والحواجز المتشابهة قد تكررت كثيرا عدة مرات و في العديد من الأفلام ودائما تعني الشيء نفسه.

إذن ما هو الميزانسين ؟ لنتوجه إلى أفضل الأعمال الأدبية و دعونا نعود إلى شيء كنت قد كتبت عنه من قبل. . المقطع الختامي من رواية ( دوستويفسكي) “الأبله”، عندما يدخل الأمير ميشكين الحجرة مع روجوزين، ومن خلال المدخل يريان جثة ناستاسيا ممددة. الاثنان يجلسان متواجهين على كرسيين في منتصف الحجرة الواسعة، قريبين جدا من بعضهما إلى حد أن ركبهما تتلامس. حين تتصور ذلك فإنه يبدو مرعبا. هنا الميزانسين ينشأ من الحالة السيكولوجية لشخصيات معينة في لحظة خاصة كبيان فريد عن تعقد العلاقة. المخرج عندئذ، لكي يبني الميزانسين، يجب أن يعمل انطلاقا من الحالة السيكولوجية للشخصين، من خلال الديناميكية الباطنية لحالة الوضع ويعيدها كلها إلى حقيقة الحدث الملحوظ بشكل مباشر، ونسيجه الفريد. عندئذ فقط سوف يحرز الميزانسين الأهمية و الدلالة المحددة، المتعددة الأوجه للحقيقة الفعلية.

يقال أحيانا بأن موضع الممثلين لا يسبب أي اختلاف، سواء جعلتهم يقفون هنا قرب الجدار ويتحدثون أو أخذت الممثل في لقطة قريبة ثم لقطة أخرى للممثلة وبعدئذ تجعلهما يفترقان. لكن بالطبع الشيء الأكثر أهمية لا يكون موضع تأمل. المسألة لا تتعلق بالمخرج فقط بل أيضا وفي أحوال كثيرة بكاتب السيناريو.

إذا تجاهل المرء حقيقة أن السيناريو معد ليكون فيلما ما ( وبذلك المعنى هو نتاج نصف منجز. . ليس أكثر، لكن ليس اقل أيضا ) فإنه سوف لن يكون ممكنا تحقيق فيلم جيد. قد يكون ممكناً تحقيق شيء آخر، شيء جديد، ويمكن أن يكون حسنا، لكن سوف يشعر كاتب السيناريو بالاستياء من المخرج. اتهام المخرج بأنه “أفسد فكرة جيدة” ليس دائما مبرراً.

الفكرة غالبا ما تكون أدبية – وهي مثيرة للاهتمام فقط لأنها كذلك- إلى حد أن المخرج مجبر على تحويلها وتغيير اتجاهها في سبيل تحقيق الفيلم. في أفضل الأحوال، الجانب الأدبي للسيناريو (بصرف النظر عن الحوار) يمكن أن يكون نافعا للمخرج كمؤشر إلى المحتوى العاطفي لحدث ما أو مشهد ما أو حتى للفيلم كله. . (على سبيل المثال فريدريك جور نشتاين كتب في إحدى سيناريوهاته أن الغرفة تفوح منها رائحة غبار وزهور ميتة وحبر جاف: أحب ذلك كثيرا لأنني أستطيع أن اشرع في تصور كيف يبدو ذلك الموقع الداخلي، وان اشعر “بروحه”، وإذا تعين على مصمم المناظر أن يقدم اسكتشاته فسوف أكون قادرا في الحال أن أميز بين ما هو مناسب وما هو غير مناسب. مع ذلك، فإن مثل هذه الإرشادات ليست كافية لتشكيل أساسٍ للصور الرئيسية في الفيلم. عادة هي ببساطة تساعد على إيجاد المناخ) بأية حال السيناريو الحقيقي بالنسبة لي هو الذي ليس مطلوبا منه، بذاته وبمعزل عن الأشياء الأخرى، أن يؤثر في القارئ بأي طريقة تامة ونهائية، لكنه المعد كليا لأن يتحول إلى فيلم، وهكذا فقط يحرز شكله النهائي.

كتاب السيناريو، من جهة أخرى، يؤدون وظيفة مهمة، والتي تقتضي موهبة أدبية حقيقية في ما يتصل بالاستبصار السيكولوجي. هنا ، في هذا الموضع، يحدث الأدب تأثيرا على السينما والذي هو مفيد وضروري معا ، فلا يخنق السينما ولا يشوهها . لا شيء في السينما، في الوقت الحاضر، أكثر عرضة للإهمال أو الاستخفاف أو التسطيح من السيكولوجيا. إنني أتكلم عن فهم وكشف الحقيقة الضمنية بشأن حالات الشخصيات الذهنية.. هذا شئ يتم تجاهله على نحو واسع. ومع ذلك فإن هذا بالضبط هو الذي يجعل رجلا يقفز من نافذة في الطابق الخامس.

لكل حالة فردية، السينما تقتضي من المخرج وكاتب السيناريو معاً معرفة هائلة، وبالتالي يتعين على مبدع الفيلم أن يمتلك شيئاً مشتركاً مع كاتب السيناريو – العالم السيكولوجي، وأيضا مع الطبيب النفساني، ذلك لأن التكوين التشكيلي للفيلم يتوقف إلى حد كبير، على نحو حاسم غالبا، على الحالة الخاصة للشخصية في ظروف معينة. وكاتب السيناريو يستطيع، وفي الواقع يجب، أن يقدم للمخرج معرفته الخاصة بالحقيقة الكاملة بشأن تلك الحالة الداخلية، حتى إلى درجة إعلامه كيف يبني الميزانسين. بإمكان المرء أن يكتب ببساطة: “الشخصيات تتوقف قرب الجدار” ثم ينصرف إلى كتابة الحوار بينهم. لكن ما هو الشيء الخاص والاستثنائي بشأن الكلمات التي تقال، وهل هي تنسجم مع الوقوف عند الجدار ؟ إن معنى المشهد لا يمكن تركيزه أو تكثيفه ضمن الكلمات التي تنطقها الشخصيات. “كلمات. . كلمات. . كلمات. .” في الحياة الواقعية هذه الكلمات هي في الغالب أشبه بالمياه. نادرا ولبرهة وجيزة، تستطيع أن تلاحظ الانسجام المثالي، التام، بين الكلمة والإيماءة، الكلمة والفعل، الكلمة والمعنى. عادة، كلمات الشخص وحالته الداخلية وحركته الجسمانية تتجلى على مستويات مختلفة. هي ربما تكمل أو أحيانا، وإلى درجة معينة تردد كالصدى إحداها الأخرى. في أحوال كثيرة هي تكون في تناقض وأحيانا في تباين حاد هي تعري بعضها البعض. وفقط بمعرفة ما يحدث وسبب حدوثه – على نحو دقيق، ومتزامن، وعلى كل مستوى من تلك المستويات – نستطيع أن نحرز القوة الصادقة والفريدة لتلك الواقعة التي تحدثت عنها. وفي ما يتعلق بالميزانسين، حين يتوافق بدقة مع الكلمة المنطوقة، حين يكون هناك تفاعل، نقطة التقاء بينها، عندئذ تولد تلك الصورة التي سميتها صورة الرصد، الصرفة والمحددة. لهذا السبب يتعين على كاتب السيناريو أن يكون كاتبا حقيقيا.

حين يستلم المخرج السيناريو، ويبدأ في الاشتغال عليه، يحدث دائما أن السيناريو- مهما كانت فكرته العامة عميقة، وهدفه محدداً بإحكام- يخضع على نحو محتوم إلى نوع من التغيير. إنه لا يتجسد أبدا على الشاشة حرفيا، كلمة كلمة، صورة صورة، بل ثمة دائما تعديلات. بناء على ذلك، فإن التعاون بين كاتب السيناريو والمخرج يتجه إلى أن يكون مكتنفا بالصعوبة والخلاف. الفيلم الفعال يمكن أن يتحقق حتى عندما تتهشم وتتدمر الفكرة العامة أثناء عملهما (المخرج والكاتب) معاُ، فمن الدمار تنبثق فكرة جديدة، كينونة جديدة. عموما فإن التفريق بين وظائف المخرج وكاتب السيناريو يصبح أكثر صعوبة. وكما هو مألوف في السينما اليوم، المخرجون يميلون أكثر فأكثر إلى تأليف أفلامهم، بينما يتوقع من كتاب السيناريو أن يكون لديهم إدراك أكثر شمولية في الإخراج من أي وقت مضى. ربما لذلك ينبغي علينا أن نعتبر من الطبيعي للفكرة العامة أن تتنامى على نحو كامل بدلا من أن تتهشم أو تتشوه. . بمعنى أخر، من الطبيعي لصانع الفيلم أن يكتب السيناريو بنفسه، أو على نحو معاكس، أن يكون كاتب السيناريو مسؤولا أيضا عن الإخراج.

هنا لابد من توكيد نقطة معينة. أن عمل المبدع ينبع من تفكيره، من هدفه، من الحاجة إلى تقديم بيان عن شيء مهم. هذا جلي ولا يمكن أن يتحقق بغير هذه الطريقة. بالطبع يمكن للمبدع، بادئا من حل معضلات شكلية صرفه ( وهناك الكثير من الأمثلة لهذا في الفنون الأخرى) أن يواجه حاجزا اكبر، ثم يجد نفسه يرى أشياء من زاوية جديدة. . لكن مع ذلك هذا يحدث فقط حين تخطر له فكرة ما على نحو غير متوقع، في شكل خاص، فارضة نفسها على موضوعه، على الفكر الذي – بوعي أو بلا وعي- كان يحمله معه لمدة طويلة(إن لم أكن مخطئا، فان فيلم جودار “على آخر نفس” هو مثال على ذلك).

الشيء الأصعب بالنسبة للفنان العامل هو أن يخلق مفهومه الخاص، وأن يتابعه، غير خائف من القيود التي يفرضها المفهوم، مهما كانت صارمة. الأكثر سهولة هو أن تكون انتقائيا، أن تتبع الأنماط الروتينية، المبتذلة، التي تعج بها مخازننا المهنية: مصدر إزعاج اقل للمخرج وللجمهور. ولكن ثمة خطر هنا في أن تصبح واقعا في الشرك على نحو يائس. إني أرى ذلك كدليل أوضح على النبوغ، على الروح المميزة، حين يتبع الفنان مفهومه، فكرته، مبدأه، على نحو مباشر ودونما انحراف بحيث يكون ممتلكا لحقيقته التي هي دائما تحت سيطرته، لا يدعها أبدا تفلت حتى من اجل متعته الخاصة في عمله.

هناك قلة من ذوي النبوغ في السينما: أنظر إلى بريسون، ميزوجوشي، دوفجنكو، برادجانوف، بونويل. . لا يمكن أبدا الخلط بين أحدهم والآخر. إن فنانا من ذلك الوزن والمكانة يتبع خطا مستقيما واحدا، وان يكن بكلفة عالية، ليس بلا مواطن ضعف، أو حتى تكلف أحيانا، لكن دائما باسم الفكرة الواحدة، المفهوم الواحد. في السينما العالمية كانت هناك محاولات عديدة لإبداع مفهوم جديد في الفيلم، دائما مع الهدف العام لجعل الفيلم قريبا جدا إلى الحياة، إلى الحقيقة. لهذا السبب ظهرت أفلام مثل: ” ظلال” لجون كازافيتيس “الصلة” لشيرلي كلارك “أحداث صيف ما ” لجان روش. هذه الأفلام البارزة موسومة، بصرف النظر عن أي شئ آخر، بالافتقار إلى الالتزام. من واجب الفنان أن يكون هادئا. ليس له الحق في إظهار انفعاله، استغراقه، وان يسكب كل أحاسيسه على الجمهور. إن أي استثارة بسبب موضوع ما يجب تهذيبها في هدوء جليل. تلك هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الفنان أن يعبّر عن الأشياء التي تثيره. إني أتذكر كيف عملنا في فيلم “أندريه روبليوف”.

تدور أحداث الفيلم في القرن الخامس عشر، وقد اتضح أن من الصعوبة، على نحو موجع، تصور ” كيف كانت تبدو الأشياء في الماضي “. كان علينا أن نستخدم كل ما بحوزتنا من مصادر: فن العمارة، الكلمة المكتوبة، الأيقونات. لو أننا حاولنا إعادة بناء التقليد التصويري للعالم في تلك الأزمنة لكانت النتيجة عالما روسيا قديما، تقليديا وذا أسلوب معين، من ذلك النوع الذي – في أفضل الأحوال- يذكرنا بأيقونات أو منمنمات تلك المرحلة. لكن بالنسبة للسينما، فان ذلك ليس المنحى الأمثل والأنسب. أنا لم افهم أبدا، على سبيل المثال، محاولات بناء ميزانسين من لوحة ما. إن كل ما سوف تفعله، في هذه الحالة، هو إحياء اللوحة من جديد، وعندئذ سوف تكافأ بإطراء سطحي من نوع ” آه، لقد منحنا الإحساس بالجو العام للمرحلة” أو ” آه، يا لهم من أفراد مهذبين”. لكنك في المقابل سوف تقتل السينما.

إذن كان أحد أهداف عملنا هو إعادة بناء العالم الحقيقي في القرن الخامس عشر للجمهور المعاصر، أي تقديم ذلك العالم بطريقة لا يمكن فيها للملابس واللغة و أسلوب الحياة و العمارة أن تمنح الجمهور أي إحساس بالأثر القديم، بالندرة، بالأشياء الأثرية. من اجل إحراز صدق الملاحظة المباشرة، ما يمكن للمرء أن يدعوه الحقيقة الفيسيولوجية، كان علينا أن نبتعد عن صدق الأركيولوجيا ( علم الآثار ) و الأثنوغرافيا (الأنثروبولوجيا الوضعية ).

على نحو يتعذر اجتنابه، كان هناك عنصر من الاصطناعية، لكن هذا كان النقيض لتلك الاصطناعية في اللوحة المستعادة ذهنيا.

لو أن شخصاً من القرن الخامس عشر ظهر فجأة ليشهد ذلك، فلربما وجد في المادة المصورة سينمائيا مشهدا غريبا تماما، ولكن ليس أكثر غرابة منا ومن عالمنا الخاص.

ولأننا نعيش في القرن العشرين فإننا لا نملك إمكانية تحقيق فيلم مستمد مباشرة من مادة عمرها 600 سنة. مع ذلك، فإنني لازلت مقتنعا بأن من الممكن بلوغ أهدافنا، حتى في الظروف الصعبة، شريطة أن نسلك الدرب كله، دون انحراف، في الطريق الذي اخترناه بالرغم من الجهد الخارق الذي يقتضيه ضمنا.

نحن لا نستطيع أن نعيد بناء القرن الخامس عشر بدقة تامة، مع ذلك فقد درسنا على نحو شامل كل الأشياء التي ظلت باقية من ذلك القرن. إن إدراكنا لذلك الزمن مختلف تماما عن أدراك أولئك الذين عاشوا آنذاك. كذلك رؤيتنا للوحة روبليوف “الثالوث الأقدس” مختلفة عن رؤية معاصريه، مع ذلك فإن هذا العمل الفني قد استمر في البقاء عبر القرون. إنه حي الآن مثلما كان في الماضي، وهو الذي يشكل حلقة الوصل بين أناس ذلك القرن وهذا القرن. “الثالوث الأقدس” يمكن النظر إليه ببساطة كأيقونة، أو كقطعة أثرية رائعة، أو ربما كنموذج لأسلوب مميز في الرسم في ذلك العهد.

لكن هذه الأيقونة، هذا التذكار، يمكن أن يُرى بطريقة أو من زاوية أخرى: بوسعنا أن نتوجه إلى المعنى الإنساني، الروحي، لهذا العمل الفني. المعنى الذي هو حي وقابل للإدراك بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في النصف الثاني من القرن العشرين.

هكذا اقتربنا من الواقع الذي أنتج “الثالوث الأقدس”. ومثل هذا الاقتراب جعلنا نقدم، على نحو مقصود، عناصر قادرة على تبديد أي انطباع بالأساليب القديمة المهجورة، وبإعادة بناء شئ أثري.

السيناريو الأصلي يتضمن جزءاً فيه يتسلق قروي كاتدرائية، وقد صنع لنفسه جناحين، ثم يقفز محاولا التحليق غير انه يهوي ويرتطم بالأرض ليلقى حتفه. لقد أعدنا بناء هذا الجزء متفحصين عنصره السيكولوجي الجوهري. انه يعبر بوضوح عن حالة رجل كان يفكر طوال حياته بالطيران، بأن يرى نفسه محلقا في الفضاء. لكن كيف يمكن أن يحدث هذا حقا ؟ الناس كانوا يركضون خلفه، وهو يجري سريعا ثم يقفز. ما الذي رآه هذا الرجل وشعر به فيما كان يحلّق للمرة الأولى ؟ يقينا لم يكن لديه الوقت ليرى شيئا، فقد هوى وتحطم في لمحة. إن أقصى ما كان بوسعه معرفته هو حقيقة السقوط الرهيب، المرعب، وغير المتوقع. لقد تم إقصاء ما أوحى له بالطيران، ورمزيته، لأن المعنى كان مباشرا وصريحا، ومتصلا بالتداعيات التي هي مألوفة تماما بالنسبة لنا. كان على الشاشة أن تظهر قرويا عاديا ومتسخا، ثم سقوطه و تحطمه و موته.

هذا حدث مادي، مأساة بشرية، مرصودة من قبل مشاهدين يتفرجون على المشهد مثلما يحدث الآن، في الواقع، عندما نرى شخصا ينقذف بقوة وعنف لسبب ما أمام سيارة وينتهي بالتمدد على الإسفلت مهشما.

لقد أمضينا وقتا طويلا ونحن نبحث في كيفية تدمير الرمز التشكيلي الذي عليه بني هذا الجزء، وتوصلنا إلى استنتاج بأن جذر المشكلة يكمن في الجناحين. ومن اجل تبديد فكرة ايكاروس (6) قررنا استخدام البالون، والذي هو شيء غير متقن الصنع، مؤلف من جلود وحبال و اسمال بالية، وقد شعرنا بأن هذا سوف يحرر الجزء، المشهد، من البلاغة الزائفة ويحوله إلى حدث فريد.

الشيء الأساسي هو أن تصف الحدث وليس موقفك تجاهه. الموقف لابد أن يتضح بواسطة الفيلم ككل حين يكون طرفا في التأثير الكلي. ذلك أشبه بالفسيفساء. حيث كل قطعة منفصلة ذات لون خاص ومعين: ازرق، ابيض، احمر. إنها مختلفة. وبعد ذلك تنظر إلى اللوحة الكاملة وترى ما كان يفكر فيه المؤلف.

أنا أحب السينما. و لا يزال هناك الكثير مما لا اعرفه: على أي شيء سوف اشتغل، ما الذي سأفعله فيما بعد، كيف يتشكل كل شيء، هل سوف يتوافق عملي مع المبادئ التي التزم بها الآن ؟

هناك العديد من الإغراءات في كل جانب: الأنماط، الأفكار المتصورة سلفا، الأشياء المألوفة، الأفكار الغنية العامة. وفي الواقع، من السهل جدا أن تصور مشهدا على نحو جميل من اجل التأثير على الآخرين و إحراز الإعجاب. . لكن ما إن تقوم بخطوة واحدة فقط في ذلك الاتجاه حتى تضيع.

ينبغي أن تكون السينما وسيلة لسبر المعضلات الأكثر تعقيدا في زمننا، والتي هي حيوية كما تلك المعضلات التي لقرون كانت موضوعا للأدب و الموسيقى والرسم. إنها مسألة بحث، في كل مرة تبحث من جديد عن الطريق، المجرى، الذي ينبغي أن تسلكه السينما. أنا مقتنع، بالنسبة لأي واحد منا، بأن عملنا السينمائي سوف يصبح عقيما، غير مجد، وميئوسا منه، لو أخفقنا في إدراك – بدقة وعلى نحو جلي لا لبس فيه – السمة أو الخاصية المميزة للسينما، ولو أخفقنا في إيجاد، داخل أنفسنا، مفتاحنا الخاص بالعمل السينمائي

 

****

 

 

 

الفصل الرابع:

الدور المقدر للسينما

 

لكل فن معناه الشعري الخاص، و السينما ليست استثناء. إن لها دورا خاصا، قدرا خاصا.

لقد نشأت السينما من اجل أن تعبّر عن مجال معين من الحياة التي معناها، حتى ذلك الوقت، لم يجد تعبيره في أي شكل فني قائم. كل شيء جديد في الفن انبثق استجابة لحاجة روحية، ووظيفته أن يطرح تلك الأسئلة التي هي متصلة على نحو بارز ورفيع بزمننا.

بهذا الخصوص، أتذكر ملاحظة ملفتة للنظر طرحها الأب بافل فلورنسكي (7) في كتابه “الفاصل الأيقوني”، حيث يقول بأن المنظور المعكوس في أعمال تلك المرحلة لم يكن نتيجة عدم إدراك رسامي الأيقونات الروس للقوانين البصرية التي كانت مفهومة جيدا في عصر النهضة الإيطالية، بعد تطورها في إيطاليا على يد ليون باتيستا ألبرتي (8) لقد حاول فلورنسكي أن يبرهن، على نحو مقنع، بأنه لم يكن ممكنا رصد الطبيعة بدون اكتشاف المنظور، هذا المنظور الذي سوف يلاحظ بلا شك. إن المنظور المعكوس في الرسم الروسي القديم، الذي هو إنكار لمنظور عصر النهضة، يعبر عن الحاجة إلى تسليط الضوء على مشكلات روحية معينة أخذها الرسامون الروس على عاتقهم بخلاف معاصريهم الإيطاليين. وهناك رواية تقول بأن أندريه روبليوف قد زار فينيسيا فعلا. وبأية حال، لابد وانه كان واعيا لما يفعله الرسامون الإيطاليون بالمنظور.
السينما عاصرت القرن العشرين، ذلك لم يكن مصادفة. السينما كانت الشكل الفني الأول الذي نشأ كنتيجة لاختراع تكنولوجي، و استجابة لحاجة حيوية أساسية. إنها الأداة التي كان على البشرية أن تملكها في سبيل مضاعفة سيطرتها على العالم الحقيقي، نظرا لأن حقل أي شكل فني مقصور على مظهر واحد من اكتشافنا الروحي والعاطفي للواقع المحيط بنا.

إن المتفرج، فيما يشتري تذكرته، يبدو كما لو كان يلتمس سد النقص، أو إكمال الفجوات، في تجربته الخاصة، رامياً نفسه في بحث عن “زمن مفقود”. بتعبير آخر، هو يسعى إلى ملء ذلك الخواء الروحي الذي تشكل نتيجة الشروط الخاصة لهذه الكينونة الحديثة: نشاط متواصل، تقليص الاتصال الإنساني، والنزعة المادية للتربية العصرية.

طبعا بإمكان المرء أن يقول بأن عدم كفاية تجربة الفرد الروحية ربما تكون أيضا محققة عبر الفنون الأخرى وعبر الأدب. (حالما يفكر المرء في البحث عن الزمن الضائع، يتذكر بالطبع عنوان رواية بروست) لكن أيا من الفنون المعروفة و”المحترمة” لا تملك هذه الجماهيرية الهائلة كما السينما. ربما الإيقاع، الطريقة التي بها توصل السينما إلى جمهورها تلك التجربة المكثفة التي يريد مبدع الفيلم أن يتقاسمها معهم، ينسجم – هذا الإيقاع- إلى حد بعيد مع إيقاعات الحياة الحديثة. ربما يكون صحيحا القول بأن الجمهور قد علق مفتونا بديناميكية السينما ولم تجرفه فحسب الإثارة التي تحدثها السينما. ( شيء واحد، مع ذلك، مؤكد: الجمهور العريض متفاوت، وتلك الشرائح الخاملة، غير الفعالة، من الجمهور هي التي تتأثر بسهولة أكثر بفعل الاستثارة والجدة). إن استجابات الجمهور المعاصر تجاه أي فيلم هي مختلفة من حيث المبدأ عن الانطباعات التي أحدثتها أعمال سنوات العشرينات والثلاثينات. عندما ذهب الآلاف من الناس في روسيا لمشاهدة شاباييف (9)، على سبيل المثال، فأن الانطباع، أو بالأحرى الإلهام، الذي أحدثه الفيلم كان متلائما تماما، كما بدا آنذاك، مع خاصيته: لقد قُدم إلى الجمهور عمل فني، لكن هذا العمل جذبهم قبل كل شيء لأنه كان نموذجا لنوع جديد وغير مألوف.

نحن الآن نعيش وضعا حيث الجمهور في أحوال كثيرة يفضل عملا تجاريا تافها على فيلم بيرجمان ( الفراولة البرية) أو فيلم انتونيوني (الخسوف). المشتغلون بالمهنة يهزون أكتافهم بلا مبالاة، و يتوقعون بأن الأعمال الجادة الهامة سوف لن تحرز النجاح مع الجمهور العام.

ما هو تفسير ذلك ؟ انحطاط في الذوق أم فقر في الأعمال ؟ لا هذا ولا ذاك .
ذلك ببساطة لأن السينما الآن توجد وتنمو ضمن شروط جديدة. الانطباع الآسر، الشامل، الذي غمر ذات مرة جماهير سنوات الثلاثينات، وجد تفسيره في البهجة العامة، العالمية، لأولئك الذين كانوا يشهدون بفرح بالغ ولادة شكل فني جديد والذي، علاوة على ذلك، أضيف إليه الصوت مؤخرا. عبر الواقع الفعلي لوجود هذا الفن الجديد الذي اظهر نوعا جديدا من الوحدة الكاملة، نوعا جديدا من الصورة و كشف عن مجالات من الواقع غير مستكشفة، عبر كل هذا استطاع الفن الجديد أن يذهل جمهوره ويحولهم الى معجبين متحمسين بالفيلم. اقل من عشرين سنة الآن تفصلنا عن القرن الواحد و العشرين. خلال وجودها، وعبر قممها وأغوارها، سلكت السينما طريقا طويلا ومتعرجا. العلاقة التي نمت بين الأفلام الفنية و السينما التجارية ليست سهلة وسلسلة، و الفجوة بينهما تصبح أوسع كل يوم. مع ذلك، فإن الأفلام يتم تحقيقها طوال الوقت والتي هي، يقينا، علامات في تاريخ السينما. الجمهور أصبح أكثر فطنة و إدراكا في موقفهم من الأفلام. و السينما، في حد ذاتها، قد كفت منذ زمن طويل عن إدهاشهم بوصفها ظاهرة جديدة و أصيلة، و في الوقت نفسه يتوقع منها أن تلبي مدى أوسع من الحاجات الفردية. لقد كشف الجمهور عن ما يميلون إليه و مالا يحبونه، ذلك يعني أن صانع الفيلم بدوره له جمهور ثابت، له دائرته الخاصة. أن اختلاف الذوق عند الجمهور يمكن أن يكون شديدا، لكن هذا لا يدعو إلى الأسف أو ينذر بخطر، فحقيقة أن الناس لديهم مقاييسم الجمالية الخاصة يدل على نمو الوعي الذاتي.

المخرجون يمضون عميقا نحو المجالات التي تعنيهم. هناك جمهور مخلص ومخرجون مفضلون، لذا ليس ثمة مجال للتفكير بلغة النجاح التام مع الجمهور، إذا تحدث المرء عن السينما بوصفها فنا وليس ترفيها. الشعبية الجماهيرية تقترح ما يعرف بالثقافة الجماهيرية وليس الفن.

نقاد السينما السوفيتية يؤكدون أن الثقافة الجماهيرية تعيش و تزدهر في الغرب، في حين أن الفنانين السوفييت مطالبين بمواصلة التأرجح على مقولة “الفن الحقيقي للشعب”.

في الواقع هم مهتمون بتحقيق أفلام ذات جاذبية جماهيرية، وبينما يتحدثون على نحو طنان عن تطوير “التقاليد الواقعية الحقيقية” للسينما السوفيتية، هم في الواقع، باطمئنان و دماثه، يعطون الضوء الأخضر لأفلام بعيدة تماما عن العالم الحقيقي وعن تلك المشاكل التي يعيشها و يعانيها الشعب فعلا. و في إشارتهم إلى نجاح السينما السوفيتية في الثلاثينات، هم يحلمون بالجماهير الآن وحالا، باذلين أقصى ما يمكن في التظاهر بأن شيئا لم يتغير في العلاقة بين الفيلم و الجمهور منذ ذلك الوقت.

لكن الماضي – على نحو رحيم – لا يمكن استعادته. الوعي الفردي بالذات ومنزلة الرؤى الذاتية عن الحياة تصبح مهمة أكثر. و بسبب ذلك تتطور السينما، شكلها يصبح مركبا أكثر، براهينها تصبح أعمق. إنها تسبر القضايا التي تجلب معا أناسا متباعدين أكثر ذوي تواريخ مختلفة، شخصيات متباينة و حساسيات غير متماثلة. المرء لا يعود يستطيع أن يتخيل رد فعل متفق عليه بالإجماع تجاه عمل فني حتى لو كان اقل إثارة للجدل أوالخلاف، و أيا كان عمقه أو حيويته. الوعي الجمعي المتوالد بواسطة الأيديولوجية الاشتراكية الجديدة قد أرغمته ضغوطات الحياة الواقعية أن يفسح المجال للوعي الذاتي. الفرصة الآن سانحة لصانع الفيلم و للجمهور من اجل المشاركة في حوار بناء وهادف من النوع الذي يرغب فيه و يحتاجه كلا الطرفين. المخرج والمتفرج متحدان بفعل الاهتمامات و الميول و الأهواء المشتركة، إضافة إلى حميمية الموقف وحتى القرابة الروحية. بدون هذه الأشياء، حتى الأفراد الأكثر إثارة للاهتمام عرضة لأن يثيروا ضجر بعضهم البعض، وإيقاظ تعارض غريزي أو كراهية فطرية أو سخط متبادل. ذلك طبيعي، ومن الواضح أن حتى الأعمال الكلاسيكية لا تحتل مكانا مماثلا في التجربة الذاتية لكل شخص.

أي فرد مؤهل لتقدير و إدراك الفن سوف يحصر، على نحو طبيعي، نطاق الأعمال المفضلة لديه وفقا لأهوائه وميوله الأعمق. والمؤهل لإصدار الأحكام و تحديد اختياراته الخاصة ليس بالضرورة قادرا على هضم كل شيء بنهم. وحتى بالنسبة لشخص ذي حس جمالي متطور، لا يمكن أن يكون هناك أي قولبة و أي تقييم “موضوعي” ( من يكونون هؤلاء القضاة الذين وضعوا أنفسهم فوق العالم لغرض إصدار أحكام “موضوعية” ؟)

من جهة أخرى، العلاقة الحاضرة بين الفنان والجمهور هي برهان على الاهتمام الشخصي بالفن لنطاق عريض جدا من الناس.

في السينما، الأعمال الفنية تسعى إلى تشكيل نوع من التكثيف للتجربة التي يجسدها الفنان في فيلمه: وهْم الحقيقة، صورتها. . إن جاز التعبير. إن ذاتية المخرج المميزة تحدد نمط علاقته بالعالم و تحصر ارتباطاته معه. و اختياره لهذه الروابط يجعل العالم ذاتيا أكثر.

إحراز حقيقة الصورة السينمائية: هذه مجرد كلمات، صفة حلم، تعبير عن هدف و الذي في كل مرة يتحقق يصبح إثباتا لما هو خاص و مميز في اختيار المخرج، و إظهاراً لما هو فريد و استثنائي في وضعه و موقعه. بحث المرء عن حقيقته الخاصة (ولا يمكن أن تكون هناك أي حقيقة أخرى، أي حقيقة مشتركة) يعني البحث عن لغته الخاصة. إن نظام التعبير مقدر له أن يمنح شكلا لأفكار المرء الخاصة. فقط بجمع أفلام مخرجين مختلفين معا نحن نتوصل إلى رؤية صورة واضحة عن العالم الحديث، والتي هي واقعية تقريبا و تطالب باعتبارها بيانا عما يهم ويثير ويحير معاصرينا: تجسيد، في الواقع، لتلك التجربة المعممة التي يفتقدها الإنسان الحديث و التي يعيشها فن السينما ليجعلها مجسمة.

ينبغي أن اعترف بأني قبل ظهور فيلمي الطويل الأول “طفولة إيفان” لم أكن اشعر بأنني مخرج سينمائي، و لم تكن للسينما أي معرفة طفيفة بوجودي. فقط بعد ( إيفان ) أدركت أن علي أن اعمل في السينما. حتى ذلك الحين كانت السينما عالما مغلقا بالنسبة لي إلى حد أنني لم أكن املك أية فكرة واضحة عن الدور الذي هيأه لي أستاذي ميخائيل روم (10).

كان ذلك أشبه بالسفر عبر مسالك متوازية والتي أبدا لا تحاذي ولا تؤثر في بعضها البعض. المستقبل لم يمس الحاضر. لم يكن جليا بالنسبة لي، في المستوى الأعمق، ما الذي ستكون عليه وظيفتي. حتى الآن لا أستطيع أن أرى ذلك الهدف الذي لا يمكن بلوغه إلا من خلال صراع المرء مع نفسه، و الذي يعني موقفا صريحا، مصاغا لكل زمان. ذلك الهدف سوف يظل ثابتا إلى الأبد- مع أن الوسائل المستخدمة في ملاحقة الهدف يمكن أن تتغير- ذلك لأنه يعين وظيفة الفرد الأخلاقية.

كان ذلك في الوقت الذي، على نحو احترافي، كنت أوجد لنفسي ذخيرة من التقنيات التعبيرية، و في الوقت نفسه كنت ابحث عن أسلاف، عن آباء، عن مجرى واحد من التقاليد و الذي سوف لن يتعرض للانتهاك من قبل جهلي و أميتي. كنت قد بدأت في معرفة السينما عمليا: الحقل الذي تعين علي أن اعمل فيه.

إن تجربتي توضح بأن تعلم شخص ما في معهد للسينما لا يخلق منه فنانا. وأن تصبح فنانا لا يعني تعلم شيء ما، و اكتساب تقنيات و مناهج مهنية فحسب. في الواقع، و كما قال أحدهم، لكي تكتب جيدا ينبغي أن تنسى القواعد.

أي شخص يقرر أن يصبح مخرجا فإنه يختار المجازفة، وهو وحده المسؤول عن قراره. ولا بد أن يكون قراراً واعياً ويتخذه شخص ناضج. المجموعة الهائلة من المدرسين، الذين يحاولون إعداد الشخص ليصبح فنانا، ليس بوسعهم تعويض الذين يخفقون عن كل السنوات التي ضحوا بها و فقدوها في المعهد. هؤلاء يأتون مباشرة من المدرسة. أن اختيار الطلبة لمعاهد من هذا النوع لا ينبغي أن يتم على نحو عملي، ذرائعي، ذلك لأنه يتضمن بعدا أخلاقيا: ثمانون في المئة من الذين درسوا ليصبحوا مخرجين أو ممثلين شكلوا صفوفا من غير المؤهلين مهنيا و الذين امضوا بقية حياتهم يدورون حول السينما. الغالبية منهم تنقصهم المقدرة على الانسحاب من مجال السينما و الانتقال إلى مهنة أخرى. بعد تكريس ست سنوات في دراسة السينما، يبدو من الصعب للبعض أن يتخلى عن أوهامه.

الجيل الأول من صانعي الأفلام السوفييت شكلوا ظاهرة عضوية متناسقة الأجزاء. لقد ظهروا استجابة لنداء القلب و الروح. إن ما فعلوه كان مدهشا حقا لكن كان أيضا طبيعيا بالنسبة لزمنهم. . وهي الحقيقة التي يخفق الكثيرون الآن في إدراكها وتقديرها.

القصد هو أن السينما السوفيتية الكلاسيكية كانت نتاجات مجموعة من الشبان، الفتيان تقريبا، و الذين عرفوا – مع ذلك – ما تعنيه أعمالهم و لم يترددوا في تحمل المسؤولية.

مع ذلك، فإن السنوات التي قضيناها في معهد السينما كانت سنوات تعليم وتثقيف، وقد مهدت السبيل، شيئا فشيئا، لتقييم أو لتحديد أهمية ذلك التدريب اليوم. و كما يقول هيرمان هيسه في “لعبة الكريات الزجاجية” الحقيقة ينبغي أن تعاش، لا أن تدرس.

الحركة تصبح صادقة، أي قادرة على تحويل التعاليم إلى طاقة اجتماعية، فقط تكون الطريقة التي بها تنمو و تتغير متوافقة مع المنطق الموضوعي لتطور المجتمع.
إن كلمات هيسه تصلح في الواقع لأن تتصدر فيلم “أندريه روبليوف”.

تشكيل الأساس لمفهوم شخصية أندريه روبليوف هو المخطط للعودة إلى البداية، و أرجو أن ينبثق هذا في الفيلم كتعاقب طبيعي و عضوي للتدفق الحر لحياة مبتدعة على الشاشة. بالنسبة لنا قصة روبليوف هي في الواقع قصة مفهوم ملقن أو مفروض و الذي يتوهج في مناخ واقع حي لينهض ثانية من الرماد كحقيقة طرية ومكتشفة من جديد.

أندريه، الذي تدرب في دير الثالوث الأقدس و سانت سيرجيو، تحت وصاية وتأثير سيرجي رادونيجسكي، و الذي عاش ناسكا و لم تمسه الحياة، قد استوعب البديهية الأساسية: الحب، الأخوة، وحدة الجماعة. في تلك الفترة من الصراعات الأهلية والاقتتال الدموي بين الأخوة، و انسحاق البلاد تحت أقدام الغزاة التتار، كان شعار سيرجي – المستلهم من الواقع و من نفاذ بصيرته السياسية – يلخص الحاجة إلى الوحدة، إلى التمركز، في وجه التحالف المنغولي – التتاري، كوسيلة وحيدة لضمان البقاء والمحافظة على الكرامة وإحراز الاستقلال الوطني و الديني.

أندريه الشاب تلقى هذه الأفكار ذهنيا و فكريا. . تربى عليها و جعلها تنطبع في ذهنه. و ما إن غادر أسوار الدير حتى واجه واقعا غريبا، غير مألوف وغير متوقع، لكنه مرعب أيضا. إن الطبيعة التراجيدية لذلك الزمن يمكن تأويلها فقط من زاوية بلوغ ذروة الحاجة للتغيير.

من السهل رؤية إلى أي مدى كان أندريه اعزلا و غير مهيأ بشكل فعال لهذه المجابهة مع الحياة بعد أن كان محميا منها داخل تخوم الدير السرية حيث تكونت لديه رؤية محرفة للحياة التي تمتد بعيدا وراء الدير. فقط بعد اجتيازه دوائر الألم و المعاناة، متحدا مع مصير شعبه، و فاقدا إيمانه بفكرة الخير التي لا يمكن أن تتصالح مع الواقع، يعود أندريه إلى تلك النقطة التي بدأ منها: إلى فكرة الحب، الخير، الأخوة. . لكن بعد أن اختبر بنفسه الحقيقة السامية، الجليلة، لتلك الفكرة بوصفها تعبيرا عن طموحات شعبه المعذب.

الحقائق التقليدية تظل حقائق فقط حين تكون محمية من قبل التجربة الشخصية. عندما أفكر في السنوات التي أمضيتها كطالب في معهد السينما، حين كنت استعد لدخول المهنة التي كان من المقدر لي أن امكث فيها بقية حياتي، وفي ضوء حياتي العملية اليوم، فإن تجربة سنوات الدراسة تلك تبدو فاترة، غريبة إلى حد ما.

كنا نعمل كثيرا في الموقع و نحن نتدرب على الإخراج أو تأويل الأداء أمام جمهور من الطلبة، وكنا نكتب كثيرا، ونعد سيناريوهات لأنفسنا من مادة التدريس. لم نكن نشاهد أفلاما كافية ( والآن، حسب علمي، يشاهد طلبة المعهد عددا اقل من الأفلام ) لأن الأساتذة و الإدارة كانوا خائفين من التأثير المهلك للأفلام الغربية، و التي قد يتلقاها الطلبة “على نحو نقدي” اقل مما ينبغي. بالطبع هذا مناف للعقل: كيف يمكن لأي شخص أن يتجاهل أو يتجنب السينما العالمية المعاصرة و يريد مع ذلك، أن يمارس هذه المهنة ؟ هل يستطيع المرء أن يتصور رساما لا يرتاد المتاحف أو لا يذهب إلى مراسم زملائه، أو كاتبا لا يقرأ الكتب، أو مصورا سينمائيا لا يشاهد أفلا ما ؟ . . نعم، انه هناك، الطالب في معهد السينما عندنا، الذي هو فعليا محروم من مشاهدة إنجازات السينما العالمية فيما هو يدرس في المعهد.

لازلت اذكر الفيلم الأول الذي تمكنت من مشاهدته في المعهد عشية امتحانات الدخول.. فيلم جان رينوار (الحضيض ) المأخوذ عن مسرحية مكسيم جوركي. وقد ترك فيّ الفيلم انطباعا غريبا و مربكاً، إحساسا بشيء محرم، سري، وغير طبيعي.

في عامي الرابع في المعهد، حالة التأمل الميتافيزيقي عندي أفسح المجال فجأة لتفجر الحيوية. طاقاتنا كانت تشق مجراها نحو تدريبات عملية أولا ثم نحو تحقيق فيلم قبل التخرج، وهو الفيلم الذي أخرجته بالتعاون مع ألكسندر جور دون الذي كان ضمن دفعتي. كان فيلما طويلا نسبيا، أنتجه المعهد و استوديوهات التلفزيون المركزي التي وفرت لنا التسهيلات، وهو عن خبراء متفجرات يعطلون قنبلة كانت موضوعة في متجر أسلحة ألماني ترك مهجورا بسبب الحرب.

كان السيناريو الذي كتبته بنفسي عقيماً تماماً. و بعد تصويره لم اشعر مطلقا بأني كنت اقترب من فهم ما يسمونها السينما. الأمور صارت أسوأ بسبب واقع أننا كنا طوال فترة التصوير نتوق إلى تحقيق فيلم درامي طويل، أو فيلم حقيقي كما تخيلنا على نحو خاطئ.

في الواقع، أن تحقيق فيلم قصير هو تقريبا أصعب من تحقيق فيلم طويل: انه يقتضي إحساسا لا يخطئ بالشكل. لكن في تلك الأيام كنا قد تدربنا قبل كل شيء على أفكار طموحة عن الإنتاج و التنظيم، بينما مفهوم الفيلم كعمل فني هو مراوغ ويفوتنا إدراكه على نحو متماسك. بالنتيجة، كنا عاجزين عن الاستفادة من عملنا في الفيلم القصير من اجل تعيين أهدافنا الجمالية الخاصة. مع ذلك، حتى الآن لم افقد الأمل في تحقيق فيلم قصير يوما ما: حتى إنني كتبت مخططات تمهيدية في دفتر ملاحظاتي.. إحداها عبارة عن معالجة سينمائية لقصيدة كتبها والدي أرسيني الكسندروفيتش تاركو فسكي، بحيث يلقيها هو بصوته. و قد استخدمت هذه القصيدة في فيلمي ( نوستالجيا ):

ذات يوم، وأنا طفل، وقـعــت مريضا

بسبب الجوع و الخوف. من شفتي انتزعت

قشورا جافة، و لعقت شفتي.

لازلت اذكر المذاق، مالح بعض الشيء و فاتر.

وطوال الوقت كنت امشي و امشي و امشي.

جلست على الأدراج الأمامية لأدفئ نفسي،

فقد اجتزت طريقي الطائش كما لو ارقص

على أنغام آسر الفئران، في اتجاه النهر.

جلست لأتدفأ على الأدراج، مرتجفا

وأمي تقف هناك مومئة، تبدو كما لو إنها قريبة،

لكني لا أستطيع أن اصعد إليها:

أتحرك نحوها، هي واقفة على بعد سبع خطوات، تومئ إلي..

أتحرك نحوها، هي واقفة

على بعد سبع خطوات و تومئ إليَّ

شعرت بحرارة عالية

فككت زر ياقتي و استلقيت،

عندئذ سمعت أصوات أبواق تدوي،

طرق خفيف على جفوني، خيول تعدو،

وأمي كانت تحلّق فوق الطريق،

أومأت إليّ و حلقت بعيداً..

والآن حلمي عن المستشفى ،

بياض تحت أشجار التفاح،

وملاءة بيضاء تحت ذقني،

وطبيب ابيض يطل علي،

وممرضة بيضاء واقفة عند قدمي.. بجناحين يخفقان.

هناك مكثوا..

وأمي جاءت، و أومأت إليّ..

ثم حلقت بعيدا.

 

لهذه القصيدة فكرت، منذ مدة، في استخدام المشاهد المتتابعة التالية:
المشهد (1): لقطة عامة. منظر جوي لبلدة ما. انه الخريف أو بداية الشتاء zoom in بطيء إلى شجرة منتصبة قرب جدار دير مكسو بالجص .

المشهد (2) : لقطة قريبة . من زاوية أسفل، zoom in إلى برك صغيرة جدا نشأت من تجمع مياه الأمطار ، أعشاب ، طحالب .. مصورة عن قرب لإعطاء الانطباع بالمنظر الطبيعي. في اللقطة الأولى يمكن سماع ضوضاء البلدة – مزعجة و لحوحة – والتي تتلاشى كليا مع نهاية اللقطة الثانية.

المشهد (3): لقطة قريبة. نار مضرمة في الهواء الطلق. يد شخص تمتد حاملة ظرفا قديما، مدعوكاً، نحو لهب يخمد. النار تندلع فجأة. الكاميرا تتحرك لتظهر من أسفل الأب الشاعر (مؤلف القصيدة) الواقف قرب الشجرة ناظرا إلى النار. ثم ينحني ليتولى النار بعنايته. اللقطة تتوسع لتشمل المنظر الطبيعي الخريفي، الفسيح. السماء ملبدة بالغيوم. على مبعدة، النار تتوهج في منتصف الحقل. الأب يحرك الجمرات لإذكاء النار. هو يعتدل في وقفته، يستدير، ويسير مبتعدا عن الكاميرا على طول الحقل.

زوم بطيء من الخلف لتصبح اللقطة متوسطة. الأب يواصل السيرطوال الوقت عدسات الزوم تظهره بالحجم ذاته. بعدئذ ، هو تدريجيا يستدير حتى يظهر في لقطة جانبية . الأب يختفي بين الأشجار.

من بين الأشجار يخرج الابن، و يسير في طريق الأب ذاته.
Zoom in تدريجي إلى وجه الابن ، الذي مع نهاية اللقطة يكون مباشرة أمام الكاميرا.

المشهد (4): من وجهة نظر الابن. لقطة من أعلى و zoom in: طرقات، برك من مياه الأمطار، عشب ذابل. ريش ابيض يهبط دائريا ليسقط في إحدى البرك ( وقد استخدمت الريش في فيلم نوستالجيا )

المشهد (5): لقطة قريبة. الابن ينظر إلى الريش الساقط ثم يرفع بصره ناظرا إلى السماء، ينحني ثم يعتدل، ويسير خارجا من الكادر. لقطة عامة: الابن يلتقط الريش و يواصل السير. يختفي بين الأشجار و التي منها يظهر حفيد الشاعر سائرا في الاتجاه نفسه، في يده ريش ابيض. الغسق يهبط. الحفيد يسير عبر الحقل. Zoom in إلى لقطة قريبة جانبيه للحفيد. فجأة يلاحظ شيئا خارج الكادر، فيتوقف. حركة Pan في اتجاه تحديقته .

لقطة عامة لملاك واقف عند حافة الغابة المظلمة. الغسق يهبط. الظلمة تحل، فيما البؤرة تصبح ضبابية.

يمكن سماع القصيدة من بداية اللقطة الثالثة وحتى نهاية اللقطة الرابعة.. بين النار المضرمة في الهواء الطلق و الريش الساقط. تقريبا في لحظة انتهاء القصيدة، وربما قبل هذا بقليل، يمكننا سماع نهاية الجزء الأخير من ( سيمفونية الوداع ) لهايدن، والتي تنتهي فيما الظلمة تهبط.

لو تعين علي أن أحقق الفيلم، فعلى الأرجح سوف لن يكون تنفيذا حرفيا لما هو مكتوب في دفتر الملاحظات. و أنا لا أستطيع أن اتفق مع رأي رينيه كلير القائل بأن ما أن تتكون لديك فكرة عن الفيلم فلا يبقى لك إلا أن تصوره. إنها طريقة مختلفة تماما عن تلك التي أحقق بها السيناريو على الشاشة. ليس ذلك لأنني أجد نفسي أقوم بتغييرات أساسية للفكرة الأصلية للفيلم، فالباعث الأولي للفيلم يظل كما هو دون تغيير وينبغي تحققه في العمل المنجز. لكن، من ناحية ثانية، أثناء التصوير والمونتاج وإعداد التسجيل الصوتي، الفكرة تثابر في التبلور في أشكال دقيقة، وبناء الصورة لا يكون محسوما إلا في الدقيقة الأخيرة. إن عملية إنتاج أي عمل فني تعني الصراع مع المادة، إحكام السيطرة عليها من أجل التحقيق الكامل والمثالي للمفهوم الذي يظل حيا في تأثير الفنان المباشر.

مهما يحدث فإن غاية الفيلم، الشيء الذي أعطى المرء الفكرة في المقام الأول، لا ينبغي أن تكون “مسفوكة” أثناء العمل بما أن الفكرة العامة تصبح متجسدة من خلال وسط السينما: أعني استخدام صور الواقع نفسه..ذلك لأنها يجب أن تصبح حية في جسد الفيلم عبر الاتصال المباشر بالعالم الحقيقي، المادي.

إنه خطأ فادح، بل يمكن أن أقول، خطأ مهلك، أن تحاول تحقيق فيلم يتطابق تماما، وعلى نحو دقيق، مع ما هو مكتوب على الورق. وأن تنقل إلى الشاشة بنى وتراكيب تم التفكير فيها سلفا، وعلى نحو فكري محض، فإن هذه العملية البسيطة يمكن أن يقوم بها أي مهني محترف. ولأن الإبداع الفني عملية حية ومتقدة فإنه يقتضي القدرة على الرصد المباشر للعالم المادي، المتغير على الدوام، والذي هو باستمرار في حالة حركة.

الرسام بعون من الألوان، الكاتب بعون من الكلمات، الموسيقار بعون من الأصوات، جميعهم مشغولون في صراع لا يلين للسيطرة على المادة التي على أساسها يبنون أعمالهم. السينما نشأت كوسيلة لتسجيل حركة الواقع نفسها.. الحقيقية، المحددة، داخل الزمن..وكوسيلة لإعادة إنتاج اللحظة المرة تلو الأخرى في تحولها المرن والرشيق..تلك اللحظة التي بواسطتها نجد أنفسنا قادرين على إحراز السيطرة عن طريق طبع اللحظة على الفيلم.ذلك هو ما يحدد وسط السينما.إن مفهوم المبدع يصبح شهادة إنسانية، حية، تستطيع أن تثير وتأسر الجمهور فقط عندما نكون قادرين على غمرها في تيار الواقع المتدفق الذي نحاول تثبيته بإحكام في كل لحظة مادية وملموسة نرسمها أو نصورها..الوحيدة والفريدة في البنية كما في الشعور، وإلا فإن الفيلم يكون محكوما عليه بالإخفاق.. سوف يموت قبل أن يولد.

بعد أن أنهيت “طفولة إيفان” شعرت بأنني في مكان ما على حافة السينما.إنه شبيه بما يحدث في تلك اللعبة، حين يكون في إمكانك أن تشعر بحضور شخص ما في غرفة مظلمة حتى لو كان هذا الشخص حابسا أنفاسه.لقد كانت السينما في مكان ما قريبة جدا مني. الإثارة التي شعرتها جعلتني أدرك ذلك بوضوح..مثل تململ كلب صيد إلتقط رائحة ما أو تعرف إلى أثر ما. وقد حدثت المعجزة.. الفيلم حقق نجاحا. الآن صرت مطالبا بشيء آخر: عليّ أن افهم ما هي السينما.

كان ذلك حين خطرت لي فكرة “الزمن المطبوع”.. الفكرة التي أتاحت لي أن انمي مبدأ، مع نقاط إسناد(أو مرجع) والتي سوف تبقي خيالي الجامح تحت السيطرة فيما ابحث عن شكل، عن سبل لمعالجة الصور، هذا المبدأ الذي سوف يطلق يدي، ويجعل من الممكن نزع كل ما هو غير ضروري أو مخالف أو غير متصل بالموضوع، بحيث أن مسالة ما يحتاج إليه الفيلم، وما يجب أن يتجنبه، سوف تكون محلوله من نفسها. اعرف الآن مخرجين اثنين اشتغلا بكوابح صارمة، ومفروضة ذاتيا، لمساعدتهما في خلق شكل حقيقي لتحقيق فكرتهما: دوفجنكو(مع فيلمه: الأرض) وبريسون (مع فيلمه: يوميات قسيس ريفي).. لكن بريسون هو ربما الرجل الوحيد في السينما الذي أحرز الالتحام الكلي للعمل المنجز مع مفهوم تم استنباطه نظريا سلفا. لا اعرف فنانا آخر متناغما مع نفسه في هذه الناحية مثل بريسون. إن مبدأه الهادي كان إزالة ما يعرف ب ” التعبيرية”، بمعنى انه أراد أن يلغي التخم بين الصورة والحياة الفعلية، أن يجعل الحياة نفسها نابضة ومعبرة. لا تغذية خاصة للمادة، لا شيء معالج بتفصيل مفرط، لا شيء فيه نكهة تعميم مقصود.

بول فاليري كان كما لو يعبر عن بريسون حين كتب: ” الكمال لا يمكن إحرازه إلا بتفادي كل ما يتسم بالمبالغة الواعية”. أي لا أكثر من رصد متواضع وبسيط للحياة.

للمبدأ شيء مشترك مع فن الزن ZEN (النفاذ إلى طبيعة الحقيقة عن طريق التأمل) حيث الرصد الدقيق للحياة ينتقل في صورة مجازية فنية. عند بوشكين نجد أن العلاقة بين الشكل والمحتوى هي سحرية، عضوية، هبة إلهية. لكن بوشكين مثل موزارت كان يخلق مثلما يتنفس، دون أن يضطر إلى تشييد مبادئ عمل. وفي شعرية الفيلم، كان بريسون، أكثر من أي شخص آخر، قد وحّد النظرية والتطبيق في عمله مع فردية الغاية.. على نحو متناغم ومنتظم.أن رؤية واضحة ورزينة لشروط عمل المرء تسهل عملية إيجاد شكل ملائم تماما لأفكار ومشاعر المرء دون اللجوء إلى التجريب.

لاشيء يمكن أن يكون خاليا من المعنى أكثر من كلمة “بحث” عند تطبيقه على عمل فني. إنها تغطية للعجز، الخواء الداخلي، الافتقار إلى الوعي الخلاق الحقيقي، الغرور وضيق الأفق. “فنان يبحث” هذه الكلمات مجرد ستار لقبول أي عمل رديء أو اقل قيمة. الفن ليس علما، والمرء لا يستطيع أن يشرع في القيام بتجارب كما الحال مع التجربة العلمية. حين يظل التجريب على مستوى التجريب، وليس مرحلة في عملية إنتاج العمل المكتمل الذي قام به الفنان سرا، عندئذ لا يكون هدف الفن متحققا.

مرة أخرى لدى بول فاليري ملاحظته المثيرة للاهتمام على هذا في مقالته “ديجا، الرقص، التصميم الفني”:

” لقد نجحوا (11) في الخلط بين التمرين والقطعة الموسيقية، ونظروا إلى ما ينبغي أن يكون مجرد وسيلة على إنها غاية. لكي يكون عمل ما منجزاً أو كاملا، فإن كل ما يفشي أو يوحي بالاختلاف فيه، ينبغي أن يكون خفياً. الفنان يجب أن يظهر نفسه فقط في أسلوبه، ويجب أن يواصل جهوده حتى يمحو عمله أي أثر لجهده. رغم ذلك، وفيما يتعلق بالفرد وباللحظة التي جاءت تدريجيا لتتغلب على الاهتمام بالعمل نفسه وديمومته، فإن شرط الإنجاز أو الاكتمال ذاك لا يبدو عقيما ومضجرا فحسب بل هو في الحقيقة على تعارض مع الصدق والحساسية وتجلي النبوغ.الذاتية أصبحت أكثر أهمية حتى بالنسبة للجمهور.الاسكتش إكتسب أهمية وقيمة اللوحة.”

في فن النصف الثاني من القرن العشرين، صار اللغز مهملا أو منسيا. اليوم يريد الفنانون اهتماما خاصا واعترافا فوريا وشاملا.. مكافأة عاجلة مقابل شيء يحدث في حقل الروح.في هذه النقطة، تكون شخصية كافكا بارزة. طوال حياته لم يطبع أياً من كتبه، وفي وصيته أمر منفذ الوصية بأن يحرق كل ما كتبه. ذهنيا، كافكا كان ينتسب إلى الماضي، ولأنه لم يكن متناغما مع زمنه فقد كابد وعانى كثيرا.

ما يحسبه الناس فناً اليوم هو في أغلب الأحوال قصة خيالية، والافتراض بأن المنهج يمكن أن يصبح معنى الفن وهدفه هو افتراض خاطئ. مع ذلك، أغلب الفنانين المعاصرين يبددون وقتهم في شرح وإثبات المنهج في انغماس ذاتي.

مسألة الطليعية برمتها هي خاصة بالقرن العشرين، بالزمن الذي فقد فيه الفن – على نحو مطرد- قيمه الروحية. والوضع أسوأ في الفنون البصرية التي هي اليوم تكاد تكون مجردة تماما من الروحانية. الرأي المسلم به هو أن هذا الوضع يعكس حالة المجتمع المناقضة للقيم الروحية. وبالطبع، على مستوى الرصد البسيط للتراجيديا، فأنني اتفق مع هذا الرأي: ذلك هو ما يعكسه، لكن الفن يجب أن يرصد وان يتخطى أيضا. إن دوره هو أن يقدم رؤية روحية تتصل بالواقع كما فعل دوستويفسكي: أول من عبر بوضوح، وعلى نحو ملهم، عن مرض العصر.

المفهوم الكلي للطليعية في الفن هو مفهوم خال من المعنى. أستطيع أن افهم ما تعنيه عند تطبيقه على الرياضة مثلا، لكن تطبيقه على الفن يعني أن نقبل ونقر فكرة التقدم في الفن. ومع أن للتقدم موضع جلي في التكنولوجيا- آلات كاملة أكثر قادرة على القيام بوظائفها على نحو أفضل وأكثر دقة- فكيف يمكن لأي شخص أن يكون أكثر تقدما في الفن؟ وهل نستطيع أن نقول أن توماس مان أفضل من شكسبير ؟ ينزع الناس إلى الحديث عن التجريب والبحث، قبل كل شيء، في ما يتعلق بالطليعية.. لكن ما الذي يعنيه ذلك ؟ كيف يمكنك أن تجرب في الفن ؟ هل تقوم بمحاولة أو تجربة ثم ترى كيف تنتهي أو كيف ستكون النتيجة ؟لكن إذا لم تنجح المحاولة فعندئذ سوف لن يكون هناك شيء لرؤيته غير المعضلة الخاصة بالشخص الذي أخفق.العمل الفني يحمل بداخله جمالية مكملة ووحدة فلسفية..إنه كائن حي، يعيش ويتطور وفقا لقوانينه الخاصة.هل يمكن الحديث عن التجريب في ما يتعلق بولادة طفل ؟ ذلك عبث وغير أخلاقي.

هل هذا لأن الذين بدأوا في الحديث عن الطليعية هم أولئك الذين يعجزون عن فصل الحنطة عن أي عنصر غير مرغوب فيه ؟ الذين تربكهم البنى الجمالية الجديدة ،أولئك التائهين الذين تعوزهم الثقة بالنفس إزاء الاكتشافات والإنجازات الحقيقية ،غير قادرين على إيجاد أي معايير خاصة بهم ،والذين يضعون ضمن المنبع الواحد للطليعية كل ما هو غير مألوف وغير مفهوم بسهولة ..-فقط لئلا يقال عنهم أنهم مخطئون ؟

إني أتفق مع بيكاسو الذي، عندما سئل عن ” بحثه”، أجاب بذكاء (ويبدو واضحا أن السؤال قد أزعجه): “أنا لا أبحث، أنا أجد”.

وهل يمكن أن ينطبق البحث حقا على شخص عظيم مثل ليف تولستوي ؟هذا الرجل العجوز، هل كان “يبحث” حقا؟ هذا سخف.. مع أن ذلك هو ما يقوله بعض النقاد السوفييت مشيرين إلى أنه قد ضل طريقه “ببحثه عن الله” و”مقاومته الشر وفقا لمبدأ اللاعنف”.. وبالتالي فإنه لم يكن يبحث في الموضع الصحيح.

إن التأثير الذي يمارسه البحث فيما يتصل بالعمل المكتمل مماثل للعلاقة بين التجول عبر الغابة حاملا سلة وباحثا عن الفطر، وبين السلة الملأى بالفطر. السلة المليئة هي العمل الفني (المحتويات حقيقية وتامة )، بينما التجول عبر الغابة يبقى شأنا خاصا لشخص يستمتع بالمشي والهواء النقي.على هذا المستوى يصبح الخداع نية شريرة… العادة السيئة في الخلط بين الكناية والكشف، بين المجاز والبرهان، بين فيض من الكلمات والمعرفة الجوهرية، بين الذات والنبوغ.. ذلك هو الشر الذي يكون معنا حين نولد …هكذا يلاحظ فاليري، مرة أخرى ، وعلى نحو تهكمي، في “مدخل إلى نظام ليوناردو دافنشي .

في السينما، “البحث” و”التجريب” يكشف عن صعوبات وعوائق أكثر. إنهم يعطونك بعض العلب من الفيلم الخام، ومعدات، وعليك أن تعطي الشيء شكلا ثابتا وأن تضع في الفيلم ما يهمك وما تريد أن تقوله، والذي من اجله صورت الفيلم. إن فكرة وهدف الفيلم ينبغي أن يكون واضحا للمخرج من البداية.. بصرف النظر عن حقيقة أن أحدا سوف لن يدفع له مالاً من اجل أن يقوم بتجارب مبهمة. أي شيء يحدث، لا يهم إلى أي مدى يبحث الفنان – وهذا يبقى شانا خاصا، شخصيا على نحو خالص- من اللحظة التي يتم فيها تثبيت تلك البحوثات على الفيلم(إعادة تصوير اللقطات أو المشاهد بعد إنجاز الفيلم هي نادرة الحدوث، حتى إذا توفر فيها خلل أو عيوب) أي من اللحظة التي تصبح الفكرة مدركة بالحواس، على المرء أن يفترض بان الفنان قد وجد في ذلك الحين الشيء الذي يريده، ويريد أن يخبر الجمهور عنه عبر السينما، والفنان هنا لا يعود يهيم في الظلام.

في الفصل التالي سوف ننظر بالتفصيل إلى الأشكال التي فيها تصبح الفكرة متجسدة في فيلم ما. الآن أريد أن أقول بضع كلمات عن السرعة التي بها الأفلام تصبح متخلفة عن العصر، الظاهرة التي ينظر إليها كواحدة من خاصياتها الأساسية، وفي الواقع لها علاقة بالهدف الأخلاقي للفيلم.

سيكون من السخف التحدث، على سبيل المثال، عن “الكوميديا الإلهية” بوصفها متخلفة عن العصر. مع ذلك فإن الأفلام التي كانت تبدو قبل سنوات قليلة أحداثا هامة انتهت إلى أن تكون، على نحو غير متوقع، مجرد محاولات ضعيفة، غير فعالة، غير بارعة. لم ذلك؟ السبب الأساسي كما أراه هو أن عمل صانع الفيلم عادة ليس فعلا إبداعيا بالنسبة له شخصيا، ليس مشروعا متطلبا أخلاقيا، وذا أهمية حيوية له. العمل يصبح متخلفا نتيجة الجهد الواعي الذي يبذله خالقه لأن يكون معبرا ومعاصرا. ان مثل هذه الأشياء لا ينبغي إحرازها، بل لابد أن تكون موجودة في الفنان.

في تلك الفنون التي يقدّر وجودها بعشرات القرون، الفنان يرى نفسه على نحو طبيعي وبلا ارتياب، بوصفه أكثر من مجرد راو أو مفسر: قبل كل شيء، هو فرد قرر أن يصوغ للآخرين، بصدق تام، الحقيقة من منظوره الخاص بشأن العالم.. صانعو الأفلام، من جهة أخرى، لديهم إحساس قوي بأنهم فنانون من الدرجة الثانية، وهذا هو سبب تحطم آمالهم ومعنوياتهم. في الواقع أستطيع أن افهم السبب. السينما لا تزال تبحث عن لغتها، وهي الآن فقط بدأت تقترب من إمكانية الإمساك بهذه اللغة. إن تقدم السينما نحو الوعي بالذات كان دائما يتعثر بواسطة الوضع الملتبس للسينما وتأرجحها بين الفن والصناعة: الخطيئة الأصلية لنشوئها في السوق.

إن مسألة ما يؤلف لغة السينما هي ليست بسيطة، كما إنها ليست واضحة حتى بالنسبة للمحترفين. في كل مرة نتحدث عن لغة السينما، الحديثة أو غيرها، ننزع إلى إحلال مجموعة من المناهج أو الطرائق الدارجة اليوم، والمستعارة من الفنون المجاورة. نحن بالتالي نقع أسرى الافتراضات الزائلة و التصادفية التي تخترعها اللحظة أو المرحلة الراهنة. انه يصبح ممكنا القول، على سبيل المثال، بان” الفلاش باك، اليوم، هو ذروة السينما أو كلمة السينما الأخيرة ” ثم نأتي في الغد لنعلن بكل جرأة ووقاحة أن ” أي تشويش للزمن في السينما مكتوب عليه الفشل، وان النزوع اليوم هو نحو التنامي الكلاسيكي للحبكة”.

يقينا ليس هناك منهج قادر بذاته أن يكون متخلفا أو ملائما لروح الزمن. الشيء الأول الذي ينبغي تأسيسه لابد أن يكون ما يعنيه مبدع الفيلم، عندئذ فقط نتساءل لماذا هو استخدم هذا الشكل أو ذاك. بالطبع نحن لا نناقش التبني بالجملة لمناهج مبتذلة.. ذلك يحدث نتيجة المحاكاة والحرفية الآلية، بالتالي هذا لا يعد مشكلة فنية. مناهج الفيلم تتغير مثل مناهج أي شكل فني آخر. وقد ذكرت سابقا كيف هرب أول جمهور سينمائي من الصالة في ذعر لدى رؤيتهم القطار وهو يندفع نحوهم قادما من الشاشة، و كيف صاحوا في رعب حين ظنوا أن اللقطة القريبة كانت تُظهر رأسا مقطوعا. اليوم، هذه الطرائق بذاتها لا تثير أي انفعال عند أي شخص. ونحن نستخدم كنقاط أو فواصل، مسلم بها عموما، ما كان بالأمس يرى كاكتشاف صادم.. ولم يخطر في بال أي شخص أن يزعم بأن اللقطة القريبة هي اكتشاف قديم ومتخلف.

قبل انتقالها و تداولها ضمن الاستخدام العام و السائد، فإن مكتشفات المناهج و الوسائل لابد و أن تحدث بوصفها الطريقة الطبيعية و الوحيدة للفنان، مستخدما لغته الخاصة، لتوصيل إدراكه الخاص للعالم. الفنان لا يبحث أبدا عن المناهج في حد ذاتها إكراما لعلم الجمال. انه مجبر، على نحو موجع، على ابتكارها كوسيلة للإفصاح بإخلاص و أمانة عن رؤيته للواقع.

المهندس يخترع الآلات، ترشده حاجات الناس اليومية. انه يريد أن يجعل العمل، و بالتالي الحياة، أكثر يسراً وراحة لهم. مع ذلك، ليس بالخبز وحده… الفنان يوسع ويمدد مجاله في سبيل أن يعزز الاتصال، أن يساعد الناس على فهم بعضهم البعض على ارفع مستوى فكري و عاطفي وسيكولوجي و فلسفي. بالتالي فإن جهود الفنان، أيضا، موجهة نحو جعل الحياة أفضل، أكثر كمالا، و أكثر يسرا للناس من اجل فهم بعضهم البعض.

هذا لا يعني أن الفنان هو بالضرورة بسيط وواضح في تفسيره لنفسه أو لأفكاره بشأن الحياة، فهذا يمكن أن يكون صعب الفهم حقا. لكن الاتصال دائما يقتضي جهدا وبدونه، بدون الالتزام العميق، ليس ممكنا لشخص ما أن يفهم الآخر.

وهكذا فإن اكتشاف منهج ما يصبح اكتشافا لشخص اكتسب هبة الكلام.وعند ذلك الموضع، ربما بإمكاننا أن نتحدث عن ولادة صورة ما، أي عن إلهام. وتلك الوسائل التي كانت بالأمس فقط مبتكرة لتوصيل حقيقة تم إحرازها عبر الألم والكدح، وفي الغد سوف تصبح نمطا موثوقا إلى حد بعيد.

لو أن شخصا حرفيا ماهرا إستخدم وسيلة حديثة متطورة جدا للتحدث عن موضوع لا يمسه ولا يحرك مشاعره هو شخصيا، فإنه يستطيع لبعض الوقت أن يستحوذ على جمهوره أو يخدعه، لكن سرعان ما يتضح أن فيلمه لا يملك تلك الأهمية والقيمة الدائمة.عاجلا أو آجلا سوف يفضح الزمن، بلا هوادة، خواء أي عمل لا يعبر عن رؤية شخصية وفريدة للعالم. الخلق الفني ليس مجرد وسيلة لصياغة معلومات توجد على نحو موضوعي وتتطلب فحسب بضع مهارات حرفية.

في النهاية، العمل الفني هو الشكل الفعلي لوجود الفنان، وسيلته الوحيدة للتعبير، التي تنتسب إليه وحده.

 

****

 

الفصل الخامس

الصورة السينمائية

 

“لنعّبر عن ذلك على هذا النحو: الظاهرة الروحية

– أي ذات الشأن والدلالة- هي هامة لأنها تحديدا تتخطى

حدودها الخاصة، وتفيد كتعبير ورمز لشئ أرحب روحياً

وأشمل كونياً.. عالم كامل من المشاعر و الأفكار متجسدة

بداخله في سعادة أكبر أو أقل.. ذلك هو حجم دلالته”

(توماس مان- الجبل السحري)

 

من الصعب تخيل أن مفهوماً مثل “الصورة السينمائية” يمكن التعبير عنه، في أي وقت، بفرضية محددة ودقيقة، وفي صياغة سهلة وقابلة للفهم. هذا ليس ممكناً، ولا يتمنى المرء أن يكون الأمر كذلك. فقط أستطيع أن أقول بأن الصورة تتمدد نحو اللاتناهي، وتقود إلى المطلق. وحتى ما هو معروف بوصفه “فكرة” الصورة، المتعددة الأبعاد و المعاني، لا يمكن – في الجوهر الفعلي للأشياء- ترجمتها أو التعبير عنها في كلمات. لكنها تجد التعبير في الفن. حين تكون الفكرة متجسدة في صورة فنية، فإن ذلك يعني العثور على شكل دقيق لها.. الشكل الذي يصبح هو الأقرب لتوصيل عالم المبدع، لتجسيد توقه إلى المثال.

ما أريد أن أحاوله هنا هو أن أحدد مقاييس نظامٍ ممكن لما يسمى – على وجه التعميم- صوراً، نظام معه أستطيع أن أشعر بأني حر وعفوي.

إذا أنت ألقيت نظرة سريعة، خاطفة، على الماضي، على الحياة التي تمتد وراءك، حتى دون أن تتذكر لحظاتها الأكثر إشراقا وحيوية، فسوف تلفت نظرك – في كل مرة- تلك الخصوصية في الأحداث التي شاركت فيها، والفردانية الاستثنائية للشخصيات التي التقيت بها. هذه الخصوصية أشبه بالسمة الغالبة لكل لحظة من لحظات الوجود.

في كل لحظة من لحظات الحياة يكون مبدأ الحياة نفسه فريدا واستثنائياً. بالتالي فان الفنان يحاول أن يدرك ذلك المبدأ ويجعله يتحقق، يجعله جديدا في كل مرة.. وكل مرة هو يرجو، ولو عبثاً، أن يحرز صورة شاملة لحقيقة الوجود الإنساني. إن خاصية الجمال تكمن في حقيقة الحياة التي استوعبها وتمثلها و أفصح عنها الفنان بطريقة جديدة، وفي إخلاص وانسجام مع رؤيته الشخصية.

أي شخص حاذق سوف يميز، في سلوك الأفراد، بين الصدق والتلفيق، الإخلاص و التظاهر، الاستقامة و التصنع. من تجربة الحياة ينشأ نوع من الفلتر في الإدراك الحسي لمنعنا من الاعتماد على ظواهر فيها يتحطم النمط البنائي، سواء على نحو مقصود أو غير مقصود، من خلال عدم الكفاءة أو البراعة.

ثمة أفراد غير قادرين على الكذب. آخرون يكذبون مع كل شهقة وعلى نحو مقنع. آخرون لا يعرفون كيف يكذبون لكنهم غير قادرين على عدم الكذب، ويفعلون ذلك على نحو رتيب ويائس. ضمن نطاق صلاحيتنا – أي الرصد الدقيق لمنطق الحياة- فقط الفئة الثانية تكشف نبض الصدق وبوسعها تتبع الانعطافات المزاجية للحياة بدقة هندسية تقريباً.

الصورة مراوغة وغير قابلة للانقسام، وهي تعتمد على وعينا وعلى العالم الحقيقي الذي تسعى إلى تجسيده. إذا العالم غامض فان الصورة ستكون كذلك. انه نوع من التوازن الذي يعبر عن التعالق بين الصدق والإدراك الإنساني. نحن لا نستطيع أن نفهم كلية الكون لكن الصورة الشعرية قادرة على التعبير عن تلك الكلية.

الصورة هي انطباع عن الصدق، وميض من الصدق متاح لنا في حالة العمى التي نعيشها، الصورة المجسدة سوف تكون أمينة حين تكون مفاصلها، على نحو واضح وملموس، تعبيراً عن الصدق، وحين يجعلونها فريدة واستثنائية كما هي الحياة نفسها، حتى في تجلياتها الأكثر بساطة.

الصورة، بوصفها رصداُ دقيقاً للحياة، تعيدنا مباشرة إلى الشعر الياباني، إن ما يأسرني هنا هو رفض حتى التلميح إلى معنى الصورة النهائي والذي يمكن فك مغالقه شيئا فشيئاً مثل تمثيلية تحزيرية. إن قصيدة الهايكو تصقل صورها، وتتعهدها بعناية، بطريقة تجعلها لا تعني شيئاً وراء نطاق نفسها، و في الوقت ذاته تعبر عن الكثير إلى حد انه ليس ممكناً الإمساك بمعناها النهائي. وكلما كانت الصورة منسجمة إلى حد بعيد مع وظيفتها، صار من المستحيل القبض عليها ضمن صيغة فكرية واضحة. لذا يتعين على قارئ شعر الهايكو أن يكون مستغرقاً في القصيدة مثل استغراقه في الطبيعة، أن يغوص ويفقد نفسه في لجها مثلما يفعل في الكون حيث لا قاع هناك ولا سقف.

تأمل قصائد الهايكو هذه التي كتبها (باشو):

البركة العتيقة كانت ساكنة

الضفدعة وثبت في المياه

صوت الرشاش كان مسموعاً

 

***

 

قطعوا القصب كي يسقفوا البيت

الأجذال الباقية تنتصب الآن منسية

مرقشة بثلج رقيق.

 

***

 

لم هذا السبات؟

انهم بالكاد ينجحون في إيقاظي

المطر الربيعي يجري خفيفاً.

 

كم هي الحياة هنا مرصودة بوضوح وبساطة ودقة!! يا له من ذهن منضبط، وخيال فخم ونبيل. الأبيات جميلة لأن اللحظة – المنتقاة و المتبلورة- هي فريدة، وتقع في اللاتناهي.

الشعراء اليابانيون عرفوا كيف يعبرون عن رؤيتهم للواقع في ثلاثة أبيات من الرصد والملاحظة. وهم لم يكتفوا بالرصد فحسب بل بحثوا – في هدوء بالغ و رصانة مهيبة- عن المعنى السرمدي. وكلما كان الرصد دقيقاً ومحدداً بإحكام، صار اقرب إلى أن يكون فذاً، و أن يكون بالتالي صورة. وكما قال دوستويفسكي، باستبصار رائع، “الحياة أكثر غرابة من أي قصة”.

في السينما، الرصد هو المبدأ الأول للصورة، التي هي على الدوام متلازمة وغير منفصلة عن التسجيل الفوتوغرافي. الصورة السينمائية تصير مجسدة، مرئية ورباعية الأبعاد. لكن ليس كل لقطة من الفيلم تطمح إلى أن تكون صورة للعالم، إنها تظهر فحسب مظهرا محدداً. الوقائع المسجلة على نحو طبيعي هي، في ذاتها، غير وافية تماماً لخلق الصورة السينمائية. الصورة في السينما مبنية على قدرة المرء على إبداء إدراكه الخاص تجاه شئ ما.

لنضرب مثالا من الأدب: نهاية قصة تولستوي “موت إيفان ايليتش” تتحدث عن كيف أن رجلاً ضيق الأفق، فظأً، قاسياً، و الذي يحتضر لإصابته بالسرطان، ولديه زوجة بغيضة وابنة تافهة، يرغب في أن يطلب منهما المغفرة قبل أن يموت. في تلك اللحظة، وعلى نحو غير متوقع تماماً، هو يكون ممتلئاً بإحساس بالغ بالطيبة والخير إلى حد أن عائلته، المستغرقة كليا في شؤونها الذاتية، المهتمة فقط بالملابس و الحفلات الراقصة، والتي تفتقر إلى الحساسية و التفكير السليم، فجأة تبدو له تعيسة للغاية وتستحق كل الشفقة و الرأفة. عندئذ، في لحظة الموت، يشعر بأنه يزحف ببطء في ماسورة مظلمة ورخوة وطويلة.. وفي نقطة نائية يبدو هناك بصيص من الضوء، و هو يواصل الزحف لكنه لا يقدر أن يبلغ النهاية، لا يستطيع أن يقهر ذلك الحاجز الأخير الذي يفصل الحياة عن الموت. زوجته وابنته تقفان على مقربة من سريره، وهو يريد أن يقول ” اصفحا عني” (بالروسية: Prosteete )، لكن عوضاً عن ذلك، و في اللحظة الأخيرة، يقول: “دعوني أمر” (بالروسية: Propoosteete ).

تلك الصورة، التي تهز كينونتنا حتى الأعماق، لا يمكن تأويلها من ناحية واحدة فقط. إن تداعياتها تمتد بعيداً نحو مشاعرنا الأعمق، الأكثر إيغالا، وتذكرنا ببعض الذكريات الغامضة والتجارب المغمورة الخاصة بنا، وتدهشنا وتحرك أرواحنا مثل وحي. إنها تشبه الحياة، مثل حقيقة كنا نحزرها، إلى حد أنها يمكن أن تجاري حالات سبق أن عرفناها أو تخيلناها سراً. إلى أي مدى يصبح هذا الشئ عميقاً ومتعدد الأبعاد فذلك يتوقف على روح وعقل القارئ.

لننظر إلى اللوحة التي رسمها ليوناردو بعنوان ” امرأة شابة وشجرة العرعر”، التي استخدمناها في فيلم “المرآة” لمشهد اللقاء القصير بين الأب وأبنائه حين يعود إلى البيت في فترة الإجازة.

ثمة شيئان ملفتان للنظر بشأن هذه اللوحة.. أحدهما، قدرة الفنان المذهلة على استنطاق الشئ من الخارج، ناظرا من فوق العالم: سمة يتميز بها فنانون مثل باخ وتولستوي. والآخر، هو حقيقة أن اللوحة تؤثر فينا وتحرك مشاعرنا، على نحو متزامن، في حالتين متعارضتين، انه ليس ممكناً التأكد من الانطباع أو التأثير الذي تمارسه اللوحة علينا في النهاية.. حتى أنه ليس ممكناً القول، على نحو محدد ويقيني، ما إذا كنا نميل إلى المرأة أم لا، ما إذا هي مغرية أم بغيضة. ذلك لأنها جذابة ومنفرة في آن. ثمة شئ جميل -على نحو لا يمكن وصفه- يتصل بها، وفي الوقت نفسه هو منفر وشيطاني.. شيطاني ليس أبدا بالمعنى الرومانسي، للكلمة، بل بالأحرى.. وراء نطاق الخير والشر. الفتنة بسمة سلبية. إنها تحتوي على شئ من التفسخ وشئ من الجمال. في فيلم “المرآة” كنا نحتاج إلى اللوحة من أجل إيلاج عنصر سرمدي في اللحظات التي تلي كل منها الأخرى أمام أعيننا، وفي الوقت ذاته لوضع اللوحة في تجاور مع البطلة بحيث نؤكد في الشخصية وفي الممثلة، مرجريتا تيريكوفا، تلك الخاصية.. القدرة ذاتها على الإفتان و التنفير في آن.

إذا حاولت أن تحلل لوحة ليوناردو، بحيث تفرز البورتريه إلى مكوناته أو عناصره الأساسية، فسوف تخفق حتما. وعلى أية حال، فإنها سوف لن تفسر شيئاً، نظرا لأن التأثير العاطفي الذي تمارسه علينا المرأة في اللوحة هو قوي وفعال لأنه يتعذر أن تعثر فيها على أي شئ نستطيع تفضيله على نحو محدد، و أن تميز أي جزء عن الكل، و أن تفضل أي انطباع خاطف على آخر وجعله خاصاُ بنا، وأن نحقق توازناً في الطريقة التي بها نحن ننظر إلى الصورة المعروضة علينا. وهكذا سوف تنفتح أمامنا إمكانية التفاعل مع اللاتناهي، ذلك لأن الوظيفة الرفيعة للصورة الفنية هي أن تكون نوعاً من الكاشف اللامتناهي .. الذي نحوه تمضي أسبابنا ومشاعرنا محلقة، وعلى عجل مثير ومبهج.

مثل هذا الشعور يوقظه كمال الصورة: إنها تؤثر فينا، تحرك مشاعرنا، عن طريق هذه الحقيقة عينها، أي تعذر تقطيع أوصالها. في حالة العزل، كل جزء مكون سيكون ميتاً – أو ربما على العكس، عند تفكيك عناصرها البالغة الصغر سوف تعرض الصفات المميزة نفسها كما العمل المنجز، المكتمل. وهذه الصفات، أو الخصائص، ينتجها تفاعل المبادئ المتعارضة، التي معناها، كما في الأواني المستطرقة، يتدفق من آنية إلى أخرى: وجه المرأة الذي رسمه ليوناردو مفعم بالحيوية، ومتحرك بواسطة فكرة مكثفة، وفي الوقت نفسه قد يبدو غادراً وعرضة لأهواء دنيئة. انه ممكن بالنسبة لنا أن نرى أي عدد من الأشياء في اللوحة، وفيما نحن نحاول الإمساك بجوهرها، سوف نهيم عبر متاهات لانهاية لها ولن نجد أبداً المخرج. إننا سوف نستمد متعة عميقة من الإدراك بأننا لا نستطيع استنزافها، أو نرى إلى نهايتها. الصورة الفنية الحقيقية تمنح الناظر تجربة متزامنة من المشاعر الأكثر تعقيداً وتناقضاً.

ليس ممكنا اسر اللحظة التي عندها يمضي الايجابي نحو نقيضه، أوحين يشرع السلبي في التحرك نحو الايجابي. اللامتناهي هو وثيق الصلة، متأصل في بنية الصورة ذاتها. لكن في التطبيق، وعلى نحو ثابت، يفضل المرء شيئاً على آخر. إنه ينتقي، يلتمس ما يتوافق مع هواه، يضع العمل الفني في سياق تجربته الذاتية. وبما أن كل شخص لديه ميولاً وأهدافاً معينة في كل ما يفعله، ويؤكد حقيقته الخاصة في الأمور الكبيرة كما في الصغيرة، فيما هو يكيف الفن وفق حاجاته اليومية، فانه سوف يؤول الصورة الفنية بحسب “مصلحته أو فائدته” الخاصة. انه يضع العمل في سياق حياته ويسيجه بالحكم أو الأمثال التي يؤمن بها.. ذلك لأن التحف الفنية متناقضة وتبيح نفسها لتأويلات مختلفة جداً.

إني دوما اشعر بالغثيان عندما يقوم فنان ما بدعم نظامه الخاص بالصور عبر التزامه بأيديولوجيا معينة أو بالتحيز المقصود.أنا ضد أن يسمح الفنان لطرائقه أو مناهجه بأن تكون قابلة لأن تُرى أو تُدرك. وشخصياً، شعرت بالندم لأنني سمحت لبعض اللقطات أن تبقى في أفلامي، إذ تبدو لي الآن كالبرهان على تنازل معين قدمته ووجد طريقه في أفلامي. لو كان الأمر ممكناً الآن لحذفت، بسعادة بالغة، من فيلم “المرآة” ذلك المشهد الذي يجمع بين الأم والديك، رغم أن المشهد مارس تأثيراً عميقاً على العديد من المتفرجين.. لكن ذلك لأنني كنت أقايض الجمهور بأن أعطيهم شيئاً مقابل شئ.

عندما يتعين على البطلة المتعبة، وهي على شفا الإغماء، أن تقرر ما إذا عليها أن تقطع رأس الديك الصغير أو لا تفعل، فقد صورناها في لقطة قريبة، وفي سرعة عالية جداً، وبإضاءة غير طبيعية على نحو جلي. بما أن اللقطة، على الشاشة، تظهر في حركة بطيئة، فإنها تعطي الانطباع بتمدد البنية أو الإطار الزمني. أردنا أن نغمر المتفرج في حالة البطلة، فارضين نوعاً من الكبح على تلك اللحظة، مسلطين ضوءاُ قوياً عليها… وهذا أمر سيئ وزائف، لأن اللقطة تبدأ في امتلاك أو تضمن معنى أدبياً محضاً. إننا هنا نشوه وجه الممثلة على نحو مستقل عنها، إذا جاز التعبيير. كنا نؤدي الدور نيابة عنها، نؤدي الانفعال الذي نريده، نعصره بواسطة وسيلتنا الخاصة.. وسيلة المخرج. إن حالتها، بالتالي، تصبح واضحة أكثر مما ينبغي، مقروءة بسهولة تامة. وفي تأويل حالة الشخصية الذهنية، لابد على الدوام من ترك شئ ما في العتمة.. غامضاً وسرياً.

سنورد هنا مثالاً أكثر نجاحاً لمنهج مماثل من فيلم “المرآة” أيضاً: كادرات قليلة من المشهد الذي يدور في المطبعة مصورة أيضاً بالحركة البطيئة، لكن في هذه الحالة هي – أي الحركة- بالكاد يمكن ملاحظتها أو إدراكها. لقد اخترنا أن نفعل ذلك برهافة شديدة وبعناية فائقة بحيث أن الجمهور سوف لن يعي ذلك على نحو مباشر أو فوري، بل سوف ينتابه إحساس غامض بشئ غريب حدث أمامه فجأة. هنا نحن لم نكن نحاول أن نؤكد فكرة معينة باستخدام الحركة البطيئة بل أن نظهر حالة ذهنية من خلال وسيلة أخرى غير التمثيل.

في فيلم كوروساوا ” عرش الدم” المأخوذ عن ماكبث نجد مثالاً خالصاً. في المشهد الذي يظهر ضياع ماكبث في الغابة، مخرج أقل شأنا سوف يجعل الممثلين يتعثرون ويمشون باضطراب في الضباب، مرتطمين بالأشجار، بحثاً عن الاتجاه الصحيح. لكن ما الذي يفعله العبقري كوروساوا؟

انه يجد موضعاً فيه شجرة مميزة، بارزة، ويجعل الفرسان يدورون في حلقة، ثلاث مرات، بحيث أن منظر الشجرة ذاتها يوضح لنا في آخر الأمر أنهم يستمرون في الدوران حول الموضع نفسه دون أن يتمكنوا من تجاوزه. والفرسان أنفسهم لا يدركون بأنهم ضلوا طريقهم منذ وقت طويل.

في معالجته لمفهوم المكان، كوروساوا هنا يظهر التعامل الشعري الأكثر حذقاً وبراعة، معبراً عن نفسه بدون أدنى تلميح إلى طريقة مميزة في الأسلوب أو إلى التكلف و الادعاء.. إذ ما الذي يمكن أن يكون أكثر بساطة من وضع الكاميرا في موقع معين ومتابعة الشخصيات وهي تدور ثلاث مرات؟

خلاصة القول، أن الصور ليست ذات معنى محدد، يعبّر عنه المخرج، بل عالم كامل منعكس كما في قطرة ماء.

ليست هناك معضلات تقنية للتعبير في السينما ما إن تعرف بالضبط ما الذي تريد قوله، و إذا كنت ترى كل خلية من فيلمك من الداخل، وتستطيع أن تشعر بها على نحو صحيح ودقيق. على سبيل المثال، في فيلم ” “المرآة” وتحديدا في مشهد اللقاء مصادفة بين البطلة والرجل الغريب (الذي يؤدي دوره أنا تولي سولونينسين) كان مهما، بعد مغادرة الرجل، إظهار خيط ما لربط هذين الشخصين اللذين يبدو إنهما التقيا مصادفة. لو انه التفت فيما هو يسير مبتعدا، و ألقى نظرة سريعة خلفه، موجهاً نحوها نظرة معبرة، فسوف يبدو ذلك زائفا ومضللاً. عندئذ فكرنا في هبوب مفاجئ للريح في الحقل.. هذا الهبوب الذي يلفت انتباه الغريب لأنه غير متوقع تماما: لهذا السبب هو يلتفت. في هذه الحالة ليس هناك مجال، إن جاز التعبير، ” لإدراك مبدع العمل في لعبته الخاصة”.

حين يكون الجمهور غير مدرك للأسباب التي جعلت المخرج يستخدم منهجا أو طريقة معينة، فانه ينزع إلى تصديق واقع ما يحدث على الشاشة، ويؤمن بالحياة التي يرصدها الفنان. لكن عندما يدرك الجمهور مقصد المخرج وتقنيته، عارفا بدقة لماذا كان المخرج يقوم بحيلة” تعبيرية” معينة، فان هذا الجمهور سوف لن يعود يتعاطف مع ما يحدث، وما يراه سوف لن يستحوذ على مشاعره، وقد يبدأ في محاكمة غاية المشهد وطريقة إنجازه. وظيفة الصورة، كما قال جوجول، هي أن تعبر عن الحياة نفسها، وليس الأفكار أو البراهين بشأن الحياة. الصورة لا تدل على الحياة أو ترمز إليها، إنما تجسدها، تظهر فرادتها. إذن ما هو الأساسي بالنسبة للنموذج، وكيف يرتبط به ما هو أصيل وفريد في الفن؟ المفارقة هنا أن العنصر الفريد في الصورة الفنية يصبح نموذجيا على نحو خفي وغامض، ذلك لأن النموذجي ينتهي به الأمر لأن يكون في تعالق مباشر مع ماهو فردي، خصوصي، بخلاف أي شي آخر.

يتعين على المرء أن يتذكر فقط بان الصورة الفنية يجب ألا تثير أي تداعيات غير تلك التي تعبّر عن الصدق. (هنا نحن نتحدث عن الفنان الذي يبدع الصورة أكثر من الجمهور الذي يراها). وفيما الفنان يشرع في العمل، يتعين عليه أن يؤمن بأنه الشخص الأول الذي يعطي شكلا لظاهرة معينة.

الصورة الفنية هي فذة واستثنائية، بينما ظواهر الحياة قد تكون عادية ومبتذلة تماما. ومرة أخرى نعود إلى الهايكو:

لا، ليس إلى بيتي.

تلك المظلة الوحيدة المهرولة

ذهبت إلى بيت جاري.

 

بذاته وبمعزل عن الأشياء الأخرى، عابر السبيل الذي يحمل مظلة، والذي ربما رأيته أو صادفته ذات مرة في حياتك، هو لا يعني شيئا جديدا. إنه مجرد واحد من الناس يعدو بخطى سريعة تحت المطر ويقي نفسه من البلل. لكن ضمن شروط أو حدود الصورة الفنية التي كنا نتأملها، فإن لحظة من الحياة، لحظة واحدة وفريدة بالنسبة للمبدع، هي مسجلة في شكل مثالي وبسيط. الأبيات الثلاثة كافية لجعلنا نشعر بحالته النفسية: عزلته، الطقس الماطر الكئيب خارج النافذة، الترقب اللا مجدي لمجيء شخص ما – والذي بفضل معجزة ما – قد يعرج على منزله المنعزل، الذي هجره الله. الحالة المسجلة بدقة تحرز تعبيرا ممتدا على نحو واسع، ورحيبا على نحو مدهش.

في بداية هذه الملاحظات نحن تجاهلنا عن عمد ما يعرف بصورة الشخصية. وفي هذا الموضع قد يكون من المفيد تضمين شيء عن هذا. لنأخذ شخصية باشماشكين (12) و أونيجين. كنماذج أدبية هي من جهة تجسد قوانين اجتماعية معينة، والتي هي شرط مسبق لوجودها. ومن جهة أخرى، هي تمتلك سمات إنسانية كونية.

الشخصية في الأدب قد تصبح نموذجية إذا كانت تعكس أنماطا راهنة تشكلت نتيجة لقوانين التطور العامة. ونظراً لكون باشماشكين وأونيجين نماذج، فقد كان لهما الكثير من النظائر في الحياة الواقعية. لكن بوصفهما صوراً فنية، فإنهما، برغم ذلك، وحيدان وفريدان تماما. وهما متماسكان أيضا، وضخمان من وجهة نظر خالقيهما، ويحملان وجهة نظر مؤلفيهما على نحو كامل، وذلك لكي نقدر أن نقول:” نعم، أونيجين، إنه يشبه جاري تماما”. إن عدمية راسكولنيكوف، ضمن شروط تاريخية واجتماعية، هي بالطبع نموذجية، لكن في شروط شخصية وخاصة فإن راسكولنيكوف يقف وحيدا. هاملت هو بلا شك نموذج أيضا، لكن أين -في شروط عادية- سبق وأن رأيت هاملت ؟

نحن إزاء مفارقة:الصورة تدل على التعبير الممكن، الكامل، لما هو نموذجي.. وكلما تعبّر عنه على نحو أكثر اكتمالا، يصبح النموذجي أكثر فردانية، أكثر أصالة. إنها شيء رائع واستثنائي، هذه الصورة . ومن بعض النواحي، هي أكثر غنى من الحياة نفسها. . ربما لأنها تعبر بدقة عن فكرة الحقيقة المطلقة.

هل يعني ليوناردو أو باخ أي شيء ضمن شروط مهنية ؟لا. . إنهما لا يعنيان شيئا على الإطلاق وراء نطاق المعنى الخاص بهما. إنهما ينظران إلى العالم كما لو للمرة الأولى. . بلا أي تجربة ترهق كاهلهما. إنهما ينظران إلى العالم بحرية واستقلالية أفراد وصلوا منذ لحظات فقط.

كل عمل إبداعي يجاهد من أجل البساطة، من أجل تعبير بسيط على نحو خالص، وهذا يعني بلوغ الأعماق الأبعد لإعادة خلق الحياة. لكن هذا هو الجزء الأكثر إيلاما في العمل الإبداعي:العثور على الطريق الأقصر بين ما تريد أن تقوله أو تعبر عنه وإعادة الإنتاج النهائي له في الصورة المنجزة. الصراع من أجل البساطة هو البحث الموجع عن شكل ملائم للصدق الذي أمسكت به. إنك تتوق إلى أن تكون قادرا على إحراز أشياء عظيمة في حين تقتصد في الوسائل.

النضال لبلوغ الكمال يؤدي بالفنان إلى القيام باكتشافات روحية، إلى بذل الجهد المعنوي الأكبر. الطموح إلى المطلق هو القوة المحركة في تطور الجنس البشري. وبالنسبة لي، فإن فكرة الواقعية في الفن مرتبطة بتلك القوة. الفن يكون واقعيا حين يجاهد ليعبّر عن المثال الأخلاقي. الواقعية تناضل من أجل الحقيقة، والحقيقة جميلة دائما. . الجمالي هنا يتزامن مع الأخلاقي.

 

الزمن والإيقاع والمونتاج

 

بالانتقال الآن إلى الصورة السينمائية في حد ذاتها، أريد في الحال أن أبدد الفكرة المسلم بها على نحو واسع والتي تقول بأن الصورة “مركبة” جوهريا. هذا المفهوم يبدو لي خاطئا لأنه يدل ضمنا على أن السينما مؤسسة على خاصيات تابعة لأشكال فنية شقيقة، ولا تملك على الإطلاق شيئا خاصا بها، وهذا يعني إنكار حقيقة أن السينما فن.

العامل الغالب، الفعال تماما، للصورة السينمائية هو الإيقاع، الذي يعبر عن جريان الزمن ضمن الكادر. الانتقال الفعلي للزمن يتجلى أيضا في سلوك الشخصيات، في المعالجة البصرية، وفي الصوت. . لكن هذه كلها مقومات مصاحبة والتي غيابها، نظريا، سوف لن يؤثر بأية حال في كينونة الفيلم. المرء لا يستطيع أن يتخيل عملا سينمائيا بدون أي إحساس بمرور الزمن من خلال اللقطة، لكن المرء يستطيع بسهولة أن يتخيل فيلما بدون ممثلين أو موسيقى أو ديكور أو حتى مونتاج. فيلم الأخوين لوميير “وصول القطار”، الذي أشرنا إليه سابقا، كان كذلك. أيضا فيلم أو فيلمان من حركة” الاندرجراوند” الأمريكية: أحدهما يظهر رجلا نائما، بعد ذلك يصحو.. والسينما، عن طريق قوتها السحرية الخاصة، تمنح تلك اللحظة تأثيراً جماليا فاتنا وغير متوقع.

أو فيلم الفرنسي باسكال اوبير الذي تستغرق مدته عشر دقائق ويتألف من لقطة واحدة فقط. في البداية، يعرض الفيلم حياة الطبيعة المهيبة، غير الصاخبة، اللامبالية تجاه الأهواء البشرية والأنشطة الصاخبة. بعد ذلك تتحرك الكاميرا، الموجهة بمهارة وبراعة فنان، لتصور نقطة صغيرة جدا: شخص راقد، لكن بالكاد يُرى، على ارض معشوشبة، عند سفح هضبة. الذروة الدرامية تلي مباشرة، فمرور الزمن يبدو متسارعا، يحثه فضولنا: انه كما لو ننسل بحذر صوب الشخص برفقة الكاميرا. وفيما نقترب، ندرك بان الرجل ميت. وفي اللحظة التالية نحصل على معلومة إضافية: انه ليس ميتا فحسب، بل كان مقتولا.. متمرد مات متأثراً بجراحه، وهو الآن مرئي في خلفية طبيعة لا مبالية. إن ذكرياتنا ترمينا بقوة نحو أحداث تهز عالم اليوم.

سوف تتذكر بان الفيلم لا يحتوي على تمثيل أو ديكور أو مونتاج، لكن إيقاع حركة الزمن حاضر هناك ضمن الكادر، بوصفه القوة المنظمة الوحيدة للتنامي الدرامي.. المركّب تماما.

لا يوجد عنصر أو مكوّن واحد من الفيلم يمكن أن يتضمن أي معنى في عزلته عن المكونات الأخرى. . الفيلم كله هو الذي يشكل العمل الفني. ونحن نستطيع فحسب أن نتحدث عن مكوناته على نحو اعتباطي إلى حد ما، مقسمينها على نحو متكلف من أجل مناقشتها نظريا.

أيضا لا أستطيع أن أقبل بفكرة أن المونتاج هو العنصر المكون الأساسي للفيلم، كما أكد –في سنوات العشرينات –أنصار سينما المونتاج، أتباع كوليشوف وايزنشتاين. . كما لو أن الفيلم يتحقق على طاولة المونتاج.

غالبا ما يشيرون، وهذا صحيح تماما، إلى أن كل شكل فني يتضمن المونتاج، بمعنى الانتقاء والموازنة، تعديل أو ضبط الأجزاء والقطع. الصورة السينمائية تنشأ أثناء التصوير، وتوجد ضمن الكادر، أثناء التصوير، ولذلك أنا أركز على سير الزمن في الكادر من أجل إعادة إنتاجه وتسجيله. المونتاج يجلب معا لقطات هي مليئة بالزمن قبل ذلك الحين، وينظم البناء الحي الموحد، المتأصل في الفيلم. . والزمن الذي ينبض عبر شرايين الفيلم، والذي يجعله حيا ومتقدا، ذو ثقل إيقاعي متنوع.

فكرة”سينما المونتاج”، أي أن المونتاج يجلب معا مفهومين وبالتالي يولّد مفهوماً ثالثا جديدا، تبدو لي، مرة أخرى، متنافرة مع طبيعة السينما. الفن لا يمكن أبدا أن يجعل من تفاعل المفاهيم غايته الأساسية أو النهائية. الصورة مرتبطة بالملموس والمادي، مع ذلك تمتد عبر الطرق الخفية والغامضة إلى أقاليم توجد وراء الروح. .

في اختيار المخرج للمادة وتسجيلها، فإن كادرا واحدا يكفي لإثبات ما إذا كان المخرج موهوبا، وما إذا كان يمتلك رؤية سينمائية. المونتاج، في النهاية، ما هو إلا تجميع للقطات عبر تنوع مثالي، والذي يتضمن بالضرورة داخل المادة الموضوعة في قرص الفيلم. إن مونتاج الصورة على نحو صحيح و واف يعني السماح للمشاهد واللقطات المنفصلة أن تتشكل معا تلقائيا نظرا لأنها، من بعض النواحي، تولّف نفسها. إنها تتحد وفقا للمثال الجوهري الخاص بها. إنها ببساطة مسألة التسليم بهذا المثال أو النمط ومتابعته أثناء الربط و القطع. ليس من السهل دائما الإحساس بنمط العلاقات، والمفاصل بين اللقطات، خصوصا إذا صور المشهد على نحو غير صحيح. عندئذ سوف لن يتعين عليك أن تلصق الأجزاء على نحو منطقي وطبيعي على طاولة المونتاج فحسب، بل أن تنشد جاهدا المبدأ الأساسي للمفاصل. شيئا فشيئا، وعلى مهل، سوف تجد الوحدة الأساسية المتضمنة في المادة تنبثق وتصبح أكثر وضوحا. أن البناء المنظم ذاتيا يتخذ شكلا معيناً أثناء المونتاج بسبب الخاصيات المميزة الممنوحة للمادة أثناء التصوير. الطبيعة الأساسية للمادة المصورة تتجلى في أسلوب المونتاج.
بالرجوع مرة أخرى إلى تجربتي الخاصة، ينبغي أن أقول إن كماً هائلاً من العمل احتجنا في مونتاج فيلم “المرآة”. كان هناك عشرون شكلا مختلفا أو أكثر . لا أعني فقط التغييرات في ترتيب لقطات معينة، بل التعديلات الرئيسية في البناء الفعلي، في سياق الأحداث. في لحظات معينة، كان الفيلم يبدو كما لو أنه يستحيل توليفه، والذي يعني بأن هفوات غير مقبولة حدثت أثناء التصوير. الفيلم لم تتماسك أجزاؤه، لم يصمد بل انهار فيما نحن نراقب. . ولم يكن يملك تلك الوحدة والانسجام، ذلك الارتباط الداخلي الضروري، ذلك المنطق. ثم، وفي يوم رائق وجميل، حين نجحنا – بطريقة ما- في القيام بعملية يائسة وأخيرة من إعادة الترتيب والتنسيق، تخلق الفيلم فجأة، وعادت المادة إلى الحياة. الأجزاء باشرت في العمل على نحو متبادل كما لو كانت متصلة بمجرى دم. وفيما تلك المحاولة اليائسة الأخيرة معروضة على الشاشة، ولد الفيلم أمام أعيننا المجردة. ولفترة طويلة لم أستطع أن أصدق المعجزة:الفيلم وقد تماسكت أجزاؤه.

كان ذلك اختبارا جديا للمدى الذي كان فيه تصويرنا جيدا. من الواضح أن الأجزاء تشكلت معا بسبب النزوع المتضمن في المادة والذي نشأ حتما أثناء تصوير الفيلم. ولأننا لم نضلل أنفسنا بشأن وجوده هناك، على الرغم من كل الصعوبات والعوائق، فلم يكن بوسع الفيلم إلا أن يتشكل، إذ أن ذلك كان متأصلا في الجوهر الفعلي للأشياء. كان عليه أن يحدث، على نحو شرعي وتلقائي، ما إن أدركنا معنى اللقطات ومصدر حياتها.

وحين يحدث ذلك، حمدا لله، تعم الفرحة ويسود الارتياح بين الجميع. الزمن نفسه، الدائر عبر اللقطات، قد اتحد واتصل من غير انقطاع. كان فيلم ”المرآة” يتضمن حوالي 200 لقطة، وهي قليلة جدا، إذ أن فيلما بهذا الطول يحتوي عادة 500 لقطة. . لكن العدد القليل كان بسبب طول اللقطات. ومع أن تجمع اللقطات هو المسؤول عن بنية الفيلم، إلا أنه – بخلاف ما هو مفترض عموما- لا يخلق إيقاع الفيلم. الزمن المميز، الممتد عبر اللقطات، يخلق إيقاع الفيلم. الإيقاع لا يقرره طول الأجزاء بعد تعرضها للمونتاج بل يحدده ضغط أو ثقل الزمن الذي ينزلق عبر هذه الأجزاء. المونتاج لا يمكن أن يقرر الإيقاع ( إنه في هذه الناحية، يمكن أن يكون مجرد مقوّم للأسلوب).

الزمن، في الواقع، يجري عبر الفيلم على الرغم من المونتاج و ليس بسببه. إن مجرى الزمن، المسجل في الكادر، هو ما يتعين على المخرج أن يأسره و يثبته في الأجزاء الموضوعة على طاولة المونتاج.

الزمن، المطبوع في الكادر، يملي مبدأ المونتاج الخاص. و الأجزاء التي تقاوم المونتاج – التي لا يمكن أن تكون متصلة أو متحدة كما ينبغي – هي تلك التي تسجل نوعا من الزمن مختلفاً جذرياً. المرء لا يستطيع، على سبيل المثال، أن يركّب زمنا فعليا مع زمن تصوري، مثلما لا يستطيع المرء أن يوصل أنابيب مياه ذات سمك أو قطر متفاوت. إن تماسك الزمن الذي يجري عبر اللقطة، كثافته أو انزلاقه، يمكن أن يدعى ” ثقل الزمن “: عندئذ يمكن رؤية المونتاج كتجميع أو تركيب للأجزاء على أساس ثقل الزمن داخل تلك الأجزاء. المحافظة على الضغط الفعال، أو القوة الدافعة، سوف يوحد تأثير اللقطات المختلفة.

كيف يجعل الزمن نفسه محسوسا في اللقطة؟ انه يصبح ملموسا و حقيقيا عندما تشعر بشيء ما هام، صادق، ذي معنى، و يستمر إلى ما بعد الأحداث على الشاشة. . و عندما تدرك، على نحو واع تماما، بأن ما تراه في الكادر ليس محدداً بتصويره البصري بل يشير إلى شيء يتمدد وراء الكادر و نحو أللا تناهي، يشير إلى الحياة. ومثل لا نهائية الصورة التي تحدثنا عنها سابقاً، الفيلم هو اكبر مما يكونه. . إذا كان حقيقيا على الأقل. والفيلم دائما ينتهي بأن يمتلك أفكارا و أهدافا هي أكثر من تلك التي صاغها مبدع الفيلم بوعي. و كما أن الحياة، التي تتحرك و تتغير باستمرار، تتيح لكل شخص أن يفسر و يشعر بكل لحظة منفصلة و مستقلة بطريقته الخاصة، كذلك الفيلم الحقيقي الذي، بإخلاص و أمانة، يسجل الزمن الذي يتدفق وراء تخوم الكادر، و يعيش ضمن الزمن إذا عاش الزمن ضمنه. هذه العملية المتبادلة هي عامل حاسم في السينما.

آنذاك يصبح الفيلم شيئا وراء نطاق كينونته الظاهرية كشريط في علبة. . مكشوف و خاضع للمونتاج، أو بوصفه قصة أو حبكة. ما إن يحقق الفيلم اتصاله المباشر بالفرد الذي يشاهده، حتى ينفصل الفيلم عن خالقه ويشرع في ممارسة حياته الخاصة، خاضعا لتغيرات في الشكل و المعنى.

أنا ارفض مبادئ ” سينما المونتاج ” لأنها لا تتيح للفيلم أن يستمر و يمتد وراء حدود الشاشة: إنها لا تتيح للجمهور أن يخلق ذلك الاتصال بين التجربة الشخصية و ما يوجد أمامهم على الشاشة. ” سينما المونتاج” تقدم إلى الجمهور أحاجى وألغازا، تجعلهم يحاولون حل شفرة الرموز، و يجدون متعة في التعرف على المجازات والاستعارات، محتكمين طوال الوقت إلى تجربتهم العقلية، الفكرية. مع ذلك، فإن كل لغز من هذه الألغاز يتضمن الحل الصحيح والدقيق، بالتالي فأنا اشعر بأن ايزنشتاين يمنع الجمهور من السماح لمشاعرهم بأن تتأثر حسب تفاعلهم الخاص تجاه ما يشاهدونه. في فيلمه ” أكتوبر”، عندما يجاور الآلة الموسيقية – البالالايكة – مع شخصية كيرينسكي، فإن منهجه يصبح هدفه، بالطريقة التي قصدها فاليري. إن بناء الصورة يصبح غاية بذاته، وخالق العمل يباشر في شن هجوم شامل على الجمهور، فارضا عليهم موقفه الخاص تجاه ما يحدث.

لو يقارن المرء بين السينما وفنون مبنية على أساس الزمن، مثل الباليه أو الموسيقى، فإن السينما تبرز بوصفها الفن الذي يعطي الزمن شكلا مرئيا و حقيقيا. ما إن يتم تسجيل الزمن على الفيلم حتى تكون الظاهرة موجودة هناك.. محددة، ثابتة، وغير قابلة للتغيير. . حتى عندما يكون الزمن ذاتيا على نحو مكثف.

الفنانون ينقسمون إلى فئتين: أولئك الذي يخلقون عالمهم الداخلي الخاص، وأولئك الذين يعيدون خلق الواقع. يقينا، أنا انتمي إلى الفئة الأولى. . لكن ذلك لا يغير شيئا. إن عالمي الداخلي قد يكون ذا فائدة و أهمية للبعض، و قد يسبب للبعض الآخر الفتور و اللامبالاة أو حتى السخط. القصد هو أن العالم الداخلي الذي تخلقه الوسيلة السينمائية ينبغي قبوله أو إدراكه بوصفه الواقع، حيث انه مؤسس على نحو موضوعي في مباشرية اللحظة المسجلة.

المقطوعة الموسيقية يمكن عزفها بطرق مختلفة، ويمكن أن تدوم لفترات زمنية متفاوتة. هنا، في الموسيقى، الزمن هو ببساطة حالة من الأسباب و النتائج المعلنة في نظام معين. إن لها صفة فلسفية، تجريدية. السينما، من جهة أخرى، قادرة على تسجيل الزمن في علامات ظاهرية و منظورة، يمكن أن تميزها المشاعر. هكذا يصبح الزمن الأساس الفعلي للسينما: كما الصوت في الموسيقى، و اللون في الرسم، والشخصية في الدراما.

الإيقاع، اذن، ليس هو التعاقب القياسي، الموزون، للأجزاء. إن حركة الزمن ضمن الكادرات هي التي تخلق الإيقاع. و أنا مقتنع بأن الإيقاع و ليس المونتاج، كما يعتقد البعض، هو العنصر المكون الرئيسي للسينما.

المونتاج يوجد في كل شكل فني، بما أن المادة ينبغي أن تكون دائما منتقاة ومتصلة ببعضها. ما هو مختلف بشأن المونتاج السينمائي هو انه يقدم الزمن على نحو متصل، مطبوعا في أجزاء الفيلم. المونتاج يستلزم جمع و تركيب أجزاء صغيرة و أخرى كبيرة، كل منها تنطوي على زمن مختلف. . و هذا التجميع و التركيب يخلق إدراكا جديدا لوجود ذلك الزمن، المنبثق كنتيجة للفواصل، لما هو محذوف، للمنحوت في المعالجة. . لكن الصفة المميزة للتجميع و التركيب، كما قلنا سابقا، هي حاضرة قبل الآن في الأجزاء. المونتاج لا يولّد، لا يعيد خلق نوعية جديدة، انه يظهر خاصية سبق وأن كانت متضمنة في الكادرات التي يربطها و يوحدها. المونتاج متوقع أثناء التصوير. انه مفترض سلفا في سمة ما هو مصور، و مبرمج من البداية. المونتاج له علاقة بامتدادات الزمن، ودرجة الكثافة التي بها توجد، كما تسجلها الكاميرا، و ليس برموز تجريدية أو تكوينات منظمة بعناية، و ليس بمفهومين متشابهين و اللذين من اتحادهما ينتج – كما يقال لنا – ” معنى ثالث”.

أعمال ايزنشتاين نفسه تثبت فرضيتي. لو خذله حدسه، و اخفق في تضمين الأجزاء الخاضعة للمونتاج ضغط الزمن الذي يقتضيه ذلك التركيب، عندئذ سوف يُظهر الإيقاع – الذي يُعتبر شيئا يعتمد مباشرة على المونتاج – مواطن الضعف في مفاهيمه النظرية. خذ كمثال مشهد المعركة على الجليد في فيلم “الكسندر نيفسكي”: متجاهلا الحاجة لشحن الكادرات بالثقل الزمني المناسب، يحاول ايزنشتاين أن يحرز الديناميكية الداخلية للمعركة من خلال تتابع اللقطات القصيرة عبر المونتاج.. وهي أحيانا قصيرة على نحو مفرط. مع ذلك، وعلى الرغم من السرعة الخاطفة في تغير الكادرات، إلا أن الجمهور ( ومن بينهم أولئك الذين يأتون بذهنية منفتحة دون التأثر بفكرة أن هذا الفيلم ” كلاسيكي ” وانه مثال ” كلاسيكي” للمونتاج كما يدرس في معهد السينما) يلازمهم الشعور بأن ما يحدث على الشاشة راكد، بليد، ومتكلف. وذلك لعدم توفر الصدق الزمني في الكادرات المستقلة. . التي هي، بذاتها، كادرات ساكنة وغير ممتعة. بالتالي هناك تناقض محتوم بين الكادر نفسه، المجرد من مرور محدد للزمن، وأسلوب المونتاج المفاجئ، الذي هو اعتباطي و ظاهري لأنه لا يحتوي على أي علاقة بأي زمن داخل اللقطات. الإحساس الذي كان المخرج يعول عليه لا يصل أبدا إلى الجمهور لأنه لم يقلق نفسه بملء الكادر بالحس الزمني الحقيقي للمعركة الأسطورية. الحدث لم يُخلق من جديد بل تم تركيبه بطريقة مألوفة.

الإيقاع في السينما يتم توصيله بواسطة حياة الشيء المسجل على نحو منظور في الكادر. ومثلما تستطيع أن تقرر، من اهتزاز قصبة، أي نوع من التيار المائي وأي ضغط يوجد هناك في النهر، كذلك، وبالطريقة نفسها، نعرف حركة الزمن من تدفق عملية الحياة المعاد إنتاجها في اللقطة.

انه، قبل كل شيء، من خلال الإحساس بالزمن، من خلال الإيقاع، يكشف المخرج عن شخصيته المستقلة، عن فرادته. الإيقاع يلون العمل بعلامات وسمات أسلوبية. الإيقاع ليس نتاج تفكير أو تأمل، و ليس مركبا على أساس نظري واعتباطي، بل ينشأ تلقائيا في الفيلم استجابة للوعي الفطري بالحياة عند المخرج، و “بحثه عن الزمن”. ويبدو لي بأن الزمن في اللقطة ينبغي أن يتدفق على نحو مستقل و بوقار، عندئذ سوف تجد الأفكار مكانها في الزمن بلا جلبة ولا اهتياج و لا تهور. الإحساس بإيقاعية اللقطة هو بالأحرى أشبه بالإحساس بالكلمة الصادقة في الأدب. الكلمة غير الصحيحة في الكتابة، مثل الإيقاع غير الصحيح في الفيلم، تدمر صحة و صدق العمل.

لكن سيكون لدينا هنا معضلة يتعذر اجتنابها. لنقل بأنني أريد أن يكون هناك زمن يتدفق عبر الكادر في وقار و استقلالية بحيث لا أحد من الجمهور سوف يشعر بأن إدراكه الحسي موضع إكراه، و بحيث يسمح لنفسه بأن يؤخذ أسيرا، طوعا و عن طيب خاطر، من قبل الفنان، فيما يبدأ هو في التسليم بمادة الفيلم كما لو انها مادته، مستوعبا و هاضما هذه المادة، و جاذبا إياها داخل نفسه بوصفها تجربة جديدة وشخصية جدا. مع ذلك، لا يزال هناك انقسام جلي: إذ أن إحساس المخرج بالزمن يصل دائما إلى نوع من إكراه الجمهور. الشخص الذي يشاهد إما أن ينسجم مع إيقاعك ( عالمك ) و يصبح حليفا لك، أو لا ينسجم. . و في هذه الحالة لا يحدث أي اتصال. هكذا، البعض يصبحون ” أشقاء ” لك، و البعض الآخر يظلون غرباء. و أنا لا أظن بأن هذا ليس طبيعيا تماما فحسب، بل محتوما و متعذراً اجتنابه.

عندئذ أرى أن من عملي المهني هو أن اخلق جريان الزمن المميز، الخاص بي، و أواصل في اللقطة الإحساس بحركة الزمن.. من الحركة الكسولة و البطيئة إلى الحركة العاصفة و الرشيقة.

التركيب، المونتاج، يقاطع مرور الزمن، يعترضه، و على نحو متزامن يمنحه شيئا جديدا. إن تحريف الزمن يمكن أن يكون وسيلة لإعطائه تعبيرا إيقاعيا.

النحت في الزمن

لكن الربط المدروس للقطات ذات الضغط الزمني المتفاوت لا يجب تقديمه عرضا و اتفاقا، ينبغي أن يأتي هذا من الضرورة الداخلية، من العملية العضوية الجارية في المادة ككل. في اللحظة التي تتشوش فيها العملية العضوية للمقاطع الانتقالية، فإن توكيد المونتاج (الذي يريد المخرج أن يواريه ) يبدأ في البروز إلى العيان، يتكشف ويثب نحو العين. إذا تباطأ الزمن أو تسارع على نحو متكلف وليس استجابة لنمو باطني، وإذا كان تغير الإيقاع خاطئا، فإن النتيجة ستكون زائفة وحادة.

إن ضم أجزاء ذات قيمة زمنية غير متكافئة يحطم بالضرورة الإيقاع. لكن، لو أن هذا التحطيم تعززه قوى فعالة ضمن الكادرات المركبة، فعندئذ قد يكون عاملاً أساسياً في نحت التصميم الإيقاعي الملائم. أن نأخذ ضغوطات الزمن العديدة المتنوعة – التي يمكننا تعيينها وتصنيفها مجازيا كغدير، فيضان، نهر، شلال، محيط – ونضمها معا، فإن ذلك يولّد ذلك التصميم الإيقاعي الفريد الذي هو إحساس مبدع العمل بالزمن، والمتخلق ككينونة متشكلة من جديد.

بقدر ما يكون الإحساس بالزمن وثيق الصلة بإدراك المخرج الفطري للحياة، والمونتاج تمليه الضغوطات الإيقاعية في أجزاء الفيلم، فإن بصمة المخرج ينبغي أن تكون مرئية في مونتاجه. إنه يعبّر عن موقفه تجاه مفهوم الفيلم، وهو التجسيد الجوهري لفلسفته في الحياة. وأظن أن صانع الفيلم الذي يركب أفلامه بسهولة، وبطرق مختلفة، لابد وأن تبدو أعماله سطحية، وبلا عمق. . بعكس مونتاج بيرجمان أو بريسون أو كيرو ساوا أو أنتونيوني. . الذي يمكن تمييزه والتعرف عليه دائما. لا يمكن أبدا الخلط بين واحد من هؤلاء وبين شخص آخر، ذلك لأن إدراك كل منهم للزمن، كما هو منعكس في إيقاع أفلامه، هو نفسه دائما.

طبعا يتعين عليك أن تعرف قوانين المونتاج، تماما مثلما يتعين عليك أن تعرف كل قوانين مهنتك الأخرى. لكن الخلق الفني يبدأ في النقطة التي تلتوي فيها هذه القوانين أو تتعرض للنقض والانتهاك.

مع أن ليف تولستوي لم يكن صاحب أسلوب خال من الأخطاء مثل إيفان بونين (13)، ورواياته تفتقر إلى الأناقة والكمال اللذين تتسم بهما قصص بونين، إلا أنه لا يمكن اعتبار بونين أعظم من تولستوي. إنك تغفر لتولستوي تأويلاته الأخلاقية المضجرة، وغير الضرورية غالبا، وتغفر له الجمل الخرقاء، غير المصقولة. . وليس هذا فحسب، بل أنك تشعر بالولع تجاه أخطائه بوصفها سمة تميز الرجل. ففي حضور شخص بارز وعظيم حقا، أنت تقبله بكل “نقاط ضعفه” أو نقائصه، والتي تصبح سمات مميزة لخصائصه الجمالية.

إذا أنت انتزعت أوصاف دوستويفسكي لشخصياته من سياق أعماله، فإنك سوف تجدها مخيبة. . فهو يصف شخصياته على النحو التالي: جميلة، بشفتين رائعتين، وجوه شاحبة .. وهكذا. لكن ذلك لا يهم، وليس ذا شأن، لأننا لا نتحدث هنا عن شخص يمارس حرفة ما، بل عن فنان وفيلسوف. إيفان بونين، الذي كان يكنّ احتراما مطلقاً، غير محدود، لتولستوي، إعتقد بأن رواية “أنا كارنينا” مكتوبة على نحو رديء، وحاول أن يعيد كتابتها لكن أخفق في ذلك. فالأعمال الفنية تتشكل عبر معالجة عضوية، متناسقة الأجزاء، وسواء أكانت جيدة أم سيئة فإنها كائنات حية ذات نظام ( (systemخاص لا يجب أن يتعرض للإفساد أو التشويش.

الشيء نفسه ينطبق على المونتاج: إنها ليست مسألة التضلع في التقنية وفهمها ببراعة مثل عالم أو باحث، بل هي حاجة أساسية وحيوية للتعبير الفردي الخاص والمتميز. يتعين عليك قبل كل شيء، أن تعرف ما الذي اجتذبك إلى السينما وجعلك تفضلها على أي فرع فني آخر، وأن تعرف ما تريد أن تقوله بواسطة شعرية السينما.

بالمصادفة، في السنوات الأخيرة، يلتقي المرء أكثر فأكثر بشبان يأتون إلى معاهد السينما مهيئين لفعل “ما يتعين عليك فعله” في روسيا، أو “ما تحصل عليه أكثر” في الغرب. هذا مأساوي. مشاكل التقنية هي لعب أطفال. . تستطيع أن تتعلم أية لعبة بسهولة. لكن التفكير على نحو مستقل، بكفاءة، ليس مثل تعلم فعل شيء ما. لا أحد قادر أن يرغمك على حمل عبء ثقيل، والذي لا يكون صعبا فحسب، بل أحيانا يستحيل حمله. . لكن ليس ثمة سبيل آخر. . إما كل شيء أو لاشيء.

الرجل الذي سرق من أجل أن لا يسرق مرة أخرى يظل لصا. لا أحد خان يوماً مبادئه يستطيع أن يملك علاقة نقية مع الحياة. بالتالي، عندما يقول صانع الفيلم بأنه سوف ينتج عملا يدر له ربحا ماديا لكي يهب نفسه القوة والسند والوسيلة لتحقيق الفيلم الذي يحلم به، فإن في ذلك الكثير من الخداع والتضليل. . أو ما هو أسوأ، خداع الذات. وهو سوف لن يحقق فيلم أحلامه أبدا.

 

****

 

السيناريو وسيناريو التصوير

 

بين المراحل الأولى والأخيرة لصنع فيلم ما، يتعين على المخرج أن يتعامل مع عدد ضخم من الأفراد، والكثير من المشكلات المختلفة التي يصعب حل بعضها أو تذليلها، إلى درجة يبدو الأمر معها كما لو أن الظروف قد تجمعت على نحو مقصود لجعل المخرج ينسى السبب الذي من أجله هو باشر العمل في الفيلم.

بالنسبة لي، يتعين علي القول بأن الصعوبات المتصلة على وجه الخصوص بمفهوم الفيلم لها علاقة واهنه باستلهامه البدئي، والمشكلة كانت دائما في محاولة إبقائه سليما، بكرا، وخالصا كحافز للعمل. ثمة دائما خطورة للمفهوم الأصلي في أن ينحل أثناء الاضطراب الذي يشوب إنتاج الفيلم أو يتعرض للتشوه والتدمير في عملية تحقيق الفيلم.

إن تقدم الفيلم من المفهوم أو التصور الأوليّ إلى الطبع النهائي هو محفوف بكل أنواع المجازفة و المصادفة. . وهذا ليس بسبب المشكلات التقنية فحسب، بل أيضا لوجود ذلك العدد الهائل من الأفراد العاملين في إنتاج الفيلم.

إذا أخفق المخرج في أن يبيّن للممثل كيف يرى الشخصية، وكيف ينبغي تأويل تلك الشخصية، فإن مفهومه سوف يبدأ على الفور في الجنوح. وإذا لم يفهم المصور مهمته على نحو تام فالفيلم عندئذ، حتى لو صور على نحو رائع ومثير للإعجاب بصريا وشكليا، سوف لا يعود يدور حول محور فكرته الخاصة، والفيلم في النهاية سوف يفتقر إلى التماسك.

بإمكانك أن تشيّد مناظر رائعة وفاتنة تكون مصدر فخر وزهو لمصمم المناظر، لكن إذا لم تكن هذه المناظر مستوحاة من فكرة المخرج الأصلية، فإنها عندئذ يمكن أن تشكل عائقا أمام الفيلم. وإذا المؤلف الموسيقي لم يكن خاضعا لتوجيه المخرج، ويؤلف موسيقاه وفق أفكاره الخاصة، فإن النتيجة قد تكون رائعة ومدهشة، لكن إذا لم تكن هذه الموسيقى ضرورية أو مطلوبة للفيلم، فإن المفهوم، مرة أخرى، سوف لن يتحقق وفق رؤية المخرج.

ليس من المبالغة القول بأن المخرج، عند كل منعطف، يحدق به خطر أن يصبح مجرد شاهد، يراقب مؤلف السيناريو وهو يكتب، مصمم المناظر وهو يرسم ويشيّد المناظر، الممثل وهو يؤدي، والمونتير وهو يقطع ويركّب. ذلك في الواقع هو ما يحدث في الأعمال التجارية:مهمة المخرج هي مجرد أن ينسق الوظائف المهنية لمجموعات مختلفة من فريق العمل. خلاصة القول، إن من الصعب جدا أن تصر على فيلم “المؤلف” أو المبدع، حين تكون كل مساعيك متركزة على عدم ترك الفكرة تنشطر وتتجزأ حتى لا يظل هناك شيء متروكا منها فيما أنت تناضل بشروط العمل الطبيعية في تحقيق الفيلم. بإمكان المرء فقط أن يأمل في نتيجة مرضية إذا ظل المفهوم أو التصور الأصلي طازجاً وحيوياً.

ينبغي أن أقول في الحال بأنني لا أنظر إلى السيناريو بوصفه نوعا أدبيا. في الواقع، كلما كان السيناريو سينمائيا أكثر، قلّت إمكانية مطالبته باحتلال منزلة أدبية بحكم حقه الشخصي، وبالطريقة التي تزعمها المسرحية في أغلب الأحوال. ونحن نعرف أنه في التطبيق، السيناريو لا يبلغ مستوى الأدب.

أنا لا أفهم لماذا يرغب شخص ذو موهبة أدبية في أن يكون كاتب سيناريو. . بصرف النظر عن الأسباب المادية. على الكاتب أن يكتب، وعلى الشخص الذي يفكر بواسطة الصور السينمائية أن يمتهن الإخراج. إن فكرة وغاية الفيلم، وتحققهما، ينبغي في النهاية أن تكون مسؤولية المخرج. المبدع ،وإلا فإنه لا يستطيع أن يمارس سيطرة حقيقية وفعالة على التصوير.

بالطبع، يستطيع المخرج، وهو في الواقع يفعل ذلك غالباً، أن يلجأ إلى كاتب يتفق أن يكون له روحا شقيقة. الكاتب، في قدرته وأهليته ككاتب سيناريو، يصبح عندئذ مشاركا في التأليف. الأساس الأدبي للفيلم يوجد بالتعاون معه. لكن في تلك الحالة هو يجب أن يشارك في تصور المخرج، أن يكون مهيأً لأن يرشده ذلك التصور في كل مرحلة، ويكون مؤهلا وقادرا على العمل على نحو خلاق لتنمية وتعزيز ذلك التصور عند الاقتضاء.

إذا كان السيناريو قطعة أدبية رائعة، فمن الأفضل له أن يبقى كنص أدبي. وإذا المخرج لا يزال يرغب في تحقيق فيلم عن هذا السيناريو، فإن الشيء الأول الذي ينبغي فعله هو تحويله إلى سيناريو يمكن أن يكون أساسا شرعيا وفعالا لعمله. في تلك النقطة سوف يكون سيناريو جديدا، والذي فيه تُستبدل الصور الأدبية بمرادفات سينمائية.

إذا أظهر السيناريو أنه مجرد خطة مفصلة للفيلم، وإذا تضمن فقط ما سوف يكون قابلا للتصوير وكيفية تصويره أو إنجازه، عندئذ سيكون لدينا ما يمكن أن نعتبره نسخة ذات بصيرة للفيلم المنجز، والذي لا علاقة له بالأدب. ما إن يتم تعديل النسخة الأصلية أثناء التصوير (كما يحدث دائما في أفلامي ) ويفقد بناءه حتى يصبح ذا فائدة وذا أهمية فقط للاختصاصي المهتم بتاريخ فيلم معين. هذه النسخ المتغيرة باستمرار قد تروق لأولئك الذين يرغبون في سبر واستكشاف طبيعة فن صانع الفيلم، لكن لا يمكن اعتبارها أدبا.

السيناريو ذو الخاصيات الأدبية نافع فقط كوسيلة لإقناع أولئك الذين عليهم يتوقف الإنتاج. السيناريو نفسه لا يضمن جودة العمل المنجز: نعرف أن هناك عشرات الأمثلة عن أفلام سيئة كانت سيناريوهاتها جيدة والعكس بالعكس. وليس سرا أن الاشتغال الحقيقي على السيناريو لا يبدأ إلا بعد الموافقة عليه وشرائه. . وأن هذا العمل سوف يستلزم من المخرج نفسه المشاركة في الكتابة، أو العمل في تعاون وثيق مع زملائه الكتاب الذين يوجهون مهاراتهم في الاتجاه الذي يحتاجه. أنا بالطبع أتكلم عما يعرف بسينما المؤلف.

في عملية تطوير السيناريو، اعتدت دائما أن أحاول امتلاك صورة دقيقة للفيلم في ذهني، بما فيها المواقع والمناظر، الآن أنا أكثر ميلا إلى رسم مشهد ما أو لقطة ما بطريقة عامة جدا بحيث تنبثق تلقائيا أثناء التصوير. . ذلك لأن الحياة في الموقع الخارجي، جو الموقع، حالات الممثل. . كل هذا يمكن أن يحث المرء على إتباع خطط استراتيجية جديدة، فجائية وغير متوقعة. الخيال أقل ثراء من الحياة. وهذه الأيام أشعر بقوة أكثر فأكثر أن الأفكار والحالات لا ينبغي أن تكون كلها مفروضة سلفا. ينبغي على المرء أن يكون قادرا على الاعتماد على الجو العام للمشهد، ومباشرة العمل في الموقع بذهن مفتوح. في السابق لم أكن أستطيع البدء بالتصوير دون استنباط تصميم كامل للحدث، لكنني الآن أجد أن مثل هذا التصميم، أو هذه الخطة تجريدية، و تقيد المخيلة.

عندما أنهيت تصوير فيلمي “المرآة”، تلاشت فجأة ذكريات الطفولة التي ظلت لسنوات تقلقني وتسلب مني الطمأنينة. لقد ذابت هذه الذكريات ولم أعد أحلم بالبيت الذي عشت فيه قبل سنوات طويلة.

قبل أعوام من صنع الفيلم، كنت قد قررت أن أدون على الورق الذكريات التي عذبتني، ولم أكن أفكر وقتذاك في تحقيق فيلم عنها، بل أن أكتب رواية قصيرة عن النزوح في زمن الحرب، وكان الموجه العسكري في مدرستي هو محور الحبكة. لكنني وجدت الموضوع واهيا وغير قابل للتنامي في شكل روائي، لذا صرفت النظر عن كتابة الرواية. غير أن الحدث، والذي كان له تأثير عميق علي كطفل، استمر في تعذيبي وسكن في ذاكرتي حتى أصبح جزءا ثانويا من الفيلم.

حين أكملت المسودة الأولى من سيناريو “المرآة”، وكان في الأصل بعنوان “يوم أبيض، أبيض” 0 أدركت أن التصور – سينمائياً- لم يكن واضحاً تماماً.. مجرد قطعة بسيطة من التذكر مليئة بالحزن و الحنين الى طفولتي، و لم أكن أريد هذا. شئ ما كان مفقودا من السيناريو، شيء حاسم. حتى في المرحلة التالية من كتابة السيناريو، لم تأت روح الفيلم لتقطن في الجسد. كنت واعيا بشكل حاد للحاجة الى إيجاد فكرة رئيسية قادرة أن ترفعه فوق مستوى التذكر الغنائي.

ثم كتبت المسودة الثانية من السيناريو. أردت أن أرصع أجزاء الطفولة بشظايا من حوار مباشر مع أمي، أي أن أجاور ادراكين للماضي (إدراك الأم و الراوي) واللذين قد يتشكلان للمتفرج في تفاعل تصورين مختلفين لذلك الماضي في ذاكرة شخصين قريبين جدا من بعضهما البعض لكن ينتسبان الى جيلين مختلفين. و كان يمكن لتلك الطريقة أن تقودنا الى نتائج مثيرة للاهتمام و لا يمكن التنبوء بها.

مع ذلك، فأنا لست نادما على اضطراري، فيما بعد، الى التخلي أيضا عن ذلك البناء، الذي هو مباشر جدا و غير مصقول، و استبدال كل المقابلات المقترحة مع الأم بمشاهد تمثيلية. في الواقع، لم أشعر أبدا بأن العناصر الممثلة و الوثائقية توجد معا على نحو ديناميكي. إنها تتعارض و تتناقض مع بعضها البعض، ووضعها معا يمكن أن يكون ممارسة شكلية، عقلانية، في المونتاج: وحدة زائفة مؤسسة على مفاهيم عامة. العنصران كانا يحملان الكتل المركزة، المختلفة تماما، من المادة والأزمنة. من جهة هناك الزمن الحقيقي، الوثائقي، الصارم للمقابلات. و من جهة أخرى، زمن الراوي في التذكر و الذي يعاد خلقه من خلال التمثيل. و هذا يذكرنا، الى حد ما، بسينما الحقيقة و أعمال جان روش. . ولم أكن أريد ذلك على الإطلاق.

الانتقالات بين الزمن القصصي، الذاتي، و الزمن الوثائقي الحقيقي، بدت لي – فجأة- غير مقنعة، متكلفة، ورتيبة.. أشبه بلعبة كرة الطاولة.

قراري بعدم توليف فيلم مصور على مستويين زمنيين مختلفين، لا يعني أبدا أن المادة الممثلة و المادة الوثائقية لا يمكن أن يتحدا معا. في الواقع، أعتقد أن المشاهد الممثلة و الأشرطة الإخبارية، في فيلم “المرآة”، تشكلت معا على نحو طبيعي تماما، الى حد أن البعض اعتقد بأن الأشرطة الإخبارية قد أعيد بناءها أو تنظيمها على نحو مقصود و بشكل مدروس لتعطي الانطباع بأنها أشرطة إخبارية حقيقية:الوثائقي أصبح جزءا عضويا من الفيلم.

هذه النتيجة كانت ناشئة من عثوري على مادة رائعة. كان يتعين عليّ أن أفحص بعناية آلاف الأمتار من الأشرطة السينمائية قبل العثور على سلسلة من اللقطات المتعاقبة للجيش السوفيتي و هو يعبر البحيرة. . وقد صعقتني مشاهدة ذلك. أبدا لم أصادف شيئا كهذا. عادة، يواجه المرء أفلاما ذات نوعية فقيرة، أو نتفاً قصيرة تسجل الحياة في الجيش يوما بعد يوم، أو أجزاء استعراضية تتسم بالكثير من التخطيط و القليل جدا من الصدق. كان اليأس قد تمكن مني عندما وقع بصري فجأة على شريط إخباري لم اسمع عنه من قبل. . ها هنا تسجيل لإحدى اللحظات الأكثر درامية في التاريخ السوفيتي في 1943. لقد كانت قطعة فذة و استثنائية. وكان صعبا علي أن أصدق بأن شريطا هائلا كهذا تم استخدامه خصيصا لتوثيق حدث واحد مرصود على نحو متواصل. كان جليا أن من صور الشريط هو مصور موهوب على نحو رائع. عندما ظهر أمامي على الشاشة هؤلاء الأفراد، كما لو كانوا قادمين من العدم، هؤلاء الذين حطمتهم تلك المحاولة اللا إنسانية، المخيفة، في تلك اللحظة التراجيدية من التاريخ، أدركت بأن على هذا الجزء أن يصبح المركز، الجوهر الفعلي، القلب، العصب، لهذا الفيلم الذي كان قد انطلق فحسب من ذكرياتي الغنائية الحميمة.

على الشاشة ظهرت صورة ذات قوة درامية غامرة. . و كانت تلك خاصة بي، ملكي. . كما لو كنت أنا الذي حمل ذلك العبء والوجع(وهذا الجزء هو الذي اعترض عليه المسؤول عن شئون السينما و طلب مني أن أحذفه من الفيلم ). كان المشهد يعبر عن تلك المعاناة والمكابدة التي هي ثمن ما يعرف بالتقدم التاريخي، ويعبر عن عدد لا يحصى من الضحايا الذين هم، منذ زمن سحيق، وقود لذلك التقدم. كان مستحيلا التصديق للحظة بأن معاناة كهذه هي فارغة و لا معنى لها. الصور كانت تتحدث عن الخلود، وقصائد والدي أرسيني تاركو فسكي كانت إكمالا لذلك الجزء لأنها منحت صوتا للمعنى الجوهري فيه. كان للشريط الإخباري خاصيات جمالية مركبة حتى الذروة الاستثنائية ذات الكثافة العاطفية. ما إن انطبع ذلك على الفيلم، حتى كفت الحقيقة المدونة في هذا الحدث المتسلسل زمنيا بدقة أن تكون مثل الحياة. فجأة، أصبحت صورة للتضحية البطولية و ثمن تلك التضحية.

الفيلم الوثائقي يحرك مشاعرك بحدة موجعة، ثاقبة، لأن في اللقطات هناك ببساطة أفراد. . أفراد يسحبون أنفسهم، حيث الركبة غائصة في الوحل، عبر مستنقع يمتد الى ما وراء الأفق تحت سماء مستوية و ضاربة الى البياض. لا أحد منهم قد نجا. المنظور اللانهائي لهذه اللحظات الموثقة قد خلق تأثيراً قريباً من التنفيس. فيما بعد، علمت أن مصور الجيش الذي قام بتصوير الفيلم، باختراق استثنائي نحو الأحداث التي وقعت حوله، قد لقي مصرعه في ذلك اليوم نفسه.

حتى عندما صورنا أغلب مشاهد الفيلم و لم يبق لدينا سوى 400 متر من الفيلم، أي حوالي 13 دقيقة من الزمن السينمائي، شعرنا بأن الفيلم لم يحقق وجوده بعد. لقد حسمنا أحلام طفولة الراوي وصورناها، لكن حتى هذه لم تمنح الفيلم البنية الموحدة التي كنا نصبو إليها.

الفيلم في شكله الحالي لم تتشكل كينونته إلا بعد إدخال زوجة الراوي في بنية السرد. هي لم تكن مرسومة لا في التخطيط الأولي و لا في السيناريو. و الممثلة مرجريتا تريكوفا كانت رائعة في دور الأم لكننا شعرنا طوال الوقت بأن الدور المكتوب لها في السيناريو لم يكن كافيا لإظهار، أو الاستفادة من، إمكانياتها الهائلة. عندئذ قررنا – أنا وشريكي الرائع الكسندر ميشارين- أن نكتب أجزاء إضافية وأن نسند لها دور الزوجة أيضا. بعد ذلك خطرت لنا فكرة نثر أجزاء من ماضي و حاضر الراوي في المونتاج.

السيناريو، بالنسبة لي، بناء حي، هش، متغير دائما. و الفيلم لا يأخذ شكله النهائي إلا لحظة اكتمال العمل. السيناريو مجرد قاعدة، نقطة انطلاق، منها يبدأ الفنان في السبر و الاستكشاف. و طوال الوقت الذي يستغرقه اشتغالي في فيلم ما، كان ينتابني باستمرار قلق شديد من جراء التفكير بأن العمل قد لا يثمر شيئا.

فيلم”المرآة” يقترح مثالا جليا للكيفية التي بها تصل بعض مبادئي في العمل، بخصوص السيناريو، الى استنتاجها المنطقي.

أشياء كثيرة لا يمكن توقعها و صياغتها و بناءها إلا أثناء التصوير. سيناريوهات أفلامي الأولى كانت مبنية بشكل واضح، لكن حين بدأنا العمل في” المرآة”، قررنا على نحو متعمد ألا نجعل الفيلم يتحقق و يكتمل مسبقا قبل تصوير المادة. كان مهما بالنسبة لنا أن نرى كيف، و تحت أية شروط و حالات، يمكن للفيلم أن يتشكل بذاته: وذلك بالاعتماد على اللقطات، على الاتصال بالممثلين، و من خلال بناء المواقع والطريقة التي بها يتكيف الفيلم مع الأماكن المختارة كمواقع. .
لم نرسم تصميمات توجيهية للمشاهد أو الأجزاء بوصفها كينونات بصرية مكتملة ونهائية. لقد اشتغلنا على الإحساس الحاد بالجو و التقمص العاطفي مع الشخصيات، والذي اقتضى – في الموقع ذاته- تحققا تشكيلياً دقيقاً. لو رأيتُ شيئا قبل التصوير، لو تخيلتُ شيئا، فان هذا الشيء يصبح عندئذ الحالة الداخلية، والتوتر الداخلي المميز للمشاهد التي ينبغي تصويرها، والحالة السيكولوجية للشخصيات. إنني اذهب الى الموقع من اجل أن أفهم بأية وسيلة يمكن التعبير عن تلك الحالة في الفيلم، وما إن افهمها حتى أشرع في تصويرها.

فيلم” المرآة” هو أيضا قصة البيت القديم الذي أمضى فيه الراوي طفولته. وتلك المزرعة التي شهدت ولادته، و فيها عاش أبوه وأمه. ذلك المبنى، البيت، والذي مع مرور السنين تحول الى أنقاض، استطعنا بناءه من جديد، بعثه كما كان، وذلك انطلاقا من الصور الفوتوغرافية القديمة، وعلى الأسس التي ظلت محافظة على بقائها. هكذا انتصب المبنى في الموقع ذاته و تماما كما كان قبل أربعين عاما. فيما بعد، عندما أخذنا أمي الى هناك، الى ذلك المكان و ذلك البيت الذي أمضت فيه شبابها، تجاوز رد فعلها، لدى رؤيتها للبيت، كل توقعاتي. في لحظات قصيرة عادت سنوات الى الوراء، الى ماضيها، وعندئذ عرفت أننا نتحرك في الاتجاه الصحيح. لقد أيقظ البيت بداخلها تلك المشاعر التي ينوي الفيلم أن يعبر عنها.

أمام البيت كان هناك حقل. و أذكر أن الحنطة السوداء كانت تنمو بين البيت والطريق الذي يفضي الى القرية المجاورة. الحقل كان يبدو جميلا جدا حين يزهر. تلك الزهور البيضاء، التي تعطي الانطباع بأن الحقل مكسو بالثلج، قد مكثت في ذاكرتي كإحدى التفاصيل المميزة و الأساسية لطفولتي. لكن حين وصلنا لنقرر أين يمكننا أن نصور، لم تعد الحنطة السوداء موجودة على مدى البصر. لسنوات كانت المزرعة التعاونية تزرع الشوفان و البرسيم في الحقل. حين طلبنا منهم أن يزرعوا الحنطة السوداء من أجل الفيلم، أصروا على إقناعنا بأن الحنطة سوف لن تنبت هناك لأن التربة غير صالحة تماما. على الرغم من ذلك، قمنا باستئجار الحقل وزراعته بالحنطة على مسؤوليتنا الشخصية. العاملون في المزرعة التعاونية لم يستطيعوا إخفاء دهشتهم وذهولهم حين شاهدوا الحنطة تنمو. أما نحن فقد اعتبرنا ذلك النجاح فالاً حسناً، يظهر لنا شيئا عن الخاصية الاستثنائية لذاكرتنا. . عن قدرتها على النفاذ الى ما وراء الحجب التي يسدلها الزمن، وهذا بالضبط ما كان يتعين على الفيلم أن يتحدث عنه: تلك هي فكرته المنوية.

لا أعرف ماذا كان سيحدث للفيلم لو أن الحنطة لم تنبت. . سوف لن أنسى أبدا اللحظة التي بدأت تزهر.

عندما بدأت العمل في “المرآة” وجدت نفسي أتأمل، ليتضح لي بأنك إذا كنت جاداً بشأن عملك فان الفيلم عندئذ لن يكون مجرد المادة التالية في مسيرتك الفنية، بل هو الفعل الذي سوف يؤثر في حياتك كلها. في هذا الفيلم، وللمرة الأولى، قررت أن أوظف وسائل السينما للتحدث عن الأثير و النفيس بالنسبة لي، و أن أفعل ذلك على نحو مباشر، و بدون اللجوء الى الحيل و الخدع البصرية.

لقد واجهت صعوبة فائقة في إقناع الآخرين بأن، في الفيلم، ليس هناك معنى خفياً، سرياً. . لا شيء غير الرغبة في قول الحقيقة. وغالبا ما تثير توكيداتي الريبة وحتى الخيبة. واضح أن البعض يريد شيئا أخر، إنهم يحتاجون الى رموز سرية و معان خفية، ذلك لأنهم لم يعتادوا على شعرية الصورة السينمائية. و بدوري كنت أشعر بخيبة الأمل. مثل هذه الاستجابة صادرة من الطرف المعارض من الجمهور، أما عن زملائي السينمائيين، فقد شنوا هجوما عنيفا ضدي موجهين إلي تهمة التعالي والادعاء و الرغبة في تحقيق فيلم عن ذاتي.

في النهاية لم ينقذنا سوى شيء واحد: الإيمان. بما أن عملنا مهم جدا بالنسبة لنا، فلابد أن يكون مهما بالنسبة للجمهور. الفيلم كان يهدف الى إعادة بناء حياة الأفراد الذين أحببتهم كثيرا و عرفتهم جيدا. أردت أن أروي قصة الألم الذي عاناه رجل لأنه يشعر بأنه لا يستطيع أن يعوض عائلته مقابل كل ما منحوه و بذلوه له، يشعر بأنه لم يحبهم بدرجة كافية.. وهذه الفكرة تعذبه وتعصر قلبه. ما إن تبدأ في التحدث عن أشياء أثيرة الى نفسك، فانك على الفور تشعر بالقلق حيال كيفية تفاعل الآخرين تجاه ما تقوله، و أنت ترغب في حماية هذه الأشياء، أن تدافع عنها ضد حالة اللافهم أو عدم الإدراك. كنا قلقين بشأن كيفية استقبال جمهور المستقبل للفيلم، لكن في الوقت نفسه كنا واثقين، في عناد شديد، بأن الآخرين سوف يصغون إلينا. و الرسائل الواردة في بداية هذا الكتاب تفسر شيئا مما حدث و أنا لم أكن آمل أكثر من هذا المستوى الرفيع من الفهم، من هذا التفاعل من الجمهور. . و الذي هو مهم جدا بالنسبة لي.

فيلم”المرآة” لم يكن محاولة للتحدث عن نفسي على الإطلاق. انه عن مشاعري تجاه الأفراد الذين أحببتهم، عن علاقتي بهم، إشفاقي الدائم عليهم، وكذلك عن إحساسي بالواجب الذي لم استطع تأديته.

الأجزاء التي فيها يتذكر الراوي، في لحظة بالغة من الأزمة، تسبب له وجعا حتى اللحظة الأخيرة. . تملؤه بالحزن و القلق.

عندما تقرأ مسرحية ما فإنك تستطيع أن تدرك ما تعنيه، حتى لو كانت قابلة للتأويل على نحو مختلف مع تعدد و اختلاف عروضها. و منذ البداية تملك المسرحية هويتها، في حين أن هوية الفيلم يستحيل إدراكها أو تمييزها من قراءة السيناريو. السيناريو يموت في الفيلم. السينما قد تستعير الحوار من الأدب، وهذا كل شيء. إنها لا تحمل أي علاقة جوهرية بالأدب على الإطلاق. المسرحية تصبح جزءا من الأدب لأن الأفكار و الشخصيات التي يتم التعبير عنها بالحوار تشكل جوهر وماهية المسرحية، و الحوار هو دائما أدبي. لكن في السينما، الحوار مجرد أحد مكونات أو عناصر النسيج المادي للفيلم. أي شيء في السيناريو، له مطمح أدبي، يجب من حيث المبدأ أن يتم هضمه وامتصاصه وتكييفه أثناء تحقيق الفيلم. العنصر الأدبي في الفيلم هو منصهر، ويكف أن يكون أدبا حالما يتخلق الفيلم.

ما إن يتم تنفيذ العمل، حتى نجد أن المتروك ما هو إلا النسخة المكتوبة من سيناريو التصوير و الذي لا يمكن إن يعتبر أدبا بأي تعريف.

 

التحقيق التصويري للفيلم

 

هام جدا، وفي الوقت ذاته شاق جداً، أن تحول مصمم المناظر والمصور (وأي عامل آخر في الفيلم)إلى شركاء متعاونين في مشروعك. وهو شئ أساسي ألا يكون هؤلاء مجرد موظفين، بل ينبغي أن يشاركوا في العمل كفنانين مبدعين كل في مجاله، وان يتاح لهم المشاركة في كل أحاسيسك وأفكارك. من جهة أخرى ، أن تجعل من المصور حليفا وشقيقا ، فذلك قد يستلزم دبلوماسية معينة ، حتى الى حد حجب المخرج بعض أفكاره الجوهرية وأهدافه الأساسية في سبيل بلوغ تحققها الأمثل في معالجة المصور . أحيانا، وعند الاقتضاء، ألجأ الى إخفاء فكرة الفيلم تماما لكي اجعل المصور يعالج الفكرة بالطريقة الملائمة.

ما حدث بيني وبين المصور فاديم يوسوف يوضح ما اعنيه. يوسوف هو الذي قام بتصوير كل أفلامي، من “طفولة إيفان” الى “سولاريس”. عندما قرأ يوسوف سيناريو “المرآة “، رفض أن يصوره قائلا بأنه وجد في الطابع الذاتي (المتعلق بالسيرة الذاتية) للعمل، على نحو صريح، أمرا بغيضاً من وجهة نظر أخلاقية. لقد شعر بالحرج والانزعاج إزاء النبرة الغنائية، الذاتية بإفراط، وإزاء رغبة المخرج في التحدث حصراً عن نفسه(وقد نوهت سابقا الى أن مثل هذا الموقف قد اتخذه أيضا زملاء لي من الفنانين). يوسوف بالطبع كان صريحا وصادقا، وهو شعر، على نحو خال من الرياء والتكلف، بأنني كنت اقل تواضعا .

فيما بعد، بعد أن صور الفيلم جورجي ريربرج، اعترف لي يوسوف يوما قائلا:اكره أن اضطر الى قول هذا، يا أندريه، لكنه أفضل أفلامك. “هذه الملاحظة كانت نزيهة تماماً.
لأنني اعرف فاديم يوسوف جيدا، فقد كان علي أن أكون أكثر مكرا. . فبدلا من أن أطلعه على كل أفكاري من البداية، كان ينبغي أن أقدم له السيناريو في أجزاء. . لا ادري، لست بارعا في التظاهر، ولا أستطيع أن ألعب دور الدبلوماسي مع أصدقائي. على أية حال، وفي كل أفلامي التي حققتها حتى الآن، كنت دائما انظر الى المصور كمشارك في التأليف، في الإبداع. الاتصال الحميمي بين العاملين في الفيلم ليس كافيا بذاته. شي من الحيلة، التي أشرت إليها لتوي، ضروري حقا لكن لكي أكون صريحا، أقول أنني دائماً أتوصل الى النتيجة على نحو نظري. في الممارسة، لم أكن اخفي أية أسرار عن زملائي. . على العكس تماما، طوال تصوير الفيلم كان الفريق كله يعمل دائما كرجل واحد. ليس بالا مكان تحقيق فيلم حقيقي ما لم نتصل بواسطة الأوردة والأعصاب، وما لم تتدفق دماؤنا وتدور في الجسم ذاته.

طوال الوقت الذي كنا فيه نحقق “المرآة”، كنا نقضي كل لحظة ممكنة معا، و نتحدث عن ما يعرفه وما يحبه كل واحد منا، عن الأشياء التي نعتز بها والأشياء التي نكرهها. . ونتبادل الآراء والأفكار بشأن فيلمنا. كل فرد في الفريق، أيا كان عمله، هو عنصر هام وأساسي. على سبيل المثال، ادوارد ارتيمييف ألف أجزاء قليلة من الموسيقى للفيلم لكن، بحكم حقه الشخصي، هو مهم تماماً مثل أي عامل آخر، لأنه بدون مشاركة كل واحد منهم في الفيلم ما كان بالامكان أن يتحقق كما هو.

عندما شيدنا الموقع على أسس البيت المتهدم، كنا جميعا –العاملون في الفيلم – نمضي الى هناك في الصباح الباكر، منتظرين الفجر، مختبرين بأنفسنا خصوصية المكان، متأملين المكان في ظروف مناخية مختلفة، ناظرين اليه في أوقات مختلفة من النهار.

كنا نريد أن نغمر أنفسنا في أحاسيس الأفراد الذين عاشوا ذات مرة في ذلك البيت، وشاهدوا – قبل أربعين عاما تقريبا – الشروق والغروب ذاته، الأمطار ذاتها والسديم ذاته. وقد أصابتنا جميعا عدوى التذكر، وإحساسنا بالمشاركة كان مقدسا. إن انتهاءنا من العمل جاء بمثابة الأسى الموجع، كما لو أنها اللحظة التي عندها ينبغي أن ننطلق:وفي ذلك الوقت أصبح كل واحد منا جزءا من الآخر.

روح التآلف والتناغم في الفريق أصبحت مهمة جدا الى حد انه في لحظات الأزمة –العديدة والمختلفة-حيث التضارب الشديد، وحين كف كل واحد منا – أنا والمصور- عن فهم بعضنا البعض، شعرت باليأس والضياع تماماً. كل شيء انزلق من يدي، ولعدة أيام لم نكن في حالة تسمح لنا بالاستمرار في التصوير. فقط حين وجدنا وسيلة للاتصال مرة أخرى، استعدنا التوازن واستأنفنا التصوير. بمعنى آخر، ليس الانضباط وجدول الأعمال هو ما ينظم ويتحكم في العملية الإبداعية بل المناخ النفسي السائد بين أفراد الفريق. فضلا عن ذلك، فقد انهينا التصوير قبل الوقت المحدد.

تحقيق الفيلم، مثل أي إبداع فني آخر، ينبغي أن يكون في المقام الأول خاضعا لحاجات باطنية ملحة، وليس لمتطلبات خارجية يفرضها الانضباط والعملية الإنتاجية، هذه المتطلبات التي يمكن أن تدمر إيقاع العمل إذا زادت عن الحد. يمكن تحريك الجبال حين يعمل الأفراد معاً لتحقيق فكرة الفيلم كلٌ بشخصيته الخاصة، بمزاجه وحساسيته وعمره وتاريخه و تجربة حياته التي تختلف عن الأخر. . وحين يتحدون كعائلة واحدة ويتوهجون بعاطفة واحدة.

إذا أمكن إيجاد و تعزيز المناخ الإبداعي، على نحو حقيقي وصادق، ضمن المجموعة العاملة في الفيلم، فعندئذ لا يعود مهماً معرفة من المسؤول عن هذه الفكرة أو تلك، و من فكر بتلك الطريقة في تنفيذ اللقطة القريبة أو البانورامية، و من هو أول من استنبط تباين الإضاءة أو زاوية الكاميرا.

آنذاك لا يعود ممكنا تقرير وظيفة من هي الأكثر أهمية: المصور أم المخرج أم مصمم المناظر. المشهد يصبح بنية حية فعالة، والتي فيها لا شيء يكون قسريا أو متكلفا، وليس ثمة تلميح الى أي غرور.

في حالة فيلم”المرآة”، بوسعك أن تتخيل الى أي مدى كان يتعين على جميع أفراد الفريق أن يكونوا ذا حساسية عالية لكي يقبلوا فكرة- كما لو كانت فكرة خاصة بهم- والتي لم تنبع من شخص آخر فحسب، بل كانت شخصية بعمق. و كم كان شاقا وعسيرا بالنسبة لي أن أتقاسم هذه الفكرة مع زملائي، ربما حتى أكثر مشقة مما لو تقاسمتها مع الجمهور. . فالجمهور، رغم كل شيء، يظل فكرة تجريدية حتى يحين العرض الأول للفيلم.

كان يتعين علينا التغلب على عوائق عديدة قبل بلوغنا ذلك الموضع الذي عنده تبنّى زملائي فكرتي كما لو كانت فكرتهم. من ناحية أخرى، ما إن انتهينا من فيلم “المرآة” حتى لم يعد ممكنا التفكير فيه بوصفه قصة عائلتي فقط، ذلك لأن مجموعة متنوعة من الأفراد صاروا الآن مشاركين فيها. . كما لو أن عائلتي قد كبرت وازداد أفرادها.

بمثل هذا التعاون الكلي و المثالي بين أفراد المجموعة ضمرت المشكلات التقنية الصرفة، بطريقة أو بأخرى. المصور و مصمم المناظر و غيرهما لم يكونوا ينفذون فحسب الأشياء التي يعرفون كيف ينفذونها، و ما يطلب منهم فعلها، بل في كل حالة جديدة كانوا يوسعون تخوم قدراتهم المهنية الى مدى أبعد قليلا. لم تكن واردة مسألة تقييد أنفسهم بما “يستطيعون” فعله، بل فعل كل ما كان مطلوبا وضروريا. عندما ينتقي المصور من اقتراحات المخرج فقط ما يقدر على تنفيذه تقنيا، فان ذلك يتجاوز التعامل الاحترافي المقبول.

ما ينبغي إنجازه وإحرازه هو تلك الدرجة من الصدق والموثوقية التي تجعل الجمهور يقتنع بأن داخل أسوار ذلك الموقع هناك تعيش أرواح إنسانية.

أحد أكبر الصعوبات في التحقيق التصويري لفيلم ما هو، بالطبع، اللون. المفارقة أن اللون يشكل عائقا رئيسيا في خلق الإحساس الحقيقي بالصدق على الشاشة. وفي الوقت الحاضر، اللون صار ضرورة تجارية أكثر منها إمكانية جمالية. وأنه لأمر ذي دلالة أن يكون هناك الآن توجه نحو تحقيق أفلام بالأسود والأبيض أكثر من ذي قبل.
إن إدراك اللون هو ظاهرة فسيولوجية و سيكولوجية والتي، عادة، لا أحد يوجه إليها اهتماما خاصا. السمة الفاتنة للقطة ما، والناشئة غالبا عن جودة الفيلم، هي عنصر اصطناعي مقحم على الصورة، و ينبغي فعل شيء لتحييده إذا أراد الفنان أن يكون أمينا للحياة. هنا يتعين عليه أن يقوم بمحاولة لتحييد اللون و تخفيف تأثيره على الجمهور.

لهذا السبب، في الوقت الحاضر، يكتشف المرء في أحوال كثيرة أن الفيلم المتوسط القيمة، و المنفذ بمهارة تقنية، يشبه في فتنته و جاذبيته المجلة الصقيلة، المزينة بصور فخمة و منمقة.

ربما ينبغي تحييد تأثير اللون يجعل اللون و اللقطات المتتالية ذات اللون الأحادي تتعاقب بحيث أن الانطباع الذي يحدثه الطيف الكامل يكون ملطفا و أقل حدة. لكن إذا كان كل ما تفعله الكاميرا هو تسجيل الحياة الحقيقية على الفيلم، فلماذا ينبغي أن تبدو اللقطة الملونة زائفة على نحو بشع وعلى نحو لا يصدق؟ بلا شك التفسير المقنع سيكون أن اللون، المستخرج آليا، يفتقر الى لمسة يد الفنان. في هذا المجال، يفقد الفنان وظيفته المنظمة و لا تكون لديه وسيلة انتقاء ما يريده. العملية التكنولوجية هي التي تتحكم في الطبيعة اللونية للصور. . لا المخرج. كما أنه يصبح من المستحيل للمخرج أن ينتقي و يعيد تقييم عناصر اللون في العالم من حوله. وحتى لو كان العالم ملونا، فإن الصورة المأخوذة بالأسود والأبيض تكون أقرب الى الصدق السيكولوجي، الطبيعي، للفن.

 

الممثل السينمائي

 

حين أحقق فيلما، أكون – جوهريا- مسؤولاً عن كل شيء. . حتى أداء الممثلين. في المسرح، مسؤولية الممثل تجاه إنجازاته و إخفاقاته تكون أكبر على نحو لا يقاس.

أحياناً يمكن أن يكون عائقا خطيرا للممثل أن يعرف خطة المخرج جيدا في بداية التصوير. المخرج هو الذي يبني الدور ثم يعطي الممثل حرية تامة في كل جزء منفصل. . الحرية التي لا يمكن أن تتوفر في المسرح. إذا راح الممثل السينمائي يشيّد وحده دوره الخاص، فانه سوف يضيع فرصة تقديم أداء تلقائي ولا إرادي ضمن الشروط التي يضعها الفيلم في تصميمه و هدفه. يتعين على المخرج أن يستحث الحالة الذهنية الملائمة في الممثل، ثم يتيقن من أنها مغذاة ومعززة باستمرار. و يمكن جلب الممثل الى هذه الحالة الذهنية الملائمة بوسائل متعددة. . إن ذلك يتوقف على ظروف الموقع ، و على شخصية الممثل الذي يعمل معه المخرج. ينبغي على الممثل أن يكون في حالة سيكولوجية يستحيل اختلاقها أو التظاهر بها. السينما تقتضي صدق الحالة الذهنية التي لا يمكن حجبها.

بالطبع يمكن تقاسم الوظائف: بوسع المخرج أن ينظم أجزاء من انفعالات الشخصيات، وبوسع الممثلين التعبير عنها- أو بالأحرى، يجدون أنفسهم بداخلها- أثناء التصوير. لكن الممثل لا يستطيع أن يفعل الشيئين معاً في الموقع. على خشبة المسرح، يجد الممثل نفسه مجبرا على فعل الشيئين في آن بينما هو يشتغل على دوره.

أمام الكاميرا، يتعين على الممثل أن يوجد، على نحو صادق و فوري، في الحالة التي تحددها الظروف الدرامية. ثم يأتي المخرج، ما إن تتوفر بين يديه اللقطات المتتالية والأجزاء واللقطات المعادة التي صورتها الكاميرا، و منها يشرع في المونتاج وفقاً لغاياته الفنية الخاصة، ويبني المنطق الداخلي للفعل.

السينما لا تملك شيئا من سحر الاتصال المباشر بين الممثل والصالة، والذي هو قوي وفعال جدا في المسرح. بالتالي فإن السينما سوف لن تحل محل المسرح. السينما تحيا بواسطة قدرتها على بعث الحدث ذاته على الشاشة المرة تلو الأخرى. في المسرح، من جهة أخرى، المسرحية تحيا وتتنامى وتبني صلة ما. . إنها وسيلة مختلفة من وسائل إدراك الذات بالنسبة للروح الخلاقة.

المخرج السينمائي هو بالأحرى مثل جامع اللوحات. . معروضاته هي كادراته، التي تؤلف الحياة، المسجلة مرة والى الأبد بعدد وافر من التفاصيل و الأجزاء والشظايا، حيث الممثل، الشخصية، يكون طرفاً فيها أو لا يكون.

في المسرح، كما لاحظ كليست KLEIST)) ذات مرة بعمق، التمثيل أشبه بنحت في الثلج.

لكن الممثل يحرز السعادة من جراء الاتصال بالجمهور في لحظات الخلق. ليس هناك أكثر سموا من ذلك الانسجام بين الممثل والجمهور وهم يخلقون الفن معا:الأداء يوجد فقط مادام الممثل موجودا هناك كخالق، حين يكون حاضرا، حين يكون حيا جسمانياً وروحياً. عدم وجود الممثل يعني عدم وجود المسرح.

بخلاف الممثل السينمائي، كل ممثل مسرحي يتعين عليه أن يبني دوره الخاص داخل ذاته، من البداية إلى النهاية، تحت توجيه من المخرج. عليه أن يرسم خريطة أو ما يشبه الرسم البياني لمشاعره والتي هي خاضعة للتصور الإجمالي للمسرحية. في السينما، مثل هذا البناء الاستبطاني للشخصية لا يمكن أن يكون مقبولا أبدا.

ليس من مهمة الممثل أن يتخذ قرارات بشأن تأويله للدور، ذلك لأنه لا يستطيع أن يعرف كل المكونات والعناصر الأساسية التي سوف تفضي الى تشكيل الفيلم. مهمته أن يحيا فحسب. . وأن يثق بالمخرج.

المخرج ينتقي للممثل لحظات من وجوده والتي تعبر عن مفهوم الفيلم على نحو أكثر صحة ودقة. لا يجب أن يضع الممثل قيودا على نفسه، لا يجب أن يتجاهل حريته التي وهبها له الله، والتي لا تضاهى.

حين احقق فيلما أحاول ألا أرهق الممثلين بالنقاش لكنني حريص الى درجة العناد على ضرورة إجهاض أي محاولة يقوم بها الممثل لربط الجزء الذي يؤديه بالكل أو حتى أحيانا بالمشاهد السابقة أو اللاحقة مباشرة. على سبيل المثال ، في احد مشاهد فيلم “المرآة” ، تنتظر البطلة زوجها وهي جالسة على السياج تدخن سيجارة . ولقد آثرت ألا تعرف الممثلة مرجريتا تريكوفا الحبكة، ألا تعرف ما إذا سوف يعود إليها زوجها. لم ندعها تطلّع على القصة لكي لا تستجيب إليها على مستوى اللاشعور بل تعيش طوال تلك اللحظة تماماً كما عاشتها أمي (الشخصية الحقيقية) بدون معرفة مسبقة لمصيرها ومسار حياتها.

لا شك أن سلوكها في هذا المشهد سيكون مختلفا لو أنها كانت تعرف كيف ستكون علاقتها بزوجها في المستقبل. . ليس مختلفا فحسب، بل مزيفا نتيجة هذه المعرفة المسبقة للنتائج. الإحساس بان العلاقة محكوم عليها بالإخفاق لابد وان يلوّن أداء الممثلة في تلك المرحلة المبكرة من القصة: ففي نقطة معينة – ربما على نحو لا إرادي ودون رغبة منها- قد تكشف إحساسا بعبث انتظارها ولا جدواه، ونحن بدورنا سوف نشعر بذلك، في حين أن ما ينبغي أن نشعره هنا هو خصوصية وفرادة تلك اللحظة الخاصة وليس اتصالها ببقية حياتها.

في السينما، غالبا ما يلتزم المخرج بأشياء قد تتعارض مع رغبات الممثل.في المسرح، ينبغي أن نكون واعين في كل مشهد للأفكار التي تفضي إلى بناء الشخصية..وتلك هي الطريقة الوحيدة الصحيحة والطبيعية، ففي المسرح لا يتم إنجاز الأشياء وفق نظام ما.

المسرح يعمل من خلال المجاز، الإيقاع، التناغم.. من خلال شعريته.

هنا أردنا من الممثلة تريكوفا أن تختبر تلك اللحظات تماما كما يمكن أن تختبرها في حياتها الخاصة، وليس كما هو وارد في السيناريو..عندئذ من المحتمل أن تتسلح بالأمل ثم تفقد الأمل ثم تبدأ بالتشبث بالأمل من جديد. ضمن الهيكل المحدد لانتظار زوجها، يتعين على الممثلة أن تعيش الجزء الغامض من الحياة جاهلة بالمكان الذي يمكن أن تمضي إليه.

الشئ الوحيد الذي يتعين على الممثل السينمائي أن يفعله هو أن يعبّر في ظروف معينة عن حالة سيكولوجية خاصة به وحده، وأن يفعل ذلك على نحو طبيعي، منسجم مع بنيته العاطفية والفكرية، وبالشكل الملائم له فقط. أنا لا يهمني على الإطلاق كيف يفعل الممثل ذلك، أوأية وسيلة يستخدمها.لا اشعر بأن لي الحق في أن أملي أو افرض شكل التعبير الذي ينبغي أن تتبناه حالته السيكولوجية الفردية.. ذلك لأن كلاً منا يختبر كل حالة أو وضع معين بطريقته الخاصة، والتي هي شخصية تماما.البعض، عندما يكونون في حالة حزن أو كآبة، فانهم يتوقون الى تعرية ذواتهم والكشف عن أنفسهم والانفتاح.آخرون يرغبون في العزلة وان يُتركوا وحيدين مع تعاستهم..إنهم يرغبون في الانغلاق على ذواتهم وتحاشي أي اتصال بالآخرين.

في أحوال كثيرة كنت أرى الممثلين وهم يحاكون إيماءات وسلوك مخرجيهم.لقد لاحظت بأن فاسيلي شوكشين (14) كان يحاكي سيرجي جيراسيموف (15) (الذي تأثر به بعمق)، وان كورافليوف كان يحاكي شوكشين (عندما تحول الى الإخراج). شخصيا، يستحيل أن اجعل ممثلا يتبنى رسمي وتخطيطي، لدوره. إني أريده أن يمتلك حرية كاملة حالما يتضح لي، قبل أن يبدأ التصوير، بأنه متصل تماما بالفكرة العامة للفيلم.

من أجل جلب الممثل الى الحالة الذهنية المطلوبة، يتعين على المخرج أن يجعله يتقمص الشخصية عاطفيا. ليست هناك طريقة أخرى لإيجاد الطابع الملائم للأداء.انك لا تستطيع، على سبيل المثال، أن تدخل بيتا لا تعرفه و تبدأ تصوير مشهد تدربت عليه في مكان آخر.انه بيت غير مألوف، مسكون بأفراد غرباء، ومن الطبيعي تماما أنه لن يستطيع مساعدة الشخصية القادمة من عالم مختلف على التعبير عن نفسها. إن مهمة المخرج الأولى و المحددة جدا، في كل مشهد، هي أن يوصل الى الممثل الحقيقة الكاملة بشأن الحالة الذهنية التي ينبغي بلوغها.

في الواقع، ينبغي على المخرج التعامل مع كل ممثل بطريقة مختلفة عن الممثل الآخر.تريكوفا لم تطلّع على السيناريو كله بل أدت دورها في أجزاء منفصلة . حين اكتشفت للمرة الأولى بأنني سوف لن أخبرها عن الحبكة أو أشرح لها دورها كله، شعرت بالارتباك والاضطراب الى أبعد حد. الأجزاء المختلفة التي مثلتها هي (وأنا ركّبتها فيما بعد مثل الفسيفساء لتشكيل صورة واحدة) كانت ثمرة حدسها. في البداية لم يكن من السهل علينا أن نعمل معا. هي وجدت صعوبة في تصديق إنني قادر – بالنيابة عنها – على توقع ما سيكون عليه دورها في النهاية وكيف سيتشكل.. باختصار ، هي لم تستطع أن تثق بي.

لقد التقيت بعدد من الممثلين الذين، منذ البداية وحتى النهاية، واجهوا صعوبة في الثقة كليا بقراءتي لأدوارهم، ولسبب ما أجهدوا أنفسهم في إدارة أدوارهم بأنفسهم، منتزعين الدور الى خارج سياق الفيلم. هذا النوع من الممثلين أعتبرهم الأقل احترافية.

الممثل السينمائي الحقيقي، في تصوري، هو القادر على قبول أي قانون من قوانين اللعبة التي توضع أمامه.. بسهولة وعلى نحو طبيعي، ودون أية بادرة إجهاد أو انفعال، وأن يظل تلقائيا في ردود فعله تجاه أي وضع مرتجل. أنا لست راغبا في العمل مع أي صنف آخر من الممثلين، ذلك لأنهم سوف لن يؤدوا أي شيء يقع خارج نطاق ما هو مألوف وتبسيطي بالنسبة لهم.

في هذا الصدد، كان الراحل أنا تولي سولونيتسين ممثلاً رائعاً.. وكم أفتقده الآن. كذلك مرجريتا تريكوفا التي كانت في نهاية الأمر تفهم المطلوب منها و تؤدي في يسر و سلاسة، وبدون تحفظ، مؤمنة بهدف المخرج. ممثلون كهؤلاء لديهم ثقة صريحة بالمخرج.. وهذه القدرة على منح الثقة هي ملهمة على نحو استثنائي.

أناتولي سولونيتسن كان ممثلا سينمائيا بالفطرة، سهل التأثر بأفكار الآخرين، وبسهولة كان يمكن بث الانفعالات فيه وإحراز الحالة المناسبة.

من المهم جدا أن يكف الممثل السينمائي عن طرح تلك الأسئلة التقليدية والملائمة تماما في المسرح (خصوصا أولئك الذين تربوا على أفكار ونظريات ستانيسلافسكي ): لماذا ؟ ما الغاية ؟ ما هو مفتاح الصورة ؟ ما هي الفكرة الضمنية ؟ وغيرها من الأسئلة التي اعتادوا على طرحها.

لقد كنت محظوظا جدا بالعمل مع سولونيتسين الذي لم يطرح أبدا أسئلة كهذه – و التي هي عبثية وغير مجدية تماما في نظري – ذلك لأنه كان يعرف الفرق بين المسرح و السينما.. أو نيكولاي جرينكو الحساس و النبيل كممثل وكانسان.إني أحبه كثيرا. روح صافية و رقيقة وبأعماق عظيمة.

ذات مرة، حين سئل رينيه كلير عن كيفية عمله مع الممثلين، أجاب بأنه لا يعمل معهم بل يدفع لهم. وراء التعبير الساخر الجلي، والذي قد يبدو للبعض أنها الغاية الوحيدة لملاحظته (هكذا فهم الأمر عدد من النقاد السوفييت ) يتوارى احترام عميق للممثل المحترف الذي هو سيد مهنته. قد يضطر المخرج الى العمل مع الشخص الأقل أهلية أو ملاءمة لأن يكون ممثلا. ماذا بوسع المرء أن يقول، على سبيل المثال، عن الطريقة التي يعمل بها أنتونيوني مع ممثليه في فيلمه “المغامرة”؟ أو أورسون ويلز في “المواطن كين”؟

كل ما ندركه هو الإقناع الفريد للشخصية.

للأسف لم أستطع أبدا تطوير علاقة عمل مع الممثل دوناتاس بانيونيس، الذي أدى الدور الرئيسي في “سولاريس”، ذلك لأنه ينتسب الى فئة الممثلين المغرمين بالتحليل، و الذين لا يستطيعون العمل دون أن يعرفوا السبب والدافع. إنه لا يقدر أن يؤدي شيئا بتلقائية من داخل نفسه. لا بد أولاً أن يبني دوره، ولا بد أن يعرف العلاقة بين اللقطات المتعاقبة، وما الذي يفعله الممثلون الآخرون، ليس فقط في مشاهده الخاصة إنما في الفيلم بأسره. إنه يحاول أن يستعير من المخرج. وهذا بلا شك ثمرة كل السنوات التي أمضاها في المسرح. إنه لا يستطيع أن يقر بأن الممثل في السينما لا يجب أن تكون لديه صورة شاملة عن المظهر الكلي للفيلم المكتمل، وكيف سيبدو عليه الفيلم أو تكون النتيجة. حتى أفضل مخرج، والذي يعرف تماما ما يريده، نادرا ما يستطيع أن يتخيل بدقة النتيجة النهائية لفيلمه. مع ذلك كان دوناتاس بارعا جدا بالفعل، و أنا ممتن له لأنه أدى دوره على نحو أفضل من أي ممثل آخر، رغم أن ذلك لم يكن سهلا.

الممثل ذو التوجه العقلاني، التحليلي أكثر، يعتبره أمرا مفروغاً منه أن يعرف الفيلم كما سيبدو عليه في صورته النهائية، أو عبر قيامه بدراسة السيناريو يبذل جهودا مضنية لتصور العمل في شكله النهائي.بافتراضه أنه يعرف كيف ينبغي أن يكون الفيلم، يبدأ الممثل في تأدية ” الحصيلة الأخيرة”..أي مفهومه لدوره.وبفعل ذلك، هو ينكر وجود المبدأ الفعلي لخلق الصورة السينمائية.

لقد أشرت سابقا الى أن كل ممثل يحتاج الى تعامل مختلف، وحتى نفس الممثل يقتضي تعاملا على نحو مختلف في كل دور جديد.وعلى المخرج أن يكون مبتكراً في بحثه عن الوسائل الأفضل لجعل الممثل يفعل ما يريده.كوليا بورليائيف، عندما أدى دور ابن صانع الأجراس في “أندريه روبليوف”، كان يعمل معي للمرة الثانية بعد “طفولة إيفان”. طوال فترات التصوير كنت أريد منه أن يفهم من خلال المساعدين لي في الإخراج بأنني مستاء تماما من أدائه، ومن المحتمل أن أعيد تصوير مشاهده مع ممثل آخر. أردته أن يشعر بان الكارثة مسلطة عليه، متدلية فوقه، وهي ربما على وشك السقوط عليه، وذلك لكي يشعر على نحو حقيقي باللا أمان وبعدم الاستقرار.

كوليا ممثل مولع بالتفاخر والتباهي، قليل العمق، مشتت تماما، ومتكلف المزاج. لهذا السبب كان علي أن الجأ الى مثل هذه الإجراءات القاسية. مع ذلك ،أداؤه لم يكن في المستوى نفسه كما أداء الممثلين المفضلين لدي :ايرما راوش، سولونيتسين، جرينكو ،بيشيناجيف، نازاروف.

لو نظرنا الى فيلم بيرجمان “العار”، للاحظنا بان الفيلم لا يحتوي على مشاهد يستعرض فيها الممثل مواهبه على هواه، و”يخون”فيها غاية المخرج، ويظهر موقفه الخاص تجاه الشخصية. الممثل هنا متوار تماما ضمن ديناميكية حياة الشخصية، متحدا معها.الأفراد في الفيلم تسحقهم الظروف، وهم يتصرفون فقط وفقا لوضعهم الخاص الذي يخضعون له.الممثل لا يقوم بأية محاولة ليفرض علينا أية فكرة وأية وجهة نظر لما يحدث، أو لاستدرار أي استنتاج. كل ذلك متروك الى الفيلم ككل، والى رؤية المخرج.وكم هو – الفيلم- منجز على نحو رائع. انك لا تستطيع أن تحدد في عبارات بسيطة أي الشخصيات طيبة وأيها شريرة.إنهم جميعا طيبون الى حدٍ ما، وسيئون الى حدٍ ما. كل بطريقته الخاصة.هنا لا يمكن إصدار أية أحكام، لأن ليس ثمة أي اثر للانحياز في أي ممثل، وظروف أو حالات الفيلم يستخدمها المخرج لسبر الاحتمالات الإنسانية التي يختبرونها، وليس لتوضيح فرضية ما.

شخصية ماكس فون سيدوف تتنامى بقوة وببراعة في البداية هو رجل طيب جداً، حنون وحساس، وهو موسيقار. لكن يتضح فيما بعد انه جبان. على أية حال، ليس كل رجل جسور هو كائن بشري طيب، وليس كل جبان هو وغد. بالطبع هو ضعيف ومتردد. زوجته أقوى منه بكثير، الى حد أنها تستطيع أن تقهر خوفها.البطل يفتقر الى تلك القوة. إنه معذب بسبب ضعفه وحساسيته وافتقاره الى المرونة. يحاول أن يختبئ، أن ينكمش في زاوية، أن لا يرى ولا يسمع.. وهو يفعل هذا مثل طفل.. بسذاجة وبصدق تام.لكن عندما ترغمه الظروف أن يدافع عن نفسه، يتحول على الفور الى وغد.انه يفقد كل ما كان فاضلاً وحسناً فيه.غير أن الدراما ولا معقولية وضعه، التي دفعته لأن يكون كذلك، هي التي تجعل تحوله ضرورية بالنسبة الى زوجته التي تتوقع منه الحماية والعون عوضا عن ازدرائه كما كانت دائما.حين يضربها على وجهها ويطلب منها أن تخرج، هي تذهب خلفه زاحفة. ثمة شئ هنا من الفكرة القديمة جدا عن الخير السلبي والشر الفعال..لكن التعبير عنها مركب للغاية . في بداية الفيلم، لا يستطيع البطل أن يقتل حتى دجاجة، لكن حالما يجد طريقه للدفاع عن نفسه، فانه يصبح قاسيا، مؤمنا بان السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية. ثمة شئ من هاملت في داخله: رأيي أن هاملت يموت ليس بعد المبارزة، أي جسمانياً، بل مباشرة بعد مشهد “الفأر”حيث يفهم الى أي مدى يتعذر إلغاء قوانين الحياة التي أرغمته، هو رجل الإنسانية والفكر، أن يتصرف مثل أي شخص وضيع وأدنى منزلة. فون سيدوف يتحول الى شخص شرير، حتى انه يقتل، ولا يخاف من شئ. وسوف لن يرفع إصبعا لإنقاذ رفاقه. ولا يسعى إلا وراء مصالحه الخاصة. الغرض من هذا، انك لابد أن تكون شخصاً ذا استقامة عظيمة لكي تشعر بالخوف إزاء الضرورة البشعة التي تدفعك لأن تقتل وتذل كائنا آخر. بإراقة ذلك الخوف، واكتساب الشجاعة ظاهريا، يفقد الفرد قوته الروحية واستقامته الفكرية وجوانب من براءته. الحرب هي التي تحفز العناصر الوحشية، اللاانسانية، في الأفراد.وبيرجمان يستخدم الحرب في هذا الفيلم تماما مثلما وظف مرض البطلة في فيلمه “عبر مرآة معتمة”:لكي يسبر رؤيته للإنسان.

بيرجمان لا يسمح أبدا لممثليه أن يكونوا فوق الوضع الذي فيه يتم تعيين الشخصيات، ولهذا السبب هو يحرز نتائج ممتازة. في السينما، يتعين على المخرج أن ينفخ الحياة في الممثل لا أن يجعل منه ناطقا باسمه و ينقل أفكاره.

عادة أنا لا أعرف سلفا أي الممثلين ينبغي أن أختار.. باستثناء واحد هو سولونيتسين، لقد شارك في كل أفلامي. سيناريو “نوستالجيا” كان مكتوبا على أساس أن يؤدي هذا الممثل الدور، لكنه فارق الحياة قبل المباشرة في العمل. ويبدو أن موت هذا الممثل، على المستوى الرمزي، قد قسم مسيرتي الفنية الى جزئين:الأول في روسيا، والثاني يشتمل على الأعمال التي حققتها خارج روسيا.

البحث عن ممثلين ملائمين للأدوار مهمة شاقة و موجعة ومديدة. إن من الصعب تقرير – حتى منتصف فترة التصوير- ما إذا كنت قد قمت بالاختيار الصحيح والمناسب للممثل. بل إنني لا أبالغ إذا قلت بأن الأمر الأصعب بالنسبة لي هو أن أؤمن بأنني قد اخترت فعلا الممثل المناسب، و أن شخصيته الفردية تتوافق أو تتطابق مع ما خططت له.

لا بد من الإشارة هنا الى العون الكبير الذي تلقيته من المساعدين لي. حين كنا نحضّر لتحقيق فيلم “سولاريس”، ذهبت لاريسا (زوجتي ومساعدتي في كل أفلامي ) الى ليننغراد بحثا عن ممثل يؤدي دور “سنوت”، فأحضرت معها الممثل الأيستوني الرائع “يوري يارفيت”، الذي كان يؤدي آنذاك في فيلم “الملك لير” مع المخرج جريجوري كوزنتسيف.

من أجل دور “سنوت” كنا نعلم بأننا نحتاج الى ممثل يحمل سمات شخص ساذج، مذعور، مجنون. ويا رفيت، بعينيه الزرقاوين المدهشتين، تطابق بدقة مع ما تخيلناه. (الآن أشعر حقا بالأسف لإصراري على أن يلقي حواره بالروسية رغم اضطرارنا الى دبلجة حواره، كان يمكن أن يكون أكثر حرية، وبالتالي أكثر قوة وحيوية، لو أنه تحدث بلغته الايستونية).. ومع أن عدم إجادته اللغة الروسية قد سبّب بعض الصعوبات، إلا أنني كنت سعيدا بالعمل معه، فهو ممثل ممتاز تتوفر لديه درجة من الحدس الغريب على نحو ايجابي.

في إحدى المرات كنا نجري بروفة على مشهد ما و طلبت من يارفيت أن يعيد المشهد لكن بتغيير طفيف للحالة النفسية. أردت منه أن يكون “أكثر حزناً بعض الشيء. وقد نفّذ بشكل مرض ما طلبته منه، وعندما أنهينا المشهد، سألني بلغته الروسية المروعة: ماذا كنت تعني بقولك “أكثر حزناً بعض الشيء”؟

أحد الفروقات بين المسرح و السينما هو أن الشاشة تسجل الوجود الشخصي من فسيفساء من الطبعات على الفيلم يركّبها المخرج معاً في وحدة فنية. بالنسبة للممثل المسرحي، التساؤلات النظرية ذات أهمية كبيرة: يتعين عليك أن تعمل على أساس كل أداء فردي مستقل فيما يتعلق بالمفهوم الإجمالي للإنتاج، وتنمّي رسماً بيانياً لأفعال وتفاعلات الشخصيات، ومخططا للسلوك و الدافع الذي ينبغي أن يمتد عبر المسرحية.

في السينما، كل ما هو مطلوب صدق الحالة الذهنية في اللحظة المصورة.لكن كم هو شاق فعل ذلك أحيانا، كم هو شاق أن تمنع الممثل من عيش حياته الخاصة في اللقطة، كم هو صعب أن تنفذ الى الأعماق الأكثر إيغالاً لحالة الممثل السيكولوجية، أن تخترق ذلك المجال الذي يمكن أن يثمر وسيلة حيوية، على نحو رائع، لشخصيةٍ ما كي تعبّر عن نفسها.

بما أن السينما هي دائما واقع مسجل، فاني أشعر بالحيرة عند الكلام عن الصفة الوثائقية للمادة الممثلة و التي أصبحت منتشرة كثيرا في الستينات والسبعينات.

الحياة المعبّر عنها في قالب مسرحي لا يمكن أن تكون وثائقية. إن تحليل الفيلم المصور يمكن، بل و ينبغي، أن يتضمن مناقشة كيفية تنظيم المخرج للحياة أمام الكاميرا، لكن لا يمكن مناقشة المنهج المستخدم من قبل المصور.

أوتار يوسيلياني ، على سبيل المثال، منذ فيلمه falling leaves مروراً ب songthrush وحتى فيلمه pastorale، يتحرك بثبات مقتربا أكثر من الحياة، هادفا الى أسرها بمباشرية أكثر. فقط الناقد الشكلاني، الذي تعوزه الحساسية، الأكثر سطحية سوف يعجز عن التقدم عبر التفاصيل الوثائقية بحيث يخفق في إدراك الرؤية الشعرية التي تميز أفلام يوسيلياني. و بالنسبة لي، ليس مهماً أبداً ما إذا كانت كاميرته – فيما يتصل بكيفية تصوير لقطاته- هي “وثائقية” أو شعرية. كل فنان، كما يقال، يشرب من كأسه. وبالنسبة لمبدع فيلم pastorale لا شيء أكثر قيمة و أهمية من الشاحنة التي تُرى في طريق مغبر، أو الناس و هم يمضون في نزهة.. وهو المشهد الذي لا يمكن أن يكون ملفتا بذاته، لكنه مرصود بشمولية دقيقة، وهو حافل بالشعر. انه يرغب في أن يتحدث عن هذه الأشياء بدون إضفاء صبغة رومانسية عليها، وبدون تفخيم وتكلف. هذا التعبير عن حبه لموضوعه هو الأكثر إقناعا، على نحو لا يضاهى، من اتجاه أندريه كونشالوفسكي ذي النزعة الشعرية الزائفة، والطبقة العالية على نحو مقصود.

في فيلمه “حكاية رومانسية عن العشاق” ثمة نبرة متكلفة.. في الاتجاه العام و في مجاراة قواعد ” نوع فني” كان يقصده المخرج وباستمرار يعود إليه، في نبرات عالية طوال التصوير. وبالنتيجة، فإن كل ما يتصل بالفيلم هو فاتر، تعوزه العاطفة، مدع على نحو لا يطاق، ومبتذل. ليس هناك أي “نوع فني” يستطيع أن يبرر استخدام المخرج المتعمد لصوت، ليس صوته الخاص، للتحدث عن أمور لا تقلقه ولا تثير اهتمامه.

عند يوسيلياني، يستحيل أن ترى نثراً مبتذلاً. وعند كونشالوفسكي يستحيل أن ترى شعراً راقياً. مع يوسيلياني، الشعري مغموس في ما يحبه، كجزء لا يتجزأ، وليس في شئ مختلق لتزيين رؤيته للعالم.. هذه الرؤية ذات الروح الرومانسية الزائفة.

إني أشعر بالرعب من النعوت والتصنيفات. أنا لا افهم، على سبيل المثال، كيف يمكن الحديث عن “رمزية” بيرجمان. بعيداً عن أن يكون رمزياً، بيرجمان – عبر طبيعية بيولوجية تقريباً – يصل الى الحقيقة الروحية بشأن الحياة الإنسانية التي هي هامة بالنسبة إليه.

القصد هنا أن عمق ومغزى ودلالة عمل المخرج لا يمكن قياسه أو تقديره إلا في ما يتصل بالشئ الذي يجعله يصور: الدافع هو العامل الحاسم، أما الطريقة والمنهج فهي أمور تصادفية وثانوية.

حسب تصوري، فإن الأمر الوحيد الذي يتعين على المخرج أن يقلق بشأنه هو التوكيد غير المتردد لأفكاره الخاصة. أي كاميرا يستخدم، فذلك أمر راجع له. المسائل التي تتعلق بالأسلوب الشعري أو الفكري أو الوثائقي فلا صلة لها بالغاية لأن الوثائقية والموضوعية لا موقع لها في الفن. الموضوعية يمكن أن تكون خاصة بالمبدع فقط، وبالتالي هي ذاتية.. حتى عندما يتولى مونتاج شريط إخباري.

إذا توجب على الممثل السينمائي أن يؤدي فقط الحالات الدقيقة، فقد ينطرح هذا السؤال: ماذا عن الكوميديا السوداء، الكوميديا الصارخة (الفارس)، الميلودراما.. وكل الأمثلة التي قد يكون فيها أداء الممثل متسماً بالمبالغة؟

إني أعتقد بأن نقل الأنواع المسرحية، بالجملة، الى السينما هي ممارسة مشكوك فيها. إن تقاليد المسرح هي على مقياس مختلف. أي كلام عن “النوع الفني” في السينما يشير عادةً الى الأفلام التجارية: كوميديا الموقف، الويسترن، الدراما النفسية، الميلودراما، الفيلم الاستعراضي، البوليسي، أفلام الرعب أو الإثارة.. لكن ما علاقة كل هذا بالفن ؟ إنها تنتسب الى الإعلام الجماهيري، وهي موجهة الى المستهلك العام.

لكن للأسف، هي أيضا الشكل الذي فيه توجد السينما الآن عالميا، الشكل المفروض عليها من الخارج ولأسباب تجارية.هناك طريقة واحدة فقط للتفكير في السينما:شعريا.

فقط بهذا التعامل يمكن حل ما هو متناقض، ولكي تكون السينما وسيلة ملائمة للتعبير عن أفكار ومشاعر المبدع.

الصورة السينمائية الحقيقية مبنية على أنقاض النوع الفني، على التعارض معه. والمثل العليا، التي يسعى الفنان الى التعبير عنها، لا تقبل أن تكون محتجزة ضمن معايير نوع فني معين.

ما هو النوع الفني الذي من خلاله يعبّر بريسون؟ ليس لديه أي نوع. بريسون هو بريسون. هو بذاته نوع.انتونيوني، فلليني، بيرجمان، كيروساوا، دوفجنكو، فيجو، ميزوجوشي، بونويل.. كل واحد من هؤلاء يعين هويته الخاصة.المفهوم الفعلي للنوع الفني هو بارد كالقبر.وهل شارلي شابلن كوميدي؟ لا.. انه شابلن..ظاهرة فريدة لا يمكن أن تتكرر أبدا.في أدائه قد نجد مغالاة خالصة، لكنه يذهلنا في كل لحظات وجوده السينمائي على الشاشة من خلال صدق سلوك بطله.في أكثر الأوضاع والحالات عبثية أو لا معقولية، يبدو شابلن طبيعيا تماما، ولهذا السبب هو مضحك.لا يبدو على بطله انه يلاحظ المغالاة والمبالغة التي يتسم بها العالم من حوله، ولا يدرك المنطق الغريب الذي يعتمد عليه هذا العالم. .شابلن فنان كلاسيكي، كامل بذاته.

ما الذي يمكن أن يكون أكثر سخفاً وعبثية، أو اقل احتمالا، من شخص يبدأ على نحو غير مقصود-في التهام قصاصات ورق تنحدر من السقف لتحط في طبق السباجيتي الموضوع أمامه؟ لكن مع ذلك فإن الحدث، عند شخص مثل شابلن، يبدو طبيعيا وحيوياً. نحن نعلم بأن المسألة كلها منظمة ومبالغ فيها، لكن في أدائه المتسم بالمبالغة هو يكون طبيعياً ومحتملاً تماماً، وبالتالي مقنعا ومضحكا على نحو رائع. إنه لا يؤدي بل يعيش تلك الحالات الحمقاء..انه جزء لا يتجزأ منها.

إن طبيعة التمثيل السينمائي مقتصرة على السينما.كل مخرج، بالطبع، يعمل على نحو مغاير مع ممثليه..طريقة فلليني مختلفة تماما عن طريقة بريسون، لان كل مخرج يحتاج الى نماذج إنسانية مختلفة.

بالنظر الى أفلام ياكوف بروتوزانوف (16) الصامتة، التي كانت شعبية جدا في تلك الأيام، يشعر المرء بالحرج تقريبا من تسليم الممثلين الكلي بالأعراف المسرحية، واستخدامهم غير المكبوح لكليشيهات مسرحية بالية، والطريقة التي بها يمطون النمط الأدائي المتكلف. كانوا يحاولون بصعوبة فائقة أن يكونوا مضحكين في الأعمال الكوميدية أو معبرين في الحالات الدرامية.. وكلما بذلوا جهدا اكبر، اتضح أكثر أن “منهجهم”، طوال سنوات، كان فارغا و أجوف.

أغلب أفلام تلك الفترة تصير متخلفة على نحو سريع لأن الممثلين لم يكن لديهم فهم للمتطلبات النوعية و الخاصة التي يقتضيها الإنتاج السينمائي، ولهذا السبب كانت جاذبية الممثلين قصيرة الأجل.

ممثلو بريسون، من ناحية أخرى، سوف لن يبدوا متخلفين عن زمنهم أبدا، و الشيء نفسه ينطبق على أفلامه أيضا. لا شيء محسوب أو مدروس أو غير اعتيادي في أدائهم. هناك فقط الصدق العميق للإدراك الإنساني ضمن الوضع الذي يحدده المخرج. إنهم لا يمثلون شخصيات بل يعيشون حيواتهم الداخلية الخاصة أمام أعيننا. إن “موشيت” (الشخصية الرئيسية في فيلم بريسون) لا تعكس أمام جمهورها، أو تفكر في محاولة توصيل، “الأعماق” الكاملة لما يحدث لها.. و لو للحظة واحدة. إنها لا تعرض على الجمهور الحالة النفسية التي تعيشها. بل أنها لا ترتاب و لا يخامرها شعور بأن حياتها الداخلية قد تكون مرصودة أو يراقبها شاهدٌ ما.هي تعيش، توجد، ضمن عالمها الضيق و المركّز، والذي تسبر عمقه. ذلك هو سر فتنتها. و أنا لا أشك أبدا بأن هذا الفيلم، بعد عشرات السنين من الآن، سوف يكون ذا حضور غامر كما كان يوم عرضه الأول. كذلك فيلم كارل دراير “جان دارك”الصامت والذي لم يكف أبدا عن تحريك مشاعرنا و التأثير فينا بقوة.

لكن الناس، بالطبع، لا يتعلمون من التجربة. مخرجو اليوم يستخدمون على الدوام أساليب في الأداء تنتمي بوضوح الى الماضي. حتى فيلم لاريسا شيبتكو”صعود”أراه وقد تشوّه بسبب تصميم المخرجة على أن يكون الفيلم “معبرا”وذا مغزى. و النتيجة هي أن “حكايتها الرمزية” صار لها مغزى على مستوى واحد فقط. وكما يحدث غالبا، فإن محاولتها لتحريك و “إثارة” الجمهور تفضي الى توكيد مبالغ فيه على انفعالات شخصياتها.. كما لو أنها تخشى من أن لا تكون مفهومة. حتى الإضاءة مدروسة لغرض غرس “المعنى” في الأداء. للأسف ، التأثير يبدو متكلفاً وزائفاً . في سبيل إرغام الجمهور على التعاطف مع الشخصيات، إضطر الممثلون الى إظهار وشرح معاناتهم.. حيث كل شيء موجع ومعذب أكثر مما في الحياة الواقعية. و الانطباع الذي يتخلق يتسم باللامبالاة و الفتور لأن المخرجة لم تفهم غرضها الخاص. لقد شاخ الفيلم قبل أن يولد.

أبدا لا تحاول أن توصل فكرتك الى الجمهور.. إنها مهمة غير محمودة ولا معنى لها. اعرض عليهم الحياة و دعهم يجدون داخل أنفسهم الوسيلة لتقييمها و تقديرها. أمر محزن أن أضطر الى قول هذا عن مخرجة ملفتة وغير عادية مثل لاريسا شيبيتكو.
السينما لا تحتاج الى ممثلين “يؤدون “. مشاهدة هؤلاء عملية لا تطاق، لأننا أدركنا منذ زمن طويل ما كانوا يهدفون إليه، مع ذلك هم يثابرون بعناد في توضيح (بتعابير لا لبس فيها) معنى النص على كل مستوى ممكن. انهم لا يستطيعون التعويل على فهمنا دون مساعدة منهم. و المرء يجد نفسه مرغما على التساؤل: ما الذي يميّز هؤلاء المؤدين المعاصرين عن إيفان موزوكين (17).. نجم الشاشة الروسية قبل الثورة ؟ هل هو واقع أن هذه الأفلام متقدمة تقنيا أكثر ؟ لكن التقدم التقني ليس معيارا، واذا كان كذلك، فينبغي علينا أن نقبل بفكرة أن السينما ليست فنا. المسائل التقنية مهمة على الصعيد التجاري، فيما يتصل بالعرض، لكنها ليست محورية فيما يتصل بمشكلة السينما، و لا تلقي ضوءا على سر قدرة السينما الفذة على التأثير فينا.. و إلا لا ينبغي علينا بعد الآن أن نشعر بالتأثر، أو تهتز مشاعرنا، لدى مشاهدتنا أفلام شابلن أو دراير أو فيلم دوفجنكو “الأرض”.. وهي أفلام لا تزال تلهب مخيلتنا اليوم.

أن تكون مضحكا ليس مثل أن تجعل الناس يضحكون. الفعلان مختلفان. كما أن إثارة التعاطف والمشاركة الوجدانية لا تعني استدرار دموع الجمهور. المبالغة مقبولة فقط كمبدأ بناء للعمل كله، كعنصر في منظومة الصور، وليس كمبدأ في منهج العمل.

أحيانا الوهمي، اللاحقيقي، ينجح في التعبير عن الواقع نفسه. يقول ميتينكا كرامازوف: “الواقعية شيء فظيع”. أما فاليري فقد لاحظ بأن الحقيقي يجد تعبيره على نحو جوهري أكثر من خلال اللا معقول.

الفن وسيلة للمعرفة، بالتالي هو يتجه دائما نحو التمثيل الواقعي، لكن ذلك بالطبع يختلف تماما عن الطبيعية أو وصف الأعراف.

لقد سبق أن قلت بأن من طبيعة المسرح أن يستخدم الأعراف وأن ينسق القوانين. الصور تتأسس بواسطة الإيحاء. ومن خلال تفصيله أو جزء ثانوي يمكن للمسرح أن يجعلنا نعي ظاهرة كاملة. كل ظاهرة، بالطبع، لها عدد من الأوجه والمظاهر والتي كلما قل إعادة إنتاجها على الخشبة لكي يعيد الجمهور بناء الظاهرة نفسها، صار المخرج يستخدم التقليد المسرحي على نحو أكثر دقة وأكثر فعالية. السينما ،على نحو مغاير ،تعيد إنتاج الظاهرة في أجزائها وتفاصيلها .. وكلما أعاد المخرج إنتاجها في شكلها المادي، المتماسك، الحسي، فانه يكون أكثر اقترابا من هدفه. ليس للدم الحق في أن يراق على الخشبة، لكن إذا استطعنا أن نشاهد الممثل وهو ينزلق على الدم- حيث لا يكون الدم مرئيا – فذلك هو المسرح.

أثناء إخراج مسرحية هاملت في موسكو، قررنا أن ننفذ مشهد مقتل بولونيوس بجعله يظهر من الموضع الذي يختبئ فيه، مجروحا بطعنة نافذة ومميتة على يد هاملت، وهو يضع على صدره عمامة حمراء كان يرتديها، كما لو يغطي بها جرحه.بعد ذلك هو يُسقط العمامة، يحاول استرجاعها ليأخذها معه، فمن القذارة أن تترك دما على الأرضية حيث بوسع مولاه أن يرى ذلك، لكنه يفتقر الى القوة التي بها يستطيع أن يعثر على العمامة. عندما يدع بولونيوس العمامة الحمراء تسقط، فان العمامة تظل عمامة لكنها في الوقت نفسه تصبح مجازأ للدم. في المسرح، الدم الحقيقي لا يمكن أن يكون مقنعا كإظهار للحقيقة الشعرية إذا كان له معنى على مستوى واحد فقط.. كوظيفة طبيعية.الدم في السينما، من جهة أخرى، هو دم..ليس علامة، وليس رمزا لأي شئ آخر. لذلك عندما يلقى بطل فيلم أندريه فايدا “رماد وجواهر” مصرعه وهو محاط بملاءات معلقة لكي تجف فيما يضغط إحدى الملاءات على صدره وهو يخر على الأرض، ودمه القرمزي ينتشر على القماش الأبيض ليخلق بالأحمر والأبيض رمزا للعلم البولندي، فإن الصورة الناتجة هي أدبية أكثر منها سينمائية، رغم أنها قوية عاطفيا.

السينما تعتمد على الحياة أكثر مما ينبغي، وتصغي إليها بتركيز أكثر مما ينبغي، لذلك هي لا تحتاج الى أغلال في هيئة نوع فني معين، أو إظهار عاطفةٍ ما بعونٍ من قوالب النوع الفني. السينما ليست مثل المسرح الذي يعمل من خلال الأفكار، حيث حتى الشخصية الفردية هي فكرة.

بالطبع كل فن هو اصطناعي. إنه في النهاية يرمز الى الحقيقة. ذلك جلي تماماً. لكن طبيعة الاصطناعية التي تأتي من الافتقار الى المهارة، الافتقار الى الحس الإحترافي، لا يمكن تمريرها وتقديمها بوصفها أسلوبا. عندما لا تكون المبالغة متضمنة في اللغة المجازية، إنما هي مجرد محاولة مبالغ فيها وتوق الى الإرضاء، فإنها تكون سمة تشير الى ضيق الأفق والى الرغبة في أن يكون المرء ملحوظا كفنان.ما يستحقه الجمهور هو الاحترام، الإحساس بالكرامة.لا تنفخ في وجوههم..ذلك شئ مكروه ،حتى القطط والكلاب لا تحب ذلك.

مرة أخرى، إنها مسألة الثقة بجمهورك.الجمهور فكرة مثالية، ذهنية: انك لا تفكر في كل شخص جالس في الصالة.الفنان دائما يحلم ببلوغ الحد الأقصى من الفهم، حتى لو أن ما يقدمه الى الجمهور مجرد جزء مما يأمله.هذا لا يعني انه ينبغي على الفنان أن يشغل باله بهذه المسألة، بل يتعين عليه باستمرار أن يتذكر بأن المهم هو إخلاصه وصدقه في تحقيق فكرته.

في أحوال كثيرة يطلبون من الممثلين أن “يجعلوا المعنى مفهوما”، والممثل يذعن ويحمل ثقل المعنى مضحيا بحقيقة الشخصية أثناء فعل ذلك. كيف يمكن لأي فنان أن لا يثق بالجمهور؟

ليس كافيا أبدا الرغبة في الالتقاء بالجمهور في منتصف المسافة.

يوسيلياني في فيلمه SONGTHRUSH اسند الدور الرئيسي الى ممثل هاو، ومع ذلك فإن مصداقية البطل لم تكن موضع أي شك. انه مفعم بالحيوية على الشاشة. حياته حقيقية، تامة، ويستحيل الارتياب فيها أو تجاهلها، ذلك لأن الحياة الحقيقية وثيقة الصلة بكل واحد منا، ولكل ما يحدث لنا.

لكي يكون الممثل مؤثراً وفعالاً على الشاشة، ليس كافيا أن يكون مفهوما. يتعين عليه أن يكون صادقا. و ما هو صادق، نادرا ما يسهل فهمه، ودائما يعطي إحساسا بالامتلاء، بالاكتمال. إنها دائما تجربة فذة والتي لا يمكن فهمها على نحو منعزل و على حده، و لا يمكن تفسيرها على نحو حاسم.

 

 

 

 

الموسيقى والأصوات

 

الموسيقى، بالطبع، جاءت الى السينما في أيام الأفلام الصامتة، مع عازف البيانو الذي كان يوضح ما يحدث على الشاشةبمصاحبة موسيقى ملائمة لإيقاع الفيلم والذروة العاطفية للصورة البصرية. لقد كانت طريقة آلية واعتباطية الى حد ما لإضافة الموسيقى على الصورة، وطريقة سطحية للتوضيح بغية تكثيف الانطباع الذي يخلقه كل حدث.الغريب في الأمر، أن السينما استمرت في استخدام الموسيقى بالطريقة ذاتها حتى يومنا هذا.الأحداث تكون مدعمة بمصاحبة موسيقية والتي تكرر، على نحو مضجر، الثيمة الرئيسية من أجل تصعيد رنينها العاطفي، أو أحيانا لمجرد تحسين مشهد لم ينفذ بالشكل المطلوب.

إني أجد الموسيقى في الأفلام مقبولة أكثر حين تستخدم مثل اللازمة.حين نصادف في الشعر لازمة، جملة متكررة، فإننا – وقد استحوذنا في ذلك الحين ما قرأناه- نعود الى السبب الأول الذي حث الشاعر على أن يكتب الأبيات في المقام الأول.اللازمة تعيدنا الى تجربتنا الأولى في دخول ذلك العالم الشعري، ونعود الى مصادره.

موظفة بهذه الطريقة، الموسيقى تقوم بما هو أكثرمن تكثيف الانطباع بالصورة البصرية، بتقديم إيضاح مواز للفكرة ذاتها.إنها تفتح الاحتمال لانطباع جديد ذي مظهر متغير، وللمادة نفسها: شئ مغاير في النوع والطبيعة.منغمرين في العنصر االموسيقي الذي تخلقه اللازمة، نحن نعود المرة تلو الأخرى الى الانفعالات التي وهبنا إياها الفيلم، وتجربتنا تتعمق في كل مرة بواسطة انطباعات جديدة.مع تقديم المتوالية الموسيقية، الحياة المسجلة في الكادر يمكن أن تغير لونها ومظهرها، وأحيانا حتى ماهيتها.

علاوة على ذلك، يمكن للموسيقى أن تجلب الى المادة المصورة سمة غنائية ولدت من تجربة المبدع.في فيلم “المرآة المتعلق بالسيرة الذاتية، على سبيل المثال، الموسيقى هي غالبا مقدمة كجزء من مادة الحياة، من التجربة الروحية لخالق العمل، وبالتالي كعنصر أساسي، مفعم بالحيوية، في عالم بطل الفيلم.

يمكن استخدام الموسيقى من اجل إحداث تحريف ضروري للمادة البصرية في إدراك الجمهور، لجعلها أكثر كثافة وثقلا أو أكثر خفة واحتمالا، أكثر شفافية، أكثر لطفا أو على العكس..أكثر خشونة. بتوظيف الموسيقى، يمكن للمخرج أن يحث انفعالات الجمهور في اتجاه معين، وان يوسع نطاق إدراكهم للصور البصرية. إن معنى الشيء لا يتغير، لكن الشيء نفسه يتخذ مظهرا جديدا.الجمهور يراه (أوعلى الأقل تتاح له الفرصة لرؤيته) كجزء من كينونة جديدة والتي إليها الموسيقى تكون متممة والإدراك يتعمّق.

لكن الموسيقى ليست مجرد تابع، أو جزء ثانوي، للصورة البصرية، بل يجب أن تكون عنصرا أساسياً لتحقيق الفكرة العامة ككل.عندما تكون الموسيقى موظفة على نحو لائق فإنها تملك القدرة على تغيير النبرة الانفعالية للمشهد.يجب أن تكون الموسيقى متحدة تماما مع الصورة البصرية بحيث إذا تم انتزاعها من جزء معين فإن الصورة لن تكون ضعيفة في فكرتها وتأثيرها فحسب، بل ستكون مختلفة نوعيا.

في أفلامي، لست واثقا من نجاحي، علىالدوام، في تحقيق المطالب النظرية التي أقدمها هنا. ويتعين عليّ أن أقول بأنني، في أعماقي، لا أعتقد بأن الأفلام تحتاج الى الموسيقى على الإطلاق.مع ذلك، فانا لم احقق بعد فيلماً بدون استخدام الموسيقى..مع إنني تحركت في ذلك الاتجاه مع فيلمي المتسلل (stalker) ونوستالجيا. الموسيقى كانت دائما تجد مكانا ملائما لها في أفلامي ، وكانت هامة وثمينة.

الموسيقى لم تكن أبدا توضيحا مسطحا لما يحدث على الشاشة ، بل هي محسوسة كنوع من العبير العاطفي حول الأشياء المعروضة ، من أجل دفع الجمهور الى رؤية الصورة بالطريقة التي أردتها. الموسيقى في السينما بالنسبة لي جزء طبيعي من عالمنا الرنان، جزء من الحياة الإنسانية. مع ذلك، ممكن جدا في فيلم كامل و متماسك، والذي يتحقق بمتانة واتساق تام، أن لا يكون فيه موضع للموسيقى.. إذ سوف يستعاض عنها بالأصوات التي فيها تكتشف السينما باستمرار مستويات جديدة من المعنى. و ذلك ما كنت أهدف إليه في فيلمي المتسلل و نوستالجيا.

من أجل جعل الصورة السينمائية موثوقة على نحو جدير بالتصديق، في تناغمها الكلي، ربما ينبغي التنازل عن الموسيقى و عدم استخدامها. فالعالم الذي يتحول عن طريق السينما، والعالم الذي يتحول عن طريق الموسيقى، هما متوازيان و متعارضان مع بعضهما البعض.

إذا كان العالم منظما على نحو لائق في الفيلم فإنه يكون موسيقيا في جوهره و ماهيته، و تلك هي الموسيقى الحقيقية للسينما.

بيرجمان أستاذ في توظيف الصوت.. يستحيل التغاضي عما يفعله مع المنارة في فيلمه “عبر مرآة معتمة”: الصوت على شفا أن يكون مسموعا.

بريسون رائع في استخدامه للصوت، كذلك انتونيوني في ثلاثيته، لكن مع ذلك، لدي شعور بأن هناك لابد من وجود طرق أخرى للاشتغال على الصوت، طرق قد تتيح للمرء أن يكون أكثر دقة، أكثر أمانة مع العالم الداخلي الذي نحاول إعادة إنتاجه على الشاشة.. ليس فقط عالم المبدع الداخلي، بل ما يكمن داخل العالم نفسه، ما هو أساسي فيه و لا يعوّل علينا.

أصوات العالم المعاد إنتاجها على نحو طبيعي في السينما يتعذر تخيلها: قد يكون هناك ذلك التنافر في النغمات. كل ما يظهر على الشاشة لا بد أن يكون مسموعا على شريط الصوت، والنتيجة سوف تعادل الصوت الذي لم تتم معالجته على الإطلاق في الفيلم. إذا لم تكن هناك عملية انتقاء فإن الفيلم عندئذ يكون معادلا للصمت بما أنه لا يملك تعبيرا صوتيا خاصا به. بذاته و بمعزل عن الأشياء الأخرى، الصوت المسجل بدقة وعلى نحو صحيح لا يضيف شيئا الى نظام الصورة في السينما، ذلك لأنه لا يملك محتوى جماليا.

حالما يتم انتزاع أصوات العالم المرئى، الذي تعكسه الشاشة، من ذلك العالم، أو يكون ذلك العالم مليئا – إكراما للصورة- بأصوات غريبة يعوزها الترابط و التي لا توجد واقعيا، أو تكون الأصوات الحقيقية محرفة بحيث لا تعود تتوافق مع الصورة.. عندئذ يكتسب الفيلم رنينا و أهمية.

على سبيل المثال، عندما يوظف بيرجمان الصوت على نحو طبيعي ظاهريا- وقع أقدام مكتومة، غير رنانة، في رواق خال، دقات ساعة كبيرة، حفيف ثوب – فان النتيجة هي في الواقع تضخيم للأصوات، عزلها، وجعلها تتسم بالمبالغة.. إنه يختار صوتا واحدا و يقصي كل الظروف العرضية أو الطارئة لعالم الصوت الذي قد يوجد في الحياة الواقعية. في فيلمه “ضوء الشتاء” يختار بيرجمان صوت المياه في النهر حيث على ضفته يتم العثور على جثة المنتحر . طوال المشهد، المصور في لقطات عامة ومتوسطة، لا شيء يمكن سماعه غير صوت الماء الذي لا يقاطعه شيء.. لا وقع أقدام و لا حفيف ثياب و لا كلمة يتبادلها الأفراد على الضفة. بتلك الطريقة يصبح الصوت معبرا في هذا المشهد.. وهكذا يوظف بيرجمان الصوت في السينما.

قبل كل شيء، أشعر أن أصوات هذا العالم جميلة جدا، بذاتها وبمعزل عن الأشياء الأخرى، الى حد أننا إذا استطعنا أن نتعلم كيف نصغي إليها على نحو مناسب و لائق فإن السينما سوف لن تحتاج الى الموسيقى على الإطلاق.
مع ذلك، ثمة لحظات في السينما الحديثة حين يتم استثمار الموسيقى ببراعة فائقة، كما في فيلم بيرجمان” العار” عندما تأتي إلينا نتف من لحن جميل، شاقة طريقها عبر طقطقات وصرير راديو ترانزستور صغير ومن نوع رديء.أو كما في فيلم فلليني “ثمانية ونصف” مع موسيقى نينو روتا الحزينة و الوجدانية، لكن التهكمية قليلا في الوقت نفسه.

الموسيقى الالكترونية تبدو لي أنها تملك إمكانيات غنية جدا للسينما. لقد استخدمناها، أنا وأرتيمييف، في بعض مشاهد فيلم “المرآة”. هنا أردنا من الصوت أن يكون قريبا من الحفيف، من التنهد، وأن يكون مليئا بالإيحاء الشعري. كان على النغمات الموسيقية أن توصل حقيقة أن الواقع مشروط، وفي الوقت نفسه أن ينتج حالات ذهنية دقيقة و يولد أصوات العالم الداخلي لشخص ما. لقد تعين على أرتيمييف أن يستخدم حيلا معقدة جدا لإحراز الأصوات التي كنا نريدها. يجب أن تتخلص الموسيقى الالكترونية من أصولها”الكيميائية” بحيث ، ونحن نصغي إليها ، قد نأسر فيها أنغام العالم الأساسية.

الموسيقى العادية، الآلاتية، هي فنيا مستقلة جدا الى حد أن من العسير عليها أن تذوب في الفيلم الى النقطة التي تصير فيها جزءا عضويا من الفيلم. لذلك فإن استخدامها سوف يقتضي ضمنا درجة من التسوية، لأنها تكون دائما توضيحية. علاوة على ذلك، فإن الموسيقى الالكترونية تمتلك تلك القدرة على التشرب في الصوت. إنها يمكن أن تكون متوارية خلف أصوات أخرى و تظل غير واضحة أو لا يمكن تمييزها..مثل صوت الطبيعة، مثل أصوات حميمة غامضة، و يمكن أن تكون مثل شخص يتنفس.

 

 

الفصل السادس:

المبدع في بحثه عن الجمهور

 

موقع السينما الملتبس بين الفن والصناعة يفسر الكثير من الأشياء الشاذة في العلاقات بين المبدع والجمهور.انطلاقا من تلك الحقيقة، المسلم بها على نحو عام، أريد أن انظر الى واحدة أو إثنتين من الصعوبات التي تواجه السينما، واستنطق بعض نتائج هذا الوضع.

كل صناعة، كما نعلم، ينبغي أن تكون قابلة للحياة وللنمو.ولكي تعمل وتتطور، لا يكفي أن تسترجع ما أنفقته بل أن تحقق ربحا مؤكدا. والفيلم، بوصفه سلعة، قد ينجح أو يفشل، وقيمته الجمالية تتوطد على نحو متناقض ظاهريا، وفقا للعرض والطلب، وحسب قوانين السوق الصريحة.وتجدر الإشارة هنا إلى انه لم يتعرض فن آخر غير السينما الى مثل هذا النوع من الشروط والمعايير.

وطالما أن السينما تظل في وضعها الحالي فسوف لن يكون سهلا أبدا للعمل السينمائي الحقيقي أن يرى النور، وليس فقط أن يصل الى جمهور أوسع.

طبعاً المقاييس المعتمدة التي بواسطتها يتميز الفني عن اللافني أو الزائف هي نسبية، غير واضحة، ويتعذر البرهنة عليها الى حد أن لا شئ يمكن أن يكون أسهل من استبدال المعايير الجمالية بمقاييس منفعية محضة في التقييم، وهذه المقاييس تمليها الرغبة في تحقيق أضخم ربح مالي ممكن أو بدافع إيديولوجي ما.. وكلاهما، على حد سواء، بعيد تماما عن غاية الفن.

الفن بطبيعته أرستقراطي.وهو انتقائي في تأثيره على الجمهور، إذ حتى في تجلياته”الجماعية”، مثل المسرح أو السينما، نجد أن تأثيره متصل اتصالا وثيقا بالانفعالات الحميمة الشخصية جداً، لكل فرد يشاهد العمل. وكلما مست تلك الانفعالات والمشاعر أعماق الفرد واستحوذت عليه، إحتل العمل مكانة هامة في تجربته.

لكن الطبيعة الارستقراطية للفن لا تعفي الفنان، بأي حال من الأحوال، من مسؤوليته تجاه جمهوره وتجاه الناس عموما. على العكس تماماً، فبسبب إدراك الفنان لزمنه وللعالم الذي يعيش فيه، يصبح الفنان صوت أولئك الذين لا يستطيعون أن يصوغوا، أو يعبروا عن رؤيتهم للواقع. بهذا المعنى، الفنان هو فعلا صوت الشعب. لذلك هو مطالب بأن يخدم موهبته، والذي يعني أن يخدم شعبه.

في الواقع أنا لا أستطيع أن افهم المعضلة التي يسمونها “حرية”الفنان أو “فقدان” الفنان لحريته. الفنان ليس حراً أبداً. لا توجد جماعة من الناس تفتقر الى الحرية أكثر من فئة الفنانين. الفنان مكبّل بموهبته، بشعوره انه مدعو للقيام بعمل ما.

من ناحية أخرى، الفنان حرّ في الاختيار بين تحقيق موهبته بأكمل ما يستطيع، أو بيع روحه مقابل ثلاثين قطعة من الفضة.ألم يكن وعي تولستوي ودوستويفسكي وجوجول بمهمتهم وبدورهم المقدر هو الذي حثهم على البحث المسعور؟

لكنني مقتنع أيضا بأن أحداً من الفنانين سوف لن يعمل على تحقيق مهمته الروحية الشخصية لو كان يعرف بأن أحدا سوف لن يذهب لمشاهدة عمله.مع ذلك، وفي الوقت نفسه، حين يعمل يجب أن يضع ستاراً بينه وبين الآخرين لكي يكون محصنا من الآنية المبتذلة والعقيمة..ذلك لأن الأمانة والصدق، وإدراك المسؤولية الخاصة تجاه الآخرين، هو الذي يمكن أن يضمن تحقيق قدر الفنان الإبداعي.

خلال مسيرتي الفنية في الاتحاد السوفيتي كنت على الدوام متهما بـ “عزل نفسي عن الواقع”، كما لو أنني قد عزلت نفسي على نحو مقصود عن اهتمامات الناس اليومية.يجب أن اعترف صراحة بأنني لم افهم أبدا ما كانت تعنيه هذه الاتهامات. لا شك أن من المثالية تخيل أن فنانا، أو أي شخص آخر، قادر على قطع صلته بالمجتمع، وبزمنه، وان يكون “حرا” من الزمن ومن المكان الذي ولد فيه.كنت دائما اعتقد أن أي شخص، و أي فنان (أيا كان ابتعاد أو انفراد الفنان المعاصر في الأوضاع الجمالية والنظرية) يجب بالضرورة أن يكون نتاج الواقع الذي يحيط به.قد يتهم البعض الفنان بتأويل الواقع من وجهة نظر غير مرضية أو غير مقبولة، لكن ذلك لا يعني أنه مفصول عن الواقع. واضح أن كل فرد يعبر عن زمنه الخاص وبالضرورة يحمل في داخله قوانين تطوره، بصرف النظر عن حقيقة أن ليس كل شخص ميال الى اخذ هذه القوانين في الاعتبار أو الى مواجهة مظاهر الواقع التي لا يرغب فيها.

الفن، كما قلت سابقا، يحرك مشاعر الفرد وليس عقله. وظيفته، إن جاز التعبير، أن يدير ويطلق النفس البشرية، ويجعلها متفتحة على الخير.عندما تشاهد فيلما جيداً، أو تنظر الى لوحة ما، أو تصغي الى قطعة موسيقية (مفترضا، بالطبع، انه النوع المفضل لديك من الفن) فإنك تكون اعزلا ومنتشيا من البداية..وذلك بمعزل عن الفكرة،عن التفكير. وعلى أية حال، وكما قلنا من قبل، فإن فكرة العمل العظيم هي دائما ملتبسة، دائما ذات وجهين على حد تعبير توماس مان. إنها متعددة الأوجه وغامضة وغير محددة كما الحياة نفسها.المبدع، بالتالي، لا يستطيع أن يفترض بأن عمله يمكن أن يكون مفهوما بطريقة واحدة معينة، ووفقاً لإدراكه هو للعمل. كل ما يستطيع فعله هو أن يقدم صورته الخاصة للعالم الى الآخرين لكي يكونوا قادرين على النظر إليها من خلال عينيه وأن يكونوا ممتلئين بمشاعره وشكوكه وأفكاره.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالجمهور، فإنني واثق تماما انه أكثر فطنة وحدة ذهن مما يظنه أولئك المسؤولين عن توزيع الأعمال الفنية.إضافة الى انه لا يمكن أبداً التنبوء بحاجات ومطالب الجمهور.بالتالي فان إدراك الفنان للأمور، مهما كانت مركبة أو أكثر عمقا، قادر أن يجد جمهورا. حتى لو كان الجمهور صغيراً فسوف يكون في انسجام مثالي مع العمل.الخطب المسهبة بشأن ما إذا العمل يبدو مفهوما “للجمهور العريض”- للأغلبية الخرافية- تعمل هذه الخطب فحسب على إرباك تلك العلاقة بين الفنان والجمهور، وتجعل اتصال كل منهما بالآخر مغلفا بالضباب..كذلك اتصال الفنان بزمنه.

كتب الكسندر هيرزن في “أفكاري وزمني الذي مضى”:”في أعماله الحقيقية، الشاعر أو الفنان هو دائما وطني.في كل ما يفعله، وأيا كان هدفه أو فكرته المطروحة في عمله، سوف يعبر دائما، شاء ذلك أم لم يشأ، عن عنصر ما من الشخصية الوطنية، و سوف يعبر عنها على نحو أعمق، وأكثر حيوية من التاريخ الوطني نفسه”.

العلاقة بين الفنان والجمهور هي عملية متبادلة.عندما يظل الفنان أمينا مع نفسه، ومستقلا عن الآنية، فإنه يخلق مدارك جديدة ويرفع من مستوى الفهم عند الجمهور.

ووعي المجتمع المتنامي بدوره يوجد مخزونا من النشاط والذي فيما بعد سوف يفضي الى ولادة فنان جديد.

لو نظرنا الى أعظم الأعمال الفنية فسوف نلاحظ بأنها توجد كجزء من الطبيعة، جزء من الحقيقة، ومستقلة عن المبدع أو الجمهور.رواية تولستوي”الحرب والسلام”أو رواية توماس مان”يوسف وأخوته”لها ذلك الجلال والسمو الذي يرفعها عاليا فوق الاهتمامات اليومية، العادية، والمبتذلة لتلك الأزمنة التي كتبت فيها الرواية.

ذلك البعد، تلك الرؤية من الخارج، من شاهق روحي ومعنوي، هو ما يخول العمل الفني أن يعيش في زمن تاريخي، تأثيره متجدد دوماً، ومتغير دوماً..(لقد شاهدت فيلم بيرجمان”برسونا”مرات عديدة، وفي كل مرة كان الفيلم يهبني شيئا جديدا. كعمل فني حقيقي وصادق، هو دائما يتيح للمرء أن يتصل على نحو شخصي بعالم الفيلم، وفي كل مرة يفسره على نحو مختلف)

الفنان لا يستطيع، وليس له الحق في، أن ينزل نفسه الى مستوى تجريدي، ذي معايير معينة، من أجل مفهوم- يُساء تفسيره أو فهمه- عن إمكانية بلوغ عدد أكبر من الناس وبالتالي يكون العمل مفهوما من قبلهم. لو فعل ذلك، فسوف لن يفضي هذا إلا الى انحطاط الفن. نحن نتوقع من الفن أن يزدهر، ونؤمن أن الفنان لا يزال لديه موارد لم تكتشف بعد، وفي الوقت نفسه نعتقد أن الجمهور سوف يحدد مطالب جادة أكثر من أي وقت مضى..على أية حال، ذلك ما نرغب في الاعتقاد به.

قال كارل ماركس:”إذا أردت الاستمتاع بالفن، فيجب عليك أن تكون مثقفا فنيا”. الفنان لا يستطيع أن يحدد هدفا معينا بأن يكون مفهوما.. ذلك سيكون منافيا للعقل، تماما كما هو النقيض: محاولة الفنان لأن يكون مبهما وغير قابل للفهم.

الفنان ونتاجه وجمهوره هم كينونة لا تتجزأ وغير قابلة للانقسام.. مثل كائن حي مرتبط بمجرى الدم ذاته. إذا حدث تعارض بين أجزاء الكائن الحي، فان ذلك يقتضي معالجة خبيرة ومعاملة حريصة. لاشيء يمكن أن يكون أكثر ضررا في التأثير من المستويات الأدنى للسينما التجارية أو المعايير الإنتاجية للتلفزيون. هذه الأشياء تفسد الجمهور الى درجة لا يمكن غفرانها، وتحرم الجمهور من اكتشاف الفن الحقيقي.

لقد فقدنا القدرة على إدراك الجمال كمعيار للفن، وعلى التعبير عن المثال. كل عصر مختوم بالبحث عن الحقيقة. ومهما تكن تلك الحقيقة ضارية ومروعة فإنها مع ذلك تسهم في الرخاء المعنوي للبلاد. إن إدراكها علامة لزمن صحي و لا يمكن أن تكون أبدا في تناقض مع الفكرة الأخلاقية. محاولات حجب الحقيقة أو إخفائها أو إبقائها سرية أو وضعها قبالة مثال أخلاقي محرف على أساس افتراض أن الحقيقة سوف لن يُعترف بها عند الأغلبية..مثل هذه المحاولات لا تعني إلا شيئا واحدا هو أن الاهتمامات الإيديولوجية قد حلت محل المعايير الجمالية.وحده البيان الصادق عن زمن الفنان قادر أن يعبّر عن المثال الأخلاقي الحقيقي كمقابل للدعائي.

ذلك كان موضوع فيلم “أندريه روبليوف”.يبدو للوهلة الأولى كما لو أن الحقيقة القاسية للحياة، كما يرصدها الفنان هي في تناقض صارخ مع المثال المتناغم لعمله . مع ذلك، الفنان لا يستطيع أن يعبر عن المثال الأخلاقي لزمنه ما لم يتحسس كل المحن المتدفقة، وما لم يكابد ويعيش تلك المحن بنفسه. هكذا ينتصر الفن على الحقيقة “الزائفة”، المروعة، متعرفاً عليها بوضوح لما تكونه، باسم الغاية السامية: هذا هو دوره المقدّر.. ذلك لأن الفن يمكن اعتباره دينياً حيث أن التزامه بالهدف الأسمى هو الذي يلهمه.

الفن، عندما يتجرد من القيم الروحية، فانه يحمل بداخله مأساته الخاصة، إذ حتى في اعترافه بالخواء الروحي للأزمنة التي يعيش فيها، يتوجب على الفنان أن يتحلى بصفات الحكمة و الفهم. الفنان الحقيقي دائماً يخدم الخلود ويناضل لتخليد العالم، والإنسان ضمن العالم. الفنان الذي لا يحاول أن يبحث عن الحقيقة المطلقة، الذي يتجاهل الغايات الكونية، لا يمكن إلا أن يكون انتهازياً وينشد المصلحة الخاصة.

حين أنتهى من عملٍ ما، بعد فترة فاصلة قد تطول أو تقصر، و عندما يعرض العمل أخيراً، عندئذ أعترف بأنني أكفّ عن التفكير فيه. الفيلم ينسلخ عني، يمضي بعيدا عني، مستقلاً ووفق هواه، ليبدأ حياة راشدة بعيداً عن خالقه، وأنا لا أعود أملك أي رأي وأي كلمة أخيرة في ما سوف يحدث له.

أعلم سلفاً بأنه لا جدوى من التعويل على استجابة الجمهور، المتفق عليها بالإجماع، ليس فقط لأن البعض سوف يعجب به، في حين يجده البعض الأخير مثيراً للسخط والحنق، و إنما لأن على المرء أن يأخذ في الاعتبار واقع أن الفيلم سوف يكون مفهوماً على نحو مختلف، ويحلل بنواحٍ مختلفة، حتى من قبل أولئك الذين يتخذون منه موقفاً ودياً. وسوف أكون سعيداً لو استطاع الفيلم أن يتيح المجال للتأويلات المتعددة.

يبدو لي من غير المجدي أن نقدر “نجاح” فيلم ما بطريقة حسابية، بلغة شباك التذاكر. من الواضح أن الفيلم لا يكون مفهوماً أبداً بطريقة واحدة فقط، وباعتباره يعبّر أو يدل على شئ واحد فقط. إن معنى الصورة الفنية هو بالضرورة غير متوقع، نظراً لأنه تسجيل للكيفية التي بها رأى شخص واحد العالم على ضوء حساسيته وخصوصياته في البنية أوالمزاج. الذاتية والإدراك سوف يكونان قريبين من البعض، وغريبين تماما عن البعض الآخر. هكذا ينبغي أن يكون الحال. ومهما يكن فإن الفن سوف يستمر في التطور كما هو الحال دائما، بصرف النظر عن مشيئة ورغبة أي شخص. والمبادئ الجمالية، المهجورة في الوقت الحاضر، سوف يقهرها الفنانون أنفسهم المرة بعد الأخرى.

بناءً على ذلك، نجاح فيلمي لا يشغلني لأنه، في ذلك الحين، يكون الفيلم قد تم إنجازه وصار مستقلاً عني ولا املك أي سلطة لتغييره. لكن في الوقت ذاته لا أستطيع أن أصدق أولئك المخرجين الذين يزعمون بأنهم لا يهتمون ولا يبالون بالكيفية التي يستجيب بها الجمهور.

كل فنان يرجو أن يتحقق اللقاء بين عمله و الجمهور. ما يتوقعه، ما يأمله، ما يعتقده هو أن نتاجه الفني هذا سوف يثبت في النهاية انه متناغم مع الأزمنة، و بالتالي هو حيوي وأساسي بالنسبة للمتفرج، يصل الى أعماق روحه ويحرك مشاعره. ليس هناك تناقض في واقع أنني لا أقوم بأية محاولة لإرضاء الجمهور، ومع ذلك أرجو أن يكون فيلمي مقبولاً ومحبوباً وينال الاستحسان من أولئك الذين يشاهدونه. ازدواجية هذا الوضع تبدو لي أنها كائنة في اللب الحقيقي لمعضلة الفنان و الجمهور.. العلاقة المحفوفة بالتوتر.

لا يمكن للفنان أن يكون مفهوماً بصورة متساوية من قبل كل شخص، لكنه قادر أن يكوّن أنصاراً -أياً كان عددهم- بين رواد السينما.. هذا هو الشرط الطبيعي للوجود بالنسبة للفنان ذي الشخصية المتميزة، ولنشوء تقليد ثقافي في المجتمع.. بالطبع كل منا يرغب في إيجاد العدد الأقصى من الأرواح الشقيقة، من الذين سوف يقدروننا و يحتاجون إلينا، لكننا لا نستطيع أن نعتمد على نجاحنا الخاص ونحن عاجزون عن انتقاء مبادئنا الخاصة في العمل بطريقة تضمن ذلك. حالما يبدأ المرء في تقديم ضروب التسلية الى جمهور الصالة، فإننا عندئذ نتحدث عن صناعة الترفيه، الاستعراض، الجماهير، لكن بالتأكيد ليس عن الفن الذي بالضرورة يمتثل لقوانينه المتأصلة الخاصة بشأن التطور.

كل فنان يجترح مهمته الإبداعية بطريقته الخاصة. وسواء تكتّم عليها أم لا، فإن الاتصال و الفهم المتبادل مع الجمهور هو، على نحو ثابت، موضع آماله وأحلامه، أما الفشل فيصيب الجميع بالاكتئآب. يتذكر المرء هنا كيف أن سيزان، الذي أثنى عليه زملاؤه من الفنانين المعروفين واعترفوا بموهبته، شعر بحزن عميق لأن جاره لم يقدّر لوحاته. على الرغم من ذلك، لم يغير سيزان شيئاً من أسلوبه إرضاء لجاره والآخرين.

أستطيع أن أسلّم بأن فناناً قد يقبل تكليفاً من جهة ما للعمل في موضوع معين، لكنني لا أستطيع قبول فكرة أن يضع الفنان معالجته وتنفيذه للعمل تحت توجيه وسيطرة تلك الجهة. ذلك في نظري أمر غير مجدٍ تماماً. ثمة عوامل تحول دون جعل الفنان من نفسه أداة تابعة للجمهور أو لأي شخص آخر. إذا فعل ذلك فان مشاكله الخاصة، صراعه ووجعه الداخلي، سيكون عرضة للتحريف والتشوه من قبل أشياء لا تنتسب اليه. إن أكثر المظاهر تعقيداً وإرهاقا وايذاءً في عمل الفنان هو ما يكمن على نحو صارم في حقل الأخلاق: المطلوب منه هو الاستقامة و الصدق تجاه نفسه.. ذلك يعني أن يكون أميناً وصادقاً ومسؤولاً تجاه الجمهور.

المخرج ليس مخولاً لأن يحاول إرضاء و إمتاع أي شخص. ليس له الحق في تقييد نفسه أثناء معالجة عمله من أجل النجاح، واذا فعل ذلك فسوف يدفع الثمن حتماً. إن خطته وغايته، وتحقيقهما، سوف لن يتضمن المعنى ذاته بالنسبة اليه. حتى لو كان يعلم، قبل أن يباشر عمله، بأنه سوف لن يحوز الإعجاب الواسع، فليس من حقه إجراء تغييرات في ما طلب منه فعله.

وقد عبّر بوشكين عن ذلك على نحو رائع:

أنت ملك. عش بمفردك. اسلك الطريق الحر

وامض حيث يقودك ذهنك الحر.

قدّم الى الكمال ثمار أفكار محبوبة

لا تطلب مكافأة على إنجاز أعمال نبيلة

المكافآت في داخلك. الحكم الأسمى هو ذاتك

ولا أحد قادر أن يحكم على عملك بقسوة أكثر منك.

فنان متميز.. هل هذا يرضيك ويسعدك؟

 

عندما أقول أنني لا أستطيع أن أؤثر في موقف الجمهور تجاهي، فاني أحاول أن أصوغ واجبي المهني الخاص. انه بسيط جداً: أن يفعل المرء ما يتعين عليه فعله، واهباً الحد الأقصى من ذاته، وأن يحاكم المرء نفسه بالمعايير الأكثر صرامة. إذن كيف يمكن أن يكون هناك أي استفهام بشأن التفكير في “إرضاء الجمهور”، أو القلق بشأن “إعطاء الجمهور مثالاً يحتذى به”؟ وما هو الجمهور؟ جماهير مجهولة ؟ مخلوقات آلية ؟

يتطلب القليل لتقدير الفن: نفس حساسة، رهيفة، سهلة التأثر، منفتحة على الجمال و الخير، مؤهلة لتجربة جمالية عفوية. في روسيا، جمهوري كان يشتمل على العديد من الناس الذين لا يمكنهم التباهي بأي معرفة أو ثقافة خاصة. أعتقد أن الحساسية تجاه الفن توهب للفرد عند الولادة، وتعتمد لاحقاُ على نموه الروحي.

كنت دائماً اشعر بالحنق و الغيظ من هذا القول: “الناس لن يفهموا”.. ما الذي يعنيه هذا؟ من يستطيع أن يزعم بأنه يعكس “رأي عامة الشعب” ويصدر التصريحات أو البيانات بالنيابة عن الآخرين معلناً أنه يعبّر عن وجهة نظر أغلبية السكان؟ من يستطيع أن يعرف ما سوف يفهمه الناس وما لا يفهمونه؟ ما يحتاجونه أو ما يريدونه ؟ هل قام أحدُ ما في أي وقت مضى بعمل استبيان أو مسح أو قام بأدنى محاولة، وفق ما يمليه الضمير، لاكتشاف اهتمامات الناس الحقيقية، طرائقهم في التفكير، توقعاتهم، آمالهم، أو حتى خيبات أملهم؟

أنا جزء من هذا الشعب: عشت مع رفاقي المواطنين، كنت ضمن حدود الجزء ذاته من التاريخ مثل أي شخص آخر في سني، لاحظت وفكرت بشأن الأحداث والعمليات ذاتها. وحتى الآن، أثناء إقامتي في الغرب، أظل ابن بلدي. أنا شظية منه، ذرة منه، وأرجو أنني اعبر عن أفكار تنبع من الأعماق الكامنة في تقاليدنا الثقافية والتاريخية.

عندما تحقق فيلماً فمن الطبيعي أن تكون واثقاُ من أن الأمور التي تثيرك وتهمك سوف تكون أيضاً ذات أهمية بالنسبة للآخرين، و أنت تأمل أن يستجيب الجمهور دون أن تضطر لأن تعمل سمساراً أو تتملقهم. احترام الجمهور أو أي محاور، لا يمكن إلا أن يكون مبنياً على الاقتناع بأنهم ليسوا أقل ذكاء منك. الشرط الضروري لأي محادثة هو توفر نوع من اللغة المشتركة. وكما قال غوته، إذا أردت إجابة ذكية، يجب أن تطرح سؤالاً ذكيا. الحوار الحقيقي بين المخرج و المتفرج ممكن فقط حين يمتلك الاثنان العمق ذاته من فهم المشكلات، أو على الأقل الاقتراب من مهمات المخرج على المستوى نفسه.

بينما تطور الأدب منذ ألفي سنة تقريباًُ، فان السينما لا تزال تبرهن أنها قادرة أن تكون ملائمة لمشاكل زمنها، تماماً كما كانت الفنون الأخرى المتكرسة. ومن المشكوك فيه الى ابعد حد أن تكون السينما قادرة حتى الآن على الادعاء بأن أياً من مبدعيها جدير بالوقوف جنباً الى جنب مع مبدعي الروائع العظيمة في الأدب العالمي. وشخصياً لا أظن أنها تستطيع الزعم بذلك لأن السينما، حسب شعوري الخاص، لا تزال تحاول أن تحدد شخصيتها المميزة ولغتها الخاصة، مع أنها أحيانا تقترب حقاً من فعل ذلك. إن ما يقرر ويحدد اللغة السينمائية مسالة لم يتم حلّها بعد، وهذا الكتاب يحاول فحسب أن يوضح نقطة أو نقطتين في هذا الشأن. ومهما يكن، فإن حالة السينما المعاصرة تلتمس منا أن نفكر المرة تلو الأخرى في مزاياها كشكل فني.

نحن لا نزال غير واثقين بشأن “المادة” التي فيها يتعين على الصورة السينمائية أن تصاغ وتتشكل، بخلاف الرسام الذي يعرف أنه سوف يعمل بالألوان، أو الكاتب الذي يعرف بأنه سوف يؤثر في قرائه بالكلمات. السينما ككل لا تزال تبحث عما يحددها. علاوة على ذلك، فان كل مخرج في هذا المجال يحاول أن يجد صوته الفردي الخاص، في حين أن الرسامين جميعاً يستخدمون الألوان وعدداً وافراً من الكانفاس يرسمون عليها. الكثير من العمل ينتظر المخرجين والجمهور معاً إذا أراد هذا الوسط، ذو الجاذبية الجماهيرية، أن يصبح شكلاً فنياً حقاً.

لقد ركزت عمداً على الصعوبات الموضوعية التي تواجه الجمهور و المخرجين معاً في الوقت الحاضر. الصورة السينمائية انتقائية في تأثيرها على الصالة، و هذا يوجد في طبيعة الأشياء. في حالة السينما، المشكلة تكون أكثر حدة. في الحاضر نحن نعيش وضعاً فيه متفرج السينما حر في اختيار المخرج الذي يصادف أن يكون على اتفاق معه، بينما المخرج غير مخول لأن يعلن بصراحة أنه ليس لديه أي اهتمام بتلك الشريحة من رواد السينما الذين يستخدمون الأفلام كوسيلة للترفيه وللهروب من محن وهموم ومعاناة الحياة اليومية.

هذا لا يعني توجيه اللوم الى المتفرج واعتباره مسؤولاً عن ذوقه الردئ، فالحياة لا تمنحنا جميعاً الفرص ذاتها لتطوير مداركنا الجمالية. هنا تكمن الصعوبة الحقيقية. لكن لن يكون مجدياً التظاهر بأن الجمهور هو “الحكم الأهم” أو المؤهل لإصدار حكم نقدي على الفنان.

من هو الجمهور؟ ما هو ؟ اؤلئك المسؤولين عن السياسة الثقافية ينبغي أن يهتموا بخلق مناخ ومعيار محدد للإنتاج الفني، بدلا من خداع الجمهور بإعطائه أشياء هي زائفة ووهمية على نحو صارخ ووقح، وبالتالي تفسد ذوقهم على نحو يتعذر تغييره.

لكن هذه ليست مشكلة ينبغي أن يحلها الفنان. لسوء الحظ، هو غير مسؤول عن السياسة الثقافية. نحن نستطيع فحسب أن نكون مسؤولين عن مستوى أعمالنا. الفنان سوف يتحدث بأمانة وصدق عن كل الأمور التي تهمه ولا يحجم عن قول شيء، إذا وجد الجمهور أن موضوع المحادثة مهم ويعنيه حقاً.

مرّ عليّ وقت، بعد فيلم “المرآة” -وبعد سنوات من العمل الشاق في تحقيق الأفلام- كنت فيه أفكر فعلاً في التخلي عن هذه المهنة كلها.. لكن ما إن بدأت في تلقي كل تلك الرسائل (التي ذكرت بعضها في مقدمة الكتاب) حتى أدركت بأن ليس من حقي القيام بفعل متطرف كهذا، وما دام هناك قطاع من الجمهور قادر أن يكون نزيهاً ومنفتحاً الى هذا الحد، و أن يحتاج حقاً الى أفلامي، فعندئذ يتعين عليّ أن استمر في العمل مهما كلفني الأمر ومهما كان الثمن.

لو كان هناك متفرجون يهمهم الدخول في حوار معي، فان ذلك هو الحافز الأعظم الذي أحتاجه في عملي. واذا كان البعض يتحدث اللغة ذاتها التي أتحدثها، فلماذا ينبغي أن أهمل و استخف باهتماماتهم إكراما لجماعة أخرى من الناس هي غريبة ونائية؟ مثل هذه الجماعة لديها ” أربابها ومعبوديها”، ولا شيء مشترك بيننا.

كل ما يستطيع الفنان أن يقدمه الى الجمهور هو أن يكون منفتحا وصريحاً ونزيهاً في صراعه مع مادته. و الجمهور سوف يقدّر ما نبذله وما تعنيه جهودنا..
إذا حاولت أن ترضي الجمهور وتلبي على نحو غير نقدي ما تفرضه ميولهم و أذواقهم، فان هذا يعني شيئا واحداً هو أنك لا تكنّ احتراماً لهم: انك ببساطة ترغب في الحصول على نقودهم، وعوضاً عن توجيه الجمهور بتقديم أعمال فنية ملهمة، فانك توجه الفنان لأن يضمن دخله المالي فحسب. ومن جهته، الجمهور سوف يستمر – بطمأنينة وقناعة تامة- في الإحساس بأنه على صواب. الإخفاق في تنمية قدرة الجمهور على نقد أحكامنا الخاصة هو مساو للتعامل مع الجمهور بلا مبالاة تامة.

 

الفصل السابع:

مسؤولية الفنان

 

أرغب في أن ابدأ بالعودة الى المقارنة، أو بالأحرى التباين، بين الأدب والسينما.
الميزة البارزة التي يتقاسمها هذان الشكلان الفنيان المستقلان تماما، من وجهة نظري، هي حريتهما المدهشة في استخدام المادة كما يشاءان.

كتبت سابقا عن الاعتماد المتبادل للصورة السينمائية وتجربة المبدع والجمهور.النص الأدبي أيضا يعتمد على تجربة القارئ العاطفية والروحية والفكرية مثلما يفعل كل شكل فني.والأمر المثير للاهتمام بشأن الأدب هو انه مهما كانت دقة التفاصيل التي يضعها المؤلف في كل صفحة، فإن القارئ سوف يظل “يقرأ” و”يرى” فقط ما هيأته له تجربته الخاصة وما صاغته شخصيته، نظرا لأن هذه هي التي شكلت الميول والخاصيات والحساسيات في الذائقة التي أصبحت جزءاً منه. حتى المقاطع المفصلة والأكثر طبيعية في النص لا تبقى ضمن سيطرة وتحكم الكاتب: كل ما يحدث سوف يدركه ويعيه القارئ على نحو ذاتي.

السينما هي الشكل الفني الوحيد الذي يستطيع فيه المبدع أن يرى نفسه بوصفه خالقاً لواقع تام، غير مشروط، ولعالم خاص به.في السينما، الدافع المتأصل الى توكيد المرء لذاته يجد احد وسائله الأكثر مباشرة لتحقيق ذلك.الفيلم هو واقع عاطفي..هكذا يستقبله الجمهور: كواقع ثان.

الرؤية المقبولة على نحو واسع للسينما بوصفها نظاما من الإشارات تبدو لي بالتالي مخطئة جوهريا.

نحن هنا نتحدث عن أنواع مختلفة من التعالق مع الواقع الذي على أساسه كل شكل فني يبني وينمّي مجموعة خاصة به من التقاليد المتميزة وواضحة المعالم.في هذه النقطة، أنا أصنف السينما والموسيقى بين الأشكال الفنية المباشرة نظرا لأنها لا تحتاج أي لغة وسيطة أوغير مباشرة.هذا العامل المحدد الجوهري يعيّن حدود القرابة بين الموسيقى والسينما، ولنفس السبب يقصي السينما عن الأدب، حيث كل شئ يجد تعبيره بواسطة اللغة، بواسطة نظام من الإشارات.العمل الأدبي لا يمكن تلقيه إلا من خلال الرموز والمفاهيم، نظرا لأن ذلك هو ما تكونه الكلمات.غير أن السينما، مثل الموسيقى، تتيح إدراكا حسيا وعاطفيا مباشرا تماما للعمل.

بواسطة الكلمات يصف الأدب حدثا ما، عالماً داخلياً، واقعا ظاهريا، يرغب الكاتب في إعادة إنتاجه.السينما تستخدم المواد التي تقدمها الطبيعة نفسها، والزمن في مروره، والتي تتجلى ضمن المكان الذي نحن نلاحظه من حولنا.

إن صورة ما للعالم تنشأ في وعي الكاتب الذي، بواسطة الكلمات، يدونها على الورق. لكن “بكرة” ROLL الفيلم تطبع آلياً أشكال العالم غير المشروطة والتي دخلت في مجال بصر الكاميرا، و من هذه الأشكال تبنى فيما بعد صورة ذات وحدة كاملة.

الإخراج في السينما يعني ببساطة أن تكون قادرا على عزل الضوء عن الظلام، واليابسة الجافة عن المياه. إن سلطة المخرج هائلة الى حد أنها قادرة أن تخلق له الوهم بكونه قوة خلاقة، ولهذا السبب تمارس مهنته اغواءات خطيرة، ويمكن أن تقوده بعيدا جدا في الاتجاه الخاطئ. وهنا تواجهنا مسألة المسؤولية الضخمة والخطيرة في ما تتضمنه.. هذه المسؤولية التي يتعين على المخرج أن يتحملها. إن تجربته تصل الى الجمهور على نحو تصويري وفوري، بدقة فوتوغرافية، بحيث أن انفعالات الجمهور تصبح مماثلة لانفعالات شاهد عيان، إن لم تكن حقا انفعالات مبدع.

أريد أن أؤكد مرة أخرى بأن السينما، مع الموسيقى، هي الفن الذي يعمل مع الواقع. لهذا السبب أنا أعارض المحاولات البنيوية للنظر الى الكادر بوصفه إشارة لشيء آخر، والذي معناه يتلخص في اللقطة. المناهج أو الطرائق النقدية لفن ما لا يمكن أن ينطبق آلياً، وعلى نحو غير مقيد، على فن آخر. مع ذلك، هذا ما يحاول أن يفعله تعامل كهذا. خذ أصغر جزء من الموسيقى، ستجده هادئا وحرا من الايديولوجيا.

كذلك الأمر مع الكادر السينمائي الذي هو دائما مجرد ذرة من الواقع، و لا يحمل أية فكرة، فقط الفيلم ككل يمكن أن يزعم بأنه ينطوي على ترجمة أيديولوجية للواقع. لكن الكلمة، من جهة أخرى، هي بذاتها فكرة، مفهوم، والى حد ما فكرة تجريدية. الكلمة لا يمكن أن تكون صوتا فارغا.

في “حكايات من سفاستوبول” يصف ليف تولستوي حالات الرعب في مستشفى عسكري بتفصيل واقعي. لكن مهما كانت دقة وصفه لهذه التفاصيل الرهيبة فإن بإمكان القارئ أن يشتغل على الصور الطبيعية من أجل تعديلها وتكييفها وفقا لتجربته ورغباته ورؤاه الخاصة. النص دائما يؤخذ، ويتم تناوله، على نحو انتقائي من قبل القارئ، الذي يربط النص ذهنيا بقوانين المخيلة الخاصة به.

الكتاب الذي يقرأه ألف شخص مختلف يصير ألف كتاب مختلف. القارئ ذو المخيلة الناشطة، الحية، يستطيع أن يرى ما هو أبعد من الوصف الموجز، وأبعد من تصوير الكاتب نفسه..

(في الواقع، غالبا ما يتوقع الكاتب من القارئ أن يمضي الى أبعد مدى في التفكير). من جهة أخرى، القارئ الذي هو مكبوت ومكبوح بقيود أخلاقية وتابوات، سوف لا يرى الوصف القاسي، الأكثر دقة والشديد العناية بالتفاصيل، إلا من خلال المرشح (الفلتر) الأخلاقي والجمالي الموجود بداخله. نوع من التنقيح يحدث ضمن الإدراك الذاتي، وهذه العملية متأصلة في العلاقة بين الكاتب والقارئ. انه أشبه بحصان طروادة الذي في جوفه يشق الكاتب طريقه الى روح قارئه. الاختباء فيه هو واجب أو تعهد لا مفر منه لكي يقوم القارئ بتأدية دور في إبداع العمل.

لكن هل لدى جمهور السينما أي حرية في الاختيار؟

كل كادر، كل مشهد أو جزء، ليس مجرد وصف إنما صورة طبق الأصل لفعل ما، أو منظر، أو وجه. المعايير الجمالية هي بالتالي مفروضة على الجمهور. الظواهر المادية الملموسة معروضة على نحو بيّن لا لبس فيه، والفرد غالبا سوف يوجه مقاومة شديدة الى هذه المعايير معتمدا على قوة تجربته الشخصية.

لو انتقلنا الى الرسم على سبيل المقارنة، نجد أن هناك دائما مسافة بين اللوحة والمتفرج، مسافة كانت مرسومة ومعينة التخوم سلفا، والتي تبدي نوعا من التوقير تجاه ما هو مرسوم، والوعي بأن ما يوجد أمام الناظر- سواء وجدها قابلة للفهم أو عصية على الفهم- هو”صورة” للواقع: سوف لن يخطر أبدا لأي شخص أن يطابق اللوحة مع الحياة. تستطيع أن تتحدث عما إذا كان الموجود على الكانفاس شبيه بالحياة أو يحاكي الحياة الواقعية بدقة. لكن في السينما، الجمهور لا يفقد أبدا الإحساس بأن الحياة معروضة على قماش الشاشة هناك “فعلا”. الفرد في أحوال كثيرة سوف يحكم على الفيلم بقوانين الحياة الواقعية، مستبدلا الافتقار الى الإدراك بتلك التي عليها بنى المبدع فيلمه، قوانين مستمدة من تجربته العادية، الرتيبة، اليومية. ولهذا السبب نجد تناقضات ظاهرية محتومة في الطريقة التي بها يدرك أو يقدّر الجمهور فيلماً ما.

لماذا الجمهور العريض غالبا ما يفضل أن يشاهد قصصا غريبة جدا على الشاشة، وأشياء لا علاقة لها بحياتهم ؟ انهم يشعرون بأنهم يعرفون ما يكفي عن حياتهم، وأن آخر شيء يحتاجونه ويرغبون في مشاهدته هو المزيد من ذلك، وهكذا هم في السينما يتوقون الى امتلاك تجربة شخص آخر، وكلما كانت هذه التجربة غريبة ومدهشة، وأقل تماثلا مع تجربتهم الخاصة، صارت جذابة ومثيرة أكثر، وصارت من وجهة نظرهم مرشدة أكثر.

بالطبع العوامل السوسيولوجية (الإجتماعية)تلعب دورا هنا، وإلا لم تتوجه جماعات من الناس الى الفن من اجل التسلية فقط، في حين يبحث آخرون عن حوار فكري؟ لماذا يقبل البعض كل ما هو سطحي و”جميل” ظاهرياً كشئ حقيقي مع انه سوقي وردئ ومبتذل وفظ، بينما هناك آخرون مؤهلون لتلقي التجربة الجمالية على نحو حقيقي؟أين ينبغي أن نبحث عن أسباب الصمم الجمالي –والأخلاقي أحيانا –لأعداد ضخمة من الناس ؟ذنب من هذا؟ وهل من الممكن مساعدة مثل هؤلاء الناس على اكتشاف الإلهام والجمال والبواعث النبيلة التي يطلقها أو يثيرها الفن الحقيقي في النفس؟

أو أظن أن السؤال يجيب على نفسه.لكن الآن أنا لا أريد أن أسهب أو أمعن النظر في الأمر بل أن أشير إليه فحسب. لسبب أولآخر، وتحت منظومات اجتماعية مختلفة، الجمهور العام يتغذى بشئ صنعي أو بديل، ولا أحد يهتم بشأن غرس أو تغذية الذوق.في الغرب، على الأقل، الجمهور تتاح له حرية الاختيار، وأفلام المخرجين العظام هي تحت تصرفهم في أي وقت يرغبون في رؤيتها.لا توجد هناك أي صعوبة في مشاهدتها، لكن تأثير هذه الأعمال بالكاد قادر أن يكون ذا شأن، ولو كان علينا أن نحكم بمدى ما تتعرض له هذه الأعمال من إنهاك وضعف في صراع غير متكافئ مع الأفلام التجارية التي تملأ الشاشات.

بالنظر الى منافسة السينما التجارية فإن لدى المخرج مسؤولية خاصة تجاه جمهوره. وبسبب قدرة السينما الفريدة في التأثير على جمهور الصالة وتحريك مشاعرهم –في تطابق الشاشة مع الحياة –فان الفيلم التجاري الزائف، الذي يخلو من المعنى، قادر أن يقوم بممارسة التأثير السحري على المتفرج اللاواعي، غير المثقف ، والذي لا يمتلك قدرات نقدية..تماما مثلما يمارس الفيلم الحقيقي تأثيره.الفارق المأساوي والحاسم هنا، انه إذا كان الفن قادرا على إثارة الأحاسيس والأفكار، فان السينما ذات الجاذبية الجماهيرية، وبسبب تأثيرها السهل والعفوي والذي لا يقاوم، تمحو كل آثار الفكر والشعور على نحو نهائي ويتعذر تغييره.الناس يكفون عن الإحساس بأية حاجة لكل ما هو جميل أو روحاني، ويستهلكون الأفلام مثلما يستهلكون قنينات الكوكاكولا.

الاتصال بين مخرج الفيلم والجمهور هو استثنائي وفريد، ذلك لأن السينما توصل تجربة مطبوعة على الفيلم في أشكال مؤثرة على نحو عنيد وبالتالي إلزامي.المتفرج يشعر بحاجة الى مثل هذه التجربة البديلة لكي يعوض الى حد ما عن ما هو نفسه قد خسره أو فاته. انه يلاحق ذلك على طريقة “البحث عن زمن ضائع”.أما الى أي مدى ستكون إنسانية هذه التجربة المكتسبة حديثا، فذلك يعتمد فقط على مبدع الفيلم..ويالها من مسؤولية خطيرة.

إني أجد مشقة فائقة في فهم ما يتحدث عنه الفنانون بشأن حرية الإبداع المطلقة.أنا لا أفهم ما المقصود بذلك النوع من الحرية، إذ يبدو لي انك إذا اخترت عملا فنيا فانك تجد نفسك مقيدا بأغلال الضرورة أو الحاجة الملحة، ومقيدا بالواجبات التي كلفت نفسك بها وبالمهمة الفنية الخاصة.

كل شئ مشروط بالضرورة من نوع أو آخر.واذا كان ممكنا بالفعل إيجاد شخص يعيش حالة من الحرية الكاملة، فسوف يكون أشبه بسمكة من اسماك المياه العميقة والتي تُسحب الى السطح.انه أمر غريب إظهار أن روبليوف الملهم كان يعمل ضمن قيود الشريعة.كلما عشتُ فترة أطول في الغرب، بدت لي الحرية أكثر غرابة والتباسا.

هل هي حرية تعاطي المخدرات؟حرية أن تقتل؟حرية أن تنتحر؟

لكي تكون حرا يتعين عليك ببساطة أن تكون كذلك دون أن تلتمس إذناً من احد.
ينبغي أن تملك فرضيتك الخاصة بشأن ما تُستدعى لفعله، وتتبعه، لا أن تستسلم للظروف أو تذعن لها.لكن ذلك الضرب من الحرية يقتضي موارد داخلية فعالة، ودرجة عالية من وعي الذات، والشعور بمسؤوليتك تجاه نفسك وتجاه الآخرين.

للأسف، المأساة إننا لا نعرف كيف نكون أحرارا.نحن نطالب بالحرية لأنفسنا على حساب الآخرين، ولا نريد أن نتنازل عن أي شئ من حريتنا من أجل شخص آخر: ذلك سيكون تعديا على حقوقنا وانتهاكا لحريتنا الشخصية.كلنا مصابون اليوم بأنانية استثنائية.وهذه ليست حرية..الحرية تعني أن تتعلم كيف تطلب من نفسك فقط وليس من الحياة أو من الآخرين، وان تعرف كيف تمنح: التضحية باسم الحب.

لا أريد من القارئ أن يسئ فهمي:ما أتحدث عنه هو الحرية بالمعنى الأخلاقي، الجوهري.أنا لا أريد أن أهاجم أو أن القي ظلا من الشك على القيم التي لا يرقى إليها الشك والإنجازات التي تميز الديموقراطيات الأوروبية. لكن شروط هذه الديمقراطيات تؤكد معضلة الخواء الروحي و العزلة عند الإنسان. ويبدو لي أن في الصراع من أجل الحريات السياسية، الإنسان المعاصر قد شوّه تلك الحرية التي تمتع بها في كل عهد سابق: حرية أن يكون قادرا على منح نفسه الى الزمن والمجتمع اللذين يعيش فيهما.

بالنظر الآن الى الأفلام التي حققتها حتى اليوم، اكتشف بأنني كنت دائما أرغب في الحديث عن أفراد ممسوسين بالحرية الباطنية على الرغم من كونهم محاصرين من قبل الآخرين الذين هم، داخليا، خاضعون وغير أحرار. الضعف الجلي لأولئك الأفراد يتصل بقناعة أخلاقية واستشراف أخلاقي، وهذا الضعف في الواقع علامة قوة.

المتسلل stalker يبدو ضعيفا لكن جوهريا هو الذي لا يُقهر بسبب إيمانه ورغبته في أن يخدم الآخرين. الفنانون جوهريا يمارسون مهنتهم ليس من أجل إخبار شخص ما عن شيء ما، لكن كتوكيد على رغبتهم في خدمة الناس. أنا يذهلني أولئك الفنانين الذين يفترضون بأنهم يخلقون أنفسهم بحرية، وانه ممكن حقا فعل ذلك، ذلك لأن قدر الفنان أن يسلّم بأنه من خلق زمنه والناس الذين يعيش بينهم. وكما عبّر باسترناك:

كن يقظا، كن يقظا أيها الفنان

لا تستسلم الى النوم

فأنت رهين الأبدية

وسجين الزمن.

 

إني مقتنع بأن الفنان لو نجح في فعل شيء ما، فانه يحقق ذلك فقط لأن هذا هو ما يحتاجه الناس، حتى لو كانوا غير واعين له في حينه. هكذا فإن الجمهور هو الذي يربح، والذي يكسب شيئا ما، بينما الفنان يخسر، ويتعين عليه أن يدفع.

أنا لا أستطيع أن أتخيل نفسي حرا تماما الى حد أنني أقدر أن أفعل ما أريد. يتعين علي أن أفعل ما يبدو الأكثر أهمية وضرورة في أي مرحلة محددة. والاتصال بالجمهور ممكن فقط إذا تجاهل المرء واقع أن هناك ثمانين في المئة من الناس قد اقتنعوا، لسبب ما، بأننا ملزمون أو من المفترض فينا أن نسليهم ونرفه عنهم.

في الوقت نفسه نحن توقفنا عن احترام تلك النسبة، أي الثمانين في المئة، الى حد أننا مهيأ ون للترفيه عنهم، ذلك لأننا نعتمد عليهم في كسب المال و في إنتاج عملنا التالي.. و يا له من مستقبل مظلم.

مع ذلك، بالرجوع الى ذلك الجمهور الذي يمثل الأقلية، الذين لا يزالون يبحثون عن انطباعات جمالية حقيقية، ذلك الجمهور المثالي الذي هو، لا شعورياً، مصدر أمل كل فنان، هذا الجمهور سوف لن يستجيب من القلب وبصدق الى الفيلم إلا إذا عبّر المبدع عما عاشه و عاناه شخصياً. أني أحترم كثيراً هذا الجمهور ولا ارغب في خداعه وتضليله لتحقيق مآرب شخصية. إني أثق به، ولهذا السبب أملك الجرأة في إخبارهم بما هو أكثر أهمية وقيمة بالنسبة لي.

فان جوخ، الذي أعلن ” بأن الواجب شئ مطلق”، و الذي اعترف بأن ” لا ثناء يمكن أن يرضيني أكثر من أن يرغب عمال عاديون في تعليق أعمالي في غرفهم أو الورش التي يعملون بها”. لم يكن يفكر أبدا في محاولة إرضاء أي شخص تحديداً، أو يجعل أي شخص يكون مثله. لقد كان يأخذ عمله بجدية تامة، واعياً للفحوى الاجتماعي لعمله، ويرى مهمته كفنان بوصفه مناضلاً بكل قوته، حتى النفس الأخير، مكافحاً بمادة الحياة، من أجل أن يعبّر عن تلك الحقيقة المثالية التي تكمن مختبئة داخلها.

هكذا كان يرى واجبه تجاه شعبه: العبء و الامتياز. لقد كتب في يومياته: ” حين يعبّر الإنسان بوضوح عما يريد أن يقوله، أليس ذلك كافياً؟ عندما يكون قادراً على التعبير عن أفكاره بشكل جميل فأنا لا أشك بأن الإصغاء اليه سيكون أكثر متعة، لكن هذا لا يضيف الكثير الى جمال الحقيقة.. التي هي جميلة بذاتها”.

بما أن الفن تعبير عن طموحات و آمال انسانية، فان له دور هام جداً ينبغي أن يؤديه في التطور الأخلاقي في المجتمع، أو ذلك ما يستلزم فعله. اذا أخفق الفن فان ذلك لا يعني الا أن ثمة خللاً ما في المجتمع. الفن لا يمكن أن تفرض عليه أهدافاً ذرائعية أو منفعية على نحو صرف. الفيلم المبني على أسس كهذه لا يمكن أن تتماسك أجزاؤه ككينونة فنية، ذلك لان تأثير السينما – أو أي فن آخر- على المشاهد هو أعمق و أكثر تعقيداً مما تسمح به شروط كهذه. الفن يعظم الإنسان ويضفي نبالة عليه بواسطة الحقيقة المجردة لوجوده. انه يخلق تلك الروابط الدقيقة بحيث لا تُلحظ أو تُدرك، و التي تجذب الجنس البشري معاً في جماعة مشتركة، ويخلق ذلك المناخ الأخلاقي الذي فيه، كما في الوسط الثقافي، الفن سوف ينشأ ويزدهر مرة أخرى، والا فانه سوف ينحل الى ثمرة برية. اذا لم يوظف الفن وفقاً لمهمته فانه يزول، وهذا يعني بأن أحدا لن يحتاج الى وجوده.

أثناء عملي لاحظت المرة بعد الأخرى بأنه إذا كان البناء العاطفي الخارجي لفيلم ما مبنيا على ذاكرة المبدع، واذا كانت إنطباعات حياته الشخصية متحولة الى صور سينمائية، عندئذ سوف يملك الفيلم القدرة على تحريك وإثارة مشاعر أولئك الذين يشاهدونه.

لكن إذا كان المشهد مستنبطا فكريا، متبعا معتقدات الأدب، فعندئذ سوف يترك أثراً فاترا في الجمهور حتى لو كان منجزا وفقاً لما يمليه الضمير وعلى نحو مقنع.في الواقع حتى لو يستوقف الفيلم البعض ويفتنه بوصفه مشوقا أو مثيرا للاهتمام، ويفرض نفسه بالقوة عند عرضه للمرة الأولى، فانه سوف لن يملك القوة الحيوية للصمود أمام امتحان الزمن.

بتعبير آخر، نظرا لأنك لا تستطيع أن تستفيد من تجربة الجمهور بالطريقة التي يفعلها الأدب، متيحا للاستيعاب الجمالي أن يحدث في وعي كل قارئ – في السينما هذا بالفعل غير عملي- فانه يتعين عليك أن تفصح عن تجربتك الخاصة بصدق وإخلاص قدر الامكان.هذا لا يعني أن الأمر سهل، بل ينبغي أن تملأ نفسك بالعزم والتصميم حتى تفعل ذلك.لهذا السبب نجد حتى اليوم، وعلى الرغم من أن الكثير من الناس، العديد منهم متعلمين على الصعيد المهني، لديهم الإمكانية لتحقيق الأفلام، إلا أننا في السينما لا نقدر أن نحصي غير حفنة من المخرجين الكبار في العالم بأسره.

أنا في الأساس، وعلى نحو جذري، معارض للطريقة التي بها استخدم ايزنشتاين الكادر لتصنيف وتنسيق صيغ فكرية.إن منهجي الخاص في توصيل التجربة الى الجمهور مغاير تماما.بالطبع، تنبغي الإشارة الى إن ايزنشتاين لم يكن يحاول أن يوصل تجربته الخاصة الى أي شخص، فقد أراد أن ينجز أفكارا على نحو صرف وببساطة، لكن بالنسبة لي فإن ذلك النوع من السينما هو ضار ومعادٍ تماماً. فضلا عن ذلك فإن المثال الذي يقدمه مونتاج ايزنشتاين، كما أراه، يناقض الأساس الفعلي للعملية الفذة، والذي بواسطتها يحرك الفيلم مشاعر الجمهور.انه يحرم الفرد من مراقبة ذلك الامتياز الذي يتمتع به الفيلم، والذي له علاقة بما يميز تأثيره على وعيه عن تأثير الأدب أوالفلسفة:تحديدا فرصة العيش من خلال ما يحدث على الشاشة كما لو أنها حياته الخاصة، فرصة تبني التجربة المطبوعة على الشاشة على نحو شخصي عميق، رابطا حياته الخاصة بما هو معروض على الشاشة.

ايزنشتاين يجعل من الفكر حاكما مطلقا ومستبدا:الفكر هنا لا يترك وراءه “جواً”، لا شئ من تلك المراوغة الإيحائية، التي هي ربما الخاصية الآسرة التي يتسم بها هذا الفن، والتي تجعل من الممكن بالنسبة للفرد أن يتصل بالفيلم. إنما أريد أن أحقق أفلاماً والتي لا تنطوي على أية لغة دعائية، خطابية، بل تكون فرصة ملائمة لتقديم تجربة حميمة بعمق.بالعمل في هذا الاتجاه، أنا واع لمسؤوليتي تجاه المتفرج، واعتقد أنني أستطيع أن امنحه التجربة الفريدة والضرورية، والتي لأجلها هو يدخل صالة السينما المظلمة.

أي شخص يرغب، بامكانه أن ينظر الى أفلامي كما لو ينظر في مرآة، والتي فيها سوف يرى نفسه.حين يعطي مفهوم فيلم ما أشكالا نابضة بالحياة، والتركيز يكون على أدائه الفعال والمؤثر بدلا من الصيغ الفكرية للقطات”الشعرية” (أي اللقطات التي فيها يكون الموقع، على نحو ظاهر، وعاء للأفكار) فعندئذ يكون ممكنا للجمهور أن يتصل بذلك المفهوم على ضوء التجربة الفردية.

قلت من قبل أن الإنحياز الشخصي يجب أن يكون متواريا دائما:القيام بإبراز وعرض ذلك قد يمنح الفيلم صلة وثيقة بالموضوع ومباشرة، لكن معناه سوف يكون مقتصرا على تلك المنفعة العابرة، الزائلة. إذا كان على الفن أن يدوم ويستمر في قوة وفعالية، فيتعين عليه أن يعتمد بعمق على جوهره الخاص.بهذه الطريقة فقط سوف يحقق الفن تلك الإمكانية الفريدة للتأثير وتحريك مشاعر الناس والتي هي بالتأكيد فضيلته المحتومة والتي لا علاقة لها بالدعاية أو الصحافة أو الفلسفة أو أي فرع آخر من المعرفة أو النظام الاجتماعي.

الظاهرة يعاد خلقها بصدق في العمل الفني من خلال محاولة إجراء تغييرات واسعة في بنية الصلات الداخلية، الحية كلها.حتى في السينما لا يمتلك الفنان حرية الاختيار فيما هو ينتقي ويضم حقائق من “كتلة الزمن”، مهما كانت تلك الكتلة سميكة أو كثيفة أو واسعة.إن شخصية الفنان، طوعا وبالضرورة، سوف تؤثر في اختياره وأيضا في عملية تقديم وحدة فنية الى ما هو منتقى.

الواقع مشروط بالكثير من العلاقات الطارئة، العرضية، والفنان يستطيع فحسب أن يمسك بجزء من هذه العلاقات.انه يجد نفسه متروكا مع تلك التي نجح في الإمساك بها وإعادة إنتاجها، والتي هي بالتالي تجل لشخصيته وفرادته.

علاوة على ذلك، كلما يطمح الفنان الى وصف واقعي، تعاظمت مسؤوليته تجاه ما يصنع. الإخلاص والصدق والبراءة هي الفضائل المطلوبة منه.

المشكلة (أو قد يكون ذلك هو السبب الأول للفن)أن أحدا لا يستطيع أن يعيد بناء الحقيقة الكاملة أمام الكاميرا.لذلك فإن مصطلح “الطبيعية”، عند تطبيقه في السينما، لا يمكن أن يتضمن معنى حقيقيا (مع أن هذا لا يمنع النقاد السوفييت من استخدام المصطلح كتعبير عن سوء استعمال اللقطات التي ينظرون إليها بوصفها قاسية أو وحشية بإفراط:إحدى التهم الرئيسية الموجهة الى فيلمي “أندريه روبليوف”كان تهمة “الطبيعية”، بمعنى إضفاء جمالية مقصودة على الوحشية دون ضرورة.)

الطبيعية مصطلح نقدي تم استخدامه للتعبير عن اتجاه محدد في الأدب الأوروبي في القرن التاسع عشر، وارتبط في الدرجة الأولى باسم إميل زولا.لكن المصطلح لا يمكن أن يكون أبدا أكثر من مفهوم نسبي في الفن، لأن لا شيء يمكن أن يعاد إنتاجه على نحو طبيعي تماما.

كل شخص يميل الى رؤية العالم حسب منظوره هو، وكما يدركه أو يحسه. لكن العالم ليس كذلك، والأشياء التي توجد “بذاتها وبمعزل عن الأشياء الأخرى “تبدأ في امتلاك وجود خاص”من أجلنا”خلال تجربتنا الخاصة.حاجة الإنسان أن يعرف الوظائف بهذه الطريقة تعني معرفة المعنى.الناس محدودون في قدرتهم على معرفة العالم بواسطة أعضاء الحواس التي منحتها لهم الطبيعة، واذا كان يتعين علينا حسب تعبير نيكولاي جوميليوف (الكاتب والناقد الروسي 1886-1921) أن “نلد عضواُ لحاسة سادسة” فعندئذ، وبوضوح، سوف يظهر لنا العالم في أبعاده الأخرى. كل فنان إذن محدود في إدراكه الحسي، في فهمه لعلاقات العالم الداخلية المحيطة به.لذلك لا معنى للحديث عن الطبيعية في السينما، كما لو أن الظواهر يمكن تسجيلها بالجملة بواسطة الكاميرا، بصرف النظر عن أي مبادئ فنية في حالتها الطبيعية.هذا النوع من الطبيعية لا يمكن أن يوجد.

في أحوال كثيرة، النقاد ببساطة يستفيدون من المصطلح أو التعبير كمبرر نظري “موضوعي “لاستجواب حق الفنان في رصد الحقائق التي تجعل الجمهور يرتجف من الرعب.هذا مصنف ك “مشكلة”من قبل جماعة الضغط الوقائية الذين يشعرون بأن الواجب يحتم عليهم أن يضمنوا بأن كل شيء سهل ومريح للعين والأذن..لكن يمكن هنا إتهام دوفجنكو وايزنشتاين، اللذين حصلا على التبجيل والتقدير، بأنهما خرقا مثل هذه القوانين، كذلك يمكن اتهام أي عمل وثائقي عن معسكر الاعتقال والذي لم يكن ممنوعا في تصويره للمعاناة والتفسخ البشري.

حين تنتزع الأجزاء من سياق فيلم “أندريه روبليوف”، من أجل اتهامي بالطبيعية (على سبيل المثال، مشهد فقء العين ولقطات معينة من سلب فلاديمير) فإنني حقيقة لم أكن افهم غاية الاتهام ولا زلت لا أعرف حتى الآن.وأنا، كفنان، لا اشعر بأن من واجبي أن اجعل الجمهور سعيدا.

على العكس تماما، ما يتعين علي أن افعله هو أن اخبر الناس الحقيقة بشأن وجودنا المشترك كما يبدو لي على ضوء تجربتي وفهمي.تلك الحقيقة نادرا ما تبشر بأنها ستكون سهلة ومريحة أو مرضية.فقط ببلوغ تلك الحقيقة وتلك “الواقعية”، بامكان المرء أن يحرز انتصارا معنويا عليها داخل نفسه.

من ناحية أخرى، لو كان علي أن اكذب في فني بينما ازعم أن هذا الفن مخلص وأمين للواقع، وأزيف هدفي الخاص خلف واجهة مشهد سينمائي هو بذاته “أمين للحياة”ظاهريا، وبالتالي مقنع في تأثيره على الجمهور، عندئذ استحق التوبيخ بلاشك وينبغي استدعائي للمحاسبة والمساءلة.

لم تكن مصادفة أن استخدم في بداية هذا الفصل عبارة”الضخمة والخطيرة”فيما يتصل بالمسؤولية التي يتحملها مبدع السينما.بإعطاء مزيد من القوة أو التوكيد الى فكرة مثل تلك –حتى لو كانت النتيجة هي المبالغة والتضخيم –فقد أردت أن أؤكد واقع أن أكثر الفنون إقناعا يقتضي مسؤولية خاصة من قبل أولئك الذين يعملون فيه:المناهج التي بها تؤثر السينما في مشاعر الجمهور يمكن استخدامها بسهولة وعلى نحو سريع من أجل تحللها الأخلاقي وهدم دفاعاتها الروحية أكثر من هدم وسائل الأشكال الفنية التقليدية والقديمة.إن توفير الأسلحة الروحية وإرشاد الناس الى الخير لابد أن يكون صعبا على الدوام.

مهمة المخرج أن يعيد خلق الحياة:حركتها، تناقضاتها، فعاليتها وتعارضاتها.من واجبه أن يكشف كل ذرة من الحقيقة التي رآها حتى لو لم تكن تلك الحقيقة مقبولة لدى كل شخص.بالطبع يمكن للفنان أن يضل طريقه، لكن حتى أخطاءه هي مثيرة للاهتمام شريطة أن تكون صادقة، ذلك لأنها تمثل واقع حياته الداخلية، واقع الارتحالات والصراع الذي وجد نفسه مقذوفا فيه من قبل العالم الخارجي. لكن هل يمتلك أحد ما، في أي وقت، الحقيقة الكاملة ؟ كل الجدل بشأن ما يجوز وما لا يجوز عرضه لا يمكن إلا أن يكون محاولة مبتذلة و لا أخلاقية لتحريف الحقيقة.

قال دوستويفسكي: انهم دائما يقولون أن على الفن أن يعكس الحياة، وأشياء من هذا القبيل. لكن ذلك هراء.. الكاتب (الشاعر) نفسه يخلق الحياة كما لو أنها لم تكن موجودة أبدا أمامه.”

إلهام الفنان ينشأ في مكان ما في التجويفات الأعمق من ذاته. لا يمكن للإلهام أن تمليه اعتبارات “المهنة”، الخارجية. انه متصل على نحو محتوم بروح الفنان وضميره، وهو ينبثق من شمولية نظرته الى العالم.. واذا لم يكن كذلك، فسوف يكون عندئذ محكوما من البداية بأن يصير خاويا وعقيماً فنيا. من الممكن جدا أن تكون مخرجا محترفا أو كاتبا محترفا دون أن تكون فنانا: مجرد شخص منفذ لأفكار الآخرين.

الإلهام الفني الحقيقي هو دائما مصدر عذاب للفنان، الى حد أنه يعرض حياته للخطر. إن تحقق الإلهام مساو لعمل جسماني بطولي، على الرغم من الاعتقاد الخاطئ والشائع أن كل ما نفعله هو أننا نروي قصصا هي قديمة قدم العالم، بحيث نبدو أمام الجمهور مثل جدات هرمات، على رؤوسنا الأوشحة وبين أيدينا أدوات الحياكة، ونروي لهم كل أنواع الحكايات والنوادر من أجل إلهائهم وتسليتهم. قد تكون الحكاية مسلية أو آسرة لكنها سوف لن تلبي للجمهور إلا حاجة واحدة فقط: إنها تساعدهم على قضاء الوقت في هذر عديم الجدوى.

ليس للفنان الحق في فكرة لا يلتزم بها اجتماعيا، أو تحقيقها والذي قد يتضمن انقساماً بين نشاطه المهني وسائر حياته. في حياتنا الشخصية نحن نمارس أفعالاً كأفراد محترمين أو كأفراد بسمعة سيئة. إننا نقر بأن فعلا شريفا ومحترما قد يسبب ضغطا علينا أو حتى يجعلنا في تعارض ونزاع مع محيطنا.

لكن لماذا نحن غير مهيئين لأية مشكلة يمكن أن تنشأ من نشاطاتنا المهنية ؟
لماذا نحن خائفون من استدعائنا للمساءلة أو التوبيخ عندما نباشر العمل في فيلم ما ؟ لماذا نبدأ بأخذ ضمان أن الفيلم سيكون حميدا وغير مؤذ بقدر ما سيكون خاليا من المعنى ؟ أليس هذا لأننا نريد أن نستلم مكافأة عاجلة على عملنا سواء في شكل مال يدفع نقدا أو عونا معنويا؟

لا يسع المرء إلا أن يشعر بالذهول من غرور الفنانين المعاصرين إذا نحن عقدنا المقارنة بينهم و بين البنائين المتواضعين الذين بنوا الكاتدرائيات دون أن يعرف أحد أسماءهم. يتعين على الفنان أن يكون متميزا بالإخلاص واللاأنانية في تأدية الواجب.. لكننا تغاضينا عن ذلك منذ زمن طويل.

في المجتمع الاشتراكي، العامل في المصنع أو الشخص الذي يعمل في الحقل، كلاهما مسؤول عن صنع أشياء نافعة ماديا، معتبرين نفسيهما سادة الحياة. ومثل هؤلاء الأشخاص يدفعون نقودا من أجل أن يحصلوا على القليل من التسلية والترفيه من “فنانين” متلهفين على تقديم المساعدة، لكن مثل هذه اللهفة منطلقة من اللامبالاة، ذلك لأن هؤلاء “الفنانين” يستفيدون من الوقت الإضافي لدى الأشخاص البسطاء، الكادحين، مستغلين سذاجتهم وجهالتهم وافتقارهم الى الثقافة الجمالية، في سبيل هدم دفاعاتهم الروحية وكسب المال. إن نشاطات ذلك النوع من “الفنانين” هي بغيضة أخلاقيا. الفنان لا يثبت أهليته في عمله إلا حين يكون العمل حاسما لطريقته في الحياة: ليس عملا جانبيا، ثانويا أو طارئا، بل شكل وجود لذاته المنتجة. إن التضمينات الأخلاقية لتأليف كتاب هي ذات نظام آخر تماما. بمعنى ما، انه أنت الذي تقرر أي نوع من الكتب تريد أن تنتجه، لأن القارئ يقرر ما إذا سوف يشتري الكتاب أو يتركه ليغطيه الغبار على أرفف المكتبات. الوضع الموازي يوجد في السينما لكن بالحس الشكلي في أن الجمهور بوسعه أن يختار بين أن يذهب لرؤية الفيلم أو لا يذهب. لكن بسبب الاستثمار الهائل لرأس المال في صنع الأفلام فان السينما عدوانية على نحو استثنائي، ومثابرة في طرائقها لانتزاع الربح الأقصى.

الفيلم يباع مثل أي سلعة، وهذا يفضي الى جعل مسؤوليتنا أكبر تجاه”بضاعتنا”.

كنت دائما مأخوذا بأعمال روبير بريسون: تركيزه فريد واستثنائي. لا شيء عرضي أو تصادفي يمكن أن يتسرب الى اختياره، الزاهد على نحو صارم، لوسائل التعبير. وهو لا يمكن أبدا أن يحقق فيلما على عجل. انه جاد، عميق، ونبيل. وهو واحد من أولئك الأساتذة الكبار الذين كل فيلم لهم يصبح حدثا في كينونتهم الروحية.

فقط عند الضرورة الملحة من حالته الداخلية نراه يتقدم ليحقق فيلمه.

في فيلم بيرجمان “صرخات وهمسات”ثمة جزء قوي على نحو خاص، ربما هو الجزء الأكثر أهمية في الفيلم.شقيقتان تصلان الى منزل والدهما حيث شقيقتهما الكبرى ترقد وهي على وشك الموت.الفيلم يتنامى من توقع الموت..موت الأخت. هنا، وقد وجدن أنفسهن وحدهن معا، فإنهن على نحو مفاجئ وغير متوقع ينجذبن الى بعض برباط عائلية وبالتوق الى الاتصال الإنساني.إنهن يتحدثن ويتحدثن ويتحدثن..ولا يقدرن أن يقلن كل ما يرغبن في قوله..إنهن يلاطفن بعضهن البعض.

والمشهد يخلق انطباعا لافحاً بالحميمية الإنسانية..وبالهشاشة أيضا، نظرا لأن في فيلم بيرجمان مثل هذه اللحظات هي مراوغة وسريعة الزوال.في أغلب مشاهد الفيلم، الشقيقات لا يستطعن التوصل الى تسوية أو مصالحة بينهن، لا تستطيع الواحدة منهن أن تغفر للأخرى حتى في وجه الموت.إنهن مليئات بالضغينة، مستعدات لتعذيب أنفسهن وتعذيب بعضهن البعض.وعندما يتحدن لفترة قصيرة الأمد، يستغني بيرجمان عن الحوار ويستخدم موسيقى باخ.تأثير المشهد يكون قويا على نحو دراماتيكي، ويصبح أعمق.بالطبع هذا الارتفاع، هذا التحليق نحو الخير، هو وهْم، حلم لا سبيل الى تحقيقه.. حلم بشئ لا يوجد ولا يمكن أن يوجد.انه ما تنشده الروح الإنسانية وما تتوق إليه.تلك اللحظة الوحيدة تتيح وميضا من التناغم والتناسق، لمحة الى المثال.لكن حتى هذا الانطلاق الوهمي يمنح الجمهور إمكانية التنفيس، إمكانية التطهر الروحي والتحرر الذي يتحقق عبر الفن.

إني اذكر هذا لأنني أريد أن أؤكد إيماني الخاص بأن الفن يجب أن يحمل توق الإنسان الشديد الى المثال، يجب أن يكون تعبيرا عن رغبته في بلوغه..إيماني بأن الفن يجب أن يهب الإنسان الأمل والثقة التامة، وكلما كان العالم ميئوسا منه أكثر في عمل الفنان، كانت رؤيتنا للمثال ربما أكثر وضوحا وصفاء..والا فإن الحياة تصبح مستحيلة.

الفن يرمّز معنى وجودنا.

لماذا يسعى الفنان الى تدمير الاستقرار الذي ينشده المجتمع؟سيتمبريني في رواية توماس مان “الجبل السحري”يقول:”إني أثق، أيها المهندس، انك لا تكنّ شيئا ضد المكر.أنا اعتبره أكثر أسلحة العقل روعة ضد الظلمة والبشاعة. المكر، يا سيدي العزيز، هو روح النقد، والنقد مصدر التقدم والتنوير”.

الفنان يسعى الى تدمير الاستقرار، الذي به يعيش المجتمع، من أجل الاقتراب أكثر من المثل الأعلى.المجتمع ينشد الاستقرار، الفنان يبحث عن اللاتناهي.الفنان معنيّ بالحقيقة المطلقة، لذلك هو يحدق إمامه ويرى الأشياء على نحو أقرب من الآخرين.

فيما يتعلق بالنتائج، نحن لا نكون مسؤولين عنها إنما عن اختيار تأدية أو عدم تأدية واجبنا. نقطة الانطلاق هذه تفرض على الفنان واجب أن يكون مسؤولا عن مصيره الخاص.إن مستقبلي هو الكأس الذي سوف لن اغفل عنه، وبالنتيجة لابد أن اشربه.

في كل أفلامي كان يبدو لي مهما محاولة أن أؤسس الصلات التي تربط الناس(غير تلك التي تربط الجسد)..تلك الصلات التي تربطني بالجنس البشري، وتربطنا جميعا بكل ما يحيط بنا.إني احتاج أن امتلك الإحساس بأنني الوريث في هذا العالم، وليس ثمة ما هو عرضي وغير مقصود بشأن وجودي هنا.داخل كل منا يوجد حتما ميزان للقيم.

في فيلمي”المرآة” أردت أن اجعل الناس يشعرون بأن باخ وبرجوليسي ورسالة بوشكين والجنود المرغمين على عبور بحيرة سيفاش، وأيضا الأحداث المحلية والعائلية الحميمة، أن يشعروا بأن كل هذه الأشياء هي، من بعض النواحي، هامة بصورة متساوية مثلما هي التجربة الإنسانية.فيما يتصل بتجربة الفرد الروحية فإن ما حدث له بالأمس قد يكون له الدرجة نفسها من الدلالة والأهمية تماما مثلما حدث للبشرية قبل مئة سنة.

في كل أفلامي كانت ثيمة الجذور ذات أهمية كبيرة: ارتباطات بمنزل العائلة، الطفولة، الوطن، العالم. كنت دائماً اشعر بأن من المهم أن ابرهن بأنني أنتمي الى تقاليد معينة، الى ثقافة خاصة، الى دائرة من الناس أو الأفكار.
ما يشكّل مغزى ودلالة كبيرة بالنسبة لي هي تلك التقاليد في الثقافة الروسية التي تجد بداياتها في أعمال دوستويفسكي..لكن تطورها في روسيا المعاصرة هو، على نحو جلي، ناقص وغير تام.في الواقع هي تتجه الى أن تكون عرضة للازدراء أو اللامبالاة أو حتى التجاهل تماما.ثمة أسباب عديدة لهذا، على رأسها ذلك التعارض التام مع المذهب المادي، ثم حقيقة أن الأزمة الروحية التي اختبرتها كل شخصيات دوستويفسكي هي أيضا مرئية بارتياب. لكن لماذا تثير هذه الحالة من “الأزمة الروحية” الخوف في روسيا المعاصرة؟

أعتقد أن من خلال الأزمة الروحية يحدث الشفاء دائما. الأزمة الروحية محاولة يقوم بها المرء لإيجاد ذاته، لإحراز إيمان جديد. إنها الحصة المقسمة لكل شخص والذي أهدافه تكون على المستوى الروحي. وكيف يمكن لها أن تكون غير ذلك و النفس تتوق الى التناغم والانسجام، والحياة تكون حافلة بالنزاع والتنافر. هذا الانقسام هو الحافز للحركة، وهو مصدر الألم و الأمل في آن: تأكيد لأعماقنا الروحية و تعزيز لإمكانياتنا.

هذا أيضا ما يتحدث عنه فيلمي STALKER: البطل يكابد لحظات من اليأس حين يتزعزع إيمانه.. لكن في كل مرة يصل الى إدراك متجدد لمهمته، أن يخدم أولئك الذين فقدوا آمالهم وأوهامهم. لقد شعرت بأن من المهم جدا أن يرصد الفيلم الوحدات الثلاث للزمن و المكان والفعل. إذا كنت في “المرآة” مهتما بأن يحتوي على لقطات من شريط إخباري، حلم، واقع، أمل، فرضية، تذكر للأحداث الماضية.. كل منها تتبع بعضها البعض في ذلك الخليط من الحالات والأوضاع التي تواجه البطل بمعضلات الوجود المتعذر اجتنابها. في STALKER لم أرغب في أن يكون هناك انقطاع زمني بين اللقطات. أردت أن أظهر الزمن ومروره، وأن تمتلك تلك اللقطات وجودها وبقاءها داخل كل كادر.. أن تكون المفاصل بين اللقطات استمراراً للفعل لا أكثر، و أن لا يعتري الزمن اضطراب، أو يعمل كآلية من أجل انتقاء و تنظيم المادة دراميا.. أردت من الفيلم أن يكون محققا برمته كما لو في لقطة واحدة.

مثل هذا التعامل البسيط والمتقشف يبدو لي غنيا بالاحتمالات. لقد أقصيت من السيناريو كل ما أستطيع من أجل امتلاك الحد الأدنى من المؤثرات الخارجية.كمسألة مبدأ أردت تجنب إلهاء أو مباغتة الجمهور بالتغيرات الفجائية للمشهد، وبجغرافية الحدث، وبالحبكة المعقدة. أردت أن يكون التكوين كله بسيطا.

على نحو متماسك أكثر من قبل، كنت أحاول أن أجعل الناس يؤمنون بأن السينما، كأداة فنية، لديها إمكانياتها الخاصة التي تعادل إمكانيات النص الأدبي. أردت أن أظهر مدى قدرة السينما على رصد الحياة دونما تدخل، على نحو فج أو بجلاء، في استمراريتها.. إذ ها هنا أرى الجوهر الشعري الحقيقي للسينما.

لقد خطر لي أن التبسيط الشكلي المفرط يمكن أن يجازف بالمثول في مظهر متكلف أو مفرط في التأنق، ولكي أتفادى ذلك، حاولت أن أزيل كل مسحة من الإبهام أو التلميح في اللقطات.. أي تلك العناصر التي ينظر إليها كسمات ل”الجو الشعري”. ذلك النوع من الجو هو دائما مركب بجهد بالغ. وقد كنت مقتنعا بصحة وفعالية الاقتراب المعاكس، إذ لا يجب أن أهتم بالجو على الإطلاق، ذلك لأنه ينبثق من الفكرة الرئيسية من تحقيق المبدع لتصوره ومفهومه. و كلما كانت الفكرة الرئيسية مصاغة بدقة تامة، يتحدد لي معنى الفعل بوضوح أشد، والجو المتولد حوله سيكون ذا دلالة و أهمية أكبر. كل شيء سوف يبدأ في الارتداد كالصدى استجابةً للنغمة الغالبة: الأشياء، المنظر الطبيعي، أداء الممثلين.. كلها سوف تصبح مترابطة وضرورية. الشئ سوف يجد صداه في شيء آخر في ضرب من التبادل العام. والجو سوف ينشأ كنتيجة لهذا التركيز على ما هو أكثر أهمية.

(إن فكرة خلق جو كغاية بذاتها تبدو لي غريبة. لهذا السبب، وعلى نحو تصادفي، لم أشعر أبدا بالتآلف مع رسومات الانطباعيين الذين يشرعون في طبع اللحظة إكراما للحظة ذاتها، من أجل التفريغ اللحظي. ذلك يمكن أن يكون وسيلة في الفن لكن ليس غاية.)

في فيلم stalker، حيث حاولت أن أركز على ما هو أكثر أهمية، يبدو لي أن الجو الذي تشكل كنتيجة، كان أكثر فعالية والزاماً عاطفيا من جو أي فيلم آخر حققته من قبل.

ما هي إذن الثيمة الأساسية التي ينبغي أن تتردد عبر فيلم stalker؟
في أكثر التعابير عمومية، هي ثيمة الكرامة الإنسانية، ما تعنيه تلك الكرامة والى أي مدى يعاني الإنسان إذا افتقر الى احترام الذات.

عليّ أن أنبه القارئ بأن غاية الرحلة التي تقوم بها الشخصيات الثلاث -في الفيلم- الى المنطقة المحظورة هي حجرة معينة يقال أنها قادرة على تحقيق الأمنيات و الرغبات الأكثر سرية وصدقا. وفيما يجتاز الكاتب والعالِم – يقودهما الدليل- الطريق المحفوف بالمخاطر عبر الامتداد الغريب للمنطقة المحظورة، يروي لهما الدليل، عند موضع ما، حكاية حقيقية أو ربما أسطورية عن دليل آخر كان قد ذهب الى المكان السري (الحجرة) من أجل أن يلتمس عودة أخيه الى الحياة حيث انه قد مات مقتولا بسبب غلطة أو ذنب ارتكبه هو، لكن حين يعود هذا الدليل الى بيته يكتشف بأنه قد أصبح ثريا بشكل فاحش وخرافي، ذلك لأن الحجرة قد حققت رغبته الحقيقية الدفينة، الصادرة من القلب، وليس الأمنية التي اعتقد أنها أثيرة وصادقة.عندئذ شنق الدليل نفسه.

يصل الاثنان (الكاتب والعالِم) إلي غايتهما بعد إن اجتازا الصعاب، وخلال ذلك عبّرا عما يدور في الذهن، وأعادا تقييم نفسيهما، لكنهما لا يملكان الشجاعة لاجتياز العتبة ودخول الحجرة التي جازفا بحياتهما من أجل الوصول إليها. عند المستوى التراجيدي، الأعمق، من الوعي يدركان أنهما كائنان ناقصان. لقد شعرا بالرعب حين نظرا داخل نفسيهما.غير أنهما، في النهاية، يفتقران الى الشجاعة الروحية للإيمان بذواتهما.

إن وصول زوجة الدليل إلى الحانة التي يرتاح فيها الثلاثة، بعد عودتهم من الرحلة، يضع الكاتب والعالم في مواجهة ظاهرة محيرة ومبهمة بالنسبة لهما.ها هنا امرأة عانت الكثير وتحملت ما لا يحصى من الآلام والمحن بسبب زوجها، والد طفلتهما المريضة، مع ذلك فإنها تستمر في منحه الحب بنفس الدرجة من الإخلاص والتفاني والسخاء وإنكار الذات التي كانت تمنحه له في شبابها.هذا الحب هو المعجزة الأخيرة التي يمكن إطلاقها ضد عدم الإيمان والشكوكية التهكمية والخواء الأخلاقي الذي يسمم العالم الحديث حيث الكاتب والعالِم مجرد ضحايا.

ربما في هذا الفيلم، stalker، شعرت للمرة الأولى بالحاجة لأن أشير بوضوح وعلى نحو لا لبس فيه الى القيمة الأسمى التي بها يعيش الإنسان وروحه لا تريد.

فيلم “سولاريس”كان عن أفراد ضائعين في الكون ومجبرين، سواء أحبوا ذلك أم كرهوا، على إحراز وفهم جزء آخر من المعرفة.إن بحث الإنسان اللانهائي عن المعرفة، الموهوبة له بمجانية، هو مصدر توتر شديد، ذلك لأنها تجلب معها القلق الدائم، الأذى والأسى وخيبة الأمل، إذ أن الحقيقة النهائية لا يمكن معرفتها على الإطلاق.فضلا عن ذلك، فقد مُنح الإنسان ضميرا وهذا يعني انه يقاسي العذاب حين تخرق أفعاله القانون الأخلاقي، وبهذا المعنى فان حتى الضمير يشتمل على عنصر التراجيديا. إن خيبة الأمل تلازم الشخصيات في “سولاريس”، والمنفذ الذي وفرناه لها كان وهمياً تماماً.. فالمنفذ يكمن في الأحلام، في فرصة التعرف على جذورهم الخاصة..تلك الجذور التي، إلى الأبد، تربط الإنسان بالأرض التي انجبته.لكن حتى تلك الروابط قد أصبحت غير حقيقية بالنسبة لهم.

حتى في فيلم”المرآة”، الذي هو عن مشاعر إنسانية ثابتة، أبدية، وعميقة..هذه المشاعر كانت مصدر ارتباك وعدم فهم بالنسبة للبطل الذي لم يستطع أن يدرك لماذا هو محكوم بأن يعاني ويتعذب على الدوام بسببها، إن يعاني بسبب حبه وعاطفته.

في فيلم stalker أحاول تقديم بيان كامل مفاده إن الحب الإنساني وحده-على نحو إعجازي وخارق-هو برهان يدحض التوكيد الفظ والمتبلد على انه ليس ثمة أمل للعالم.هذا ما صرنا نؤمن به على نحو لا يقبل الجدل، رغم أننا لا نعود نعرف تماما كيف نحب.

الكاتب في stalker يعكس خيبة العيش في عالم قائم على الضرورة، حيث حتى الصدفة هي نتيجة ضرورة ما والتي تظل وراء نطاق الإدراك.ربما يمضي الكاتب الى المنطقة المحظورة كي يواجه المجهول، كي يثير هذا المجهول دهشته وذهوله.لكنها المرأة، في النهاية، التي تذهله بإخلاصها ونبلها وسموها الإنساني.إذن، هل كل شيء خاضع للمنطق، وهل يمكن فصل كل شيء الى عناصره أو أجزائه الأساسية أي مكوناته..وجدولتها؟

في هذا الفيلم -stalker- أردت أن اظهر ذلك الشيء الإنساني جوهريا، الذي لا يمكن أن يتلاشى أو يتفكك، الذي يتشكل مثل بلور داخل نفس كل منا ويعيّن قيمة وجدارة كل منا.حتى لو انتهت الرحلة ظاهريا بالإخفاق التام، فان كلا من الشخصيات الثلاث قد أحرز شيئا ذا قيمة يتعذر تقديرها:الإيمان.

انه يصبح واعيا لما هو أكثر أهمية من بين الأشياء، وهذا الشيء حي داخل كل فرد.

في stalker لم أعد مهتما بالحبكة الفانتازية مثلما كنت في فيلم”سولاريس”.

هناك، للأسف، عنصر الخيال العلمي كان جليا وبارزا الى حد بعيد، وقد أدى الى إلهاء المتفرج وصرف انتباهه.كان مشوقا تشييد وتركيب الصواريخ والمحطات الفضائية التي تقتضيها رواية ستانيسلاف ليم، لكن يبدو لي الآن أن فكرة الفيلم كان يمكن أن تبرز بحيوية وعلى نحو واضح أكثر لو أننا حاولنا الاستغناء عن كل تلك الأشياء.أظن أن الواقع الذي إليه ينجذب الفنان، كوسيلة لقول ما يتعين عليه قوله عن العالم، يجب أن يكون حقيقيا بذاته، أي مفهوما من قبل الفرد، ومألوفاً لديه منذ طفولته.وكلما كان الفيلم حقيقيا، بذلك المعنى، كان بيان المبدع أكثر إقناعا.

في فيلم stalker، الموقع الأساسي فقط يمكن أن يعتبر فانتازيا.كان ذلك ملائما لأنه ساعد في رسم التناقض الأخلاقي المحوري للفيلم على نحو صارخ.لكن بالنسبة لما يحدث فعلا للشخصيات، فليس هناك أي عنصر من الفنتازيا.الفيلم يهدف الى جعل الجمهور يشعر أن كل شيء يحدث هنا والآن، وأن المنطقة المحظورة قريبة منا.

غالبا ما يسألني الناس عن مغزى وجود المنطقة المحظورة، وما ترمز إليه، ويشرعون في تقديم التخمينات الطائشة حول الموضوع.أسئلة كهذه تسبب لي حالة من الغضب والقنوط. المنطقة المحظورة لا ترمز الى أي شيء. في أفلامي الأشياء لا تقدم نفسها كرموز. المنطقة مجرد منطقة فحسب، أنها حياة، وفيما يتقدم الإنسان عبر المنطقة فانه قد يخفق أو قد يوفق. نجاحه أو إخفاقه يتوقف على مدى احترامه لذاته، وقدرته على التمييز بين ما هو مهم وما هو مجرد عابر وزائل.

مهمتي أن أحث الآخرين على التفكير بشأن ما هو إنساني وسرمدي جوهريا في نفس كل فرد، والذي غالبا ما يتم التغاضي عنه، حتى لو إن مصيره يقع تحت سيطرته أو تصرفه.

الفرد مشغول جدا بمطاردة الأشباح و الانحناء خضوعا للأوثان.في النهاية، كل شيء يمكن اختزاله الى عنصر بسيط والذي يمكن للفرد أن يعتمد عليه في وجوده:القدرة على الحب.هذا العنصر يمكن أن ينمو داخل الروح ليصبح العامل الأسمى الذي يحدد معنى حياة الفرد. وظيفتي أن اجعل كل من يشاهد أفلامي يعي حاجته الى الحب والى منح هذا الحب، وان يدرك بأن الجمال يستدعيه.

 

الفصل الثامن:

ما بعد نوستالجيا

 

“نوستالجيا” هو فيلمي الأول الذي حققته خارج بلادي..روسيا، وكان ذلك طبعا بموافقة رسمية من المسؤولين عن شؤون السينما هناك..هذه الموافقة التي اعتبرتها في ذلك الوقت محتمة الحدوث بما أنني كنت احقق الفيلم لمواطني بلدي، وعلى افتراض انه سوف يعرض في روسيا.مع ذلك فان الأحداث اللاحقة برهنت مرة أخرى الى اي مدى أهدافي وأفلامي هي غريبة أو مخالفة بالنسبة لبعض الرسميين القائمين على شؤون السينما في روسيا.

لقد أردت أن احقق فيلما عن النوستالجيا الروسية، عن الحنين الروسي الى الوطن، عن تلك الحالة الذهنية الخاصة بأمتنا والتي تؤثر في الروس البعيدين عن وطنهم.كان ذلك بالنسبة لي واجباً وطنيا.أردت للفيلم أن يكون عن الارتباط القدري للروس بجذورهم الوطنية، بماضيهم وثقافتهم، بأماكنهم الأصلية وعائلاتهم وأصدقائهم..الارتباط الذي يحملونه معهم طوال حياتهم،أينما حلوا، وأينما زج بهم القدر. الروس نادرا ما يكونون قادرين على التكيف بسهولة، والانسجام مع طريقة جديدة في الحياة.إن تاريخ الهجرة الروسية كله يؤكد ما تقوله النظرة الغربية بأن “الروس مهاجرون سيئون”أي أقل الشعوب تآلفا مع الغربة.الجميع يعرف عن عدم قابليتهم المأساوي للتكيف والإنسجام، وفشل جهودهم في تبني أسلوب حياة مغاير.كيف كان بوسعي أن أتخيل، فيما كنت احقق”نوستالجيا، إن الإحساس الخانق بالشوق، الذي يملأ فضاء الشاشة، سوف يصبح قدري حتى بقية حياتي؟..فمن الآن وحتى آخر أيام عمري، سوف احمل هذا المرض الموجع-الحنين-داخل نفسي.

على الرغم من تنفيذ الفيلم كله في ايطاليا، إلا انه كان روسياً حتى النخاع، ومن جميع النواحي:أخلاقيا ومعنويا وسياسيا وعاطفيا.انه عن شخص روسي يسافر الى ايطاليا في زيارة غير محددة الأمد لإنجاز مهمة معينة، وانطباعاته عن ذلك البلد.غير أنني لم أكن أهدف الى تقديم بيان سينمائي عن جمال ايطاليا الذي يذهل السياح كما في الصور المرسلة إلى جميع أنحاء العالم في شكل بطاقات سياحية منتجة على نطاق واسع.انه عن هذا الروسي الذي تسبب له تلك الانطباعات المحتشدة حوله إرباكا وتجعله يفقد الإحساس بالمكان والزمان.وفي الوقت نفسه، الفيلم هو عن عجزه المأساوي عن مشاطرة هذه الانطباعات مع أقرب الناس إليه، واستحالة توحيد تجربته الجديدة مع الماضي الذي يكبله منذ ولادته. انا نفسي مررت بتجربة مماثلة حين كنت بعيدا عن الوطن لفترة من الوقت: إلتقائي بعالم آخر وثقافة أخرى، وبدايات الارتباط بها قد أحدث لدي تهيجا لا يمكن إدراكه بسهولة لكنه غير قابل للشفاء..

انه بالأحرى أشبه بحب يُبذل بلا جزاء، أشبه بأمارة يأس من محاولة الإمساك بما هو لا نهائي، أو توحيد ما لا يمكن توحيده. انه تذكير بحقيقة تجربتنا على الأرض التي هي محدودة ومبتورة.. مثل إشارة تحذير بالقيود التي تقرر سلفا حياتك، والمفروضة ليس من قبل الظروف الخارجية (التي يسهل التعامل معها) لكن من قبل “المحرمات” القاطنة في داخلك.

كنت دائما مستغرقا في الإعجاب بأولئك الفنانين اليابانيين في القرون الوسطى الذين كانوا يعملون في بلاط أسيادهم حتى يحرزوا الاعتراف والتقدير فيمضون لإنشاء مدرسة خاصة بهم ثم، وهم في أوج شهرتهم، يتخلون عن كل شيء، يغيرون حيواتهم كلها بالانتقال الى مكان جديد ليباشروا العمل من جديد باسم مختلف و بأسلوب مغاير. ويقال أن بعضهم قد عاش خمس حيوات متميزة أثناء كينونتهم الدنيوية.. وهي ظاهرة كانت دائما تحرك مخيلتي، ربما لأنني أنا نفسي غير قادر تماما على القيام بأي تغيير في منطق حياتي أو ميولي الإنسانية و الفنية. انه كما لو أن شخصا قد وهبني هذه الميول نهائيا وعلى نحو حاسم.

جورشاكوف بطل “نوستالجيا”، شاعر يذهب الى ايطاليا لجمع مادة عن الموسيقار الروسي ماكسميليان بريوزوفسكي (18)، الذي كان عبدا مملوكا لإقطاعي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وقد أظهر موهبة موسيقية دفعت بسيده الى ابتعاثه الى ايطاليا لدراسة الموسيقى، وهناك بقي لسنوات طويلة قدم خلالها حفلات موسيقية ناجحة وأحرز الإعجاب و الإطراء. لكنه في النهاية، مدفوعا بلا شك من قبل تلك النوستالجيا الروسية التي لا مفر منها، قرر العودة الى روسيا، الى العبودية، حيث – بعد فترة قصيرة- انتحر شنقا.

إن قصة هذا الموسيقار موضوعة بالطبع في الفيلم على نحو مقصود كنوع من إعادة صياغة لحالة جورشاكوف الخاصة، الحالة التي فيها يعي بشكل حاد وضعه كشخص غريب، لا منتم، ولا يستطيع إلا أن يراقب حياة الآخرين عن بُعد، مسحوقا بذكريات ماضيه، بوجوه أحبائه الأعزاء، بأصوات وروائح بيته وموطنه، هذه الأشياء التي تهاجم ذاكرته بعنف.

عندما شاهدت، للمرة الأولى، المادة المصورة للفيلم، شعرت بالإجفال عندما وجدت بأنها تعبر عن كآبة غير مريحة. المادة كانت متجانسة كليا، سواء في المزاج أو في الحالة الذهنية. هذا لم يكن الشيء الذي قررت إنجازه. ما كان فريدا و ذا دلالة بشأن الظاهرة أمامي هو واقع أن -بصرف النظر عن نواياي ومقاصدي النظرية الخاصة – الكاميرا كانت تطيع في المقام الأول حالتي الداخلية أثناء التصوير: كنت مرهقا بسبب بعدي عن عائلتي وعن أسلوب الحياة التي اعتدت عليها، وبسبب العمل ضمن شروط و أوضاع غير مألوفة لدي تماما، وحتى بسبب استخدام لغة أجنبية. كنت مذهولا ومبتهجا في آن، لأن ما كان مطبوعا على الفيلم، وتكشّف لي الآن وللمرة الأولى في ظلمة السينما، برهن أن أفكاري بشأن قدرة الفن السينمائي على أن يصبح رحما للنفس المستقلة، وأن يوصل التجربة الإنسانية، لم تكن مجرد ثمرة تأمل عديم الجدوى بل ثمرة الواقع، والذي ينبسط أمام أعيننا على نحو لا جدال فيه.

في الحقيقة، لم أكن مهتما بتطور الحبكة وبسلسلة الأحداث.. مع كل فيلم أشعر بأن حاجتي اليها تقل أكثر فأكثر. كنت دائما مهتما بعالم الفرد الداخلي. والأكثر طبيعية بالنسبة لي أن أقوم برحلة في السيكولوجيا التي تشكل موقف البطل من الحياة، و في التقاليد الأدبية و الثقافية التي هي أساس عالمه الروحي.إني أدرك تماما بأن، من وجهة نظر تجارية، سيكون مفيدا أكثر الانتقال من مكان الى آخر، وتقديم لقطات مأخوذة من زاوية متقنة الى أخرى، وتوظيف مناظر طبيعية ساحرة ومواقع داخلية مؤثرة. لكن بالنسبة لما أحاول أساسا أن أفعله، فإن المؤثرات أو المظاهر الخارجية تؤدي ببساطة الى إقصاء و تضبيب الهدف الذي انشده. إني مهتم بالإنسان لأنه يحتوي الكون داخل ذاته. و من أجل إيجاد تعبير للفكرة، لمعنى الحياة الإنسانية، فانه ليس ثمة حاجة لبسط لوحة مزدحمة بالحوادث خلف الإنسان.

ربما سيكون زائدا و غير ضروري الإشارة الى أن السينما كفيلم مغامرات على الطريقة الأمريكية لم تثر على الإطلاق، ومن البداية، أي اهتمام لدي. وآخر شئ أرغب في فعله هو استنباط فتنة وجاذبية. من “طفولة إيفان” الى “stalker”، كنت دائما أحاول أن أتجنب الحركة الخارجية، وقد حاولت أن أركز الحدث ضمن الوحدات الكلاسيكية. من هذه الناحية، حتى بناء”أندريه روبليوف” يستوقفني اليوم بوصفه مفككا وغير متماسك.

جوهريا، أردت لفيلم “نوستالجيا” أن يكون حرا من كل ما هو غير متصل بالموضوع، وما هو عرضي وتصادفي، والذي يعترض طريق هدفي الرئيسي: تصوير شخص في حالة عزلة عميقة عن العالم و عن ذاته، وغير قادر على إيجاد توازن بين الواقع والتناغم الذي يتوق إليه.. شخص في حالة حنين لا يثيرها بعده عن وطنه فحسب بل أيضاً توقه الشامل لوحدة الوجود الكلية. وأنا لم أكن راضيا عن السيناريو حتى تشكل أخيرا في نوع من الوحدة الميتافيزيقية الكاملة.

ايطاليا تدخل وعي البطل – جورشاكوف- في لحظة قيامه بقطع الصلة بالواقع (ليس بشروط وأوضاع الحياة فحسب، بل الحياة نفسها، التي لم تف أبدا المطالب التي حددها الفرد) وتمتد ايطاليا فوقه في شكل خرائب عظيمة ومهيبة، والتي تبدو كما لو أنها تنبت من اللاشيء. هذه الشظايا من حضارة عالمية وغريبة في آن هي أشبه بنقش على ضريح يبيّن عبث المسعى الإنساني، وهي علامة على أن البشرية قد اختارت طريقا لا يمكن أن يفضي إلا الى الهلاك. يموت جورشاكوف وهو غير قادر أن ينجو من أزمته الروحية، وعاجز عن تقويم هذا الوقت الذي هو –جلي حتى بالنسبة إليه أيضا – متنافر ومضطرب.

شخصية دومينيكو، التي تبدو للوهلة الأولى محيرة الى حد ما، لها تأثير خاص على حالة البطل الذهنية.هذا الرجل الخائف، الذي لا يوفر له المجتمع أية حماية، يجد في نفسه النبالة والقوة الروحية التي تجعله يعارض واقعاً يراه مهينا للإنسان.
كان دومينيكو ذات مرة مدرس رياضيات، وهو الآن “اللامنتمي” الذي يسخر من “ضآلته” ويقرر أن يعبر عن رأيه بحرية ومن غير تردد بشأن الحالة المأساوية التي وصل إليها عالم اليوم، مناشدا الناس أن يتخذوا موقفا إزاء ما يحدث.في نظر “الأسوياء” هو مجرد مجنون، لكن جورشاكوف يستجيب الى فكرته-النابعة من معاناة حقيقية-التي ترى أن إنقاذ الناس من جنون الحضارة العصرية لا يجب أن يتم على نحو مستقل وفردي بل بتكاتف الجميع.

بشكل أو بآخر، كل أفلامي تشير الى أن الناس ليسوا وحيدين ومهجورين في كون خال، إنما هم متصلون بالماضي والمستقبل بخيوط لا تحصى، وان كل فرد، فيما يعيش حياته الخاصة، يعقد رباطا مع العالم بأسره، ومع تاريخ البشرية كله..لكن الأمل بأن كل حياة منفصلة، وكل نشاط إنساني، له معنى جوهري يجعل مسؤولية الفرد، تجاه المسلك الإجمالي للحياة الإنسانية، أكبر على نحو لا يمكن التنبؤ به.

في عالم حيث يوجد تهديد حقيقي من حرب قادرة على إبادة الجنس البشري، حيث العلل الاجتماعية توجد على كفة ميزان تتمايل بشدة، حيث المعاناة الإنسانية تستصرخ السماء، لابد من العثور على سبيل للفرد كي يتصل بالآخر.هذا هو الواجب المقدس للجنس البشري تجاه مستقبلهم، والواجب الشخصي لكل فرد.إن جورشاكوف يصبح مرتبطا بدومينيكو لأنه يشعر بحاجة عميقة الى حمايته من النظرة العامة للأغلبية العمياء، القانعة والفاقدة للحس، والذي هو –دومينيكو-بالنسبة إليها مجرد مجنون غريب.مع ذلك فان جورشاكوف عاجز عن إنقاذ دومينيكو من الدور الذي اختاره لنفسه بعناد، دون أن يطلب من الحياة شيئا في المقابل.

جورشاكوف يتفاجأ بتطرف دومينيكو الطفولي، ذلك لأن هو نفسه، مثل سائر البالغين، مذنب لقيامه بسلسلة من التسويات والتنازلات.غير أن دومينيكو يعقد العزم على حرق نفسه حياً في رجاء جنوني بأن هذا الفعل الأخير، العلني والفظيع، سوف يجعل الناس يدركون بأنه لم يهتم بنفسه قدر اهتمامه بهم وقلقه عليهم، ويجعلهم يصغون الى صرخة التحذير الأخيرة.جورشاكوف يتأثر بنبل واستقامة هذا الرجل وأفعاله. واذا كان جورشاكوف يظهر مدى اكتراثه بنواقص وشوائب العالم فحسب، فان دومينيكو يأخذ على عاتقه فعل شيء إزاء هذه الشوائب، والتزامه يكون كاملا: الفعل النهائي يوضح بأن ليس هناك أبداً أي عنصر من التجريد في إحساس دومينيكو بالمسؤولية.وعند المقارنة، نجد أن عذابات جورشاكوف بسبب افتقاره الى الاستقرار والجلد، لا يمكن إلا أن تبدو عادية وبسيطة بالقياس الى عذابات دومينيكو.

سبق أن قلت بأنني شعرت بالإجفال حين اكتشفت الى أي مدى من الصحة والدقة قد انتقلت حالتي النفسية الى الشاشة أثناء تحقيق الفيلم.إحساس بالحرمان عميق جدا، وإنهاك متزايد، بعيدا عن الوطن والأحباء، يملأ كل لحظة من الوجود.ولهذا الإدراك الماكر والعنيد باعتمادك على ماضيك مثل مرض يصير احتماله أكثر صعوبة من أي وقت مضى، أعطيت اسم”نوستالجيا”..مع ذلك ينبغي أن انصح القارئ بأن من السذاجة والتبسيط مطابقة مبدع العمل مع بطله واعتبارهما شخصا واحدا. نحن بالطبع نستخدم انطباعاتنا المباشرة عن الحياة في أعمالنا بما أنها، للأسف، الانطباعات الوحيدة التي تحت تصرفنا.لكن حتى عندما نستعير حالات وحبكات على نحو صريح من حياتنا الخاصة فإن هذا لا يعني أن مبدع العمل يمكن أن يكون الشخص نفسه الذي يظهر في عمله، وهذا ربما يسبب خيبة أمل للبعض عندما يدركون بأن تجربة الفنان الغنائية أو العاطفية نادرا ما تتماثل مع ما يفعله حقا في الحياة الواقعية.

إن المبدأ الشعري للفنان ينبثق من التأثير الذي يحدثه فيه الواقع المحيط، ويمكن لهذا المبدأ أن يرتفع فوق ذلك الواقع، ويرتاب فيه ويستجوبه، وينهمك في صراع مرير معه..ليس فقط مع الواقع الذي يقع خارجه بل أيضا مع الواقع الذي يوجد بداخله.

العديد من النقاد يرون أن دوستويفسكي، على سبيل المثال، اكتشف أكثر من هاوية غائرة داخل ذاته، وأن شخصياته الورعة والشريرة هي إسقاطات لنفسه على حد سواء، غير أن ولا واحدة من هذه الشخصيات مماثلة لنفسه تماما، فكل شخصية تمثل صورة مصغرة لما يراه ويعتقده من الحياة، لكن ولا واحدة يمكن أن يقال عنها بأنها تجسد التناغم الكلي لذاتيته المميزة.

في فيلم “نوستالجيا”أردت أن أتابع ثيمة الرجل”الضعيف”الذي هو ليس محاربا فيما يتصل بخاصياته الخارجية، لكن مع ذلك أراه كمنتصر في هذه الحياة.الدليل في فيلم stalker يلقي مونولوجا دفاعا عن ذلك الضعف الذي هو القيمة الحقيقية وأمل الحياة.كنت دائما أميل الى أولئك الذين لا يستطيعون تكييف أنفسهم مع الحياة على نحو واقعي وعملي.في أفلامي لا يوجد أبدا أبطال (ربما باستثناء إيفان) لكن هناك دائما أفراد تكمن قوتهم في قناعتهم الروحية وإيمانهم الراسخ، والذين يأخذون على عاتقهم المسؤولية نيابة عن الآخرين (وهذا بالطبع يشمل إيفان).مثل هؤلاء الأفراد هم غالبا أشبه بالأطفال لكن فقط بدوافع أناس بالغين.من وجهة نظر الفطرة السليمة فإن وضعهم غير واقعي وأيضا غير أناني.

الراهب، روبليوف، كان ينظر الى العالم بعيني طفل محروم من الحماية، ويبشر بالحب والخير وعدم مقاومة الشر.ومع انه وجد نفسه يشهد أكثر ضروب العنف وحشية وتدميرا، العنف الذي يبدو متحكما في العالم ويفضي به الى خيبة أمل مريرة، إلا انه يعود في النهاية الى تلك الحقيقة ذاتها، المكتشفة من جديد، بشأن قيمة الخير والنبل الإنساني، وقيمة الحب المخلص الذي لا يفكر بالمخاطر والخسائر، الهبة الحقيقية التي يستطيع البشر أن يمنحوها لبعضهم البعض.

كيفلن (بطل سولاريس) الذي يبدو في البداية شخصية محدودة، ضيقة الأفق، ينتهي به الأمر الى أن يصبح مسكونا بـ “محرمات”(تابوات)إنسانية عميقة تجعله عضويا غير قادر على عصيان صوت ضميره، وعلى تجنب عبء المسؤولية الخطير تجاه حياته الخاصة وحيوات الآخرين.

بطل “المرآة”رجل ضعيف، أناني، غير قادر على أن يحب حتى أولئك الأقرب والأعز الى نفسه، الذين لا يتطلعون الى شيء مقابل الحب، ولهذا السبب يشعر بعذاب النفس في أيامه الأخيرة، حيث يدرك بأنه لا يملك أي وسيلة لإيفاء الدين الذي يدين به للحياة.

الدليل في “stalker”، غريب الأطوار والهستيري أحيانا، هو أيضا غير قابل للفساد، ويصرح على نحو بيّن لا لبس فيه بالتزامه الروحي إزاء عالم تنمو فيه الانتهازية مثل ورم خبيث.

ومثل الدليل يستنبط دومينيكو (في نوستالجيا)استجابته الخاصة ويختار طريقته الخاصة في الموت شهيدا، مفضلا ذلك على السعي وراء الامتياز المادي، الدنيوي، والشخصي في محاولة -بواسطة جهوده وبواسطة مثال تضحيته الخاصة- لسد الطريق الذي نحوه تتدافع البشرية بجنون متجهة الى هلاكها. لا شيء أكثر أهمية من الضمير الذي يواظب على السهر والحراسة و يمنع الإنسان من انتزاع ما يرغب من الحياة ثم يستلقي ممتلئا وقانعا. تقليديا، أفضل النخبة المثقفة الروسية كان الضمير هو الذي يرشدها، وكانت غير قادرة على الشعور بالرضا الذاتي، تحركها الشفقة على المحرومين في هذا العالم، ومكرسة نفسها للبحث عن الإيمان، عن المثال، عن الخير.. وكل هذه الأشياء رغبت أن أؤكدها في شخصية جورشاكوف.

إني أنجذب الى الإنسان الراغب في خدمة قضية أسمى، والذي هو غير مستعد-أو بالاحرى غير قادر- على المشاركة في المعتقدات المسلّم بها عموما بشأن “أخلاقية ” دنيوية.. الإنسان الذي يدرك أن معنى الوجود يكمن قبل كل شيء في الصراع ضد الشر الذي بداخل ذواتنا، بحيث أنه أثناء حياته قد يتقدم خطوة واحدة على الأقل نحو الكمال الروحي، ذلك لأن الخيار الوحيد لذلك الاتجاه هو، للأسف، ذلك الذي يفضي الى الانحطاط والتفسخ الروحي. إن وجودنا اليومي والضغط العام للتكيف والامتثال يجعل من السهل تماما اختيار هذا الطريق.

الشخصية الرئيسية في فيلمي الأخير “القربان” هو أيضا رجل ضعيف بالمعنى المبتذل والشائع للكلمة.انه ليس بطلا بل هو مفكر ورجل صادق ومستقيم، والذي يتضح في النهاية أنه قادر على التضحية باسم هدف أسمى. انه يرتفع الى مستوى الأحداث بدون محاولة فصل مسؤوليته أو محاولة إرغام أي شخص آخر على تحمل ذلك. انه في خطر أن لا يكون مفهوما أو أن يساء فهمه، ذلك لأن نشاطه الحاسم هائل الى حد أن ذلك الفعل بالنسبة لأولئك المحيطين به لا يمكن إلا أن يبدو هداما على نحو فاجع: ذلك هو التعارض التراجيدي لدوره. مع ذلك هو يقوم بالخطوة الحاسمة، وبتلك الوسيلة يخرق قواعد السلوك “السوي” ويكشف نفسه لتهمة ارتكاب الحماقة لأنه واع لصلته بالواقع الجوهري، بما يمكن أن يسمى قدر العالم. في كل هذا هو فحسب يطيع مهمته كما يحسها في قلبه. انه ليس سيد مصيره بل خادمه. ربما من خلال الجهود الفردية، مثل جهده الذي لا يلاحظه أو يفهمه أحد، يكون تناغم العالم مصونا.

الضعف البشري الذي أجده جذابا لا يسمح بتوسعية فردية أو بتوكيد الوجود الشخصي على حساب الآخرين أو الحياة نفسها، ولا الإلحاح على تسخير شخص آخر لتحقيق أهداف و متطلبات الفرد الخاصة. في الواقع أنا مفتون بقدرة الكائن البشري على الوقوف ضد القوى التي تدفع أشباهه نحو التنافس العنيف الأحمق.

أيضا هو أساس ولعي ب”هاملت”، الذي آمل أن أحقق عنه فيلما في المستقبل القريب.

هذه المسرحية التي تعد من أعظم المسرحيات تظهر معضلة الإنسان الأزلية، الذي هو ذو منزلة أخلاقية أرفع من نظرائه لكن الذي أفعاله بالضرورة تؤثر في، وتتأثر بالعالم الحقيقي الوضيع. انه كما لو أن إنسان المستقبل قد فُرض عليه أن يعيش في الماضي. ومأساة هاملت، كما أراها، لا تكمن في موته بل في واقع أنه قبل أن يموت يكون مضطرا لأن يتخلى عن بحثه الخاص عن الكمال و يصبح مجرد قاتل عادي. بمقتضى ذلك، لا يمكن للموت أن يكون مخرجا مرحبا به و إلا فسوف يتعين عليه أن يقتل نفسه.

فيما يتعلق بفيلمي التالي، سوف أصبو الى صدقٍ وإقناعٍ أكبر في كل لقطة، مستخدما الانطباعات المباشرة التي خلقتها الطبيعة والتي منها يكون الزمن قد خلف أثره الخاص. الطبيعة توجد في السينما بالدقة و الأمانة التي يتسم بها المذهب الطبيعي. وكلما كانت الدقة والأمانة أكبر صرنا نثق أكثر في الطبيعة كما نشاهدها في الكادر، وفي الوقت نفسه تكون الصورة المبتدعة أكثر جمالا.

مؤخرا وجدت نفسي على نحو متكرر أخاطب الجمهور، وقد لاحظت بأنني كلما صرحت بأن أفلامي تخلو من الرموز أو المجازات، يعبّر الحاضرون عن شكوكهم ويصرون على سؤالي، المرة تلو الأخرى، عما يعنيه المطر – مثلا- في أفلامي، عن مغزاه ودلالته، ولماذا يظهر في كل أفلامي، ولماذا الصور المتكررة للريح والنار والماء ؟ حقيقة أنا لا أعرف كيف أتعامل مع مثل هذه الأسئلة.

المطر، قبل كل شيء، عنصر نموذجي في المنظر الطبيعي الذي نشأت فيه. في روسيا، تجد تلك الأمطار المديدة، الكئيبة، المتواصلة. من جهة أخرى، أنا أحب الطبيعة ولا أحب المدن الكبيرة، وأشعر بسعادة بالغة حين أكون بعيدا عن أدوات الحضارة الحديثة. هذه السعادة وهذه الروعة كنت أشعرها أيضا في روسيا عندما كنت أقيم في منزلي الريفي الذي يبعد عن موسكو 300 كيلومتراً.
المطر، النار، الماء، الثلج، الندى، الريح.. كلها جزء من المحيط المادي الذي فيه نحن نقطن ونوجد.. بل أنها جزء من حقيقة حياتنا. بالتالي أشعر بالحيرة والارتباك حين يقال لي بأن الناس لا يستطيعون الاستمتاع بالنظر الى الطبيعة عندما يعاد إنتاجها بحب على الشاشة، إنما يرهقون أنفسهم بالبحث عن معنى خفي ومستور يعتقدون بأنه لا بد أن يكون متضمنا. بالطبع، يمكن النظر الى المطر كمجرد طقس سيء، غير أنني أستخدمه لخلق محيط جمالي خاص فيه تتشرب حركة الفيلم. لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الطبيعة مصورة في أفلامي بوصفها رمزاً لشيء آخر.

في السينما التجارية، الطبيعة- في الغالب- لا توجد أبدا. إننا لا نرى سوى إضاءة ملائمة ومواقع داخلية لغرض التصوير السريع. كل شخص يتابع الحبكة ولا أحد ينزعج من اصطناعية الموقع أو من الاستخفاف بالتفاصيل والأجواء.عندما تجلب الشاشة العالم الحقيقي الى الجمهور، العالم كما هو في الواقع، بحيث يستطيع أن يراه في عمقه ومن جميع جوانبه، أن يستحضر “رائحته”الحقيقية وان يشعر بنداوته أو جفافه على بشرته..عندما تفعل الشاشة ذلك ولا يستجيب المتفرج فإن هذا يعني أن المتفرج قد فقد القدرة على التسليم بالانطباع الجمالي العاطفي المباشر، ويبدأ فورا في كبح نفسه ويسأل:لماذا ؟لأي سبب أو غرض؟ .

الإجابة هي أنني أريد أن اخلق عالمي الخاص على الشاشة، في شكله المثالي والأكثر كمالا، كما أراه وأحسه.إني لا أحاول أن أتصرف بحياء مع جمهوري، أو أن اخفي بعض نواياي السرية:إني أعيد خلق عالمي بتلك التفاصيل التي تبدو لي الأكثر كمالا ودقة للتعبير عن المعنى المراوغ لوجودنا.

دعوني أوضح ما أعنيه بالإشارة الى بيرجمان: في فيلمه”النبع البكر”كنت مأخوذا دائما بتلك اللقطة للبطلة التي هي على وشك الموت، الفتاة التي تعرضت الى الاغتصاب بوحشية وبشاعة.شمس الربيع تلتمع من خلال الأشجار، وعبر الأغصان نرى وجهها ربما هي تحتضر أو قد تكون ميتة في ذلك الحين، لكن على أية حال، هي بوضوح لا تعود تشعر بالألم..نذير شر يبدو متدليا في الجو، معلقا مثل صوت ما..كل شيء يبدو جليا، مع ذلك نحن نشعر بثغرة..ثمة شيء مفقود..الثلج يبدأ في التساقط، ثلج ربيعي غريب.. وهذا ما كنا نحتاجه لرفع مشاعرنا الى ضرب من الاكتمال والتحقق: إننا نلهث جامدين.الثلج يعلق بأهدابها ويمكث هناك. مرة أخرى، الزمن يترك آثاره في اللقطة .. لكن كيف، وبأي حق، يمكن للمرء أن يتحدث عن معنى ذلك الثلج المتساقط، حتى لو ضمن امتداد وإيقاع اللقطة يكون هو الشئ الذي يرفع إدراكنا العاطفي الى الذروة ؟ بالطبع لا يستطيع المرء أن يتحدث عن ذلك.كل ما نعرفه أن هذا المشهد هو الشكل الذي وجده الفنان لتوصيل ما حدث بدقة. مهما يكن السبب فلا يجب الخلط بين الغرض الفني والايديولوجيا، والا فنحن سوف نفقد الوسيلة لإدراك الفن على نحو مباشر ودقيق.

يمكنني أن أسلّم باحتواء اللقطة الختامية في فيلم”نوستالجيا”على عنصر المجاز، عندما قدمت المنزل الروسي داخل الكاتدرائية الإيطالية.إنها صورة مركبة ذات نكهة أدبية: نموذج لحالة البطل، للانقسام الحادث داخله والذي يمنعه من العيش كما فعل حتى تلك اللحظة. أو ربما، على العكس، هي وحدته الكاملة الجديدة التي فيها تتواجد التلال الإيطالية والريف الروسي معاً على نحو سرمدي لا فكاك منه.انه يعي ذلك كشيء خاص به على نحو متأصل يندمج في كينونته وفي دمه، لكن في الوقت نفسه، الواقع يأمره بأن يفصل هذه الأشياء بالعودة الى روسيا.هكذا يموت جورشاكوف في هذا العالم الجديد حيث تلك الأشياء تتواجد معاً بذاتها وعلى نحو طبيعي، لكنها انقسمت نهائيا والى الأبد في وجودنا الأرضي، النسبي والغريب، لسبب ما أو على يد شخص ما. مع ذلك، حتى لو افتقر المشهد الى النقاء السينمائي فإنني اعتقد انه متحرر من الرمزية المبتذلة.النتيجة تبدو لي أكثر تعقيدا في الشكل والمعنى من أن تكون تعبيرا مجازيا لما يحدث للبطل، ورمزاً لشيء يقع خارجه ولا بد من حل شفرته.
ربما يتهمني البعض بالتناقض فيما أقوله هنا، لكن الأمر متروك للفنان لكي يستنبط أو يخترع القواعد ثم ينقضها ويحطمها.من المستبعد وجود عدة أعمال فنية تجسد بدقة المبادئ الجمالية التي يبشر بها الفنان.عادة، العمل الفني ينمو في تفاعل معقد مع أفكار الفنان النظرية والتي لا يمكن أن يحتويها كليا.فالنسيج الفني هو دائما أغنى من المخطط النظري.

 

الفصل التاسع:

القربان

 

فكرة فيلم “القربان” the sacrifice خطرت لي قبل أن أفكر في “نوستالجيا”بفترة طويلة.الملاحظات والتخطيطات الأولى يعود تاريخها الى الفترة التي عشتها في الاتحاد السوفيتي.نقطة الإرتكاز للفيلم كانت قصة الشخص، ألكسندر، الذي يشفى من مرض مميت بعد أن يقضي ليلة في الفراش مع ساحرة.منذ ذلك الحين، وطوال فترة اشتغالي على السيناريو، كنت مأخوذا على الدوام بفكرة التوازن، القربان، فعل التضحية.لقد أصبح هذا جزءا من وجودي الفعلي، كل ما اختبرته منذ إقامتي في الغرب قد ساعد في جعل هذا الاستغراق أكثر كثافة وحدّة. أستطيع أن أقول بان قناعاتي الأساسية لم تتغير منذ وصولي الى الغرب، إنما تطورت وتعمقت وأصبحت أكثر رسوخا.كانت هناك تغييرات في الفترة الفاصلة.بالتالي، مع تطور خطة الفيلم تدريجيا، اخذ الشكل يتغير لكنني كنت آمل بان تبقى الفكرة المركزية سليمة دون أي مساس بها.

الذي أثارني وحرك مشاعري كان ثيمة التناغم الذي يولد فقط من فعل التضحية، التبعية الثنائية للحب.إنها ليست مسألة حب متبادل:يبدو أن أحدا لا يفهم بأن الحب لا يمكن أن يكون إلا من طرف واحد، وانه لا يوجد غير هذا الحب، واذا اتخذ شكلا آخر فانه ليس حبا. إذا أشتمل على ما هو أقل من العطاء الكلي والمطلق فانه ليس حبا..سيكون عاجزا، عقيما، وعدما.

إني مهتم، قبل كل شيء، بالشخص الذي يكون قادرا على التضحية بنفسه وبأسلوب حياته، بصرف النظر عما إذا كانت تلك التضحية مقدمة باسم قيم روحية أو من أجل شخص آخر أو في سبيل خلاص الفرد نفسه، أو من أجل كل هذه الأمور معا.مثل هذا السلوك، بطبيعته الصرفة، يعوق كل تلك المصالح الأنانية التي تشكل الأساس المنطقي “السوي”للفعل.انه يدحض قوانين النظرة المادية، وغالبا ما يكون منافيا للعقل وغير عملي.مع ذلك –أو في الواقع لهذا السبب بالذات –الإنسان الذي يتصرف بهذه الطريقة يحدث تغييرات جوهرية في حياة الآخرين وفي سياق التاريخ.الحيز الذي يعيش فيه يصبح موضع تباين مميز ونادر مع المفاهيم التجريبية لتجربتنا.النطاق الذي يكون فيه الواقع حاضرا بقوة.

شيئا فشيئا قادني ذلك الوعي الى تعزيز رغبتي في تحقيق فيلم عن رجل يتحول من الاتكال على الآخرين الى الاستقلالية، والذي يرى بأن الحب عبودية وحرية مطلقة في آن.وكلما أدركت بوضوح أكثر طابع المادية على وجه كوكبنا (بصرف النظر عما إذا كنت أرصد ذلك في الغرب أو الشرق)، وصادفت أفراداً تعساء، ورأيت ضحايا الاضطرابات الذهنية المتسمة باختلال الصلة بالواقع أو عدم الرغبة في فهم سبب فقدان الحياة لكل بهجة وكل قيمة، ولماذا هي أصبحت قمعية وجائرة.. كلما كان ذلك ازداد إحساسي بالالتزام بهذا الفيلم بوصفه الشيء الأكثر أهمية في حياتي. ويبدو لي بأن الفرد اليوم يقف في مفترق الطرق مواجها هذا الخيار: إما أن يمارس حياة مستهلك أعمى خاضع لزحف لا سبيل الى تهدئته تقوم به تكنولوجيا حديثة، وسيل لا نهائي من السلع المادية، أو أن يبحث عن طريق سوف يفضي به الى المسؤولية الروحية، والذي في النهاية قد لا يعني خلاصه الشخصي فحسب لكن أيضا إنقاذ المجتمع ككل. بمعنى آخر، التوجه الى الله يستدعي من الفرد أن يحل هذه المعضلة لنفسه، فهو وحده الذي يستطيع أن يكتشف حياته الروحية السليمة. وحل ذلك ربما يقربه من الحالة التي فيها يقدر أن يكون مسؤولا عن المجتمع. تلك هي الخطوة التي تصبح تضحية، بالمعنى المسيحي للتضحية بالنفس.

مرة أخرى يتم تذكيرنا بأن حياتنا هنا على الأرض خُلقت من أجل أن نكون سعداء، ولا شيء آخر أكثر أهمية من السعادة للإنسان. مع أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا تعين على المرء أن يعدّل معنى كلمة السعادة، والذي هو مستحيل، فلا في الغرب و لا في الشرق (دون أن أشير الى الشرق الأقصى) سوف يؤخذ الصوت المغاير بجدية من قبل الأكثرية المادية.

إني أفترض بأن الإنسان العصري، في أغلب الأحوال، ليس مهيأ لإنكار ذاته ومصالحه من أجل أناس آخرين أو باسم ما هو أعظم وما هو أسمى. هو عن طيب خاطر سوف يقايض حياته الخاصة بكينونة إنسان آلي.

أنا أدرك بأن فكرة التضحية، المثال المسيحي لحب الجار، لا تتمتع بأي شعبية، و أن أحدا لا يطلب منا التضحية بالنفس، فهذا يعتبر مثاليا وغير عملي. لكن نتائج أسلوبنا في الحياة، نتائج سلوكنا، هي جلية تماما: تآكل الشخصية الفردية على يد الأنانية والمصالح الذاتية العلنية، انحلال الروابط الإنسانية نحو علاقات خالية من المعنى بين الجماعات البشرية. ومع ذلك فإن الأكثر إرعابا هو فقدان كل إمكانية للعودة الى ذلك الشكل الأرقى من أشكال الحياة الروحية التي وحدها تكون جديرة للجنس البشري، و التي تمثل الأمل الوحيد للإنسان في الخلاص. المثال سوف يوضح ما أعنيه بشأن الأهمية الرئيسية المتفقة مع المصالح المادية. الجوع الجسماني يمكن أن يكون مخففا ببساطة تامة بواسطة المال. اليوم نحن ننزع الى الاستخدام المبسط للصيغة الماركسية ذاتها التي تقول أن المال = البضائع، وذلك في محاولة منا للهروب من الحرمان العقلي. عندما نشعر بأعراض يتعذر تفسيرها للحصر النفسي أو الكآبة أو اليأس فإننا نتوجه فورا ومن غير إبطاء الى الخدمات التي يقدمها الطبيب النفساني أو، وهذا أفضل، العالم الخبير في شؤون الجنس، الذي اضطلع بدور كاهن الاعتراف، والذي نحن نظن بأنه يسكّن أذهاننا ويهدئ أمزجتنا ويعيدنا الى الحالة السوية.. وباطمئنان ندفع له في كل زيارة وبالسعر الذي يحدده. وعندما نشعر بالحاجة الى الحب فإننا نمضي الى أحد بيوت الدعارة، ومرة أخرى ندفع نقدا.

كل هذا يحدث على الرغم من واقع معرفتنا التامة باستحالة شراء الحب أو الطمأنينة أو راحة البال بأي عملة متداولة.

فيلم”القربان”حكاية ذات مغزى أخلاقي. الأحداث الهامة التي يحتويها يمكن تأويلها بأكثر من طريقة واحدة. المعالجة الأولى كانت بعنوان “الساحرة”، وتروي قصة الشفاء المذهل للبطل (ألكسندر) من مرض السرطان، رغم أن طبيب العائلة قد أكدّ له بأن أيامه معدودة. ذات يوم يطرق بابه عراف ويقدم له حلا غريبا، لا معقولا تقريبا، لكي يشفى: أن يذهب الى امرأة يقال أنها ساحرة، وأن يقضي الليل معها. الرجل المريض يذعن لأنه لا يملك مخرجا أو حلاً آخر. عندئذ ، بنعمة من الله ، يبرأ من مرضه . وهذا ما يؤكده الطبيب الذاهل. بعد ذلك، وفي ليلة عاصفة، رهيبة، تظهر الساحرة أمام بيت ألكسندر. ونزولا عند طلبها يهجر، بسعادة بالغة، بيته الفخم، ويتخلى عن كل ما يملك ليمضي معها دون أن يحمل شيئا غير معطف قديم.

في المحصلة النهائية، هذه ليست حكاية عن التضحية فحسب بل أيضا عن كيفية إنقاذ الفرد. وما كنت آمله هو أن يكون شفاء ألكسندر في اتجاه أكثر دلالة ومغزى: إنها ليست فقط مسألة الشفاء من مرض عضوي مميت، بل أيضا مسألة انبعاث روحي متجسد في صورة امرأة.

على نحو غريب وملفت للنظر، بينما كانت صور الفيلم في طور التخيل، وطوال فترة كتابة المسودة الأولى من السيناريو، بدأت الشخصيات في البروز والمثول بوضوح أكثر، والحدث أصبح محددا ومركبا وعلى نحو أكثر ثباتا. لقد كانت عملية مستقلة تقريبا تلك التي دخلت حياتي من تلقاء نفسها. علاوة على ذلك، وبينما كنت لا أزال أحقق “نوستالجيا”، لم أستطع الإفلات من الإحساس بأن الفيلم كان يمارس تأثيرا على حياتي. في سيناريو “نوستالجيا”، جورشاكوف يأتي الى ايطاليا لقضاء فترة قصيرة فقط، غير أنه يصاب بمرض ويموت هناك. بتعبير آخر، هو أخفق في العودة الى روسيا ليس بملء اختياره أو إرادته، إنما بسبب ما يمليه القدر. أنا أيضا لم أتصور بأنني، بعد انتهائي من تصوير “نوستالجيا”، سوف أبقى في ايطاليا.. لكن ، مثل جورشاكوف ، أنا خاضع لمشيئة أعلى . وثمة واقعة محزنة أخرى حدثت لتؤكد هذه الأفكار: وفاة أنا تولي سولونيتسن، الذي أدى الأدوار الرئيسية في كل أفلامي السابقة، والذي كان من المفترض أن يؤدي دور جورشاكوف في “نوستالجيا”ودور ألكسندر في “القربان”.

لقد مات نتيجة المرض (السرطان) الذي شفي منه الكسندر والذي ابتليت به شخصيا بعد عام.

لا أعرف ما يعنيه هذا، اعرف فقط بأنه مخيف جدا، وليس لدي شك بأن شعرية الفيلم سوف تصبح واقعا محددا، وأن الحقيقة التي يلامسها الفيلم سوف تتجسد وسوف تجعل نفسها معلومة -وسواء شئت ذلك أم لم أشأ- سوف تؤثر في حياتي. لا يمكن أن يكون هناك أي مجال لأن يظل الفرد سلبيا ما إن يدرك حقائق تلك الحالة، ذلك لأنها تأتي إليه دون أن يكون مستعدا لها أو راغبا فيها، وهي تطيح بكل أفكاره السابقة بشأن ما يكونه العالم. بالحس الحقيقي هو يكون منقسما على نفسه، واعيا لكونه مسؤولا عن الآخرين، وانه أداة أو وسيط ملزم بأن يعيش ويعمل من أجل الآخرين.

ألكسندر بوشكين كان يرى بأن كل شاعر، كل فنان حقيقي (وأنا دائما أرى نفسي شاعرا أكثر من كوني سينمائيا)هو نبي بصرف النظر عما إذا أراد ذلك أو لم يرد.لقد رأى بوشكين في القدرة على النظر في الزمن والتنبوء بالمستقبل هبة مخيفة، والدور المكلف به سبّب له عذابا شديدا.كان مؤمنا بالخرافات فيما يتصل بالإشارات والعلامات.وعلينا فقط أن نتذكر كيف أن بوشكين في طريقه من بسكوف الى بيترسبورغ، أثناء انتفاضة الديسمبريين، اضطر الى تغيير رأيه والعودة دون أن يكمل سفره لمجرد انه رأى أرنباً برياً يمر عدواً أمامه..فقد كان يؤمن بالاعتقاد الشائع آنذاك من أن هذا نذير شؤم.وفي إحدى قصائده كتب عن العذاب الذي كان لزاماً أن يتحمله نتيجة وعيه بموهبته في قراءة الغيب، وعبء أن يكون شاعرا ونبيا.لقد نسيت كلماته، لكنني استحضرت قصيدته بدلالة جديدة، أشبه تقريبا بسفر الرؤيا.وأشعر أن القلم الذي كتب به هذه الأبيات في 1826 لم يمسكه ألكسندر بوشكين وحده:

مرهقا من جوع الروح

عبر أرض قاحلة ومروعة بحثت عن طريقي،

والساروفيم (19) ذو الأجنحة الستة جاء إليّ

عند الموضع الذي يتقاطع فيه طريقان.

برؤوس أصابع خفيفة كالنوم

هو مس بؤبؤ عينيّ،

والبؤبؤان، اللذان يتنبآن، انفتحا

مثل عينيّ نسر مذعور.

وما إن لامست أصابعه أذنيّ

حتى امتلأتا بهدير ورنين:

سمعت رعدة السماء،

وتحليق جبل الملاك،

ووحوش البحر تتحرك في الأعماق،

وتتكاثر كروم الوادي.

ضغط على فمي،

واقتلع لساني الأثيم،

وكل رياء كلماته الباطلة،

ثم أخذ لسان ثعبان حكيم

وأقحمه في فمي المتجمد

بيده اليمنى القرمزية.

وبسيفه شق صدري

وانتزع قلبي الراجف،

وفي صدري الفاغر وضع

جمرة متقدة باللهب.

مثل جثة تمددتُ في الأرض القاحلة

وسمعت صوت الرب ينادي:

“إنهض، أيها النبي، وانظر واسمع،

عهدت إليك بمشيئتي

فاذهب الى الجانب الآخر من المياه واليابسة

لتلهب بالكلمة قلوب البشر”.

 

فيلم “القربان “، جوهريا، يحمل المسحة ذاتها كما هي أفلامي السابقة لكنه مختلف في التوكيد الشعري، المرسوم عمدا، على التنامي الدرامي.بمعني آخر، أفلامي الأخيرة كانت انطباعيه في البناء والتركيب. الأجزاء- باستثناءات نادرة- كانت مستمدة من الحياة اليومية، وبالتالي تنتقل الى الجمهور في وحدتها الكلية.

بالعمل في فيلمي الأخير، كنت لا أهدف فقط الى تنمية الأجزاء على ضوء تجربتي الخاصة وقوانين البناء الدرامي، بل كنت أهدف أيضا الى بناء الفيلم في وحدة شعرية تترابط فيها جميع الأجزاء على نحو متناسق ومتناغم.. وهذا الأمر شغل مساحة أقل من الاهتمام في أفلامي السابقة.بالنتيجة، البنية الكلية لفيلم “القربان”أصبحت أكثر تعقيدا واتخذت شكل حكاية رمزية، شعرية. في “نوستالجيا” التنامي الدرامي مفتقد تماما، بصرف النظر عن النزاع مع يوجينيا، وتضحية دومينيكو بنفسه، ومحاولات جورشاكوف الثلاث لنقل الشمعة نحو الجانب الآخر من البركة.في “القربان” على نحو مغاير، التعارض بين الشخصيات يوجد حتى نقطة التوهج.كل من دومينيكو وألكسندر راغبان في الفعل، ومصدر رغبتهما في فعل ذلك يكمن في هاجس التغيير الوشيك لديهما.كلاهما يحملان علامة التضحية، وكل منهما يقوم بتقديم نفسه قربانا.الفرق هو أن فعل دومينيكو لا يُحدث نتائج ملموسة.

ألكسندر ممثل هجر خشبة المسرح.الكآبة تسحقه على الدوام.كل شيء يملؤه بالضجر والإرهاق: ضغوطات التغيير، التنافر والتعارض بين أفراد عائلته، إحساسه الغريزي بالتهديد الماثل من جراء الزحف الشرس للتكنولوجيا.لقد ازداد كرها لخواء الكلام البشري، الذي منه يهرب الى الصمت حيث يأمل أن يجد الوئام والطمأنينة.

إن ألكسندر يقدم الى الجمهور إمكانية المشاركة في فعل التضحية وفي التأثير عاطفيا بنتائجها.مجاز الفيلم متساوق مع الحدث ولا يحتاج الى توضيح وشروحات.كنت أعلم أن الفيلم سيكون مفتوحا على عدد من التأويلات، لكنني تجنبت على نحو مقصود الإشارة الى استنتاجات محددة لأنني اعتقد أن على الجمهور التوصل إليها على نحو مستقل.في الواقع كان غرضي إثارة استجابات مختلفة، ومن الطبيعي أن تكون لدي رؤيتي وأفكاري الخاصة بشأن الفيلم، وأظن أن المتفرج سيكون قادرا على تأويل الأحداث التي يصورها الفيلم واكتشاف الخيوط العديدة التي تربط هذه الأحداث إضافة الى تناقضاتها أيضا.

ألكسندر يتوجه الى الله في صلاته.فيما بعد هو يعقد العزم على قطع الصلة بحياته كما عاشها. حتى تلك اللحظة.انه يحرق كل الجسور خلفه ولا يترك طريقا واحدا للعودة .

انه يدمر بيته، يتخلى عن ابنه الذي يحبه أكثر من أي شخص آخر، ثم ينحدر نحو الصمت المطبق كنقد أخير لانحطاط قيمة الكلمات في العالم الحديث.قد يرى بعض الأفراد المتدينين في الأحداث التي تعقب الصلاة ردا من الله على سؤال الإنسان “ما الذي يجب عمله لتجنب الكارثة النووية؟”..اي دعوة الى التوجه الى الله.والذين لديهم إحساس عال بالظواهر الخارقة قد يرون في الالتقاء بالساحرة، ماريا، مشهداً محورياً يفسر كل ما يحدث لاحقا.ولا شك أن آخرين سينظرون الى أحداث الفيلم كلها بوصفها مجرد ثمار مخيلة مريضة بما أن الحرب النووية لا تحدث في الواقع.

ولا واحدة من هذه الاستجابات لها علاقة بالواقع المعروض في الفيلم.المشهدان الأول والأخير – ارواء الشجرة غير المثمرة، والتي هي بالنسبة لي رمز للإيمان-هما الموضعان الرفيعان الذي بينهما تتفتح الأحداث بكثافة نامية. مع نهاية الفيلم، ليس ألكسندر فحسب الذي يبرهن أنه على حق ويثبت أنه قادر على بلوغ مرتبة أسمى واستثنائية، لكن الطبيب أيضا، الذي يظهر أولاً كشخصية بسيطة طافحة بالصحة ومكرسة نفسها لعائلة ألكسندر، يتغير الى حد أنه يقدر أن يشعر ويفهم الجو السام، المليء بالضغينة، الذي ينتشر بين أفراد الأسرة. ويثبت في النهاية أنه قادر ليس فقط على التعبير عن رأيه الخاص لكن أيضا اتخاذ قرار بقطع الصلة بما قد أصبح تدريجيا مكروها بالنسبة إليه، وبالهجرة الى استراليا.

كنتيجة لما يحدث، فإن حميمية جديدة تنشأ بين زوجة ألكسندر غريبة الأطوار والخادمة جوليا. مثل هذه العلاقة الإنسانية هي شيء جديد تماما بالنسبة الى الزوجة التي ظلت طوال الفيلم تقريبا تؤدي وظيفة تراجيدية: إنها تقمع أي شيء يواجهها، أي طموح فردي -حتى لو كان ضئيلا- لتوكيد الهوية الذاتية. وهي تسحق كل شيء وكل شخص، حتى زوجها، دون أن ترغب للحظة في فعل ذلك على نحو مقصود.إنها تعاني من افتقارها الى القيم الروحية، لكن في الوقت ذاته تلك المعاناة هي التي تمنحها الطاقة المدمرة، المتعذر ضبطها أو التحكم فيها، والتي تضاهي في التأثير ذلك الانفجار النووي. إنها أحد أسباب مأساة ألكسندر.

اهتمامها بالآخرين هو في تناسب عكسي مع غرائزها العدوانية ومع شغفها بتوكيد تفوقها على الآخرين. إن قدرتها على إدراك الحقيقة محدودة جدا بحيث لا يسمح لها أن تفهم العالم الآخر، عالم الناس. فضلا عن ذلك، حتى لو أمكن لها أن ترى ذلك العالم فسوف تكون غير قادرة وغير راغبة في دخوله.

ماريا هي نقيض الزوجة: بسيطة، جبانة، غير واثقة من نفسها على الدوام. في بداية الفيلم، أي صداقة بينها وبين سيد المنزل ستكون مستحيلة أو غير واردة. الاختلافات التي تفصل بينهما كبيرة جدا. لكن ذات ليلة هما ينامان معا، وتلك الليلة تصير نقطة التحول في حياة ألكسندر. إزاء الكارثة الوشيكة هو يعي حقيقة الحب الذي تمنحه هذه المرأة البسيطة كهبة من الله، كمبرر لحياته بأسرها. المعجزة التي تباغت الكسندر وتغيره.

لم يكن سهلا أبداً العثور على ممثلين ملائمين للأدوار الثمانية، لكنني أظن أن كل ممثل، ساهم في الفيلم، جاء متماهيا كليا مع شخصيته وأفعالها.
لم تكن لدينا مشاكل تقنية أو غير تقنية أثناء التصوير حتى تلك اللحظة قرب النهاية، حين أخفقت كل جهودنا في تحقيق هدفنا. فجأة، في المشهد الذي يشعل ألكسندر النار في بيته – والذي هو عبارة عن لقطة واحدة تدوم ست دقائق ونصف الدقيقة دون قطع- تعطلت الكاميرا ولم نكتشف ذلك إلا بعد أن اشتعل المبنى بأسره محترقا تماماً فيما كنا نحدق في يأس وخيبة. لم نتمكن من إخماد الحريق ولم نستطع أن نلتقط شيئا.. أربعة شهور ثمينة من العمل الشاق و المكثف من أجل لا شيء.

بعد ذلك، في غضون أيام، تم بناء بيت جديد مطابق تماما للبيت السابق. وكان ذلك يبدو أشبه بالمعجزة، ويبرهن على ما يستطيع الأفراد أن يفعلوه عندما يكونون مدفوعين بالاقتناع والإيمان الراسخ.

و فيما نصور ذلك المشهد للمرة الثانية كنا طافحين بالخوف والتوجس حتى توقفت الكاميرتان معا عن التصوير، الكاميرا التي يحملها مساعد المصور، والأخرى اتى يصور بها سفن نايكفست: القلق على نحو حاد.. سيد الضوء الرائع هذا. عندئذ بدا على الجميع فرح غامر كما لو أطلق سراحهم أخيرا، وبكينا كلنا تقريبا مثل الأطفال، و فيما كنا نتعانق ونحتضن بعضنا فهمت بوضوح الى أي مدى كان الرباط، الذي وحّد فريقنا، حميما وغير قابل للانحلال.

ربما المشاهد الأخرى -التي تظهر الحلم أو الشجرة غير المثمرة- ذات مغزى ودلالة من وجهة نظر سيكولوجية معينة أكثر من المشهد الذي فيه يحرق ألكسندر بيته في إيفاء مروع للنذر.

لكن من البداية كنت قد اتخذت قرارا بتركيز مشاعر الجمهور على سلوك (يبدو للوهلة الأولى عبثيا وبلا معنى تماما) شخص يعتبر كل ما هو ليس ضروريا للحياة شيئا تافها، عديم القيمة، وبالتالي أثيما.

أردت من أولئك الذين شاهدوا الفيلم أن يتأثروا على نحو مباشر بحالة ألكسندر، وأن يختبروا حياته الجديدة التي تخترق الزمن المحرف لإدراكه. ربما لهذا السبب يدوم مشهد الحريق ست دقائق كاملة.. لم يكن بالامكان تنفيذه بأية طريقة أخرى.

“في البدء كانت الكلمة، لكنك صامت مثل سلمون أبكم”، يقول ألكسندر لولده في بداية الفيلم. الابن يشفى بعد عملية الحنجرة لكن لا يسمح له بالكلام.انه يصغي في صمت فيما يروي له والده قصة الشجرة غير المثمرة. في ما بعد، عندما يشعر ألكسندر بالرعب لدى سماعه أنباء عن كارثة وشيكة، يأخذ هو على نفسه عهداً بالتزام الصمت.. ” سوف أكون أبكما، سوف لن أتفوه أبدا بأية كلمة أخرى لأي شخص، سوف أتخلى عن كل ما يربطني بحياتي.. يا الهي، ساعدني على أن أفي بهذا العهد.”

الله يستجيب لصلاة ألكسندر والنتائج تكون فظيعة وسارة في آن. النتيجة العملية أن ألكسندر يقطع صلته على نحو نهائي بالعالم وقوانينه التي كان يعترف بها حتى تلك اللحظة. وبفعل ذلك هو لا يفقد عائلته فحسب بل أيضا يضع نفسه خارج كل المعايير المسلم بها، وهذا يعد بالنسبة الى المحيطين به أكثر الأشياء إرعابا. مع ذلك، ولهذا السبب بالذات، أرى ألكسندر في صورة الرجل الذي اصطفاه الله. انه يستطيع أن يحس بالخطر، بالقوة المدمرة التي تقود آلية المجتمع الحديث في تقدمه الحثيث نحو الهاوية. لا بد للقناع أن يُنتزع إذا كانت هناك رغبة حقيقية في إنقاذ البشرية.

الى درجة ما، يمكن رؤية المشاركين الآخرين أيضا كأفراد اصطفاهم الله واستدعاهم.

أوتو، بموهبته في التكهن، يجمع الحوادث الغامضة، الملغزة، والتي يتعذر تفسيرها.لا أحد يعرف شيئا عن ماضيه أو كيف ومتى جاء الى القرية حيث تحدث العديد من الأمور الغريبة.

بالنسبة الى ابن ألكسندر الصغير والساحرة ماريا فإن العالم مليء بالعجائب التي لا يُسبر غورها ويتعذر فهمها، ذلك لأن كليهما يتحركان في عالم الخيال وليس”الواقع”.بخلاف التجربيين والذرائعيين هما لا يؤمنان فقط بما يستطيعان لمسه، بل بالأحرى عن طريق المخيلة يدركان الحقيقة.أفعالهما لا تستجيب ولا تمتثل للمعايير”السويّة” للسلوك. انهما ممسوسان بالهبة التي كانت مدركة ومسلم بها في روسيا القديمة بوصفها سمة لـ “المجنون المقدس، ذلك الحاج أو الشحاذ بملابسه الرثة والذي حضوره يؤثر في الذين يعيشون حيوات”سوية”، والذي تكهنا ته وإنكاره للذات كانت دائما في تعارض مع أفكار العالم وقوانينه الراسخة.

اليوم، المجتمع المتحضر، والذي غالبيته العظمى لا تملك أي إيمان، صار يعني في استشرافه بالظواهر والوقائع اليقينية فحسب، لكن حتى هؤلاء يخفقون في ملاحظة عبثية الفرضية الماركسية القائلة بأن الكون موجود الى الأبد في حين أن الأرض هي تصادفيه فحسب.

الإنسان المعاصر غير قادر أن يأمل في اللامتوقع، في الأحداث المغايرة التي لا تتوافق مع المنطق”السوي”.الخواء الروحي الذي ينشأ عن ذلك ينبغي أن يكون وافيا لإعطاء الإنسان نفسه فرصة التوقف من اجل التفكير.يتعين عليه أن يفهم بأن طريق الحياة لا يقاس بمقياس بشري بل يكمن في يد الخالق، الذي على إرادته يجب أن يتكل.

أحد ابرز مآسي العالم الحديث هو أن المعضلات المعنوية والعلاقات المتبادلة الأخلاقية ليست مطابقة للنمط الحديث. لقد تقهقرت الى الخلفية ولم تنل إلا اهتماما قليلا.العديد من المنتجين يتحاشون الأفلام الفنية ذات الرؤى الخاصة لأنهم لا يرون الى السينما بوصفها فنا بل وسيلة للثراء..الشريط السينمائي صار سلعة.

بهذا المعنى فإن فيلم “القربان”هو، من بين أشياء أخرى، إنكار للسينما التجارية.إن فيلمي لا يقصد تأييد أو دحض أفكار معينة، ولا إثبات أحقية لهذه الطريقة أو تلك من الحياة.ما أردته هو أن اطرح أسئلة واظهر معضلات تذهب الى اللب الحقيقي لحياتنا، بالتالي تعيد الجمهور الى منابع وجودنا الساكنة، المجففة.الصور البصرية قادرة على تحقيق تلك الغاية على نحو أفضل بكثير من أية لغة، الآن خصوصاً، حيث أن الكلمة قد فقدت كل الغموض والسحر، والكلام صار مجرد ثرثرة ولغو يخلو من المعنى..كما يلاحظ ألكسندر.

الإفراط في المعلومات، الى حد التخمة، يخنقنا.مع ذلك، وفي الوقت نفسه، تظل مشاعرنا غير متأثرة بالرسائل المهمة جدا التي يمكن أن تغير حياتنا.

ثمة انقسام في عالمنا بين الخير والشر، بين القيم الروحية والذرائعية. إن عالمنا الإنساني مركّب، مخطط، وفقاً لقوانين مادية، ذلك لأن الإنسان قد منح مجتمعه أشكال مادة جامدة وأخذ على عاتقه صياغة قوانينه.بالتالي هو لا يؤمن بالروح القدس وينكر وجود الله.انه يتغذى على الخبز وحده.كيف يمكن له أن يرى الروح القدس والمعجزة والله إذا لم يكن لهم، من وجهة نظره، أي موضع في البناء، واذا كانوا زائدين عن الحاجة. مع ذلك، توجد هناك حوادث اعجازية، خارقة وفجائية، حتى داخل نظام تجريبي مبني على الملاحظة والاختبار..أعني في الفيزياء. وكما نعلم فان الغالبية العظمى من الفيزيائيين المعاصرين والبارزين يؤمنون، لسببٍ ما، بالله.

يوما ما تحدثت الى العالم في الفيزياء، السوفيتي الراحل ليف لاندو عن هذا الموضوع.كان ذلك على شاطئ شينجل في كريميا.سألته:هل تؤمن بوجود الله؟..صمت لمدة ثلاث دقائق ثم نظر الى في وهن وعجز وقال:”أظن ذلك”.

في ذلك الوقت كنت مجرد شاب سفعته الشمس.مجهول تماما .كنت إبناً لشاعر بارز ومتميز يدعى أرسيني تاركوفسكي.كانت المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها لاندو، في لقاء فريد تم بالصدفة.. ولهذا السبب أبدى العالم الحائز على جائزة نوبل رأيه بصدق وصراحة.

هل ثمة أي أمل للإنسان في النجاة على الرغم من كل علامات الصمت الرؤيوي الوشيك؟

ربما يمكن العثور على الإجابة في أسطورة الشجرة الجافة، المحرومة من ماء الحياة، والتي عليها بنيت هذا الفيلم الذي يحتل موقعا مهما وحاسما في مسيرتي الفنية:الراهب، خطوة خطوة ودلوا دلوا، يحمل الماء صاعدا التل ليروي الشجرة الجافة، مؤمنا على نحو مطلق بأن ما يفعله ضروري، دون أن يتردد للحظة في اعتقاده بالقوة الاعجازية لإيمانه بالله.لقد عاش ليرى المعجزة:ذات صباح، الشجرة تتفجر بالحياة، أغصانها تتغطى بالأوراق الصغيرة الطرية.

وتلك “المعجزة”بالتأكيد ليست سوى الحقيقة.

 

 

خاتمة

 

هذا الكتاب كان قيد الإنجاز لسنوات عديدة.واليوم، بالنظر الى الوراء على الخلفية التي يغطيها، اشعر بضرورة الإشارة الى بعض الاستنتاجات.بوسعي الآن أن أرى بأن الكتاب تعوزه الوحدة التي كان يمكن أن تتحقق لو كان مكتوبا كله في نفس واحد، على نحو متواصل وفي مدة معينة.مع ذلك فإن له عندي أهمية بوصفه تسجيلا للكيفية التي بها تغيرت أفكاري منذ أن جئت الى السينما لأول مرة: القراء الذين احتملوا معاناة قراءة الكتاب بصبر، قد شهدوا تطور هذه الأفكار حتى وقتنا الحاضر.

يبدو لي الآن أن الحديث عن الحياة أكثر أهمية من الحديث عن الفن بوجه عام أو عن وظيفة السينما بوجه خاص، ذلك لأن الفنان الذي لا يعي معنى الحياة هو غير مؤهل لتقديم أي بيان متماسك بلغة الفن الذي يمارسه.بناء على ذلك قررت أن أكمل هذا الكتاب ببعض الأفكار والتأملات الوجيزة عن معضلات زمننا كما تواجهني الآن، وعن تلك المظاهر التي تبدو لي أساسية والتي تتخطى اللحظة الراهنة الى معنى وجودنا.

من أجل تحديد مهماتي الخاصة، ليس فقط كفنان، بل قبل كل شيء، كفرد، وجدت نفسي ملزما بالنظر الى الحالة السائدة لحضارتنا والمسؤولية الشخصية لكل فرد بوصفه مشاركا في العملية التاريخية.

يبدو لي أن عصرنا هو الذروة النهائية لدورة تاريخية كاملة فيها السلطة الأسمى قد استخدمها قضاة التحقيق والقادة والشخصيات البارزة، الذين كانت تحثهم أو تحركهم فكرة تحويل المجتمع الى منظمة أكثر عقلانية و”عدلا”.كانوا يسعون الى السيطرة على وعي الجماهير، وغرس أفكار اجتماعية وأيديولوجية جديدة في أذهان الجماهير، والدعوة الى إصلاح بنية الحياة العضوية من اجل سعادة الأغلبية.دوستويفسكي كان قد حذر الناس من “محاكم التفتيش” وأولئك القضاة الذين يتعهدون بتحمل المسؤولية من أجل إسعاد الآخرين.

لقد رأينا كيف أن توكيد مصالح الطبقة أو الجماعة، مصحوباً بتوسل خير البشرية و”الصالح العام”، أدى الى انتهاكات فاضحة وشنيعة لحقوق الفرد، الذي هو مبعد عن المجتمع.

طوال تاريخ الحضارة كانت العملية التاريخية تتألف جوهريا من طريقة “ملائمة”و”صحيحة”تتخيلها عقول الإيديولوجيين والسياسيين، والمقدمة الى الناس من أجل خلاص العالم وتحسين وضع الإنسان داخله. ولكي يكونوا طرفا في عملية إعادة التنظيم، كان على “القلة” في كل مرة التنازل عن طريقتهم الخاصة في التفكير وتوجيه جهودها خارج ذواتها لتنسجم مع خطة العمل المقترحة.هكذا فإن الفرد المنهمك في النشاط الخارجي الفعال من أجل “التقدم” الذي سوف ينقذ المستقبل والجنس البشري، هذا الفرد قد تغاضى عن كل ما كان خاصا به و شخصيا. ولأنه عالق في المسعى العام فإنه يبدأ في الاستخفاف بأهمية و دلالة طبيعته الروحية الخاصة، والنتيجة كانت نزاعاً لدوداً على الدوام بين الفرد والمجتمع. وبالاهتمام بمصالح السواد الأعظم، فإن أحداً لم يفكر في مصلحته هو بالمعنى الذي نصح به المسيح:”أحب جارك كما تحب نفسك “.أي، أحب نفسك كثيرا الى حد أن تحترم في ذاتك المبدأ السماوي، ما وراء الشخصي، الذي يمنعك من السعي خلف مصالحك الأنانية، الاكتسابية، ويطلب منك أن تهب نفسك بلا مجادلة ولا نقاش.

أن تحب الآخرين.. هذا يقتضي إحساسا حقيقيا بكرامتك وجلالك: القبول بالقيمة الموضوعية ودلالة ال”أنا” في مركز حياتك على الأرض، فيما هي تنمو في منزلة روحية، متقدمة نحو الكمال الذي فيه لا يمكن أن يكون هناك أي أنانية. في الصراع لأجل روحك، الإخلاص لنفسك يتطلب جهدا مخلصا ومتواصلا. الانزلاق والهبوط أيسر كثيرا من الصعود ذرةً على بواعثك الانتهازية الضيقة. الولادة الروحية الحقيقية صعب جدا إحرازها.

أن تتخلى عن مهمتك الفريدة سعيا وراء غايات ضئيلة القيمة و عامة أكثر، فإنك بذلك تتجاهل حقيقة أنك تخون نفسك و الحياة التي مُنحت لك لغرض ما.
إن نمط العلاقات الاجتماعية قد تشكل بطريقة فيها صار من الممكن للناس ألا يطلبوا شيئا من أنفسهم، وأن يشعروا بأنهم معفيون من كل واجب أخلاقي، و أن على الآخرين فقط أن يؤدوا المهمة و الواجب. صار بوسعهم دعوة الآخرين لأن يكونوا متواضعين وأن يضحوا بأنفسهم، وأن يقبلوا بتأدية دورهم في بناء المستقبل، بينما هم أنفسهم لا يشاركون في العملية ولا يقبلون تحمل أي مسؤولية شخصية بسبب ما يحدث في العالم. ثمة ألف طريقة يمكن ابتداعها لتبرير عدم الالتزام هذا وحقيقة أنهم لا يرغبون في التخلي عن مصالحهم الأنانية الضيقة في سبيل العمل من أجل هدف أنبل وأشرف. لا أحد يريد، أو يستطيع أن يحمل نفسه على النظر بهدوء واعتدال الى ذاته، ويقر بأنه مسؤول عن حياته الخاصة وروحه الخاصةعلى أساس أننا جميعا “معا”، أي أن الجنس البشري على قيد تشييد نوع من الحضارة، فإننا على الدوام ننصرف عن المسؤولية الشخصية، وبدون إدراك أننا نفعل ذلك، نقوم بتحميل الآخرين تبعة كل ما يحدث. بالنتيجة ، فإن التعارض بين الفرد و المجتمع يصبح أكثر فأكثر باعثا على اليأس ، والسور الذي يفصل بين الفرد والبشرية يصبح أكثر علوا من أي وقت مضى.

الغاية هنا أننا نعيش في مجتمع كان مبنيا بواسطة جهودنا “المتناغمة” وليس بواسطة جهود شخص معين.. مجتمع فيه الفرد كان لا يطالب بالإنصاف لنفسه فقط بل لكل الناس ويدافع عن حقوقهم لا عن حقه فقط. هكذا فإن الفرد يصير إما أداة لأفكار وطموحات الآخرين، أو يصبح هو نفسه الرئيس الذي يصوغ ويستفيد من طاقات الآخرين دون أي اعتبار لحقوق الفرد. فكرة أن كل شخص مسؤول عن نفسه تبدو أنها تلاشت ووقعت ضحية”النفع العام” المفهوم بشكل خاطئ.

منذ اللحظة التي فيها نحن عهدنا إلى الآخرين بحل مشاكلنا الخاصة، كان الرأب بين المادي والروحي يكبر و يزداد. إننا نعيش في عالم محكوم بأفكار استنبطها وأطلقها أناس آخرون، وعلينا أما أن نمتثل لمعايير هذه الأفكار أو نبعد أنفسنا عنها و ننكر صحتها.. وهو الوضع الذي يصبح ميئوساً منه أكثر فأكثر. إنها حالة غريبة ومقيتة.

أنا مقتنع بأن التعارض لا يمكن حله إلا إذا انسجم الباعث الفردي مع الحركة الاجتماعية.ما الذي يعنيه هذا القول:”أن تضحي بنفسك من أجل النفع العام”؟ يقينا هو ينذر بصدام مأساوي بين الشخصي و العام.

إذا لم يكن إحساس الشخص بالمسؤولية تجاه مستقبل المجتمع مبنيا على اقتناع باطني بالدور الذي يتعين عليه أن يؤديه، واذا كان يشعر بأنه مخول للاستفادة من الآخرين، موجها حياتهم نيابة عنهم وملقناً إياهم ما ينبغي أن يفعلوه في تنمية المجتمع، عندئذ لا يمكن للنزاع بين الفرد والمجتمع إلا أن يصبح أكثر مرارة وإيلاما.

حرية الإرادة لابد أن تعني بأننا نملك القدرة على تقييم الظواهر الاجتماعية بالإضافة الى علاقاتنا مع الآخرين، القدرة على القيام باختيار حر بين الخير و الشر. لكن الحرية غير منفصلة عن الضمير، حتى لو كان صحيحا أن كل الأفكار التي يطورها الوعي الاجتماعي هي نتاج الارتقاء والتقدم، فان الضمير كإحساس وكمفهوم معا، هو متأصل في الإنسان، ويرج الأسس ذاتها لمجتمع انبثق من حضارتنا المتصورة على نحو سقيم وفظ. الضمير يعمل ضد استقرار ورسوخ هذا المجتمع. تجلياته هي غالبا في تعارض مع مصالح -أو حتى بقاء- الأجناس. بلغة النشوء البيولوجي، الضمير لا معنى له كصنف، لكن لسبب ما هو مع ذلك موجود هناك، ويلازم الإنسان طوال كينونته و تطوره كعرق.

جلي لكل شخص أن التبجيل المادي للإنسان لم يكن متزامناً مع الارتقاء الروحي. لقد تم بلوغ الموضع الذي فيه يبدو أننا نعاني من عجز محتوم في السيطرة على إنجازاتنا المادية من أجل استخدامها لصالحنا ومنفعتنا.

لقد خلقنا حضارة راحت تهدد بإبادة الجنس البشري. إزاء كارثة على ذلك المستوى العالمي، النقطة الوحيدة التي ينبغي أن تطرح للنقاش هي مسألة مسؤولية الإنسان الشخصية و استعداده للتضحية، التي بدونها يكف أن يكون كائنا روحيا بأي معنى حقيقي.

أعني أن روح التضحية التي يجب أن تشكل الطريقة الطبيعية والأساسية لحياة كل كائن بشري، لا ينبغي اعتبارها محنة أو عقوبة مفروضة من الخارج.إن روح التضحية هذه تجد تعبيرها في الخدمة التطوعية للآخرين..وهي على نحو طبيعي تتخذ الشكل الوحيد،القابل للتطبيق ،للوجود.

مع ذلك، ففي عالم اليوم، العلاقات الشخصية هي في أحوال كثيرة مبنية على حافز انتزاع قدر المستطاع من الشخص المجاور لنا فيما نحمي مصالحنا الخاصة على نحو يقظ وغيور.المفارقة هنا، وفي وضع كهذا، هو أننا كلما ازددنا إذلالاً لأقراننا، شعرنا برضا أو إشباع اقل، وأصبحت عزلتنا اكبر.هذا هو ثمن خطيئتنا في الإخفاق في التوجه، باختيارنا الحر، الى الطريق البطولي الذي يفضي الى التحقق الإنساني لوجودنا، قابلين به، بكل مشاعرنا وإرادتنا، بوصفه الطريق الحقيقي الوحيد الذي نرغب فيه.

أي شيء اقل من مثل هذا القبول التام سوف يفاقم التعارض بين الفرد والمجتمع.سوف ينظر الإنسان الى المجتمع ككيان عنيف موجّه ضده لإلحاق الأذى به. إننا نشهد الآن انحدارا للروحي في حين أن المادي قد تطور منذ زمن طويل الى كائن حي يمتلك مجرى دم خاصاً به. وأصبح أساس حياتنا، المشلولة والمشوهة نتيجة تصلب الأنسجة. لقد صار جليا لكل شخص بان التقدم المادي بذاته، وبمعزل عن الأشياء أو الاعتبارات الأخرى، لا يجعل الناس سعداء. مع ذلك نحن نستمر على نحو متعصب في الإكثار من “إنجازاته”ومآثره.لقد بلغنا الموضع حيث الحاضر قد اندمج جوهريا مع المستقبل، بمعنى انه يتضمن كل الشروط لحدوث كارثة متأصلة..ونحن ندرك هذا لكننا لا نستطيع أن نفعل شيئا لمنع حدوثها.

العلاقة بين سلوك الإنسان وقدره قد تم تدميرها.وهذا الشرخ التراجيدي هو سبب إحساس الإنسان بضعفه وعدم استقراره في العالم الحديث.جوهريا، ما يفعله الإنسان ذو أهمية أساسية، لكن لأنه تكيف مع الاعتقاد بان أحدا أو شيئا لا يعتمد عليه وبان تجربته الشخصية سوف لن تؤثر في المستقبل، فقد انتهى الى الافتراض الزائف والمميت بأن ليس لديه أي دور يؤديه في صياغة مصيره وقدره الخاص.

لقد رأى عالمنا في مثل هذا التمزق لكل ما ينبغي أن يربط الفرد بالمجتمع الى حد انه قد أصبح مهما للغاية إحياء مشاركة الإنسان في مستقبله الخاص.هذا يفرض ضرورة أن يعود الإنسان الى الإيمان بروحه وبمعاناتها، ويربط أفعاله الخاصة بضميره.يتعين عليه أن يقر بأن ضميره سوف لن يكون أبدا مرتاحا ومتحررا من القلق طالما أن ما يفعله هو في تعارض مع ما يؤمن به، ويدرك هذا من خلال وجع روحه فيما هي تطالب بأن يعترف بمسؤوليته وخطأه.هذا يحول دون تبرير الذات عبر صياغات ملائمة ومريحة بشأن التأثير الحاسم الذي يمارسه الآخرون – وليس تأثيرنا نحن- على ما يحدث.انا مقتنع بأن أي محاولة لإعادة التناغم والانسجام في العالم لا يمكن أن يرتكز إلا على تجديد المسؤولية الشخصية.

يقول ماركس وانجلز في موضع ما إن التاريخ يختار لأجل تطوره الخاص أسوأ الأشكال المختلفة الموجودة، وهذا صحيح تماما إذا تعامل المرء مع المسألة من وجهة نظر وجودنا المادي.لقد توصلا الى ذلك الاستنتاج في وقت كان التاريخ يعتصر القطرات القليلة الأخيرة من المثالية، وعندما كف الإنسان –ككائن روحي-أن يكون ذا أهمية في العملية التاريخية.لقد لاحظا الوضع كما كان آنذاك، بدون تحليل الأسباب:اعني إخفاق الإنسان في إدراك انه كان مسؤولا عن قيمه الروحية الخاصة.

بناء على ذلك، صار يُنظر الى الإنسان في المقام الأول بوصفه حيوانا مفيدا اجتماعيا.

(المسألة الوحيدة هي كيفية تحديد أو تعريف الفائدة الاجتماعية ). بتوكيد الفائدة الاجتماعية لنشاط شخص ما الى حد تجاهل حقوق شخصيته الخاصة، فإننا نرتكب خطأ لا يغتفر ونخلق كل الشروط المهيئة للمأساة.

إن مسألة الحرية تثير جدلا حول التجربة والتربية، فالإنسان المعاصر في صراعه في سبيل الحرية يطالب بالتحرر الشخصي بمعنى منح الفرد حرية أن يفعل كل ما يشاء..لكن ذلك وهْم الحرية، والإنسان سوف لن يتجه الى التخلص من الوهم إلا إذا سعى وراءها. إن ذلك يقتضي نضالاً شاقاً وطويلاً من قبل الفرد لتحرير طاقاته الروحية.ينبغي إحلال الانضباط الذاتي محل التربية وإلا فسوف يكون قادرا فقط على فهم حريته المكتسبة حديثا بلغة الاستهلاكية المبتذلة.

من هذه الناحية، الوضع في الغرب يعطينا غذاء وافرا للفكر. الديموقراطية التي لا جدال فيها توجد جنبا الى جنب مع الأزمة الروحية الرهيبة والبيّنة بذاتها والتي تؤثر في المواطنين “الأحرار”.لماذا، على الرغم من حرية الفرد، يوجد التعارض بين الفرد والمجتمع هنا على هذا النحو الحاد والخطير؟ أظن أن تجربة الغرب تبرهن أن الحرية لا يمكن اعتبارها محتمة الحدوث مثلما نسلم جدلا بان الماء يوجد في النبع ولا يكلف استخراجه بنساً واحداً ولا يحتاج الى أي جهد معنوي من أي شخص.واذا كان الإنسان ينظر الى الحرية هكذا فإنه لا يستطيع أبدا أن يستفيد من منافع الحرية في تغيير حياته الى الأفضل.الحرية ليست شيئا يمكن دمجه في حياة الإنسان مرة والى الأبد:ينبغي أن تكون متحققة باستمرار عبر بذل أخلاقي.في علاقته بالعالم الخارجي، الإنسان جوهريا غير حر لأنه ليس وحيدا، ليس بمفرده..لكن الحرية الداخلية يحوزها من البداية إذا استطاع فحسب أن يستجمع الشجاعة والتصميم على استخدام هذه الحرية، مسلما بأن تجربته الداخلية ذات دلالة اجتماعية.

الإنسان الذي هو حر حقا لا يستطيع أن يكون كذلك بالحس الأناني. ولا يمكن للحرية الفردية أن تكون نتيجة لجهد مجتمعي.إن مستقبلنا لا يعتمد على أي شخص غير أنفسنا.مع ذلك نحن اعتدنا أن ندفع مقابل كل شيء بكدح ومعاناة أناس آخرين وليس أبدا بما نملك وبما نكابد.نحن نرفض أن نأخذ في الاعتبار الحقيقة البسيطة التي تقول بان “كل شيء متصل ومترابط في هذا العالم”.لاشيء، في أي وقت، يمكن أن يكون تصادفيا بما أننا موهوبون بحرية الإرادة والحق في الاختيار بين الخير والشر.

من الطبيعي أن الفرص لتوكيد إرادتك الحرة تحددها إرادة الآخرين، لكن يجب مع ذلك القول بأن الإخفاق في أن تكون حرا هو دائما نتيجة الجبن الداخلي والسلبية، وأيضاً نتيجة الافتقار الى العزم والتصميم في توكيد إرادتك وفقا لصوت الضمير.

في روسيا، الناس مولعون بترديد رأي كورولينكو (20) القائل”الإنسان مولود لأجل السعادة مثل يولد الطائر لأجل الطيران”يبدو لي أن لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن أساس الوجود الإنساني من هذه الكلمات.شخصيا لا أستطيع أبداً أن أرى أي معنى يمكن حقا أن يتضمنه مثل هذا المفهوم “للسعادة”بالنسبة الى أي واحد منا.هل يعني الرضا؟التناغم؟لكن الفرد لا يرضى أبدا، ذلك لان أنظاره ليست أبدا مركزة جوهريا على غايات محددة، بل على اللامتناهي نفسه.

حتى الكنيسة لا تستطيع أن تروي ظمأ الإنسان الى المطلق، ذلك –للأسف-لأن الكنيسة توجد فحسب كضرب من الملحق أو الجزء الإضافي الذي يحاكي المؤسسات الاجتماعية التي تنظم حياتنا اليومية.في عالم اليوم الذي يميل على نحو حاد الى المادي والتكنولوجي، فإن الكنيسة لا تظهر أي إشارة الى أنها قادرة على تقويم التوازن بالدعوة الى يقظة روحية.

في هذا الوضع، يبدو لي أن الفن مدعو لأن يعبر عن الحرية المطلقة للإمكانية الروحية لدى الإنسان.أظن أن الفن كان دائما سلاح الإنسان ضد الأمور المادية التي تهدد بافتراس روحه.وليس صدفة انه في غضون ألفي سنة تقريبا من المسيحية، تطور الفن منذ زمن طويل جدا في سياق الأفكار والأهداف الدينية.إن وجوده ذاته قد حافظ على اتقاد فكرة التناغم في البشرية المتنافرة، المنقسمة على نفسها.

الفن كان يجسد المثل الأعلى.كان مثالا للتوازن التام بين المبادئ الأخلاقية والمادية، كان برهانا على حقيقة أن مثل هذا التوازن ليس خرافة في حقل الأيديولوجيا، بل شيئا يمكن أن يتحقق ضمن أبعاد العالم الظاهراتي، المدرك بالحواس.لقد كان الفن يعبر عن حاجة الإنسان الى التناغم واستعداده لأن يشن الحرب ضد نفسه، ضمن وجوده الشخصي، من أجل إحراز التوازن الذي يهفو إليه.

إذا سلمنا بأن الفن يعبر عن المثل الأعلى وطموح الإنسان الى اللانهائي، فانه لا يمكن تسخيره لبلوغ أهداف استهلاكية دون أن يكون منتهكا في جوهره ذاته.المثال يتصل بأشياء لا توجد في عالمنا الخاص كما نعرفه، إنما يذكرنا بما ينبغي أن يوجد على المستوى الروحي.العمل الفني شكل موهوب الى هذا المثال الذي يجب في المستقبل أن ينتسب الى البشرية، لكن في اللحظة الراهنة ينبغي أن يكون للقلة، وفي المرحلة الأولى للعبقري الذي جعل من الممكن للإدراك الإنسانى بكل قصوره ونواقصه، أن يكون على اتصال بالمثال المجسد في فنه.بذلك المعنى، الفن، في جوهره، أرستقراطي.

انه يفرق بين مستويين من مستويات الكامن، وبالتالي يضمن التقدم من الأدنى الى الأعلى فيما الذاتية تتحرك نحو الكمال الروحي.بالطبع أنا لا اقترح أي نوع من المفهوم الطبقي عندما استخدم كلمة “ارستقرطي”، بل على العكس:بما أن النفس تلتمس التسويغ الأخلاقي وتبحث عن معنى الوجود، وتتحرك نحو الكمال أثناء ذلك البحث، فإن كل شخص هو في الوضع ذاته والجميع مخول بالتساوي أن يكون محسوبا بين المنتخب الروحي.الانقسام الأساسي هو بين أولئك الذين يرغبون في أن يفيدوا أنفسهم بهذه الإمكانية وأولئك الذين يتجاهلونها.لكن الفن مرارا يدعو الناس الى إعادة تقييم أنفسهم وحياتهم على ضوء المثال الذي يمنحه الفن شكلاً. إن تعريف كورولينكو لمعنى الوجود الإنساني، على أساس الحق في السعادة، يذكرني بـ “كتاب العمل”حيث التعبير عن الرؤية المعاكسة تماما:”الإنسان مجبول بالبلاء والعناء مثلما تتطاير الشرارات الى الأعلى”. بمعنى آخر، المعاناة وثيقة الصلة بوجودنا. بدونها كيف يكون بوسعنا أن “نخلق الى الأعلى”. وما هي المعاناة ؟ من أين تنبع أو تنشأ؟من عدم الرضا؟من الفجوة بين المثال والموضع الذي تجد نفسك فيه؟
الإحساس “بالسعادة “أقل أهمية من أن تكون قادرا على تقوية روحك في الكفاح من اجل تلك الحرية التي هي، بالمعنى الصحيح، مقدسة.

الفن يؤكد على كل ما هو نبيل وفاضل في الإنسان:الأمل، الإيمان، الحب، الجمال، الصلاة..ما يحلم به وما يرجوه.عندما يُلقى بشخص ما لا يحسن السباحة في الماء فان الغريزة تملي على جسده أي الحركات سوف تنقذه. الفنان أيضا مدفوع بنوع من الغريزة، وعمله يعزز بحث الإنسان عن ما هو أبدي وكائن فوق الوجود المادي ومقدس..غالبا على الرغم من إثم الشاعر نفسه.

ما هو الفن؟ هل هو صالح أم ضار؟ هبة من الله أم من الشيطان ؟ من قوة الإنسان أم من ضعفه؟ هل يمكن أن يكون ثمرة رفقة، نتاج مجموعة من الأصدقاء، مثال للتناغم الاجتماعي؟ هل يمكن أن يكون ذلك وظيفته؟.. مثل إعلان حب:الوعي باعتمادنا على بعضنا البعض.اعتراف.فعل لا واع والذي مع ذلك يعكس المعنى الحقيقي للحياة..الحب و التضحية.

لماذا، فيما نلتفت الى الوراء، نرى طريق التاريخ البشري تتقاطع من قبل الكوارث والنكبات والتغيرات العنيفة؟ ما الذي حدث حقا لتلك الحضارات؟ لماذا ركضت لاهثة، مقطوعة الأنفاس؟ هل كانت تفتقر الى الرغبة في العيش، هل فقدت قوتها المعنوية؟ يقينا ليس بوسع المرء أن يصدق بان كل ذلك حدث ببساطة بسبب عجز مادي.مثل هذا الإيحاء يبدو لي غريباً ومغايراً لكل ما هو طبيعي أو متوقع. فضلا عن ذلك، فانا مقتنع بأننا الآن نجد أنفسنا على شفا تدمير حضارة أخرى نتيجة للإخفاق في اخذ الجانب الروحي للتقدم التاريخي بعين الاعتبار. نحن لا نريد أن نعترف لأنفسنا بان العديد من المحن التي تحْدق بالجنس البشري هي النتيجة لكوننا قد أصبحنا ماديين على نحو لا يغتفر، على نحو جدير باللوم، وعلى نحو ميئوس منه.إن رؤيتنا لأنفسنا كمناصرين للعلم، ومن اجل جعل موضوعيتنا العلمية أكثر إقناعا، فقد قسمنا العملية الإنسانية الواحدة التي لا تتجزأ.وبتلك الوسيلة نكشف الزنبرك المعزول لكن المرئي بوضوح والذي نظهره بوصفه السبب الرئيسي لكل شيء، ونستخدمه ليس فقط لتعليل أخطاء الماضي بل أيضا لرسم برنامج عمل للمستقبل.

ربما انهيار تلك الحضارات يعني أن التاريخ ينتظر بصبر حتى يقرر الإنسان الإختيار المناسب الذي بعده سوف لن يعود التاريخ مسيرا نحو طريق مسدود ويجبر على إلغاء محاولة فاشلة بعد أخرى على أمل أن المحاولة التالية قد تنجح.ثمة شيء في الرؤية المقبولة على نحو واسع من أن أحدا لم يتعلم من دروس التاريخ وان الجنس البشري لا يلاحظ أو لا ينتبه الى ما فعله التاريخ.بالتأكيد كل كارثة متعاقبة هي برهان على أن الحضارة التي نتكلم عنها قد أخطئ في فهمها أو الحكم عليها.عندما يُرغم الإنسان على أن يبدأ من جديد، فإن ذلك لأن هدفه حتى تلك اللحظة شيء غير الكمال الروحي.

من بعض النواحي، الفن صورة للعملية المكتملة، للذروة..محاكاة امتلاك الحقيقة المطلقة (ولو فقط في شكل صورة ما)متجنبة درب التاريخ الطويل..اللانهائي ربما.

هناك لحظات يتوق فيها المرء الى الراحة، الى التخلي عن كل شيء، الى الانسحاب والانقطاع، الى رؤية للعالم شاملة..مثل الفيدا (من كتب الهندوس الدينية).

لشرق كان اقرب الى الحقيقة من الغرب.لكن الحضارة الغربية افترست الشرق بمطالباتها المادية من الحياة.قارن بين الموسيقى الشرقية والغربية.الغرب يصيح دائما:”هذا هو أنا، انظروا إليّ، استمعوا الي وأنا أتعذب وأنا أحب! كم أنا تعيس ! كما انا سعيد! انا، انا..”

في التقليد الشرقي هم أبدا لا يلفظون كلمة واحدة عن أنفسهم.الفرد مستغرق كليا في الله، الطبيعة، الزمن.انه يجد نفسه في كل شيء، مكتشفا كل شيء في ذاته.تأمل الموسيقى التاوية..الصين قبل المسيح بست مائة سنة..لكن في تلك الحالة، لماذا لم تنتصر مثل هذه الفكرة الرائعة، لماذا انهارت؟لماذا هذه الحضارة التي نشأت ونمت على أساس كهذا لم تصل إلينا في شكل عملية تاريخية تواكب تحققها واكتمالها؟لا بد أنها دخلت في نزاع مع العالم المادي الذي كان يحيط بها. ومثلما الهوية الشخصية تدخل في نزاع مع المجتمع، كذلك تلك الحضارة تصادمت مع أخرى.هي لم تهلك لذلك السبب فقط.لكن أيضا بسبب مواجهتها العالم المادي..عالم التقدم والتكنولوجيا .لكن تلك الحضارة كانت الموضع الأخير للمعرفة الحقيقية، ملح ملح الأرض. و وفقاً لمنطق التفكير الشرقي، فإن نزاعا من أي نوع هو، جوهريا، أثيم.
نحن جميعا نعيش في العالم الذي نتخيله، العالم الذي نخلقه..وبالتالي، عوضا عن التمتع بمنافعه، نكون ضحايا عيوبه وشوائبه.

في الختام، سوف افرض على القارئ –وأنا حسن الظن به تماما- أن يؤمن بأن الشيء الوحيد الذي خلقه الجنس البشري بروح الاستسلام المطلق هو الصورة الفنية.لعل معنى كل النشاط الإنساني يكمن في الوعي الفني، في الفعل الإبداعي، الخالي من الغرض واللا أناني.ربما قدرتنا على الخلق هي دليل على أننا نحن أنفسنا خُلقنا على صورة ومثال الله.

 

“جهة الشعر”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى